الباحث القرآني

﴿أنْ تَقُولُوا إنَّما أُنْزِلَ الكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنا وإنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ﴾: ﴿أنْ تَقُولُوا﴾ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، فَقَدَّرَهُ الكُوفِيُّونَ: لِئَلّا (p-٢٥٧)تَقُولُوا، ولِأجْلِ أنْ لا تَقُولُوا، وقَدَّرَهُ البَصْرِيُّونَ: كَراهَةَ أنْ تَقُولُوا، والعامِلُ في كِلا المَذْهَبَيْنِ ﴿أنْزَلْناهُ﴾ [الأنعام: ١٥٥] مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْها قَوْلُهُ قَبْلُ ﴿أنْزَلْناهُ﴾ [الأنعام: ١٥٥]، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ العامِلُ ﴿أنْزَلْناهُ﴾ [الأنعام: ١٥٥] هَذِهِ المَلْفُوظَ بِها لِلْفاصِلِ بَيْنَهُما، وهو مُبارَكٌ الَّذِي هو وصْفٌ لِـ”﴿كِتابٌ﴾ [الأنعام: ١٥٥]“، أوْ خَبَرٌ عَنْ هَذا فَهو أجْنَبِيٌّ مِنَ العامِلِ والمَعْمُولِ. وظاهِرُ كَلامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أنَّ العامِلَ فِيهِ ﴿أنْزَلْناهُ﴾ [الأنعام: ١٥٥] المَلْفُوظُ بِها. وقِيلَ: ﴿أنْ تَقُولُوا﴾ مَفْعُولٌ، والعامِلُ فِيهِ ﴿واتَّقُوا﴾ [الأنعام: ١٥٥]، أيْ: واتَّقُوا أنْ تَقُولُوا؛ لِأنَّهُ لا حُجَّةَ لَكم فِيهِ، والكِتابُ هُنا جِنْسٌ، والطّائِفَتانِ هُما أهْلُ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ اليَهُودُ والنَّصارى بِلا خِلافٌ، والخِطابُ مُتَوَجِّهٌ إلى كَفّارِ قُرَيْشٍ بِإثْباتِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإنْزالِ هَذا الكِتابِ لِئَلّا يَحْتَجُّوا هم وكُفّارُ العَرَبِ بِأنَّهم لَمْ يَكُنْ لَهم كِتابٌ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: وهَذا القُرْآنُ يا مَعْشَرَ العَرَبِ أُنْزِلَ حُجَّةً عَلَيْكم لِئَلّا تَقُولُوا: إنَّما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ بِغَيْرِ لِسانِنا عَلى غَيْرِنا ونَحْنُ لَمْ نَعْرِفْ ذَلِكَ، فَهَذا كِتابٌ بِلِسانِكم مَعَ رَجُلٍ مِنكم. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: أنْ يَقُولُوا، بِياءِ الغَيْبَةِ ويَعْنِيَ كُفّارَ قُرَيْشٍ. وقالَ الماتُرِيدِيُّ: المَعْنى إنَّما ظَهَرَ نُزُولُ الكِتابِ عِنْدَ الخَلْقِ عَلى طائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنا ولَمْ يَكُونُوا وقْتَ نُزُلِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ يَهُودًا ولا نَصارى، وإنَّما حَدَثَ لَهُما هَذانِ الِاسْمانِ لِما حَدَثَ مِنهُما. و﴿دِراسَتِهِمْ﴾ قِراءَتُهم ودَرْسُهم، والمَعْنى عَنْ مِثْلِ ﴿دِراسَتِهِمْ﴾، وأعادَ الضَّمِيرَ جَمْعًا لِأنَّ كُلَّ طائِفَةٍ مِنهم جَمْعٌ كَما أعادَهُ في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ [الحجرات: ٩]، وإنْ هُنا هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وقالَ الكُوفِيُّونَ: إنْ نافِيَةٌ، واللّامُ بِمَعْنى إلّا، والتَّقْدِيرُ: وما كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ إلّا غافِلِينَ. وقالَ قُطْرُبٌ: في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ إنْ بِمَعْنى قَدْ، واللّامُ زائِدَةٌ، ولَيْسَ هَذا الخِلافُ مَقْصُورًا عَلى ما في هَذِهِ الآيَةِ، بَلْ هو جارٍ في شَخْصِيّاتِ هَذا التَّرْكِيبِ، وتَقْرِيرُهُ في عِلْمِ النَّحْوِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿وإنْ كُنّا﴾ هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، واللّامُ هي الفارِقَةُ بَيْنَها وبَيْنَ النّافِيَةِ، والأصْلُ ﴿وإنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ﴾ غافِلِينَ، عَلى أنَّ الهاءَ ضَمِيرٌ. انْتَهى. وما ذَهَبَ إلَيْهِ مِن أنَّ أصْلَهُ ﴿وإنْ كُنّا﴾ والهاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ يَلْزَمُ مِنهُ أنَّ إنِ المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ عامِلَةٌ في مُضْمَرٍ مَحْذُوفٍ حالَةَ التَّخْفِيفِ، كَما قالَ النَّحْوِيُّونَ في أنَّ المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، والَّذِي نَصَّ النّاسُ عَلَيْهِ أنَّ إنِ المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ إذا لَزِمَتِ اللّامَ في أحَدِ الجُزَءَيْنِ بَعْدَها أوْ في أحَدِ مَعْمُولَيِ الفِعْلِ النّاسِخِ الَّذِي يَلِيها أنَّها مُهْمِلَةٌ لا تَعْمَلُ في ظاهِرٍ ولا مُضْمَرَ لا مُثْبَتَ ولا مَحْذُوفَ، فَهَذا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مُخالِفٌ لِلنُّصُوصِ، ولَيْسَتْ إذا ولِيَها النّاسِخُ داخِلَةً في الأصْلِ عَلى ضَمِيرِ شَأْنٍ البَتَّةَ. و﴿عَنْ دِراسَتِهِمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿لَغافِلِينَ﴾، وهَذا يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ في دَعْواهم أنَّ اللّامَ بِمَعْنى إلّا، ولا يَجُوزُ أنْ يَعْمَلَ ما بَعْدَ إلّا فِيما قَبْلَها، وكَذَلِكَ اللّامُ الَّتِي بِمَعْناها، ولَهم أنْ يَجْعَلُوا ”عَنْها“ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ، ويَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّ اللّامَ لامُ ابْتِداءٍ لَزِمَتْ لِلْفَرْقِ، فَجازَ أنْ يَتَقَدَّمَ مَعْمُولُها عَلَيْها لَمّا وقَعَتْ في غَيْرِ ما هو لَها أصْلٌ، كَما جازَ ذَلِكَ في إنْ زَيْدًا طَعامَكَ لَآكِلٌ، حَيْثُ وقَعَتْ في غَيْرِ ما هو لَها أصْلٌ، ولَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِيها إذا وقَعَتْ فِيما هو لَها أصْلٌ وهو دُخُولُها عَلى المُبْتَدَأِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب