الباحث القرآني
﴿وما الحَياةُ الدُّنْيا إلّا لَعِبٌ ولَهْوٌ ولَلدّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ . لَمّا ذَكَرَ قَوْلَهم، وقالُوا: ﴿إنْ هي إلّا حَياتُنا الدُّنْيا﴾ [الأنعام: ٢٩] ذَكَرَ مَصِيرَها، وأنَّ مُنْتَهى أمْرِها، أنَّها فانِيَةٌ مُنْقَضِيَةٌ عَنْ قَرِيبٍ، فَصارَتْ شَبِيهَةً بِاللَّهْوِ واللَّعِبِ، إذْ هُما لا يَدُومانِ ولا طائِلَ لَهُما، كَما أنَّها لا طائِلَ لَها، فاللَّهْوُ واللَّعِبُ اشْتِغالٌ بِما لا غِنى بِهِ ولا مَنفَعَةَ، كَذَلِكَ هي الدُّنْيا، بِخِلافِ الِاشْتِغالِ بِأعْمالِ الآخِرَةِ، فَإنَّها الَّتِي تُعْقِبُ المَنافِعَ والخَيْراتِ. وقالَ الحَسَنُ: في الكَلامِ حَذْفٌ، التَّقْدِيرُ وما أهْلُ الحَياةِ، إلّا أهْلُ لَعِبٍ ولَهْوٍ. وقِيلَ: التَّقْدِيرُ، وما أعْمالُ الحَياةِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هَذِهِ حَياةُ الكافِرِ؛ لِأنَّهُ يُزْجِيها في غُرُورٍ وباطِلٍ، وأمّا حَياةُ المُؤْمِنِ، فَتُطْوى عَلى أعْمالٍ صالِحَةٍ، فَلا تَكُونُ لَعِبًا ولَهْوًا. وفي الحَدِيثِ: «ما أنا مِنَ الدَّدِ، ولا الدَّدُ مِنِّي» . والدَّدُ اللَّعِبُ، واللَّعِبُ واللَّهْوُ، قِيلَ: هُما بِمَعْنًى واحِدٍ، وكُرِّرَ تَأْكِيدًا لِذَمِّ الدُّنْيا. وقالَ الرُّمّانِيُّ: اللَّعِبُ عَمَلٌ يَشْغَلُ عَمّا يُنْتَفَعُ بِهِ إلى ما لا يُنْتَفَعُ بِهِ، واللَّهْوُ صَرْفُ النَّفْسِ عَنِ الجِدِّ إلى الهَزْلِ، يُقالُ: لُهِيتُ عَنْهُ؛ أيْ صَرَفْتُ نَفْسِي عَنْهُ. ورَدَّ عَلَيْهِ المَهْدَوِيُّ، فَقالَ هَذا: فِيهِ ضَعْفٌ وبُعْدٌ؛ لِأنَّ الَّذِي مَعْناهُ الصَّرْفُ، لامُهُ ياءٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: لَهَيانِ، ولامُ الأوَّلِ واوٌ انْتَهى. وهَذا التَّضْعِيفُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ (فَعِلَ) مِن ذَواتِ الواوِ، تَنْقَلِبُ فِيهِ الواوُ ياءً، كَما تَقُولُ: شَقِيَ فُلانٌ، وهو مِنَ الشِّقْوَةِ، فَكَذَلِكَ (لَهي)، أصْلُهُ (لَهِوَ) مِن ذَواتِ الواوِ، فانْقَلَبَتِ الواوُ ياءً؛ لِكَسْرَةِ ما قَبْلَها، فَقالُوا: (لَهي) كَما قالُوا: حَلِيَ بِعَيْنِي، وهو مِنَ الحَلْوِ. وأمّا اسْتِدْلالُهُ بِقَوْلِهِمْ في التَّثْنِيَةِ لَهَيانِ، فَفاسِدٌ؛ لِأنَّ التَّثْنِيَةَ هي كالفِعْلِ، تَنْقَلِبُ فِيهِ الواوُ ياءً؛ لِأنَّ مَبْناها عَلى المُفْرَدِ، وهي تَنْقَلِبُ في المُفْرَدِ في قَوْلِهِمْ: (لَهٍ) اسْمُ فاعِلٍ مِن (لَهي)، كَما قالُوا: شَجَّ، وهو مِنَ (p-١٠٩)الشَّجْوِ، وقالُوا في تَثْنِيَتِهِ: شَجَيانِ بِالياءِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِن هَذا في المُفْرَداتِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحْدَهُ، ولَدارُ الآخِرَةِ، عَلى الإضافَةِ، وقالُوا: هو كَقَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الجامِعِ، فَقِيلَ هو مِن إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى صِفَتِهِ. وقالَ الفَرّاءُ: هي إضافَةُ الشَّيْءِ إلى نَفْسِهِ، كَقَوْلِكَ: بارِحَةُ الأُولى، ويَوْمُ الخَمِيسِ، وحَقُّ اليَقِينِ، وإنَّما يَجُوزُ عِنْدَ اخْتِلافِ اللَّفْظَيْنِ انْتَهى. وقِيلَ: مِن حَذْفِ المَوْصُوفِ، وإقامَةِ الصِّفَةِ مَقامَهُ؛ أيْ ولَدارُ الحَياةِ الآخِرَةِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ، وما الحَياةُ الدُّنْيا، وهَذا قَوْلُ البَصْرِيِّينَ. وحَسُنَ ذَلِكَ أنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ قَدِ اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمالَ الأسْماءِ، فَوَلِيَتِ العَوامِلَ، كَقَوْلِهِ: ﴿وإنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ والأُولى﴾ [الليل: ١٣]، وقَوْلِهِ: ﴿ولَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى﴾ [الضحى: ٤] . وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ ﴿ولَلدّارُ الآخِرَةُ﴾ بِتَعْرِيفِ الدّارِ بِـ (ال)، ورَفْعِ (الآخِرَةُ) نَعْتًا لَها. و(خَيْرٌ) هُنا أفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وحَسُنَ حَذْفُ المُفَضَّلِ عَلَيْهِ؛ لِوُقُوعِهِ خَبَرًا، والتَّقْدِيرُ مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا، وقِيلَ: (خَيْرٌ) هُنا لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ، وإنَّما هي كَقَوْلِهِ: ﴿أصْحابُ الجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ [الفرقان: ٢٤]، إذْ لا اشْتِراكَ بَيْنَ المُؤْمِنِ والكافِرِ في أصْلِ الخَيْرِ، فَيَزِيدُ المُؤْمِنُ عَلَيْهِ، بَلْ هَذا مُخْتَصٌّ بِالمُؤْمِنِ. والدّارُ الآخِرَةُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هي الجَنَّةُ. وقِيلَ: ذَلِكَ مَجازٌ عُبِّرَ بِهِ عَنِ الإقامَةِ في النَّعِيمِ؛ كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎لِلَّهِ أيّامُ نَجِدٍ والنَّعِيمُ بِها قَدْ كانَ دارًا لَنا أكْرِمْ بِهِ دارا
ومَعْنى (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) يَتَّقُونَ الشِّرْكَ لِأنَّ المُؤْمِنَ الفاسِقَ، ولَوْ قَدَّرْنا دُخُولَهُ النّارَ، فَإنَّهُ بَعْدُ يَدْخُلُ الجَنَّةَ، فَتَصِيرُ الدّارُ الآخِرَةُ خَيْرًا لَهُ مِن دارِ الدُّنْيا. وذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى الكُفْرَ والمَعاصِيَ، وقالَ في المُنْتَخَبِ نَحْوَهُ، قالَ: بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّ هَذِهِ الخَيْرِيَّةَ، إنَّما تَحْصُلُ لِمَن كانَ مِنَ المُتَّقِينَ المَعاصِيَ والكَبائِرَ، فَأمّا الكافِرِينَ والفاسِقِينَ فَلا، لِأنَّ الدُّنْيا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ خَيْرٌ مِنَ الآخِرَةِ انْتَهى. وهو أشْبَهُ بِكَلامِ المُعْتَزِلَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقَوْلُهُ: (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) دَلِيلٌ عَلى أنَّ ما سِوى أعْمالِ المُتَّقِينَ لَهْوٌ ولَعِبٌ انْتَهى. وقَدْ أبْدى الفَخْرُ الرّازِيُّ الخَيْرِيَّةَ هُنا، فَقالَ: خَيْراتُ الدُّنْيا خَسِيسَةٌ، وخَيْراتُ الآخِرَةِ شَرِيفَةٌ؛ وبَيانُهُ أنَّ خَيْراتِ الدُّنْيا لَيْسَتْ إلّا قَضاءَ الشَّهْوَتَيْنِ، وهو في نِهايَةِ الخَساسَةِ، بِدَلِيلِ مُشارَكَةِ الحَيَواناتِ الخَسِيسَةِ في ذَلِكَ، وزِيادَةِ بَعْضِها عَلى الإنْسانِ في ذَلِكَ، كالجَمَلِ في كَثْرَةِ الأكْلِ، والدِّيكِ في كَثْرَةِ الوِقاعِ، والذِّئْبِ في القُوَّةِ عَلى الفَسادِ والتَّمْزِيقِ، والعَقْرَبِ في قُوَّةِ الإيلامِ، وبِدَلِيلِ أنَّ الإكْثارَ مِن ذَلِكَ لا يُوجِبُ شَرَفًا، بَلِ المُكْثِرُ مِن ذَلِكَ مَمْقُوتٌ مُسْتَقْذَرٌ مُسْتَحْقَرٌ، يُوصَفُ بِأنَّهُ بَهِيمَةٌ، وبِدَلِيلِ عَدَمِ الِافْتِخارِ بِهَذِهِ الأحْوالِ، بَلِ العُقَلاءُ يُخْفُونَها، ويَخْتَفُونَ عِنْدَ فِعالِها، ويُكَنُّونَ عَنْها ولا يُصَرِّحُونَ بِها إلّا عِنْدَ الشَّتْمِ بِها، وبِأنَّ حَقِيقَةَ اللَّذّاتِ دَفْعُ الآلامِ وبِسُرْعَةِ انْقِضائِها، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ خَساسَةُ هَذِهِ اللَّذّاتِ. وأمّا السَّعاداتُ الرُّوحانِيَّةُ، فَسَعاداتٌ عالِيَةٌ شَرِيفَةٌ باقِيَةٌ مُقَدَّسَةٌ، وذَلِكَ أنَّ جَمِيعَ الخَلْقِ إذا تَخَيَّلُوا في إنْسانٍ كَثْرَةَ العِلْمِ، وشِدَّةَ الِانْقِباضِ عَنِ اللَّذّاتِ الجُسْمانِيَّةِ، فَإنَّهم بِالطَّبْعِ يُعَظِّمُونَهُ، ويَخْدِمُونَهُ ويَعُدُّونَ أنْفُسَهم عَبِيدًا لَهُ، وأشْقِياءَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، ولَوْ فَرَضْنا تَشارُكَ خَيْراتِ الدُّنْيا وخَيْراتِ الآخِرَةِ في التَّفْضِيلِ، لَكانَتْ خَيْراتُ الآخِرَةِ أفْضَلَ؛ لِأنَّ الوُصُولَ إلَيْها مَعْلُومٌ قَطْعًا. وخَيْراتُ الدُّنْيا لَيْسَتْ مَعْلُومَةً، بَلْ ولا مَظْنُونَةً، فَكَمْ مِن سُلْطانٍ قاهِرٍ بُكْرَةَ يَوْمٍ، أمْسى تَحْتَ التُّرابِ آخِرَهُ ! وكَمْ مُصْبِحٍ أمِيرًا عَظِيمًا أمْسى أسِيرًا حَقِيرا ! ولَوْ فَرَضْنا أنَّهُ وجَدَ بَعْدَ سُرُورِ يَوْمٍ يَوْمًا آخَرَ، فَإنَّهُ لا يَدْرِي هَلْ يَنْتَفِعُ في ذَلِكَ اليَوْمِ بِما جَمَعَ مِنَ الأمْوالِ والطَّيِّباتِ واللَّذّاتِ ؟ بِخِلافِ مُوجِبِ السَّعاداتِ الأُخْرَوِيَّةِ، فَإنَّهُ يُقْطَعُ أنَّهُ يَنْتَفِعُ بِها في الآخِرَةِ، وهَبْ أنَّهُ انْتَفَعَ بِها، فَلَيْسَ ذَلِكَ الِانْتِفاعُ خالِيًا مِن شَوائِبِ المَكْرُوهاتِ والمُحْزِناتِ، وهَبْ أنَّهُ انْتَفَعَ في الغَدِ، فَإنَّها تَنْقَضِي، ويَحْزَنُ عِنْدَ انْقِضائِها؛ كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎أشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي في سُرُورٍ ∗∗∗ تَيَقَّنَ عَنْهُ صاحِبُهُ انْتِقالا
(p-١١٠)
{"ayah":"وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَعِبࣱ وَلَهۡوࣱۖ وَلَلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡرࣱ لِّلَّذِینَ یَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق