الباحث القرآني

﴿وإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إلّا هو وإنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أيْ إنْ يُصِبْكَ ويَنَلْكَ بِضُرٍّ، وحَقِيقَةُ المَسِّ تَلاقِي جِسْمَيْنِ، ويَظْهَرُ أنَّ الباءَ في (بِضُرٍّ)، وفي (بِخَيْرٍ) لِلْمُتَعَدِّيَةِ، وإنْ كانَ الفِعْلُ مُتَعَدِيًّا، كَأنَّهُ قِيلَ: (وإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ لِضُرٍّ)، فَقَدْ مَسَّكَ. والتَّعْدِيَةُ بِالباءِ في الفِعْلِ المُتَعَدِّي قَلِيلَةٌ، ومِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهم بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٢٥١]، (p-٨٨)وقَوْلُ العَرَبِ: صَكَكْتُ أحَدَ الحَجَرَيْنِ بِالآخَرِ، والضُّرُّ بِالضَّمِّ سُوءُ الحالِ في الجِسْمِ وغَيْرِهِ، وبِالفَتْحِ ضِدُّ النَّفْعِ، وفَسَّرَ السُّدِّيُّ الضُّرَّ هُنا، بِالسَّقَمِ، والخَيْرَ بِالعافِيَةِ. وقِيلَ: الضُّرُّ؛ الفَقْرُ، والخَيْرُ الغِنى، والأحْسَنُ العُمُومُ في الضُّرِّ مِنَ المَرَضِ، والفَقْرِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وفي الخَيْرِ مِنَ الغِنى والصِّحَّةِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وفي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «فَقَدْ جَفَّ القَلَمُ بِما هو كائِنٌ، فَلَوْ أنَّ الخَلْقَ كُلَّهم جَمِيعًا أرادُوا أنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ لَكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ» . أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. والَّذِي يُقابِلُ الخَيْرَ، هو الشَّرُّ، ونابَ عَنْهُ هُنا الضُّرُّ، وعَدَلَ عَنِ الشَّرِّ؛ لِأنَّ الشَّرَّ أعَمُّ مِنَ الضُّرِّ، فَأْتِي بِلَفْظِ الضُّرِّ الَّذِي هو أخَصُّ، وبِلَفْظِ الخَيْرِ الَّذِي هو عامٌّ، مُقابِلٌ لِعامٍّ تَغْلِيبًا لِجِهَةِ الرَّحْمَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نابَ الضُّرُّ هُنا مَنابَ الشَّرِّ، وإنْ كانَ الشَّرُّ أعَمَّ مِنهُ، فَقابَلَ الخَيْرَ، وهَذا مِنَ الفَصاحَةِ، عُدُولٌ عَنْ قانُونِ التَّكَلُّفِ والصَّنْعَةِ، فَإنَّ بابَ التَّكَلُّفِ في تَرْصِيعِ الكَلامِ، أنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُقْتَرِنًا بِالَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ بِنَوْعٍ مِن أنْواعِ الِاخْتِصاصِ مُوافَقَةً أوْ مُضاهاةً، فَمِن ذَلِكَ ﴿ألّا تَجُوعَ فِيها ولا تَعْرى﴾ [طه: ١١٨] ﴿وأنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيها ولا تَضْحى﴾ [طه: ١١٩]، فَجاءَ بِالجُوعِ مَعَ العُرِيِّ، وبابُهُ أنْ يَكُونَ مَعَ الظَّمَأِ؛ ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎كَأنِّي لَمْ أرْكَبْ جَوادًا لِلَّذَّةِ ولِمَ أتَبَطَّنْ كاعِبًا ذاتَ خِلْخالِ ؎ولَمْ أسْبَأِ الزِّقَّ الرَّوِيَّ ولَمْ أقُلْ ∗∗∗ لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إجْفالِ انْتَهى. والجامِعُ في الآيَةِ بَيْنَ الجُوعِ والعُرِيِّ، هو اشْتِراكُهُما في الخُلُوِّ، فالجُوعُ خُلُوُّ الباطِنِ والعُرِيُّ خُلُوُّ الظّاهِرِ، وبَيْنَ الظَّمَأِ والضَّحاءِ اشْتِراكُهُما في الِاحْتِراقِ، فالظَّمَأُ احْتِراقُ الباطِنِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِمْ بَرَّدَ الماءُ حَرارَةَ جَوْفِي ؟ والضَّحاءُ احْتِراقُ الظّاهِرِ، والجامِعُ في البَيْتِ الأوَّلِ بَيْنَ الرُّكُوبِ لِلَذَّةِ، وهي الصَّيْدُ، وتَبَطُّنِ الكاعِبِ اشْتِراكُهُما في لَذَّةِ الِاسْتِعْلاءِ والِاقْتِناصِ والقَهْرِ، والظَّفَرِ بِمِثْلِ هَذا الرُّكُوبِ، ألا تَرى إلى تَسْمِيَتِهِمْ هَنَ المَرْأةِ بِالرَّكْبِ هو فَعْلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ ؟ أيْ مَرْكُوبٍ؛ قالَ الرّاجِزُ: ؎إنَّ لَها لَرَكْبًا إرْزَبّا ∗∗∗ كَأنَّهُ جَبْهَةُ ذُرى حُبّا وفِي البَيْتِ الثّانِي بَيْنَ سَبَأِ الخَمْرِ، والرُّجُوعِ بَعْدَ الهَزِيمَةِ اشْتِراكُهُما في البَذْلِ ؟ فَشِراءُ الخَمْرِ فِيهِ بَدَلُ المالِ والرُّجُوعُ بَعْدَ الِانْهِزامِ فِيهِ بَذْلُ الرُّوحِ، وما أحْسَنَ تَعَقُّلَ امْرِئِ القَيْسِ في بَيْتَيْهِ، حَيْثُ انْتَقَلَ مِنَ الأدْنى إلى الأعْلى؛ لِأنَّ الظَّفَرَ بِجِنْسِ الإنْسانِ أعْلى وأشْرَفُ مِنَ الظَّفَرِ بِغَيْرِ الجِنْسِ، ألا تَرى أنَّ تَعَلُّقَ النَّفْسِ بِالعِشْقِ أكْثَرُ مِن تَعَلُّقِها بِالصَّيْدِ ؟ ولِأنَّ بَذْلَ الرُّوحِ أعْظَمُ مِن بَذْلِ المالِ. ومُناسَبَةُ تَقْدِيمِ مَسِّ الضُّرِّ عَلى مَسِّ الخَيْرِ، ظاهِرَةٌ لِاتِّصالِهِ بِما قَبْلَهُ، وهو التَّرْهِيبُ الدّالُّ عَلَيْهِ ﴿قُلْ إنِّي أخافُ﴾ [الأنعام: ١٥]، وما قَبْلَهُ، وجاءَ جَوابُ الأوَّلِ بِالحَصْرِ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا كاشِفَ لَهُ إلّا هُوَ﴾ مُبالَغَةً في الِاسْتِقْلالِ بِكَشْفِهِ، وجاءَ جَوابُ الثّانِي بِقَوْلِهِ: ﴿فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ دَلالَةً عَلى قُدْرَتِهِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ المَسُّ بِخَيْرٍ أوْ غَيْرِهِ، ولَوْ قِيلَ: إنَّ الجَوابَ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ الأوَّلِ عَلَيْهِ، لَكانَ وجْهًا حَسَنًا، وتَقْدِيرُهُ: فَلا مُوصِلَ لَهُ إلَيْكَ إلّا هو، والأحْسَنُ تَقْدِيرُهُ:، فَلا رادَّ لَهُ لِلتَّصْرِيحِ بِما يُشْبِهُهُ في قَوْلِهِ، وإنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ، فَلا رادَّ لِفَضْلِهِ، ثُمَّ أتى بَعْدُ بِما هو شامِلٌ لِلْخَيْرِ والشَّرِّ، وهو قُدْرَتُهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ. وفي قَوْلِهِ: ﴿فَلا كاشِفَ لَهُ إلّا هُوَ﴾، حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ:، فَلا كاشِفَ لَهُ عَنْكَ إلّا هو. ﴿وهُوَ القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وهو الحَكِيمُ الخَبِيرُ﴾ . لَمّا ذَكَرَ تَعالى انْفِرادَهُ بِتَصَرُّفِهِ بِما يُرِيدُهُ مِن ضُرٍّ وخَيْرٍ، وقُدْرَتَهُ عَلى الأشْياءِ، ذَكَرَ قَهْرَهُ وغَلَبَتَهُ، وأنَّ العالَمَ مَقْهُورُونَ مَمْنُوعُونَ مِن بُلُوغِ مُرادِهِمْ، بَلْ يَقْسِرُهم ويُجْبِرُهم عَلى ما يُرِيدُهُ هو تَعالى، و(فَوْقَ) حَقِيقَةٌ في المَكانِ، وأبْعَدَ مَن جَعَلَها هُنا زائِدَةً، وأنَّ التَّقْدِيرَ، وهو القاهِرُ لِعِبادِهِ، وأبْعَدُ مِن هَذا قَوْلُ مَن ذَهَبَ إلى أنَّها هُنا (p-٨٩)حَقِيقَةٌ في المَكانِ، وأنَّهُ تَعالى حالٌ في الجِهَةِ الَّتِي فَوْقَ العالَمِ، إذْ يَقْتَضِي التَّجْسِيمَ. وأمّا الجُمْهُورُ فَذَكَرُوا أنَّ الفَوْقِيَّةَ هُنا مَجازٌ. فَقالَ بَعْضُهم: هو فَوْقَهم بِالإيجادِ والإعْدامِ. وقالَ بَعْضُهم: هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ مَعْناهُ فَوْقَ قَهْرِ عِبادِهِ بِوُقُوعِ مُرادِهِ دُونَ مُرادِهِمْ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَصْوِيرٌ لِلْقَهْرِ والعُلُوِّ والغَلَبَةِ والقُدْرَةِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وإنّا فَوْقَهم قاهِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٢٧] انْتَهى. والعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ (فَوْقَ)، إشارَةً لِعُلُوِّ المَنزِلَةِ، وشُفُوفِها عَلى غَيْرِهِ مِنَ الرُّتَبِ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠]، وقَوْلُهُ: ﴿وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٦] وقالَ النّابِغَةُ الجَعْدِيُّ: ؎بَلَغْنا السَّماءَ مَجْدًا وجُودًا وسُؤْدُدًا ∗∗∗ وإنّا لِنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرا يُرِيدُ عُلُوَّ الرُّتْبَةِ والمَنزِلَةِ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: صِفاتُ الكَمالِ مَحْصُورَةٌ في العِلْمِ والقُدْرَةِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وهُوَ القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ﴾ إشارَةٌ إلى كَمالِ القُدْرَةِ ﴿وهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ﴾ إشارَةٌ إلى كَمالِ العِلْمِ، أمّا كَوْنُهُ قاهِرًا، فَلِأنَّ ما عَداهُ تَعالى مُمْكِنُ الوُجُودِ لِذاتِهِ، والمُمْكِنُ لِذاتِهِ لا يَتَرَجَّحُ وجُودُهُ عَلى عَدَمِهِ، ولا عَدَمُهُ عَلى وُجُودِهِ، إلّا بِتَرْجِيحِهِ تَعالى وإيجادِهِ، فَهو في الحَقِيقَةِ الَّذِي قَهَرَ المُمْكِناتِ، تارَةً في طُرُقِ تَرْجِيحِ الوُجُودِ عَلى العَدَمِ، وتارَةً في طُرُقِ تَرْجِيحِ العَدَمِ عَلى الوُجُودِ، ويَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ﴾ [آل عمران: ٢٦] الآيَةَ. والحَكِيمُ والمُحْكَمُ أيْ أفْعالُهُ مُتْقَنَةٌ آمِنَةٌ مِن وُجُوهِ الخَلَلِ والفَسادِ، لا بِمَعْنى العالِمِ؛ لِأنَّ (الخَبِيرَ) إشارَةٌ إلى العِلْمِ، فَيَلْزَمُ التَّكْرارُ انْتَهى. وفِيهِ بَعْضُ اخْتِصارٍ وتَلْخِيصٍ. وقِيلَ: (الحَكِيمُ) العالِمُ، و(الخَبِيرُ) أيْضًا العالِمُ، ذَكَرَهُ تَأْكِيدًا. و(فَوْقَ) مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِ، إمّا مَعْمُولًا لِلْقاهِرِ؛ أيِ المُسْتَعْلِي فَوْقَ عِبادِهِ، وإمّا في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ ثانٍ لِـ (هو)، أخْبَرَ عَنْهُ بِشَيْئَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ القاهِرُ، الثّانِي: أنَّهُ فَوْقَ عِبادِهِ بِالرُّتْبَةِ والمَنزِلَةِ والشَّرَفِ، لا بِالجِهَةِ، إذْ هو المُوجِدُ لَهم ولِلْجِهَةِ غَيْرُ المُفْتَقِرِ لِشَيْءٍ مِن مَخْلُوقاتِهِ، فالفَوْقِيَّةُ مُسْتَعارَةٌ لِلْمَعْنى مِن فَوْقِيَّةِ المَكانِ. وحَكى المَهْدَوِيُّ أنَّهُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ، كَأنَّهُ قالَ: وهو القاهِرُ غالِبًا فَوْقَ عِبادِهِ، وقالَهُ أبُو البَقاءِ، وقَدَّرَهُ مُسْتَعْلِيًا أوْ غالِبًا، وأجازَ أنْ يَكُونَ فَوْقَ عِبادِهِ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بَدَلًا مِنَ القاهِرِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ما مَعْناهُ وُرُودُ العِبادِ في التَّفْخِيمِ والكَرامَةِ والعَبِيدِ في التَّحْقِيرِ والِاسْتِضْعافِ والذَّمِّ، وذَكَرَ مَوارِدَ مِن ذَلِكَ عَلى زَعْمِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ هَذا المَعْنى مَبْسُوطًا مُطَوَّلًا، ورَدَدْنا عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب