الباحث القرآني

﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكم مِن ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ﴾ لَمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ دَلائِلَ عَلى أُلُوهِيَّتِهِ تَعالى مِنَ العِلْمِ التّامِّ والقُدْرَةِ الكامِلَةِ ذَكَرَ نَوْعًا مِن أثَرِهِما وهو الإنْجاءُ مِنَ الشَّدائِدِ، وهو اسْتِفْهامٌ يُرادُ بِهِ التَّقْرِيرُ والإنْكارُ والتَّوْبِيخُ والتَّوْقِيفُ عَلى سُوءِ (p-١٥٠)مُعْتَقَدِهِمْ عِنْدَ عِبادَةِ الأصْنامِ وتَرْكِ الَّذِي يُنَجِّي مِنَ الشَّدائِدِ ويُلْجَأُ إلَيْهِ في كَشْفِها. قِيلَ: وأُرِيدَ حَقِيقَةُ الظَّلَمَةِ، وجُمِعَتْ بِاعْتِبارِ مَوادِّها، فَفي البَرِّ والبَحْرِ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وظُلْمَةُ السَّحابِ وظُلْمَةُ الصَّواعِقِ، وفي البَرِّ أيْضًا ظُلْمَةُ الغُبارِ وظُلْمَةُ الغَيْمِ وظُلْمَةُ الرِّيحِ، وفي البَحْرِ أيْضًا ظُلْمَةُ الأمْواجِ، ويَكُونُ ذَلِكَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، التَّقْدِيرُ: مَهالِكُ ظُلْمَةِ البَرِّ والبَحْرِ ومَخاوِفُها، وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ الظُّلُماتِ مَجازٌ عَنْ شَدائِدِ البَرِّ والبَحْرِ ومَخاوِفِهِما وأهْوالِهِما، والعَرَبُ تَقُولُ: يَوْمٌ أسْوَدُ ويَوْمٌ مُظْلِمٌ ويَوْمٌ ذُو كَواكِبَ، كَأنَّهُ لِإظْلامِهِ وغَيْبُوبَةِ شَمْسِهِ بَدَتْ فِيهِ الكَواكِبُ، ويَعْنُونَ بِهِ أنَّ ذَلِكَ اليَوْمَ شَدِيدٌ عَلَيْهِمْ. قالَ قَتادَةُ والزَّجّاجُ: مِن كُرَبِ البَرِّ والبَحْرِ. وحَكى الطَّبَرِيُّ ضَلالَ الطَّرِيقِ في الظُّلُماتِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ ما يُشْفُونَ عَلَيْهِ مِنَ الخَسْفِ في البَرِّ والغَرَقِ في البَحْرِ بِذُنُوبِهِمْ، فَإذا دَعَوْا وتَضَرَّعُوا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الخَسْفَ والغَرَقَ فَنَجَوْا مِن ظُلُماتِها. انْتَهى. ﴿تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً﴾ أيْ تُنادُونَهُ مُظْهِرِي الحاجَةِ إلَيْهِ ومُخْفِيها، والتَّضَرُّعُ وصْفٌ بادٍ عَلى الإنْسانِ، والخُفْيَةُ: الإخْفاءُ. وقالَ الحَسَنُ: تَضَرُّعًا: عَلانِيَةً، خُفْيَةً أيْ نِيَّةً، وانْتَصَبا عَلى المَصْدَرِ. و﴿تَدْعُونَهُ﴾ حالٌ، ويُقالُ: (خُفْيَةً) بِضَمِّ الخاءِ وهي قِراءَةُ الجُمْهُورِ وبِكَسْرِها وهي قِراءَةُ أبِي بَكْرٍ. وقَرَأ الأعْمَشُ ﴿وخِيفَةً﴾ [الأعراف: ٢٠٥] مِنَ الخَوْفِ. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ: (مَن يُنَجِّيكم، قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكم) بِالتَّشْدِيدِ فِيهِما، وحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ ويَعْقُوبُ وعَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أبِي عَمْرٍو بِالتَّخْفِيفِ فِيهِما، والحَرَمِيّانِ والعَرَبِيّانِ بِالتَّشْدِيدِ في ﴿مَن يُنَجِّيكُمْ﴾ والتَّخْفِيفِ في ﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ﴾، جَمَعُوا بَيْنَ التَّعْدِيَةِ بِالهَمْزَةِ والتَّضْعِيفِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَمَهِّلِ الكافِرِينَ أمْهِلْهُمْ﴾ [الطارق: ١٧] . ﴿لَئِنْ أنْجانا مِن هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ﴾ هَذِهِ إشارَةٌ إلى الظُّلُماتِ، والمَعْنى: قائِلِينَ لَئِنْ أُنْجِينا، لَمّا دَعَوْهُ أقْسَمُوا أنَّهم يَشْكُرُونَهُ عَلى كَشْفِ هَذِهِ الشَّدائِدِ، ودَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهم لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ الوُقُوعِ في هَذِهِ الشَّدائِدِ شاكِرِينَ لِأنْعُمِهِ. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ: (لَئِنْ أنْجانا) عَلى الغائِبِ، وأمالَهُ الأخَوانِ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ عَلى الخِطابِ. ﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكم مِنها ومِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ الضَّمِيرُ في (مِنها) عائِدٌ عَلى ما أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (مِن هَذِهِ) و(مِن كُلِّ) مَعْطُوفٌ عَلى الضَّمِيرِ المَجْرُورِ أُعِيدَ مَعَهُ الخافِضُ، وأمَرَهُ تَعالى بِالمُسابَقَةِ إلى الجَوابِ لِيَكُونَ هو أسْبَقَ إلى الخَيْرِ وإلى الِاعْتِرافِ بِالحَقِّ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ تَعالى يُنَجِّي مِن هَذِهِ الشَّدائِدِ الَّتِي حَضَرَتْهم ومِن كُلِّ كَرْبٍ فَعَمَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، ثُمَّ ذَكَرَ قَبِيحَ ما يَأْتُونَ بَعْدَ ذَلِكَ وبَعْدَ إقْرارِهِمْ بِالدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ ووَعْدِهِمْ إيّاهُ بِالشُّكْرِ مِن إشْراكِهِمْ مَعَهُ في العِبادَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وعَطَفَ بِـ (ثُمَّ) لِلْمُهْلَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ قُبْحَ فِعْلِهِمْ أيْ ثُمَّ بَعْدَ مَعْرِفَتِكم بِهَذا كُلِّهِ وتَحَقُّقِهِ أنْتُمْ تُشْرِكُونَ. انْتَهى. وقِيلَ: مَعْنى (تُشْرِكُونَ) تَعُودُونَ إلى ما كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الإشْراكِ وعِبادَةِ الأصْنامِ، ولا يَخْفى ما في هَذِهِ الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مِنَ التَّقْبِيحِ عَلَيْهِمْ إذْ وُوجِهُوا بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ أنْتُمْ) كَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ﴾ [البقرة: ٨٥] بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكم لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤]، وإذْ كانَ الخَبَرُ (تُشْرِكُونَ) بِصِيغَةِ المُضارِعِ المُشْعِرِ بِالِاسْتِمْرارِ والتَّجَدُّدِ في المُسْتَقْبَلِ كَما كانُوا عَلَيْهِ فِيما مَضى. ﴿قُلْ هو القادِرُ عَلى أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكم عَذابًا مِن فَوْقِكم أوْ مِن تَحْتِ أرْجُلِكُمْ﴾ هَذا إخْبارٌ يَتَضَمَّنُ (p-١٥١)الوَعِيدَ، والأظْهَرُ مَن نَسَقِ الآياتِ أنَّهُ خِطابٌ لِلْكُفّارِ، وهو مَذْهَبُ الطَّبَرِيِّ. وقالَ أُبَيٌّ وأبُو العالِيَةِ وجَماعَةٌ: هي خِطابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قالَ أُبَيٌّ: هُنَّ أرْبَعٌ عَذابٌ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ، مَضَتِ اثْنَتانِ بَعْدَ وفاةِ الرَّسُولِ بِخَمْسٍ وعِشْرِينَ سَنَةً لُبِسُوا شِيَعًا وأُذِيقَ بَعْضُهم بِأْسَ بَعْضٍ، وثِنْتانِ واقِعَتانِ لا مَحالَةَ: الخَسْفُ والرَّجْمُ. وقالَ الحَسَنُ: بَعْضُها لِلْكُفّارِ: بَعْثُ العَذابَ مِن فَوْقُ ومِن تَحْتُ، وسائِرُها لِلْمُؤْمِنِينَ. انْتَهى. وحِينَ نَزَلَتِ اسْتَعاذَ الرَّسُولُ ﷺ وقالَ في الثّالِثَةِ: ”هَذِهِ أهْوَنُ. أوْ: هَذِهِ أيْسَرُ“ واحْتَجَّ بِهَذا مَن قالَ هي لِلْمُؤْمِنِينَ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ عَلَيْهِ السَّلامُ تَعَوَّذَ لِأُمَّتِهِ مِمّا وُعِدَ بِهِ الكُفّارُ وهَوَّنَ الثّالِثَةَ لِأنَّها في المَعْنى هي الَّتِي دَعا فِيها فَمُنِعَ، كَما في حَدِيثِ المُوَطَّأِ وغَيْرِهِ. والظّاهِرُ ﴿مِن فَوْقِكم أوْ مِن تَحْتِ أرْجُلِكُمْ﴾ الحَقِيقَةُ، كالصَّواعِقِ وكَما أمْطَرَ عَلى قَوْمِ لُوطٍ وأصْحابِ الفِيلِ الحِجارَةَ وأرْسَلَ عَلى قَوْمِ نُوحٍ الطُّوفانَ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَفَتَحْنا أبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ﴾ [القمر: ١١]، وكالزَّلازِلِ ونَبْعِ الماءِ المُهْلِكِ وكَما خُسِفَ بِقارُونَ. وقالَ السُّدِّيُّ عَنْ أبِي مالِكٍ وابْنِ جُبَيْرٍ: الرَّجْمُ والخَسْفُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مِن فَوْقِكم وُلاةُ الجَوْرِ ومِن تَحْتِ أرْجُلِكم سَفَلَةُ السُّوءِ وخِدْمَتُهُ. وقِيلَ: حَبْسُ المَطَرِ والنَّباتِ. وقِيلَ: ﴿مِن فَوْقِكُمْ﴾ خِذْلانُ السَّمْعِ والبَصَرِ والآذانِ واللِّسانِ ﴿مِن تَحْتِ أرْجُلِكُمْ﴾ خِذْلانُ الفَرْجِ والرِّجْلِ إلى المَعاصِي. انْتَهى. وهَذا والَّذِي قَبْلَهُ مَجازٌ بَعِيدٌ. ﴿أوْ يَلْبِسَكم شِيَعًا﴾ أيْ يَخْلِطَكم فِرَقًا مُخْتَلِفِينَ عَلى أهْواءٍ شَتّى، كُلُّ فِرْقَةٍ مِنكم مُشايِعَةٌ لِإمامٍ، ومَعْنى خَلْطِهِمْ إنْشابُ القِتالِ بَيْنَهم فَيَخْتَلِطُوا ويَشْتَبِكُوا في مَلاحِمِ القِتالِ، كَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎وكَتِيبَةٌ لَبَّسْتُها بِكَتِيبَةٍ حَتّى إذا التَبَسَتْ نَفَضْتُ لَها يَدِي ؎فَتَرَكْتُهم تَقِصُّ الرِّماحُ ظُهُورَهم ∗∗∗ ما بَيْنَ مُنْعَفِرٍ وآخَرَ مُسْنَدٍ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ: تَثْبُتُ فِيكُمُ الأهْواءُ المُخْتَلِفَةُ فَتَصِيرُونَ فِرَقًا. وقِيلَ: المَعْنى: يَقْوى عَدُوُّكم حَتّى يُخالِطُوكم. وقَرَأ أبُو عَبْدِ اللَّهِ المَدَنِيُّ: ﴿يَلْبِسَكُمْ﴾ بِضَمِّ الياءِ مِنَ اللُّبْسِ اسْتِعارَةً مِنَ اللِّباسِ، فَعَلى فَتْحِ الياءِ يَكُونُ ﴿شِيَعًا﴾ حالًا. وقِيلَ: مَصْدَرٌ والعامِلُ فِيهِ ﴿يَلْبِسَكُمْ﴾ مِن غَيْرِ لَفْظِهِ. انْتَهى. ويُحْتاجُ في كَوْنِهِ مَصْدَرًا إلى نَقْلٍ مِنَ اللُّغَةِ. وعَلى ضَمِّ الياءِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أوْ يُلْبِسَكُمُ الفِتْنَةَ شِيَعًا، ويَكُونُ ﴿شِيَعًا﴾ حالًا، وحُذِفَ المَفْعُولُ الثّانِي، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَفْعُولُ الثّانِي ﴿شِيَعًا﴾ كَأنَّ النّاسَ يُلْبِسُ بَعْضُهم بَعْضًا، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎لَبِسْتُ أُناسًا فَأفْنَيْتُهم ∗∗∗ وغادَرْتُ بَعْدَ أُناسٍ أُناسًا وهِيَ عِبارَةٌ عَنِ الخُلْطَةِ والمُعايَشَةِ. ﴿ويُذِيقَ بَعْضَكم بَأْسَ بَعْضٍ﴾ البَأْسُ: الشِّدَّةُ مِن قَتْلٍ وغَيْرِهِ، والإذاقَةُ: الإنالَةُ والإصابَةُ، وهي مَن أقْوى حَواسِّ الِاخْتِبارِ، وكَثُرَ اسْتِعْمالِها في كَلامِ العَرَبِ وفي القُرْآنِ، قالَ تَعالى: ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ [القمر: ٤٨]، وقالَ الشّاعِرُ: ؎أذَقْناهم كُؤُوسَ المَوْتِ صِرْفًا ∗∗∗ وذاقُوا مِن أسِنَّتِنا كُؤُوسًا وقَرَأ الأعْمَشُ: (ونُذِيقَ) بِالنُّونِ وهي نُونُ عَظَمَةِ الواحِدِ، وهي التِفاتٌ فائِدَتُهُ نِسْبَةُ ذَلِكَ إلى اللَّهِ عَلى سَبِيلِ العَظَمَةِ والقُدْرَةِ القاهِرَةِ. ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهم يَفْقَهُونَ﴾ هَذا اسْتِرْجاعٌ لَهم ولَفْظَةُ تَعَجُّبٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ والمَعْنى: إنّا نَسْلُكُ في مَجِيءِ الآياتِ أنْواعًا رَجاءَ أنْ يَفْقَهُوا ويَفْهَمُوا عَنِ اللَّهِ - تَعالى - لِأنَّ في اخْتِلافِ الآياتِ ما يَقْتَضِي الفَهْمَ، إنْ غَرَبَتْ آيَةٌ لَمْ تَغْرُبْ أُخْرى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب