الباحث القرآني

﴿قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: سَألَتْ قُرَيْشٌ شاهِدًا عَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقالُوا: أيُّ دَلِيلٍ يَشْهَدُ بِأنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ لَكَ ؟ فَقالَ: هَذا القُرْآنُ تَحَدَّيْتُكم بِهِ، فَعَجَزْتُمْ عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِهِ، أوْ بِمِثْلِ بَعْضِهِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: قالَ رُؤَساءُ مَكَّةَ: يا مُحَمَّدُ ! ما نَرى أحَدًا يُصَدِّقُكَ فِيما تَقُولُ في أمْرِ الرِّسالَةِ، ولَقَدْ سَألْنا اليَهُودَ والنَّصارى عَنْكَ، فَزَعَمُوا أنْ لَيْسَ لَكَ عِنْدَهم ذِكْرٌ ولا صِفَةٌ، فَأرِنا مَن يَشْهَدُ لَكَ، أنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ كَما تَزْعُمُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ (p-٩٠)الآيَةَ. وقِيلَ: سَألَ المُشْرِكُونَ لَمّا نَزَلَ ﴿وإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ [الأنعام: ١٧] الآيَةَ، فَقالُوا: مَن يَشْهَدُ لَكَ عَلى أنَّ هَذا القُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ عَلَيْكَ، وأنَّهُ لا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ إلّا اللَّهُ ؟ فَقالَ اللَّهُ، وهَذا القُرْآنُ المُعْجِزُ. (وأيُّ) اسْتِفْهامٌ، والكَلامُ عَلى أقْسامِ (أيٍّ)، وعِلَّةِ إعْرابِها مَذْكُورٌ في عِلْمِ النَّحْوِ، وشَيْءٌ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ، وذُكِرَ الخِلافُ في مَدْلُولِهِ الحَقِيقِيِّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الشَّيْءُ أعَمُّ العامِّ؛ لِوُقُوعِهِ عَلى كُلِّ ما يَصِحُّ أنْ يُعْلَمَ ويُخْبَرَ عَنْهُ، فَيَقَعُ عَلى القَدِيمِ والجَوْهَرِ والعَرَضِ والمُحالِ والمُسْتَقِيمِ؛ ولِذَلِكَ صَحَّ أنْ يُقالَ في اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: شَيْءٌ لا كالأشْياءِ، كَأنَّكَ قُلْتَ: مَعْلُومٌ لا كَسائِرِ المَعْلُوماتِ، ولا يَصِحُّ جِسْمٌ لا كالأجْسامِ، وأرادَ (أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً)، فَوَضَعَ شَيْئًا مَكانَ شَهِيدٍ؛ لِيُبالِغَ في التَّعْمِيمِ انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وتَتَضَمَّنُ هَذِهِ الآيَةُ أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يُقالُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، كَما يُقالُ عَلَيْهِ مَوْجُودٌ، ولَكِنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وقالَ غَيْرُهُما هُنا شَيْءٌ يَقَعُ عَلى القَدِيمِ والمُحْدَثِ والجَوْهَرِ والعَرَضِ والمَعْدُومِ والمَوْجُودِ، ولَمّا كانَ هَذا مُقْتَضاهُ، جازَ إطْلاقُهُ عَلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، واتَّفَقَ الجُمْهُورُ عَلى ذَلِكَ، وخالَفَ الجَهْمُ، وقالَ: لا يُطْلَقُ عَلى اللَّهِ شَيْءٌ، ويَجُوزُ أنْ يُسَمّى ذاتًا ومَوْجُودًا، وإنَّما لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِقَوْلِهِ: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٠٢]، فَيَلْزَمُ مِن إطْلاقِ شَيْءٍ عَلَيْهِ، أنْ يَكُونَ خالِقًا لِنَفْسِهِ، وهو مُحالٌ؛ ولِقَوْلِهِ: ﴿ولِلَّهِ الأسْماءُ الحُسْنى﴾ [الأعراف: ١٨٠] . والِاسْمُ إنَّما يَحْسُنُ لِحُسْنِ مُسَمّاهُ، وهو أنْ يَدُلَّ عَلى صِفَةِ كَمالٍ ونَعْتِ جَلالٍ، ولَفْظُ الشَّيْءِ أعَمُّ الأشْياءِ، فَيَكُونُ حاصِلًا في أخَسِّ الأشْياءِ وأرْذَلِها، فَلا يَدُلُّ عَلى صِفَةِ كَمالٍ ولا نَعْتِ جَلالٍ، فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ دَعْوَةُ اللَّهِ بِهِ، لَمّا لَمْ يَكُنْ مِنَ الأسْماءِ الحُسْنى، ولِتَناوُلِهِ المَعْدُومِ؛ لِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ [الكهف: ٢٣] فَلا يُفِيدُ إطْلاقُ شَيْءٍ عَلَيْهِ امْتِيازَ ذاتِهِ عَلى سائِرِ الذَّواتِ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ، ولا بِخاصَّةٍ مُمَيَّزَةٍ، ولا يُفِيدُ كَوْنُهُ مُطْلَقًا، فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ إطْلاقُهُ عَلى اللَّهِ تَعالى، ولِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] وذاتُ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُ نَفْسِهِ، فَهَذا تَصْرِيحٌ بِأنَّهُ تَعالى لا يُسَمّى باسِمِ الشَّيْءِ، ولا يُقالُ الكافُ زائِدَةٌ؛ لِأنَّ جَعْلَ كَلِمَةٍ مِنَ القُرْآنِ عَبَثًا باطِلًا، لا يَلِيقُ ولا يُصارُ إلَيْهِ، إلّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ الشَّدِيدَةِ. وأُجِيبَ بِأنَّ لَفْظَ شَيْءٍ، أعَمُّ الألْفاظِ، ومَتى صَدَقَ الخاصُّ، صَدَقَ العامُّ، فَمَتى صَدَقَ كَوْنُهُ ذاتًا حَقِيقَةً، وجَبَ أنْ يَصْدُقَ كَوْنُهُ شَيْئًا. واحْتَجَّ الجُمْهُورُ بِهَذِهِ الآيَةِ، وتَقْدِيرُهُ: أنَّ المَعْنى أيُّ الأشْياءِ أكْبَرُ شَهادَةً، ثُمَّ جاءَ في الجَوابِ، قُلِ اللَّهُ، وهَذا يُوجِبُ إطْلاقَ شَيْءٍ عَلَيْهِ، وانْدِراجُهُ في لَفْظِ شَيْءٍ المُرادِ بِهِ العُمُومُ، ولَوْ قُلْتَ: أيُّ النّاسِ أفْضَلُ ؟ فَقِيلَ: جِبْرِيلُ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَنْدَرِجْ في لَفْظِ النّاسِ، وبِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]، والمُرادُ بِوَجْهِهِ ذاتُهُ، والمُسْتَثْنى يَجِبُ أنْ يَكُونَ داخِلًا تَحْتَ المُسْتَثْنى مِنهُ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. ولِجَهْمٍ أنْ يَقُولَ: هَذا اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، والدَّلِيلُ الأوَّلُ لَمْ يُصَرَّحْ فِيهِ بِالجَوابِ المُطابِقِ، إذْ قَوْلُهُ: ﴿قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ مُبْتَدَأٌ، وخَبَرٌ ذُو جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِنَفْسِها، لا تَعَلُّقَ لَها بِما قَبْلَها مِن جِهَةِ الصِّناعَةِ الإعْرابِيَّةِ، بَلْ قَوْلُهُ: ﴿أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً﴾ هو اسْتِفْهامٌ عَلى جِهَةِ التَّقْرِيرِ والتَّوْقِيفِ، ثُمَّ أخْبَرَ بِأنَّ خالِقَ الأشْياءِ والشُّهُودِ، هو الشَّهِيدُ بَيْنِي وبَيْنَكم، وانْتَظَمَ الكَلامُ مِن حَيْثُ المَعْنى، فالجُمْلَةُ لَيْسَتْ جَوابًا صِناعِيًّا، وإنَّما يَتِمُّ ما قالُوهُ، لَوِ اقْتَصَرَ عَلى قُلِ اللَّهُ، وقَدْ ذَهَبَ إلى ذَلِكَ بَعْضُهم، فَأعْرَبَهُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الخَبَرِ؛ لِدَلالَةِ ما تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، والتَّقْدِيرُ قُلِ اللَّهُ أكْبَرُ شَهادَةً، ثُمَّ أضْمَرَ مُبْتَدَأً يَكُونُ شَهِيدٌ خَبَرًا لَهُ، تَقْدِيرُهُ: هو ﴿شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾، ولا يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلى هَذا، بَلْ هو مَرْجُوحٌ؛ لِكَوْنِهِ أضْمَرَ فِيهِ آخِرًا وأوَّلًا، والوَجْهُ الَّذِي قَبْلَهُ لا إضْمارَ فِيهِ مَعَ صِحَّةِ مَعْناهُ، فَوَجَبَ حَمْلُ القُرْآنِ عَلى الرّاجِحِ، لا عَلى المَرْجُوحِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: قالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ لَهم: أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً، فَإنْ أجابُوكَ، وإلّا فَقُلْ لَهم: ﴿اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ . وقالَ مُجاهِدٌ: المَعْنى أنَّ اللَّهَ قالَ لِنَبِيِّهِ: قُلْ لَهم: ﴿أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً﴾، وقُلْ لَهم ﴿اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ أيْ في تَبْلِيغِي وكَذِبِكم وكُفْرِكم. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ: (p-٩١)﴿قُلْ لِمَن ما في السَّماواتِ والأرْضِ قُلْ لِلَّهِ﴾ [الأنعام: ١٢] في أنِ اسْتَفْهَمَ عَلى جِهَةِ التَّوْقِيفِ والتَّقْرِيرِ، ثُمَّ بادَرَ إلى الجَوابِ، إذْ لا يُتَصَوَّرُ فِيهِ مُدافَعَةٌ، كَما تَقُولُ لِمَن تُخاصِمُهُ وتَنْظَلِمُ مِنهُ، مَن أقْدَرُ في البَلَدِ ؟ ثُمَّ تُبادِرُ وتَقُولُ: السُّلْطانُ، فَهو يَحُولُ بَيْنَنا، فَتَقْدِيرُ الآيَةِ: قُلْ لَهم: أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً هو شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمُ انْتَهى. ولَيْسَتْ هَذِهِ الآيَةُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ لِمَن ما في السَّماواتِ والأرْضِ قُلْ لِلَّهِ﴾ [الأنعام: ١٢] لِأنَّ لِلَّهِ يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ جَوابًا، وهُنا لا يَتَعَيَّنُ، إذْ يَنْعَقِدُ مِن قَوْلِهِ: ﴿قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، وهو الظّاهِرُ، وأيْضًا فَفي هَذِهِ الآيَةِ لَفْظُ شَيْءٍ، وقَدْ تَتَوَزَّعُ في إطْلاقِهِ عَلى اللَّهِ تَعالى، وفي تِلْكَ الآيَةِ لَفْظُ (مَن)، وهو يُطْلَقُ عَلى اللَّهِ تَعالى. قِيلَ: مَعْنى (أكْبَرُ) أعْظَمُ وأصَحُّ؛ لِأنَّهُ لا يَجْرِي فِيها الخَطَأُ ولا السَّهْوُ ولا الكَذِبُ. وقِيلَ: مَعْناها أفْضَلُ؛ لِأنَّ مَراتِبَ الشَّهاداتِ في التَّفْضِيلِ، تَتَفاوَتُ بِمَراتِبِ الشّاهِدِينَ، وانْتَصَبَ (شَهادَةً) عَلى التَّمْيِيزِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَصِحُّ عَلى المَفْعُولِ بِأنْ يُحْمَلَ أكْبَرُ عَلى التَّشْبِيهِ بِالصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الفاعِلِ انْتَهى. وهَذا كَلامٌ عَجِيبٌ؛ لِأنَّهُ لا يَصِحُّ نَصْبُهُ عَلى المَفْعُولِ؛ ولِأنَّ أفْعَلَ مِمَّنْ لا يَتَشَبَّهُ بِالصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الفاعِلِ، ولا يَجُوزُ في أفْعَلَ مِن أنْ يَكُونَ مِن بابِ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الفاعِلِ؛ لِأنَّ شَرْطَ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الفاعِلِ أنْ تُؤَنَّثَ وتُثَنّى وتُجْمَعَ، وأفْعَلُ مَن لا يَكُونُ فِيها ذَلِكَ، وهَذا مَنصُوصٌ عَلَيْهِ مِنَ النُّحاةِ، فَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ المَنصُوبَ في هَذا مَفْعُولًا، وجَعَلَ (أكْبَرُ) مُشَبَّهًا بِالصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ، وجَعَلَ مَنصُوبَهُ مَفْعُولًا، وهَذا تَخْلِيطٌ فاحِشٌ، ولَعَلَّهُ يَكُونُ مِنَ النّاسِخِ لا مِنَ المُصَنِّفِ. ومَعْنى ﴿بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ بَيْنَنا، ولَكِنَّهُ لَمّا أُضِيفَ إلى ياءِ المُتَكَلِّمِ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِن إعادَةِ بَيْنَ، وهو نَظِيرُ قَوْلِهِ فَأيِّي ما، وأيُّكَ كانَ شَرًّا، وكِلايَ وكِلاكَ، ذَهَبَ أنَّ مَعْناهُ فَأيُّنا وكِلانا. * * * ﴿وأُوحِيَ إلَيَّ هَذا القُرْآنُ لِأُنْذِرَكم بِهِ ومَن بَلَغَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ (وأُوحِيَ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، (والقُرْآنُ) مَرْفُوعٌ بِهِ. وقَرَأ عِكْرِمَةُ وأبُو نَهِيكٍ وابْنُ السَّمَيْقَعِ والجَحْدَرِيُّ (وأوْحى) مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، والقُرْآنُ مَنصُوبٌ بِهِ، والمَعْنى لِأُنْذِرَكم ولِأُبَشِّرَكم، فَحُذِفَ المَعْطُوفُ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ، أوِ اقْتَصَرَ عَلى الإنْذارِ؛ لِأنَّهُ في مَقامِ تَخْوِيفٍ لِهَؤُلاءِ المُكَذِّبِينَ بِالرِّسالَةِ، المُتَّخِذِينَ غَيْرَ اللَّهِ إلَهًا. والظّاهِرُ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ، أنَّ (مَن) في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلى مَفْعُولِ (لِأُنْذِرَكم)، والعائِدُ عَلى (مَن) ضَمِيرٌ مَنصُوبٌ مَحْذُوفٌ، وفاعِلُ (بَلَغَ) ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى القُرْآنِ؛ ومَن بَلَغَهُ هو أيِ (القُرْآنُ) والخِطابُ في ﴿لِأُنْذِرَكم بِهِ﴾ لِأهْلِ مَكَّةَ. وقالَ مُقاتِلٌ: ومَن بَلَغَهُ مِنَ العَرَبِ والعَجَمِ. وقِيلَ: مِنَ الثَّقَلَيْنِ. وقِيلَ: مَن بَلَغَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: مَن بَلَغَهُ القُرْآنُ فَكَأنَّما رَأى مُحَمَّدًا ﷺ . وفي الحَدِيثِ: «" مَن بَلَغَهُ هَذا القُرْآنُ فَأنا نَذِيرُهُ» . وقالَتْ فِرْقَةٌ: الفاعِلُ بِـ (بَلَغَ) عائِدٌ عَلى (مَن) لا عَلى (القُرْآنُ) والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ ومَن بَلَغَ الحُلُمَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (مِن) في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلى الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في ﴿لِأُنْذِرَكم بِهِ﴾ وجازَ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُ وبَيْنَ الضَّمِيرِ بِضَمِيرِ المَفْعُولِ، وبِالجارِّ والمَجْرُورِ؛ أيْ ولِيُنْذِرَ بِهِ مَن بَلَغَهُ القُرْآنُ. ﴿أئِنَّكم لَتَشْهَدُونَ أنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى﴾ قُرِئَ ﴿أئِنَّكم لَتَشْهَدُونَ﴾ بِصُورَةِ الإيجابِ، فاحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ خَبَرًا مَحْضًا، واحْتُمِلَ (p-٩٢)الِاسْتِفْهامُ عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ أداتِهِ، ويُبَيِّنُ ذَلِكَ قِراءَةُ الِاسْتِفْهامِ، فَقُرِئَ بِهَمْزَتَيْنِ مُحَقَّقَتَيْنِ، وبِإدْخالِ ألِفٍ بَيْنَهُما، وبِتَسْهِيلِ الثّانِيَةِ، وبِإدْخالِ ألِفٍ بَيْنَ الهَمْزَةِ الأُولى والهَمْزَةِ المُسَهَّلَةِ، رَوى هَذِهِ القِراءَةَ الأخِيرَةَ الأصْمَعِيُّ عَنْ أبِي عَمْرٍو ونافِعٍ، وهَذا الِاسْتِفْهامُ مَعْناهُ التَّقْرِيعُ لَهم والتَّوْبِيخُ، والإنْكارُ عَلَيْهِمْ، فَإنْ كانَ الخِطابُ لِأهْلِ مَكَّةَ، فالآلِهَةُ الأصْنامُ، فَإنَّهم أصْحابُ أوْثانٍ، وإنْ كانَ لِجَمِيعِ المُشْرِكِينَ، فالآلِهَةُ كُلُّ ما عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ تَعالى مِن وثَنٍ أوْ كَوْكَبٍ أوْ نارٍ أوْ آدَمِيٍّ، وأُخْرى صِفَةٌ لِآلِهَةٍ، وصِفَةُ جَمْعِ ما لا يُعْقَلُ كَصِفَةِ الواحِدَةِ المُؤَنَّثَةِ، كَقَوْلِهِ: (مَآرِبُ أُخْرى والأسْماءُ الحُسْنى)، ولَمّا كانَتِ الآلِهَةُ حِجارَةً وخَشَبًا، أُجْرِيَتْ هَذا المَجْرى. ﴿قُلْ لا أشْهَدُ قُلْ إنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ وإنَّنِي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ أمَرَهُ تَعالى أنْ يُخْبِرَهم أنَّهُ لا يَشْهَدُ شَهادَتَهم، وأمَرَهُ ثانِيًا أنْ يُفْرِدَ اللَّهَ تَعالى بِالإلَهِيَّةِ، وأنْ يَتَبَرَّأ مِن إشْراكِهِمْ وما أبْدَعَ هَذا التَّرْتِيبَ أُمِرَ أوَّلًا بِأنْ يُخْبِرَهم بِأنَّهُ لا يُوافِقُهم في الشَّهادَةِ، ولا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ إفْرادُ اللَّهِ بِالأُلُوهِيَّةِ، فَأُمِرَ بِهِ ثانِيًا لِيَجْتَمِعَ مَعَ انْتِفاءِ مُوافَقَتِهِمْ إثْباتُ الوَحْدانِيَّةِ لِلَّهِ تَعالى، ثُمَّ أخْبَرَ ثالِثًا بِالتَّبَرُّؤِ مِن إشْراكِهِمْ، وهو كالتَّوْكِيدِ لِما قَبْلَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ لا يَكُونَ ذَلِكَ داخِلًا تَحْتَ القَوْلِ، ويُحْتَمَلُ، وهو الظّاهِرُ، أنْ يَكُونَ داخِلًا تَحْتَهُ، فَأُمِرَ بِأنْ يَقُولَ الجُمْلَتَيْنِ، فَظاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّها في عَبَدَةِ الأصْنامِ. وذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أنَّها نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِنَ اليَهُودِ. وأُسْنِدَ إلى ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «جاءَ النَّحّامُ بْنُ زَيْدٍ وقَرْدَمُ بْنُ كَعْبٍ ومُجَزِّئُ بْنُ عَمْرٍو فَقالُوا: يا مُحَمَّدُ ما تَعْلَمُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا غَيْرَهُ، فَقالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، بِذَلِكَ أُمِرْتُ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ فِيهِمْ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب