الباحث القرآني

﴿ثُمَّ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورَحْمَةً لَعَلَّهم بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ (p-٢٥٥)(ثُمَّ) تَقْتَضِي المُهْلَةَ في الزَّمانِ، هَذا أصْلُ وضْعِها، ثُمَّ تَأْتِي لِلْمُهْلَةِ في الإخْبارِ. فَقالَ الزَّجّاجُ: هو مَعْطُوفٌ عَلى أتْلُ تَقْدِيرُهُ: أتْلُ ما حَرَّمَ ثُمَّ أتْلُ ﴿آتَيْنا﴾ . وقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلى (قُلْ) عَلى إضْمارِ قُلْ، أيْ: ثُمَّ قُلْ ﴿آتَيْنا﴾ . وقِيلَ: التَّقْدِيرُ ثُمَّ إنِّي أُخْبِرُكم أنّا آتَيْنا. وقالَ الحَوْفِيُّ: رَتَّبَتْ ”ثُمَّ“ التِّلاوَةَ، أيْ: تَلَوْنا عَلَيْكم قِصَّةَ مُحَمَّدٍ ثُمَّ نَتْلُو عَلَيْكم قِصَّةَ مُوسى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَهَّلَتْها في تَرْتِيبِ القَوْلِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ كَأنَّهُ قالَ: ثُمَّ مِمّا وصَّيْنا أنّا ﴿آتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾، ويَدْعُو إلى ذَلِكَ أنَّ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مُتَقَدِّمٌ بِالزَّمانِ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ . وقالَ ابْنُ القُشَيْرِيِّ: في الكَلامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ كُنّا قَدْ ﴿آتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾ قَبْلَ إنْزالِنا القُرْآنَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفٌ عَلى ﴿وصّاكم بِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٢]، فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ صَحَّ عَطْفُهُ عَلَيْهِ بِثُمَّ والإيتاءُ قَبْلَ التَّوْصِيَةِ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ ؟ (قُلْتُ): هَذِهِ التَّوْصِيَةُ قَدِيمَةٌ لَمْ تَزَلْ تَواصاها كُلُّ أُمَّةٍ عَلى لِسانِ نَبِيِّها، كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مُحْكَماتٌ لَمْ يَنْسَخْهُنَّ شَيْءٌ مِن جَمِيعِ الكُتُبِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: ﴿ذَلِكم وصّاكم بِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣] يا بَنِي آدَمَ قَدِيمًا وحَدِيثًا ثُمَّ أعْظَمُ مِن ذَلِكَ أنّا ﴿آتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾ وأنْزَلْنا هَذا الكِتابَ المُبارَكَ، وقِيلَ: هو مَعْطُوفٌ عَلى ما تَقَدَّمَ قَبْلَ شَطْرِ السُّورَةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿ووَهَبْنا لَهُ إسْحاقَ ويَعْقُوبَ﴾ [الأنعام: ٨٤] . انْتَهى. وهَذِهِ الأقْوالُ كُلُّها مُتَكَلَّفَةٌ، والَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُذْهَبَ إلَيْهِ أنَّها اسْتُعْمِلَتْ لِلْعَطْفِ كالواوِ مِن غَيْرِ اعْتِبارِ مُهْلَةٍ، وقَدْ ذَهَبَ إلى ذَلِكَ بَعْضُ النُّحاةِ. و﴿الكِتابُ﴾ [الأنعام: ١٥٦] هُنا التَّوْراةُ بِلا خِلافٍ، وانْتَصَبَ تَمامًا عَلى المَفْعُولِ لَهُ، أوْ عَلى المَصْدَرِ أتْمَمْناهُ تَمامًا مَصْدَرٌ عَلى حَذْفِ الزَّوائِدِ، أوْ عَلى الحالِ إمّا مِنَ الفاعِلِ والمَفْعُولِ، وكُلٌّ قَدْ قِيلَ. وقِيلَ: مَعْنى ﴿تَمامًا﴾ أيْ: دُفْعَةً واحِدَةً لَمْ نُفَرِّقْ إنْزالَهُ كَما فَرَّقْنا إنْزالَ القُرْآنِ، قالَهُ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ، والَّذِي أحْسَنَ جِنْسٌ أيْ عَلى مَن كانَ مُحْسِنًا مِن أهْلِ مِلَّتِهِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، أيْ: إتْمامًا لِلنِّعْمَةِ عِنْدَهم. وقِيلَ: المُرادُ بِالَّذِي أحْسَنَ مَخْصُوصٌ. فَقالَ الماوَرْدِيُّ: إبْراهِيمُ، كانَتْ نُبُوَّةُ مُوسى نِعْمَةً عَلى إبْراهِيمَ؛ لِأنَّهُ مِن ولَدِهِ، والإحْسانُ لِلْأبْناءِ إحْسانٌ لِلْآباءِ. وقِيلَ: مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - تَتِمَّةً لِلْكَرامَةِ عَلى العَبْدِ الَّذِي أحْسَنَ الطّاعَةَ في التَّبْلِيغِ وفي كُلِّ ما أُمِرَ بِهِ، والَّذِي في هَذِهِ التَّأْوِيلاتِ واقِعَةٌ عَلى مَن يَعْقِلُ. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: ﴿تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ﴾ مُوسى مِنَ العِلْمِ وكُتُبِ اللَّهِ القَدِيمَةِ، ونَحْوٌ مِنهُ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ، قالَ: مَعْنى الآيَةِ ﴿تَمامًا﴾ عَلى ما كانَ أحْسَنَ مِنَ العِلْمِ والحِكْمَةِ مِنَ العِلْمِ، والحِكْمَةُ مِن قَوْلِهِمْ: فُلانٌ يُحْسِنُ كَذا أيْ يَعْلَمُهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في هَذا التَّأْوِيلِ: ﴿تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ﴾ مُوسى مِنَ العِلْمِ والشَّرائِعِ، مِن أحْسَنَ الشَّيْءَ إذا أجادَ مَعْرِفَتَهُ، أيْ: زِيادَةً عَلى عِلْمِهِ عَلى وجْهِ التَّتْمِيمِ. انْتَهى. وقالابْنُ عَطِيَّةَ: عَلى ما أحْسَنَ هو مِن عِبادَةِ رَبِّهِ والِاضْطِلاعِ بِأُمُورِ نُبُوَّتِهِ، يُرِيدُ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - هَذا تَأْوِيلُ الرَّبِيعِ وقَتادَةَ. انْتَهى. والَّذِي في هَذا التَّأْوِيلِ واقِعَةُ عَلى غَيْرِ العاقِلِ. وقِيلَ: (الَّذِي) مَصْدَرِيَّةٌ، وهو قَوْلٌ كُوفِيٌّ، وفي ﴿أحْسَنَ﴾ ضَمِيرُ مُوسى، أيْ: تَمامًا عَلى إحْسانِ مُوسى بِطاعَتِنا وقِيامِهِ بِأمْرِنا ونَهْيِنا، ويَكُونُ في ”عَلى“ إشْعارٌ بِالعِلِّيَّةِ، كَما تَقُولُ: أحْسَنْتُ إلَيْكَ عَلى إحْسانِكَ إلَيَّ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في ﴿أحْسَنَ﴾ يَعُودُ عَلى اللَّهِ - تَعالى - وهَذا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، ومُتَعَلَّقُ الإحْسانِ إلى أنْبِيائِهِ أوْ إلى مُوسى، قَوْلانِ. وأحْسَنُ ما في هَذِهِ الأقْوالِ كُلِّها فِعْلٌ. وقالَ بَعْضُ نُحاةِ الكُوفَةِ: يَصِحُّ أنْ يَكُونَ ﴿أحْسَنَ﴾ اسْمًا، وهو أفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وهو مَجْرُورٌ صِفَةٌ لِلَّذِي، وإنْ كانَ نَكِرَةً مِن حَيْثُ قارَبَ المَعْرِفَةَ، إذْ لا يَدْخُلُهُ ألْ، كَما تَقُولُ العَرَبُ: مَرَرْتُ بِالَّذِي خَيْرٌ مِنكَ، ولا يَجُوزُ مَرَرْتُ بِالَّذِي عالِمٌ. انْتَهى. وهَذا سائِغٌ عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ في الكَلامِ، وهو خَطَأٌ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ. وقَرَأ يَحْيى بْنُ مَعْمَرٍ وابْنُ أبِي إسْحاقَ: (أحْسَنُ) بِرَفْعِ النُّونِ، وخُرِّجَ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: هو أحْسَنُ، و(أحْسَنُ) خَبَرٌ وصِلَةٌ، كَقِراءَةِ مَن قَرَأ: ”مَثَلًا مّا بَعُوضَةً“ أيْ: تَمامًا عَلى الَّذِي (p-٢٥٦)هُوَ أحْسَنُ دِينٍ وأرْضاهُ، أوْ تامًّا كامِلًا عَلى أحْسَنِ ما تَكُونُ عَلَيْهِ الكُتُبُ، أيْ: عَلى الوَجْهِ والطَّرِيقِ الَّذِي هو أحْسَنُ ما تَكُونُ عَلَيْهِ الكُتُبُ، وهو مَعْنى قَوْلِ الكَلْبِيِّ: أتَمَّ لَهُ الكِتابَ عَلى أحْسَنِهِ. وقالَ التِّبْرِيزِيُّ: (الَّذِي) هُنا بِمَعْنى الجَمْعِ، وأحْسَنَ صِلَةُ فِعْلٍ ماضٍ حُذِفَ مِنهُ الضَّمِيرُ وهو الواوُ فَبَقِيَ أحْسَنَ، أيْ: عَلى الَّذِينَ أحْسَنُوا، وحَذْفُ هَذا الضَّمِيرِ والِاجْتِزاءُ بِالضَّمَّةِ تَفْعَلُهُ العَرَبُ. قالَ الشّاعِرُ: ؎فَلَوْ أنَّ الأطِبّاءَ كانَ حَوْلِي وقالَ آخَرُ: ؎إذا شاءُوا أضَرُّوا مَن أرادُوا ∗∗∗ ولا يَأْلُوهُمُ أحَدٌ ضِرارًا وقالَ آخَرُ: ؎شَبُّوا عَلى المَجْدِ وشابُوا واكْتَهَلَ يُرِيدُ واكْتَهَلُوا، فَحَذَفَ الواوَ ثُمَّ حَذَفَ الضَّمِيرَ لِلْوَقْفِ. انْتَهى. وهَذا خَصَّهُ أصْحابُنا بِالضَّرُورَةِ فَلا يُحْمَلُ كِتابُ اللَّهِ عَلَيْهِ. ﴿وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورَحْمَةً لَعَلَّهم بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ أيْ: لَعَلَّهم بِالبَعْثِ يُؤْمِنُونَ، فالإيمانُ بِهِ هو نِهايَةُ التَّصْدِيقِ، إذْ لا يَجِبُ بِالعَقْلِ لَكِنَّهُ يَجُوزُ في العَقْلِ وأوْجَبَهُ السَّمْعُ، وانْتِصابُ ﴿تَفْصِيلًا﴾ [الإسراء: ١٢] وما بَعْدَهُ كانْتِصابِ ﴿تَمامًا﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب