الباحث القرآني
(p-١٢٢)﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وبُكْمٌ في الظُّلُماتِ﴾ . قالَ النَّقّاشُ: نَزَلَتْ في بَنِي عَبْدِ الدّارِ، ثُمَّ انْسَحَبَتْ عَلى سِواهُمُ انْتَهى. ومُناسَبَةُ هَذِهِ لِما قَبْلَها؛ أنَّهُ لَمّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: ﴿إنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ [الأنعام: ٣٦] أخْبَرَ أنَّ المُكَذِّبِينَ بِالآياتِ صُمٌّ، لا يَسْمَعُونَ مَن يُنَبِّهُهم، فَلا يَسْتَجِيبُ أحَدٌ مِنهم، ولَمّا كانَ قَوْلُهُ: ﴿وما مِن دابَّةٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] الآيَةَ مُنَبِّهًا عَلى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، ولَطِيفِ صُنْعِهِ، وبَدِيعِ خَلْقِهِ، ذَكَرَ أنَّ المُكَذِّبَ بِآياتِهِ، هو أصَمُّ عَنْ سَماعِ الحَقِّ، أبْكَمُ عَنِ النُّطْقِ بِهِ. والآياتُ هُنا القُرْآنُ، أوْ ما ظَهَرَ عَلى يَدَيِ الرَّسُولِ ﷺ مِنَ المُعْجِزاتِ، أوِ الدَّلائِلِ والحُجَجِ، ثَلاثَةُ أقْوالٍ، والإخْبارُ عَنْهم بِقَوْلِهِ: ﴿صُمٌّ وبُكْمٌ في الظُّلُماتِ﴾ الظّاهِرُ أنَّهُ اسْتِعارَةٌ عَنْ عَدَمِ الِانْتِفاعِ الذِّهْنِيِّ بِهَذِهِ الحَواسِّ، لا أنَّهم ﴿صُمٌّ وبُكْمٌ في الظُّلُماتِ﴾ حَقِيقَةً، وجاءَ قَوْلُهُ: ﴿فِي الظُّلُماتِ﴾ كِنايَةً عَنْ عَمى البَصِيرَةِ، فَهو يَنْظُرُ، كَقَوْلِهِ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] لَكِنَّ قَوْلَهُ: ﴿فِي الظُّلُماتِ﴾ أبْلَغُ مِن قَوْلِهِ: (عُمْيٌ) إذْ جُعِلَتْ ظَرْفًا لَهم، وجُمِعَتْ لِاخْتِلافِ جِهاتِ الكُفْرِ، كَما قِيلَ: في قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ﴾ [الأنعام: ١]، عَلى أحَدِ الأقْوالِ، وفي قَوْلِهِ: ﴿يُخْرِجُونَهم مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] . وقالَ الجِبائِيُّ: الإخْبارُ عَنْهم بِأنَّهم ﴿صُمٌّ وبُكْمٌ في الظُّلُماتِ﴾ حَقِيقَةٌ، وذَلِكَ يَوْمَ القِيامَةِ يَجْعَلُهم صُمًّا وبُكْمًا في الظُّلُماتِ، يُضِلُّهم بِذَلِكَ عَنِ الجَنَّةِ، ويُصَيِّرُهم إلى النّارِ. ويُعَضِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ونَحْشُرُهم يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا مَأْواهم جَهَنَّمُ﴾ [الإسراء: ٩٧] الآيَةَ. وقالَ الكَعْبِيُّ: (صُمٌّ وبُكْمٌ) مَحْمُولٌ عَلى الشَّتْمِ والإهانَةِ عَلى أنَّهم كانُوا كَذَلِكَ في الحَقِيقَةِ انْتَهى. والظُّلُماتُ ظُلُماتُ الكُفْرِ، أوْ حُجُبٌ تُضْرَبُ عَلى القَلْبِ فَيُظْلِمُ، وتَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ نُورِ الإيمانِ، أوْ ظُلُماتُ يَوْمِ القِيامَةِ، ومِنهُ قِيلَ: ارْجِعُوا وراءَكم فالتَمِسُوا نُورًا، أوِ الشَّدائِدُ؛ لِأنَّ العَرَبَ كانَتْ تُعَبِّرُ عَنِ الشِّدَّةِ بِالظُّلْمَةِ، يَقُولُونَ: يَوْمٌ مُظْلِمٌ، إذا لَقُوا فِيهِ شِدَّةً، ومِنهُ قَوْلُهُ:
؎بَنِي أسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاءَنا إذا كانَ يَوْمٌ ذُو كَواكِبَ مُظْلِمُ
أرْبَعَةُ أقْوالٍ، رابِعُها قالَهُ اللَّيْثُ.
﴿مَن يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ ومَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ مَفْعُولُ (يَشَأْ) مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: مَن يَشَأِ اللَّهُ إضْلالَهُ (يُضْلِلْهُ)، ومَن يَشَأْ هِدايَتَهُ (يَجْعَلْهُ) . ولا يَجُوزُ في (مَن) فِيهِما أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِـ (يَشَأْ)؛ لِلتَّعانُدِ الحاصِلِ بَيْنَ المَشِيئَتَيْنِ، فَإنْ قُلْتَ، يَكُونُ مَفْعُولًا بِـ (يَشَأْ) عَلى حَذْفِ مُضافٍ (p-١٢٣)تَقْدِيرُهُ: إضْلالُ مَن يَشاءُ اللَّهُ، وهِدايَةُ مَن يَشاءُ اللَّهُ، فَحُذِفَ وأُقِيمَ (مَن) مَقامَهُ، ودَلَّ فِعْلُ الجَوابِ عَلى هَذا المَفْعُولِ، فالجَوابُ: أنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ، لِأنَّ أبا الحَسَنِ الأخْفَشَ حَكى عَنِ العَرَبِ؛ أنَّ اسْمَ الشَّرْطِ غَيْرَ الظَّرْفِ، والمُضافَ إلى اسْمِ الشَّرْطِ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ في الجَوابِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى اسْمِ الشَّرْطِ، أوِ المُضافِ إلَيْهِ. والضَّمِيرُ في (يُضْلِلْهُ) إمّا أنْ يَكُونَ عائِدًا عَلى إضْلالٍ المَحْذُوفِ، أوْ عَلى (مَن)، لا جائِزٌ أنْ يَعُودَ عَلى إضْلالٍ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: ﴿يَغْشاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ﴾ [النور: ٤٠]، إذِ الهاءُ تَعُودُ عَلى (ذِي) المَحْذُوفَةِ مِن قَوْلِهِ: أوْ كَظُلُماتٍ، إذِ التَّقْدِيرُ: أوْ كَذِي ظُلُماتٍ؛ لِأنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: إضْلالَ مَن يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ أيْ يُضْلِلُ الإضْلالَ، وهَذا لا يَصِحُّ، ولا جائِزٌ أنْ يَعُودَ عَلى (مَنِ) الشَّرْطِيَّةِ؛ لِأنَّهُ إذْ ذاكَ تَخْلُو الجُمْلَةُ الجَزائِيَّةُ مِن ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلى المُضافِ إلى اسْمِ الشَّرْطِ، وذَلِكَ لا يَجُوزُ. فَإنْ قُلْتَ: يَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَن يَشَأِ اللَّهُ بِالإضْلالِ، فَيَكُونُ عَلى هَذا مَفْعُولًا مُقَدَّمًا؛ لِأنَّ شاءَ بِمَعْنى أرادَ، ويُقالُ أرادَهُ اللَّهُ بِكَذا؛ قالَ الشّاعِرُ:
؎أرادَتْ عِرارًا بِالهَوانِ ومَن يُرِدْ ∗∗∗ عِرارًا لَعَمْرِي بِالهَوانِ فَقَدْ ظَلَمْ
فالجَوابُ: أنَّهُ لا يُحْفَظُ مِن كَلامِ العَرَبِ تَعْدِيَةُ (شاءَ) بِالباءِ، لا يُحْفَظُ شاءَ اللَّهُ بِكَذا، ولا يَلْزَمُ مِن كَوْنِ الشَّيْءِ في مَعْنى الشَّيْءِ أنْ يُعَدّى تَعْدِيَتَهُ، بَلْ قَدْ يَخْتَلِفُ تَعْدِيَةُ اللَّفْظِ الواحِدِ بِاخْتِلافِ مُتَعَلِّقِهِ، ألا تَرى أنَّكَ تَقُولُ: دَخَلْتُ الدّارَ، ودَخَلْتُ في غِمارِ النّاسِ ؟ ولا يَجُوزُ دَخَلْتُ غِمارَ النّاسِ، فَإذا كانَ هَذا وارِدًا في الفِعْلِ الواحِدِ؛ فَلَأنْ يَكُونَ في الفِعْلَيْنِ أحْرى، وإذا تَقَرَّرَ هَذا، فَإعْرابُ (مَن)، يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما؛ وهو الأوْلى أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً جُمْلَةُ الشَّرْطِ خَبَرُهُ، والثّانِي أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُتَأخِّرٍ عَنْهُ، يُفَسِّرُهُ فِعْلُ الشَّرْطِ، مِن حَيْثُ المَعْنى، وتَكُونَ المَسْألَةُ مِن بابِ الِاشْتِغالِ، التَّقْدِيرُ: مَن يُشْقِ اللَّهُ يَشَأْ إضْلالَهُ، ومَن يُسْعِدْ يَشَأْ هِدايَتَهُ ﴿يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ في أنَّ اللَّهَ تَعالى هو الهادِي، وهو المُضِلُّ، وأنَّ ذَلِكَ مَعْذُوقٌ بِمَشِيئَتِهِ، لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ. وقَدْ تَأوَّلَتِ المُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الآيَةَ، كَما تَأوَّلُوا غَيْرَها، فَقالُوا: مَعْنى (يُضْلِلْهُ) يَخْذُلُهُ ويَخْبِلُهُ، وضَلالُهُ لَمْ يَلْطُفْ بِهِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِ اللُّطْفِ، ومَعْنى ﴿يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ يَلْطُفُ بِهِ؛ لِأنَّ اللُّطْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ، وهَذا عَلى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وقالَ غَيْرُهُ: يُضْلِلْهُ عَنْ طَرِيقِ الجَنَّةِ، و﴿يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ هو الصِّراطُ الَّذِي يَسْلُكُهُ المُؤْمِنُونَ إلى الجَنَّةِ. قالُوا: وقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أنَّهُ تَعالى لا يَشاءُ هَذا الضَّلالَ، إلّا لِمَن يَسْتَحِقُّ العُقُوبَةَ، كَما لا يَشاءُ الهُدى إلّا لِلْمُؤْمِنِينَ.
{"ayah":"وَٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا صُمࣱّ وَبُكۡمࣱ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِۗ مَن یَشَإِ ٱللَّهُ یُضۡلِلۡهُ وَمَن یَشَأۡ یَجۡعَلۡهُ عَلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق