الباحث القرآني
﴿فَإنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكم ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ولا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ﴾ الظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلى أقْرَبِ مَذْكُورٍ وهُمُ اليَهُودُ، وقالَهُ مُجاهِدٌ (p-٢٤٦)والسُّدِّيُّ، أيْ: ﴿فَإنْ كَذَّبُوكَ﴾ فِيما أخْبَرْتَ بِهِ أنَّهُ تَعالى حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وقالُوا: لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وإنَّما حَرَّمَهُ إسْرائِيلُ قَبْلُ، مُتَعَجِّبًا مِن قَوْلِهِمْ ومُعَظِّمًا لِافْتِرائِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِما قُلْتَ، ﴿فَقُلْ رَبُّكم ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ﴾ حَيْثُ لَمْ يُعاجِلْكم بِالعُقُوبَةِ مَعَ شِدَّةِ هَذا الجُرْمِ، كَما تَقُولُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَعْصِيَةٍ عَظِيمَةٍ: ما أحْلَمَ اللَّهَ ! وأنْتَ تُرِيدُ لِإمْهالِهِ العاصِيَ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كانَ الكَلامُ مَعَهم في قَوْلِهِ: ﴿نَبَّئُونِي﴾ [الأنعام: ١٤٣] وقَوْلِهِ: ﴿أمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ﴾ [الأنعام: ١٤٤]، أيْ: ﴿فَإنْ كَذَّبُوكَ﴾ في النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ وتَبْلِيغِ أحْكامِ اللَّهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿فَإنْ كَذَّبُوكَ﴾ في ذَلِكَ وزَعَمُوا أنَّ اللَّهَ واسِعُ المَغْفِرَةِ وأنَّهُ لا يُؤاخِذُنا بِالبَغْيِ ويُخْلِفُ الوَعِيدَ جُودًا وكَرَمًا، فَقُلْ لَهم ﴿رَبَّكم ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ﴾ لِأهْلِ طاعَتِهِ، ﴿ولا يُرَدُّ بَأْسُهُ﴾ مَعَ سِعَةِ رَحْمَتِهِ ﴿عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ﴾، فَلا تَغْتَرَّ بِرَجاءِ رَحْمَتِهِ عَنْ خَوْفِ نِقْمَتِهِ. انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ. و﴿القَوْمِ المُجْرِمِينَ﴾ عامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ مُكَذِّبُو الرُّسُلِ وغَيْرُهم مِنَ المُجْرِمِينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن وُقُوعِ الظّاهِرِ مَوْقِعَ المُضْمَرِ، أيْ: ﴿ولا يُرَدُّ بَأْسُهُ﴾ عَنْكم، وجاءَ مَعْمُولُ (قُلْ) الأوَّلُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِأنَّها أبْلَغُ في الإخْبارِ مِنَ الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ، فَناسَبَتِ الأبْلَغِيَّةَ في اللَّهِ - تَعالى - بِالرَّحْمَةِ الواسِعَةِ، وجاءَتِ الجُمْلَةُ الثّانِيَةُ فِعْلِيَّةً ولَمْ تَأْتِ اسْمِيَّةً فَيَكُونُ التَّرْكِيبُ: وذُو بَأْسٍ، لِئَلّا يَتَعادَلَ الإخْبارُ عَنِ الوَصْفَيْنِ، وبابُ الرَّحْمَةِ واسِعٌ فَلا تَعادُلَ. وقالَ الماتُرِيدِيُّ: ﴿فَإنْ كَذَّبُوكَ﴾ فِيما تَدْعُوهم إلَيْهِ مِنَ التَّصْدِيقِ والتَّوْحِيدِ، ﴿فَقُلْ رَبُّكم ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ﴾ إذا رَجَعْتُمْ عَنِ التَّكْذِيبِ. انْتَهى. وقِيلَ: ﴿ذُو رَحْمَةٍ﴾ لا يُهْلِكُ أحَدًا وقْتَ المَعْصِيَةِ ولَكِنْ يُؤَخِّرُ ﴿ولا يُرَدُّ بَأْسُهُ﴾ إذا نَزَلَ.
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن شَيْءٍ﴾ هَذا إخْبارٌ بِمُسْتَقْبَلٍ، وقَدْ وقَعَ، وفِيهِ إخْبارٌ بِمَغِيبٍ مُعْجِزَةٍ لِلرَّسُولِ، فَكانَ كَما أخْبَرَ بِهِ تَعالى، وهَذا القَوْلُ مِنهم ورَدَ حِينَ بَطَلَ احْتِجاجُهم وثَبَتَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ، فَعَدَلُوا إلى أمْرٍ حَقٍّ وهو أنَّهُ لَوْ أرادَ اللَّهُ أنْ لا يَقَعَ مِن ذَلِكَ شَيْءٌ، وأوْرَدُوا ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الحَوالَةِ عَلى المَشِيئَةِ والمَقادِيرِ مُغالَطَةً وحِيدَةً عَنِ الحَقِّ وإلْحادًا لا اعْتِقادًا صَحِيحًا، وقالُوا ذَلِكَ اعْتِقادًا صَحِيحًا حِينَ قارَفُوا تِلْكَ الأشْياءَ اسْتِمْساكًا بِأنَّ ما شاءَ اللَّهُ هو الكائِنُ، كَما يَقُولُ الواقِعُ في مَعْصِيَةٍ - إذا بُيِّنَ لَهُ وجْهُها -: هَذا قَدَرُ اللَّهِ لا مَهْرَبَ ولا مَفَرَّ مِن قَدَرِ اللَّهِ، أوْ قالُوا ذَلِكَ وهو حَقٌّ عَلى سَبِيلِ الِاحْتِجاجِ عَلى تِلْكَ الأشْياءِ، أيْ: لَوْ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ ما نَحْنُ عَلَيْهِ لَمْ يَقَعْ ولِحالَ بَيْنَنا وبَيْنَهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنُونَ بِكُفْرِهِمْ وتَمَرُّدِهِمْ أنَّ شِرْكَهم وشِرْكَ آبائِهِمْ وتَحْرِيمَهم ما أحَلَّ اللَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وإرادَتِهِ، ولَوْلا مَشِيئَتُهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ، كَمَذْهَبِ المُجْبَرَةِ بِعَيْنِهِ. انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ. وقالَ الماتُرِيدِيُّ: يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ المَشِيئَةُ بِمَعْنى الرِّضا أوْ بِمَعْنى الأمْرِ والدُّعاءِ؛ لِأنَّهم قالُوا: إنَّ اللَّهَ أمَرَنا بِذَلِكَ، ويُحْتَمَلُ أنْ قالُوهُ اسْتِهْزاءً وسُخْرِيَةً. انْتَهى. ولا تَعَلُّقَ لِلْمُعْتَزِلَةِ بِذَلِكَ مَعَ هَذِهِ الِاحْتِمالاتِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وتَعَلَّقَتِ المُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقالُوا: إنَّ اللَّهَ قَدْ ذَمَّ لَهم هَذِهِ المَقالَةَ، وإنَّما ذَمَّها لِأنَّ كُفْرَهم لَيْسَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ بَلْ هو خَلَقَ لَهم، قالَ: ولَيْسَ الأمْرُ عَلى ما قالُوا، وإنَّما ذَمَّ اللَّهُ ظَنَّ المُشْرِكِينَ أنَّ ما شاءَ اللَّهُ لا يَقَعُ عَلَيْهِ عِقابٌ، وأمّا أنَّهُ ذَمَّ قَوْلَهم: لَوْلا المَشِيئَةُ لَمْ نَكْفُرْ، فَلا. انْتَهى. و﴿الَّذِينَ أشْرَكُوا﴾ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ أوْ مُشْرِكُو العَرَبِ، قَوْلانِ، ﴿ولا آباؤُنا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى الضَّمِيرِ المَرْفُوعِ، وأغْنى الفَصْلُ بِلا بَيْنِ حَرْفِ العَطْفِ والمَعْطُوفِ عَلى الفَصْلِ بَيْنَ المُتَعاطِفَيْنِ بِضَمِيرٍ مُنْفَصِلٍ يَلِي الضَّمِيرَ المُتَّصِلَ أوْ بِغَيْرِهِ. وعَلى هَذا مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ، لا يُجِيزُونَ ذَلِكَ بِغَيْرِ فَصْلٍ إلّا في الشِّعْرِ، ومَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ جَوازُ ذَلِكَ وهو عِنْدَهم فَصِيحٌ في الكَلامِ. وجاءَ في سُورَةِ النَّحْلِ ﴿وقالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَحْنُ ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ [النحل: ٣٥] فَقالَ: مِن دُونِهِ مَرَّتَيْنِ، وقالَ نَحْنُ فَأكَّدَ الضَّمِيرَ؛ لِأنَّ لَفْظَ العِبادَةِ يَصِحُّ أنْ يُنْسَبَ إلى إفْرادِ اللَّهِ بِها، وهَذا لَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ، بَلِ المُسْتَنْكَرُ عِبادَةُ شَيْءٍ غَيْرِ اللَّهِ أوْ شَيْءٍ مَعَ اللَّهِ، فَناسَبَ هُنا ذِكْرُ مِن دُونِهِ مَعَ (p-٢٤٧)العِبادَةِ، وأمّا لَفْظُ ﴿ما أشْرَكْنا﴾ فالإشْراكُ يَدُلُّ عَلى إثْباتِ شَرِيكٍ، فَلا يَتَرَكَّبُ مَعَ هَذا الفِعْلِ لَفْظُ (مِن دُونِهِ)، لَوْ كانَ التَّرْكِيبُ في غَيْرِ القُرْآنِ ﴿ما أشْرَكْنا﴾ مَن دُونِهِ، لَمْ يَصِحَّ مَعْناهُ، وأمّا (مِن دُونِهِ) الثّانِيَةُ فالإشْراكُ يَدُلُّ عَلى تَحْرِيمِ أشْياءَ وتَحْلِيلِ أشْياءَ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلى لَفْظِ (مِن دُونِهِ)، وأمّا لَفْظُ العِبادَةِ فَلا يَدُلُّ عَلى تَحْرِيمِ شَيْءٍ كَما دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ ”أشْرَكَ“ فَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ: مِن دُونِهِ، ولَمّا حُذِفَ مِن دُونِهِ هُنا ناسِبَ أنْ يُحْذَفَ نَحْنُ لِيَطَّرِدَ التَّرْكِيبُ في التَّخْفِيفِ.
﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا﴾ أيْ: مِثْلَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ المُشارِ إلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ كَذَّبُوكَ﴾ فَقَدْ كَذَّبَتِ الأُمَمُ السّالِفَةُ، فَمُتَعَلَّقُ التَّكْذِيبِ هو غَيْرُ قَوْلِهِمْ: ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا﴾ الآيَةَ، أيْ: بِنَحْوِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِن ظَنِّهِمْ أنَّ تَرْكَ اللَّهِ لَهم دَلِيلٌ عَلى رِضاهُ بِحالِهِمْ، وحَتّى ذاقُوا بَأْسَنا غايَةٌ لِامْتِدادِ التَّكْذِيبِ إلى وقْتِ العَذابِ؛ لِأنَّهُ إذا حَلَّ العَذابُ لَمْ يَبْقَ تَكْذِيبٌ، وجَعَلَتِ المُعْتَزِلَةُ التَّكْذِيبَ راجِعًا إلى قَوْلِهِ ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ﴾ [الأنعام: ١٣٧] الجُمْلَةُ الَّتِي هي مَحْكِيَّةٌ بِالقَوْلِ، وقالُوا: كَذَّبَهُمُ اللَّهُ في قَوْلِهِمْ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ بَعْضِ الشَّواذِّ: كَذَبَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ جاءُوا بِالتَّكْذِيبِ المُطْلَقِ لِأنَّ اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - رَكَّبَ في العُقُولِ وأنْزَلَ في الكُتُبِ ما دَلَّ عَلى غِناهُ وبَراءَتِهِ مِن مَشِيئَةِ القَبائِحِ وإرادَتِها، والرُّسُلُ أخْبَرَتْ بِذَلِكَ، فَمَن عَلَّقَ وُجُوهَ القَبائِحِ مِنَ الكُفْرِ والمَعاصِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وإرادَتِهِ، فَقَدْ كَذَبَ التَّكْذِيبَ كُلَّهُ وهو تَكْذِيبُ اللَّهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، ونَبَذَ أدِلَّةَ العَقْلِ والسَّمْعِ وراءَ ظَهْرِهِ. انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ.
﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وإنْ أنْتُمْ إلّا تَخْرُصُونَ﴾ اسْتِفْهامٌ عَلى مَعْنى التَّهَكُّمِ بِهِمْ وهو إنْكارٌ، أيْ: لَيْسَ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ تَحْتَجُّونَ بِهِ فَتُظْهِرُونَهُ لَنا، ما تَتَّبِعُونَ في دَعاواكم إلّا الظَّنَّ الكاذِبَ الفاسِدَ، وما أنْتُمْ إلّا تَكْذِبُونَ أوْ تُقَدِّرُونَ وتَحْزِرُونَ. وقَرَأ النَّخَعِيُّ وابْنُ وثّابٍ: إنْ يَتَّبِعُونَ بِالياءِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذِهِ قِراءَةٌ شاذَّةٌ يُضَعِّفُها قَوْلُهُ (إنْ أنْتُمْ)؛ لِأنَّهُ يَكُونُ مِن بابِ الِالتِفاتِ.
﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ بَيْنَ (قُلْ) والفاءِ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ كانَ الأمْرُ كَما زَعَمْتُمْ أنَّ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ عَلَيْكم وعَلى رَدِّ مَذْهَبِكم، ﴿فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ مِنكم ومِن مُخالِفِيكم، فَإنَّ تَعْلِيقَكم دِينَكم بِمَشِيئَةِ اللَّهِ يَقْتَضِي أنْ تُعَلِّقُوا دِينَ مَن يُخالِفُكم أيْضًا بِمَشِيئَتِهِ، فَتُوالُوهم ولا تُعادُوهم وتُوَقِّرُوهم ولا تُخالِفُوهم؛ لِأنَّ المَشِيئَةَ تَجْمَعُ بَيْنَ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ وبَيْنَ ما هم عَلَيْهِ. انْتَهى. وهَذا تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ عَلى ما تَقَرَّرَ قَبْلُ في الآياتِ السّابِقَةِ مِن مَذْهَبِ الِاعْتِزالِ، والَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن شَرْطِ مَحْذُوفٍ و﴿فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾ في جَوابِهِ بِعِيدٌ، والأوْلى تَقْدِيرُهُ: أنْتُمْ لا حُجَّةَ لَكم، أيْ: عَلى إشْراكِكم ولا عَلى تَحْرِيمِكم مِن قِبَلِ أنْفُسِكم غَيْرَ مُسْتَنِدِينَ إلى وحْيٍ، ولا عَلى افْتِرائِكم عَلى اللَّهِ أنَّهُ حَرَّمَ ما حَرَّمْتُمْ، ﴿فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾ في الِاحْتِجاجِ الغالِبَةِ كُلَّ حُجَّةٍ، حَيْثُ خَلَقَ عُقُولًا يُفَكَّرُ بِها وأسْماعًا يُسْمَعُ بِها وأبْصارًا يُبَصَرُ بِها، وكُلُّ هَذِهِ مَدارِكٌ لِلتَّوْحِيدِ ولِاتِّباعِ ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ. قالَ أبُو نَصْرِ القُشَيْرِيُّ: ﴿الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾ تَبْيِينٌ لِلتَّوْحِيدِ وإبْداءُ الرُّسُلِ بِالمُعْجِزاتِ فَألْزَمَ أمْرَهُ كُلَّ مُكَلَّفٍ، فَأمّا عِلْمُهُ وإرادَتُهُ فَغَيْبٌ لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ العَبْدُ، ويَكْفِي في التَّكْلِيفِ أنْ يَكُونَ العَبْدُ لَوْ أرادَ أنْ يَفْعَلَ ما أُمِرَ بِهِ مَكَّنَهُ، وخِلافُ المَعْلُومِ مَقْدُورٌ فَلا يَلْتَحِقُ بِما يَكُونُ مُحالًا في نَفْسِهِ. انْتَهى. وفي آخِرِ كَلامِهِ نَظَرٌ. قالَ الكِرْمانِيُّ: ﴿فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ﴾ هِدايَةَ إلْجاءٍ واضْطِرارٍ. انْتَهى. وهَذِهِ نَزْعَةٌ اعْتِزالِيَّةٌ. وقالَ أبُو نَصْرِ بْنُ القُشَيْرِيِّ: هَذا تَصْرِيحٌ بِأنَّ الكُفْرَ واقِعٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى. وقالَ البَغَوِيُّ: هَذا يَدُلُّ أنَّهُ لَمْ يَشَأْ إيمانَ الكافِرِ.
﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذا فَإنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٥٠] بَيَّنَ تَعالى كَذِبَهم عَلى اللَّهِ وافْتِراءَهم في (p-٢٤٨)تَحْرِيمِ ما حَرَّمُوا مَنسُوبًا إلى اللَّهِ - تَعالى - فَقالَ: ﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ﴾ [الأنعام: ١٤٣]، وقالَ: ﴿أمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ﴾ [الأنعام: ١٤٤]، ولَمّا انْتَفى هَذانِ الوَجْهانِ انْتَقَلَ إلى وجْهٍ لَيْسَ بِهَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ وهو أنْ يَسْتَدْعِيَ مِنهم مَن يَشْهَدُ لَهم بِتَحْرِيمِ اللَّهِ ما حَرَّمُوا، و(هَلُمَّ) هُنا عَلى لُغَةِ الحِجازِ، وهي مُتَعَدِّيَةٌ، ولِذَلِكَ انْتَصَبَ المَفْعُولُ بِهِ بَعْدَها، أيْ: أحْضِرُوا شُهَداءَكم وقَرِّبُوهم، وإضافَةُ الشُّهَداءِ إلَيْهِمْ تَدُلُّ عَلى أنَّهم غَيْرُهم، وهَذا أمْرٌ عَلى سَبِيلِ التَّعْجِيزِ، أيْ: لا يُوجَدُ مَن يَشْهَدُ بِذَلِكَ شَهادَةَ حَقٍّ لِأنَّها دَعْوى كاذِبَةٌ، ولِهَذا قالَ: ﴿فَإنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٥٠] أيْ: فَإنْ فُرِضَ أنَّهم يَشْهَدُونَ فَلا تَشْهَدُ مَعَهم، أيْ: لا تُوافِقْهم لِأنَّهم كَذَبَةٌ في شَهادَتِهِمْ، كَما أنَّ الشُّهُودَ لَهم كَذَبَةٌ في دَعْواهم، وأضافَ الشُّهَداءَ إلَيْهِمْ أيِ: الَّذِينَ أعَدَدْتُمُوهم شُهُودًا لَكم بِما تَشْتَهِي أنْفُسُكم، ولِذَلِكَ وصَفَ بِـ ﴿الَّذِينَ يَشْهَدُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٠]، أيْ: هم مُؤْمِنُونَ بِالشَّهادَةِ لَهم وبِنُصْرَةِ دَعاواهُمُ الكاذِبَةِ، ولَوْ قِيلَ: (هَلُمَّ) شُهَداءَ بِالتَّنْكِيرِ لَفاتَ المَعْنى الَّذِي اقْتَضَتْهُ الإضافَةُ والوَصْفُ بِالمَوْصُوفِ إذا كانَ المَعْنى هَلُمَّ أُناسًا يَشْهَدُونَ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، فَكانَ الظّاهِرُ طَلَبَ شُهَداءَ بِالحَقِّ، وذَلِكَ يُنافِي مَعْنى الآيَةِ. وقالَ الحَسَنُ: أحْضِرُوا شُهَداءَكم مِن أنْفُسِكم، قالَ: ولا تَجِدُونَ، ولَوْ حَضَرُوا لَمْ تُقْبَلْ شَهادَتُهم لِأنَّها كاذِبَةٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإنِ افْتَرى أحَدٌ وزَوَّرَ شَهادَةً أوْ خَبَّرَ عَنْ نُبُوَّةٍ، فَتَجَنَّبْ أنْتَ ذَلِكَ ولا تَشْهَدْ مَعَهم، وفي قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٥٠] قُوَّةُ وصْفِ شَهادَتِهِمْ بِنِهايَةِ الزُّورِ. وقالَ أبُو نَصْرِ القُشَيْرِيُّ: فَإنْ شَهِدَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ فَلا يُصَدَّقُ، إذِ الشَّهادَةُ مِن كِتابٍ أوْ عَلى لِسانِ نَبِيٍّ، ولَيْسَ مَعَهم شَيْءٌ مِن ذَلِكَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أمَرَهم بِاسْتِحْضارِهِمْ وهم شُهَداءُ بِالباطِلِ لِيُلْزِمَهُمُ الحُجَّةَ، ويُلْقِمَهُمُ الحَجَرَ، ويُظْهِرَ لِلْمَشْهُودِ لَهم بِانْقِطاعِ الشُّهَداءِ أنَّهم لَيْسُوا عَلى شَيْءٍ لِتَساوِي أقْدامِ الشّاهِدِينَ، والمَشْهُودِ لَهم في أنَّهم يَرْجِعُونَ إلى ما يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٥٠] فَلا تُسَلِّمْ لَهم ما شَهِدُوا بِهِ ولا تُصَدِّقْهم؛ لِأنَّهُ إذا سَلَّمَ لَهم فَكَأنَّهُ شَهِدَ مَعَهم مِثْلَ شَهادَتِهِمْ، فَكانَ واحِدًا مِنهُمُ. انْتَهى، وهو تَكْثِيرٌ.
{"ayahs_start":147,"ayahs":["فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمۡ ذُو رَحۡمَةࣲ وَ ٰسِعَةࣲ وَلَا یُرَدُّ بَأۡسُهُۥ عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِینَ","سَیَقُولُ ٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوا۟ لَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَاۤ أَشۡرَكۡنَا وَلَاۤ ءَابَاۤؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن شَیۡءࣲۚ كَذَ ٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ حَتَّىٰ ذَاقُوا۟ بَأۡسَنَاۗ قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمࣲ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَاۤۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَخۡرُصُونَ","قُلۡ فَلِلَّهِ ٱلۡحُجَّةُ ٱلۡبَـٰلِغَةُۖ فَلَوۡ شَاۤءَ لَهَدَىٰكُمۡ أَجۡمَعِینَ"],"ayah":"سَیَقُولُ ٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوا۟ لَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَاۤ أَشۡرَكۡنَا وَلَاۤ ءَابَاۤؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن شَیۡءࣲۚ كَذَ ٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ حَتَّىٰ ذَاقُوا۟ بَأۡسَنَاۗ قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمࣲ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَاۤۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَخۡرُصُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق