الباحث القرآني
﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلّا أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَمًا مَسْفُوحًا أوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإنَّهُ رِجْسٌ أوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ لَمّا ذَكَرَ (p-٢٤١)أنَّهم حَرَّمُوا ما حَرَّمُوا افْتِراءً عَلى اللَّهِ، أمَرَهُ تَعالى أنْ يُخْبِرَهم بِأنَّ مُدْرِكَ التَّحْرِيمِ، إنَّما هو بِالوَحْيِ مِنَ اللَّهِ - تَعالى - وبِشَرْعِهِ لا بِما تَهْوى الأنْفُسُ وما تَخْتَلِقُهُ عَلى اللَّهِ - تَعالى - وجاءَ التَّرْتِيبُ هُنا كالتَّرْتِيبِ الَّذِي في البَقَرَةِ والمائِدَةِ، وجاءَ هُنا هَذِهِ المُحْرِماتُ مُنَكَّرَةً، والدَّمُ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ: ﴿مَسْفُوحًا﴾، والفِسْقُ مَوْصُوفًا بِقَوْلِهِ: ﴿أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾، وفي تِينِكِ السُّورَتَيْنِ مُعَرَّفًا؛ لِأنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ فَعُلِّقَ بِالتَّنْكِيرِ، وتانِكَ السُّورَتانِ مَدَنِيَّتانِ، فَجاءَتْ تِلْكَ الأسْماءُ مَعارِفَ بِالعَهْدِ حُوالَةً عَلى ما سَبَقَ تَنْزِيلُهُ في هَذِهِ السُّورَةِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عامِرٍ: ﴿فِي ما أُوحِيَ﴾ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ والحاءِ، جَعَلَهُ فِعْلًا ماضِيًا مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، و(مُحَرَّمًا) صِفَةً لِمَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ مَطْعُومًا، ودَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾، ويَطْعَمُهُ صِفَةٌ لِطاعِمٍ. وقَرَأ الباقِرُ: (يَطَّعِمُهُ) بِتَشْدِيدِ الطّاءِ وكَسْرِ العَيْنِ، والأصْلُ يَطْتَعِمُهُ، أُبْدِلَتْ تاؤُهُ طاءً وأُدْغِمَتْ فِيها فاءُ الكَلِمَةِ. وقَرَأتْ عائِشَةُ وأصْحابُ عَبْدِ اللَّهِ ومُحَمَّدُ بْنُ الحَنَفِيَّةِ: تَطَعَّمَهُ بِفِعْلٍ ماضٍ، و”إلّا أنْ يَكُونَ“ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ لِأنَّهُ كَوْنٌ وما قَبْلَهُ عَيْنٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَصْبُهُ بَدَلًا عَلى لُغَةِ تَمِيمٍ، ونَصْبًا عَلى الِاسْتِثْناءِ عَلى لُغَةِ الحِجازِ. وقَرَأ الِابْنانِ وحَمْزَةُ: إلّا أنْ تَكُونَ بِالتّاءِ، وابْنُ كَثِيرٍ وحَمْزَةُ: ﴿مَيْتَةً﴾ بِالنَّصْبِ، واسْمُ (يَكُونَ) مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿مُحَرَّمًا﴾، وأُنِّثَ لِتَأْنِيثِ الخَبَرِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: (مَيْتَةً) بِالرَّفْعِ، جَعَلَ كانَ تامَّةً. وقَرَأ الباقُونَ بِالياءِ ونَصْبِ ﴿مَيْتَةً﴾، واسْمُ كانَ ضَمِيرٌ مُذَكَّرٌ يَعُودُ عَلى ﴿مُحَرَّمًا﴾، أيْ: ﴿إلّا أنْ يَكُونَ﴾ المُحَرَّمُ ﴿مَيْتَةً﴾، وعَلى قِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ، وهي قِراءَةٌ أبِي جَعْفَرٍ فِيما ذَكَرَ مَكِّيٌّ، يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿أوْ دَمًا﴾ مَعْطُوفًا عَلى مَوْضِعِ ﴿أنْ يَكُونَ﴾، وعَلى قِراءَةِ غَيْرِهِ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿مَيْتَةً﴾، ومَعْنى ﴿مَسْفُوحًا﴾ مَصْبُوبًا سائِلًا كالدَّمِ في العُرُوقِ لا كالطُّحالِ والكَبِدِ، وقَدْ رُخِّصَ في دَمِ العُرُوقِ بَعْدَ الذَّبْحِ. وقِيلَ لِأبِي مَجْلَزٍ: القِدْرُ تَعْلُوها الحُمْرَةُ مِنَ الدَّمِ. فَقالَ: إنَّما حَرَّمَ اللَّهُ - تَعالى - المَسْفُوحَ، وقالَتْ نَحْوَهُ عائِشَةُ، وعَلَيْهِ إجْماعُ العُلَماءِ. وقِيلَ: الدَّمُ حَرامٌ لِأنَّهُ إذا زايَلَ فَقَدْ سُفِحَ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (فَإنَّهُ) عائِدٌ عَلى ﴿لَحْمَ خِنْزِيرٍ﴾، وزَعَمَ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ أنَّهُ عائِدٌ عَلى خِنْزِيرٍ، فَإنَّهُ أقْرَبُ مَذْكُورٍ، وإذا احْتَمَلَ الضَّمِيرُ العَوْدَ عَلى شَيْئَيْنِ كانَ عُودُهُ عَلى الأقْرَبِ أرْجَحَ، وعُورِضَ بِأنَّ المُحَدَّثَ عَنْهُ إنَّما هو اللَّحْمُ، وجاءَ ذِكْرُ الخِنْزِيرِ عَلى سَبِيلِ الإضافَةِ إلَيْهِ لا أنَّهُ هو المُحَدَّثُ عَنْهُ المَعْطُوفُ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: ذُكِرَ اللَّحْمُ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ أعْظَمُ ما يُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ الخِنْزِيرِ، وإنْ كانَ سائِرُهُ مُشارِكًا لَهُ في التَّحْرِيمِ بِالتَّنْصِيصِ عَلى العِلَّةِ مِن كَوْنِهِ رِجْسًا، أوْ لِإطْلاقِ الأكْثَرِ عَلى كُلِّهِ، أوِ الأصْلُ عَلى التّابِعِ لِأنَّ الشَّحْمَ وغَيْرَهُ تابِعٌ لِلَّحْمِ. واخْتَلَفُوا في هَذِهِ الآيَةِ، أهْيَ مُحْكَمَةٌ ؟ وهو قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وابْنِ جُبَيْرٍ، فَعَلى هَذا لا شَيْءَ مُحَرَّمٌ مِنَ الحَيَوانِ إلّا فِيها، ولَيْسَ هَذا مَذْهَبَ الجُمْهُورِ. وقِيلَ: هي مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ المائِدَةِ، ويَنْبَغِي أنَّ يُفْهَمَ هَذا النَّسْخُ بِأنَّهُ نَسْخٌ لِلْحَصْرِ فَقَطْ. وقِيلَ: جَمِيعُ ما حُرِّمَ داخِلٌ في الِاسْتِثْناءِ، سَواءٌ كانَ بِنَصِّ قُرْآنٍ أوْ حَدِيثٍ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ بِالِاشْتِراكِ في العِلَّةِ الَّتِي هي الرِّجْسِيَّةِ. والَّذِي نَقُولُهُ: إنَّ الآيَةَ مَكِّيَّةٌ وجاءَتْ عَقِيبَ قَوْلِهِ: ﴿ثَمانِيَةَ أزْواجٍ﴾ [الأنعام: ١٤٣]، وكانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ ما يُحَرِّمُونَ مِنَ البَحائِرِ والسَّوائِبِ والوَصائِلِ والحَوّامِي، مِن هَذِهِ الثَّمانِيَةِ، فالآيَةُ (p-٢٤٢)مُحْكَمَةٌ، وأخْبَرَ فِيها أنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيما أُوحِيَ إلَيْهِ إذْ ذاكَ مِنَ القُرْآنِ سِوى ما ذَكَرَ، ولِذَلِكَ أتَتْ صِلَةُ (ما) جُمْلَةً مُصَدَّرَةً بِالفِعْلِ الماضِي، فَجَمِيعُ ما حُرِّمَ بِالمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ إذْ ذاكَ سَبَقَ مِنهُ وحْيٌ فِيهِ بِمَكَّةَ، فَلا تَعارُضَ بَيْنَ ما حُرِّمَ بِالمَدِينَةِ وبَيْنَ ما أُخْبِرَ أنَّهُ أُوحِيَ إلَيْهِ بِمَكَّةَ تَحْرِيمُهُ، وذِكْرُ الخِنْزِيرِ وإنْ لَمْ يَكُنْ مِن ثَمانِيَةِ الأزْواجِ لِأنَّ مِنَ النّاسِ مَن كانَ يَأْكُلُهُ إذْ ذاكَ، ولِأنَّهُ أشْبَهُ شَيْءٍ بِثَمانِيَةِ الأزْواجِ في كَوْنِهِ لَيْسَ سَبُعًا مُفْتَرِسًا يَأْكُلُ اللُّحُومَ ويَتَغَذّى بِها، وإنَّما هو مَن نَمَطِ الثَّمانِيَةِ في كَوْنِهِ يَعِيشُ بِالنَّباتِ ويَرْعى كَما تَرْعى الثَّمانِيَةُ. وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ هُنا أشْياءَ مِمّا اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ فِيها، ونُلَخِّصُ مِن ذَلِكَ شَيْئًا، فَنَقُولُ: أمّا الحُمُرُ الأهْلِيَّةُ فَذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وابْنُ جُبَيْرٍ إلى أنَّهُ يَجُوزُ أكْلُها، وتَحْرِيمُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَها إنَّما كانَ لِعِلَّةٍ، وأمّا لُحُومُ الخَيْلِ فاخْتَلَفَ فِيها السَّلَفُ وأباحَها الشّافِعِيُّ وابْنُ حَنْبَلٍ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ، وعَنْ أبِي حَنِيفَةَ الكَراهَةُ. فَقِيلَ: كَراهَةُ تَنْزِيهٍ. وقِيلَ: كَراهَةُ تَحْرِيمٍ، وهو قَوْلُ مالِكٍ والأوْزاعِيِّ والحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ وأبِي عُبَيْدٍ وأبِي بَكْرٍ الأصَمِّ، وقالَ بِهِ مِنَ التّابِعِينَ مُجاهِدٌ، ومِنَ الصَّحابَةِ ابْنُ عَبّاسٍ، ورُوِيَ عَنْهُ خِلافُهُ، وقَدْ صَنَّفَ في حُكْمِ لُحُومِ الخَيْلِ جُزْءًا قاضِي القُضاةِ شَمْسُ الدِّينِ أحْمَدُ بْنُ إبْراهِيمَ بْنِ عَبْدِ الغَنِيِّ السُّرُوجِيُّ الحَنَفِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَرَأْناهُ عَلَيْهِ، وأجْمَعُوا عَلى تَحْرِيمِ البِغالِ، وأمّا الحِمارُ الوَحْشِيُّ إذا تَأنَّسَ، فَذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ والشّافِعِيُّ إلى جَوازِ أكْلِهِ، ورَوى ابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ إذا دَجَنَ وصارَ يُعْمَلُ عَلَيْهِ كَما يُعْمَلُ عَلى الأهْلِيِّ أنَّهُ لا يُؤْكَلُ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ وزُفَرُ ومُحَمَّدٌ: لا يَحِلُّ أكْلُ ذِي النّابِ مِنَ السِّباعِ وذِي المِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ. وقالَ مالِكٌ: لا يُؤْكَلُ سِباعُ الوَحْشِ، ولا البَرِّ وحْشِيًّا كانَ أوْ أهْلِيًّا، ولا الثَّعْلَبُ، ولا الضَّبُعُ، ولا بَأْسَ بِأكْلِ سِباعِ الطَّيْرِ الرَّخَمِ والعِقابِ والنُّسُورِ وغَيْرِها ما أكَلَ الجِيفَةِ وما لَمْ يَأْكُلْ. وقالَ الأوْزاعِيُّ: الطَّيْرُ كُلُّهُ حَلالٌ إلّا أنَّهم يَكْرَهُونَ الرَّخَمَ. وقالَ الشّافِعِيُّ: ما عَدا عَلى النّاسِ مِن ذِي النّابِ كالأسَدِ والذِّئْبِ والنَّمِرِ، وعَلى الطُّيُورِ مِن ذِي المِخْلَبِ كالنَّسْرِ والبازِي لا يُؤْكَلُ، ويُؤْكَلُ الثَّعْلَبُ والضَّبُعُ، وكَرِهَ أبُو حَنِيفَةَ الغُرابَ الأبْقَعَ لا الغُرابَ الزَّرْعِيَّ، والخِلافُ في الحِدَأةِ كالخِلافِ في العُقابِ والنَّسْرِ، وكَرِهَ أبُو حَنِيفَةَ الضَّبَّ. وقالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ: لا بَأْسَ بِهِ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ لا يُؤْكَلُ الهِرُّ الإنْسِيُّ، وعَنْ مالِكٍ جَوازُ أكْلِهِ إنْسِيًّا كانَ أوْ وحْشِيًّا، وعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ جَوازُ أكْلِ إنْسِيِّهِ. وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى: لا بَأْسَ بِأكْلِ الحَيَّةِ إذا ذُكِّيَتْ. وقالَ اللَّيْثُ: لا بَأْسَ بِأكْلِ القُنْفُذِ وفِراخِ النَّحْلِ ودُودِ الجُبْنِ ودُودِ التَّمْرِ ونَحْوِهِ، وكَذا قالَ ابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ في القُنْفُذِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ والشّافِعِيُّ: لا تُؤْكَلُ الفَأْرَةُ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا يُؤْكَلُ اليَرْبُوعُ. وقالَ الشّافِعِيُّ: يُؤْكَلُ، وعَنْ مالِكٍ في الفَأْرِ التَّحْرِيمُ والكَراهَةُ والإباحَةُ، وذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ والشّافِعِيُّ وأصْحابُهُما إلى كَراهَةِ أكْلِ الجَلّالَةِ. وقالَ مالِكٌ واللَّيْثُ: لا بَأْسَ بِأكْلِها. وقالَ صاحِبُ التَّحْرِيرِ والتَّحْبِيرِ: وأمّا المُخَدِّراتُ كالبَنْجِ والسَّيْكَرانِ واللُّفّاحِ ووَرَقِ القِنَّبِ المُسَمّى بِالحَشِيشَةِ فَلَمْ يُصَرِّحْ فِيها أهْلُ العِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ، وهي عِنْدِي إلى التَّحْرِيمِ أقْرَبُ؛ لِأنَّها إنْ كانَتْ مُسْكِرَةً فَهي مُحَرَّمَةٌ بِقَوْلِهِ ﷺ: «ما أسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرامٌ»، وبِقَوْلِهِ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ»، وإنْ كانَتْ غَيْرَ مُسْكِرَةٍ فَإدْخالُ الضَّرَرِ عَلى الجِسْمِ حَرامٌ. وقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَخْتِيَشُوعَ في كِتابِهِ: إنَّ ورَقَ القِنَّبِ يُحْدِثُ في الجِسْمِ سَبْعِينَ داءً، وذَكَرَ مِنها أنَّهُ يُصَفِّرُ الجِلْدَ ويُسَوِّدُ الأسْنانَ ويَجْعَلُ فِيها الحُفَرَ ويَثْقُبُ الكَبِدَ ويُحَمِّيها ويُفْسِدُ العَقْلَ ويُضْعِفُ البَصَرَ ويُحْدِثُ الغَمَّ ويُذْهِبُ الشَّجاعَةَ، والبَنْجُ والسَّيْكَرانُ كالوَرَقِ في الضَّرَرِ، وأمّا المُرْقِداتُ كالزَّعْفَرانِ والمازِرْيُونَ فالقَدْرُ المُضِرُّ مِنها حَرامٌ، وقالَ جُمْهُورُ الأطِبّاءِ: إذا اسْتُعْمِلَ مِنَ الزَّعْفَرانِ كَثِيرٌ قَتْلٍ فَرَحًا، انْتَهى وفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وقالَ (p-٢٤٣)أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ في قَوْلِهِ: ﴿عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ دِلالَةٌ عَلى أنَّ المُحَرَّمَ مِنَ المَيْتَةِ ما يَتَأتّى فِيهِ الأكْلُ مِنها، وإنْ لَمْ يَتَناوَلِ الجِلْدَ المَدْبُوغَ ولا القَرْنَ ولا العَظْمَ ولا الظِّلْفَ ولا الرِّيشَ ونَحْوَها، وفي قَوْلِهِ: ﴿أوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ دِلالَةٌ عَلى أنَّ دَمَ البَقِّ والبَراغِيثِ والذُّبابِ لَيْسَ بِنَجِسٍ. انْتَهى.
﴿أوْ فِسْقًا﴾ الظّاهِرُ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى المَنصُوبِ قَبْلَهُ، سُمِّيَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فِسْقًا لِتَوَغُّلِهِ في بابِ الفِسْقِ، ومِنهُ ﴿ولا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: ١٢١]، وأُهِلَّ صِفَةٌ لَهُ مَنصُوبَةُ المَحَلِّ، وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَنْتَصِبَ فِسْقًا عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ مُقَدَّمٌ عَلى العامِلِ فِيهِ وهو أُهِلَّ؛ لِقَوْلِهِ:
؎طَرِبْتُ وما شَوْقًا إلى البِيضِ أطْرَبُ
وفَصَلَ بِهِ بَيْنَ أوْ وأُهِلَّ بِالمَفْعُولِ لَهُ، ويَكُونُ أوْ أُهِلَّ مَعْطُوفًا عَلى (يَكُونَ)، والضَّمِيرُ في (بِهِ) يَعُودُ عَلى ما عادَ عَلَيْهِ في (يَكُونَ)، وهَذا إعْرابٌ مُتَكَلَّفٌ جِدًّا، وتَرْكِيبٌ عَلى هَذا الإعْرابِ خارِجٌ عَنِ الفَصاحَةِ، وغَيْرُ جائِزٍ في قِراءَةِ مَن قَرَأ: (إلّا أنْ يَكُونَ مَيْتَةٌ) بِالرَّفْعِ، فَيَبْقى الضَّمِيرُ في (بِهِ) لَيْسَ لَهُ ما يَعُودُ عَلَيْهِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَتَكَلَّفَ مَحْذُوفًا حَتّى يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: أوْ شَيْءٌ ﴿أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾؛ لِأنَّ مِثْلَ هَذا لا يَجُوزُ إلّا في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ.
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ فَإنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلَ هَذا، ولَمّا كانَ صَدْرُ الآيَةِ مُفْتَتَحًا بِخِطابِهِ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ لا أجِدُ﴾ اخْتَتَمَ الآيَةَ بِالخِطابِ فَقالَ: ”فَإنَّ رَبَّكَ“، ودَلَّ عَلى اعْتِنائِهِ بِهِ تَعالى بِتَشْرِيفِ خِطابِهِ افْتِتاحًا واخْتِتامًا.
﴿وعَلى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ مُناسِبَةُ هَذِهِ لِما قَبْلَها أنَّهُ لَمّا بَيَّنَ أنَّ التَّحْرِيمَ إنَّما يَسْتَنِدُ لِلْوَحْيِ الإلَهِيِّ، أخْبَرَ أنَّهُ حَرَّمَ عَلى بَعْضِ الأُمَمِ السّابِقَةِ أشْياءَ، كَما حَرَّمَ عَلى أهْلِ هَذِهِ المِلَّةِ أشْياءَ مِمّا ذَكَرَها في الآيَةِ قَبْلُ، فالتَّحْرِيمُ إنَّما هو راجِعٌ إلى اللَّهِ - تَعالى - في الأُمَمِ جَمِيعِها، وفي قَوْلِهِ ﴿حَرَّمْنا﴾ تَكْذِيبُ اليَهُودِ في قَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَحَرِّمْ عَلَيْنا شَيْئًا، وإنَّما حَرَّمْنا عَلى أنْفُسِنا ما حَرَّمَهُ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وابْنُ جُبَيْرٍ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ: هي ذَواتُ الظِّلْفِ كالإبِلِ والنَّعامِ وما لَيْسَ بِذِي أصابِعَ مُنْفَرِجَةٍ كالبَطِّ والإوَزِّ ونَحْوِهِما، واخْتارَهُ الزَّجّاجُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: هي الإبِلُ خاصَّةً، وضُعِّفَ هَذا التَّخْصِيصُ. وقالَ الضَّحّاكُ: هي النَّعامَةُ وحِمارُ الوَحْشِ، وهو ضَعِيفٌ لِتَخْصِيصِهِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وذِي حافِرٍ مِنَ الدَّوابِّ وذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ. وقالَ القُتَبِيُّ: الظُّفُرُ هُنا بِمَنزِلَةِ الحافِرِ، يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذِي حافِرٍ مِنَ الدَّوابِّ، سُمِّيَ الحافِرُ ظُفْرًا اسْتِعارَةً. وقالَ ثَعْلَبٌ: كُلُّ ما لا يَصِيدُ فَهو ذُو ظُفْرٍ، وما يَصِيدُ فَهو ذُو مِخْلَبٍ. قالَ النَّقّاشُ: هَذا غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِأنَّ الأسَدَ ذُو ظُفْرٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ما لَهُ أُصْبُعٌ مِن دابَّةٍ أوْ طائِرٍ، وكانَ بَعْضُ ذَواتِ الظُّفْرِ حَلالًا لَهم، فَلَمّا ظَلَمُوا حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَعَمَّ التَّحْرِيمُ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠] . وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: حَمْلُ الظُّفْرِ عَلى الحافِرِ ضَعِيفٌ لِأنَّ الحافِرَ لا يَكادُ يُسَمّى ظُفْرًا، ولِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ: حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ حَيَوانٍ لَهُ حافِرٌ، وذَلِكَ باطِلٌ لِدَلالَةِ الآيَةِ عَلى إباحَةِ البَقَرِ والغَنَمِ مَعَ أنَّها لَها حافِرٌ، فَوَجَبَ حَمْلُ الظُّفْرِ عَلى المَخالِبِ والبَراثِنِ؛ لِأنَّ المَخالِبَ آلاتٌ لِجَوارِحِ الصَّيْدِ في الِاصْطِيادِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ أنْواعُ السِّباعِ والكِلابِ والسَّنانِيرِ والطُّيُورِ الَّتِي تَصْطادُ، ويَكُونُ هَذا مُخْتَصًّا بِاليَهُودِ لِدَلالَةِ ﴿وعَلى الَّذِينَ هادُوا﴾ عَلى الحَصْرِ، فَيَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ بِاليَهُودِ، ولا تَكُونُ مُحَرَّمَةً عَلى المُسْلِمِينَ، وما رُوِيَ مِن تَحْرِيمِ ذِي النّابِ مِنَ السِّباعِ وذِي المِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ خَبَرُ واحِدٍ عَلى خِلافِ كِتابِ اللَّهِ فَلا يُقْبَلُ، ويُقَوِّي مَذْهَبَ مالِكٍ، انْتَهى مُلَخَّصًا وفِيهِ مُنَوَّعٌ، أحَدُها: لا (p-٢٤٤)نُسَلِّمُ تَخْصِيصَ ذِي الظُّفُرِ بِما قالَهُ. الثّانِي: لا نُسَلِّمُ الحَصْرَ الَّذِي ادَّعاهُ. الثّالِثُ: لا نُسَلِّمُ الِاخْتِصاصَ. الرّابِعُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ خَبَرَ الواحِدِ في تَحْرِيمِ ذِي النّابِ وذِي المِخْلَبِ عَلى خِلافِ كِتابِ اللَّهِ، وكُلُّ مَن فَسَّرَ الظُّفْرَ بِما فَسَّرَهُ مِن ذَوِي الأقْوالِ السّابِقَةِ بِذاهِبٍ إلى تَحْرِيمِ لَحْمِ ما فَسَّرَهُ وشَحْمِهُ وكُلِّ شَيْءٍ مِنهُ. وذَهَبَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ ذَلِكَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، ولَيْسَ المُحَرَّمُ ذا الظُّفْرِ، وإنَّما المُرادُ ما صادَهُ ذُو الظُّفْرِ، أيْ: ذُو المِخْلَبِ الَّذِي لَمْ يُعَلَّمْ، وهَذا خِلافُ الظّاهِرِ. وقَرَأ أُبَيٌّ والحَسَنُ والأعْرَجُ: (ظَفْرٌ) بِسُكُونِ الفاءِ، والحَسَنُ أيْضًا وأبُو السَّمّالِ قُعْنُبٌ بِسُكُونِها وكَسْرِ الظّاءِ.
﴿ومِنَ البَقَرِ والغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما﴾ أيْ: شُحُومَ الجِنْسَيْنِ، ويَتَعَلَّقْ ”مِن“ بِحَرَّمْنا المُتَأخِّرَةِ، ولا يَجِبُ تَقَدُّمُها عَلى العامِلِ، فَلَوْ كانَ التَّرْكِيبُ: وحَرَّمْنا عَلَيْهِمْ مِنَ البَقَرِ والغَنَمِ شُحُومَهُما، لَكانَ تَرْكِيبًا غَرِيبًا، كَما تَقُولُ: مِن زَيْدٍ أخَذْتُ مالَهُ، ويَجُوزُ أخَذْتُ مِن زَيْدٍ مالَهُ، والإضافَةُ تَدُلُّ عَلى تَأْكِيدِ التَّخْصِيصِ والرَّبْطِ، إذْ لَوْ أتى في الكَلامِ: مِنَ البَقَرِ والغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ، لَكانَ كافِيًا في الدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ لا يُرادُ إلّا شُحُومُ البَقَرِ والغَنَمِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ﴿ومِنَ البَقَرِ والغَنَمِ﴾ مَعْطُوفًا عَلى ﴿كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾، فَيَتَعَلَّقُ مِن بِحَرَّمْنا الأُولى، ثُمَّ جاءَتِ الجُمْلَةُ الثّانِيَةُ مُفَسِّرَةً ما أبْهَمَ في ”مِن“ التَّبْعِيضِيَّةِ مِنَ المُحَرَّمِ فَقالَ: ﴿حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما﴾ . وقالَ أبُو البَقاءِ: لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ (مِنَ البَقَرِ) مُتَعَلِّقًا بِحَرَّمْنا الثّانِيَةِ، بَلْ ذَلِكَ مَعْطُوفٌ عَلى كُلِّ، (وحَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) تَبْيِينٌ لِلْمُحَرَّمِ مِنَ البَقَرِ والغَنَمِ، وكَأنَّهُ يُوهِمُ أنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ مانِعٌ مِنَ التَّعَلُّقِ، إذْ رُتْبَةُ المَجْرُورِ بِمِنِ التَّأْخِيرُ، لَكِنْ عَنْ ماذا ؟ أمّا عَنِ الفِعْلِ فَمُسَلَّمٌ، وأمّا عَنِ المَفْعُولِ فَغَيْرُ مُسَلِّمٍ، وإنْ سَلَّمْنا أنَّ رُتْبَتَهُ التَّأْخِيرُ عَنِ الفِعْلِ والمَفْعُولِ لَيْسَ بِمَمْنُوعٍ، بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ كَما جازَ: ضَرَبَ غُلامَ المَرْأةِ أبُوها، وغُلامَ المَرْأةِ ضَرَبَ أبُوها، وإنْ كانَتْ رُتْبَةُ المَفْعُولِ التَّأْخِيرَ، لَكِنَّهُ وجَبَ هُنا تَقْدِيمُهُ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ الَّذِي في الفاعِلِ الَّذِي رُتْبَتُهُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِالمَفْعُولِ الَّذِي هو والمَجْرُورُ في رُتْبَةٍ واحِدَةٍ ؟ أعْنِي في كَوْنِهِما فَضْلَةً، فَلا يُبالى فِيهِما بِتَقْدِيمِ أيِّهِما شِئْتَ عَلى الآخَرِ. وقالَ الشّاعِرُ:
؎وقَدْ رَكَدَتْ وسْطَ السَّماءِ نُجُومُها
فَقَدَّمَ الظَّرْفَ وُجُوبًا لِعَوْدِ الضَّمِيرِ الَّذِي اتَّصَلَ بِالفاعِلِ عَلى المَجْرُورِ بِالظَّرْفِ. واخْتُلِفَ في تَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلى المُسْلِمِينَ مِن ذَبائِحِ اليَهُودِ، فَعَنْ مالِكٍ: مَنعُ أكْلِ الشَّحْمِ مِن ذَبائِحِهِمْ، ورُوِيَ عَنْهُ الكَراهَةُ، وأباحَ ذَلِكَ بَعْضُ النّاسِ مِن ذَبائِحِهِمْ، ومِن ذَبْحِهِمْ ما هو عَلَيْهِمْ حَرامٌ إذا أمَرَهم بِذَلِكَ مُسْلِمٌ. وقالَ ابْنُ حَبِيبٍ: ما كانَ مَعْلُومًا تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمْ مِن كِتابِنا فَلا يَحِلُّ لَنا مِن ذَبائِحِهِمْ، وما لَمْ نَعْلَمْهُ إلّا مِن أقْوالِهِمْ فَهو غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْنا مِن ذَبائِحِهِمْ. انْتَهى. فَظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٥] أنَّ الشَّحْمَ الَّذِي هو مِن ذَبائِحِهِمْ لا يَحِلُّ لَنا أنَّهُ لَيْسَ مِن طَعامِهِمْ، فَلا يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ ﴿وطَعامُ الَّذِينَ﴾ [المائدة: ٥]، وحَمْلُ قَوْلِهِ: ﴿وطَعامُ الَّذِينَ﴾ [المائدة: ٥] عَلى الذَّبائِحِ فِيهِ بُعْدٌ، وهو خِلافُ الظّاهِرِ.
﴿إلّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما﴾ أيْ: إلّا الشَّحْمَ الَّذِي حَمَلَتْهُ ظُهُورُهُما البَقَرُ والغَنَمُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو مِمّا عَلَقَ بِالظَّهْرِ مِنَ الشَّحْمِ، وبِالجَنْبِ مِن داخِلِ بُطُونِهِما. وقِيلَ: سَمِينُ الظَّهْرِ وهي الشَّرائِحُ الَّتِي عَلى الظَّهْرِ مِنَ الشَّحْمِ، فَإنَّ ذَلِكَ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ. وقالَ السُّدِّيُّ وأبُو صالِحٍ: الإلْياتُ مِمّا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما.
﴿أوِ الحَوايا﴾ هو مَعْطُوفٌ عَلى (ظُهُورُهُما)، قالَهُ الكِسائِيُّ، وهو الظّاهِرُ، أيْ: والشَّحْمُ الَّذِي حَمَلَتْهُ (الحَوايا) . قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُبَيْرٍ والحَسَنُ وقَتادَةُ ومُجاهِدٌ والسُّدِّيُّ وابْنُ زَيْدٍ: هي المَباعِرُ. وقالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسى: هو كُلُّ ما تَحْوِيهِ البَطْنُ فاجْتَمَعَ واسْتَدارَ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ أيْضًا: هي بَناتُ اللَّبَنِ. وقِيلَ: الأمْعاءُ والمَصارِينُ الَّتِي عَلَيْها الشَّحْمُ.
﴿أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ هو مَعْطُوفٌ عَلى ﴿ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما﴾، بِعَظْمٍ هو (p-٢٤٥)شَحْمُ الإلْيَةِ لِأنَّهُ عَلى العُصْعُصِ، قالَهُ السُّدِّيُّ وابْنُ جُرَيْجٍ، أوْ شَحْمُ الجَنْبِ، أوْ كُلُّ شَحْمٍ في القَوائِمِ والجَنْبِ والرَّأْسِ والعَيْنَيْنِ والأُذُنَيْنِ، قالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ أيْضًا، أوْ مُخُّ العَظْمِ، والظّاهِرُ أنَّ هَذِهِ الثَّلاثَةَ مُسْتَثْناةٌ مِنَ الشَّحْمِ فَهي حَلالٌ لَهم. قِيلَ: بِالمُحَرَّمِ أذَبَّ شَحْمُ الثَّرْبِ والكُلى. وقِيلَ: ”أوِ الحَوايا أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ“ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿شُحُومَهُما﴾ فَتَكُونُ داخِلَةً في المُحَرَّمِ أيْ: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما ﴿أوِ الحَوايا أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ إلّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما، وتَكُونُ أوْ كَهي في قَوْلِهِ ﴿ولا تُطِعْ مِنهم آثِمًا أوْ كَفُورًا﴾ [الإنسان: ٢٤]، يُرادُ بِها نَفْيُ ما يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِانْفِرادِ، كَما تَقُولُ: هَؤُلاءِ أهْلٌ أنْ يُعْصَوْا فاعْصِ هَذا أوْ هَذا، فالمَعْنى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ هَذا وهَذا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وأوْ بِمَنزِلَتِها في قَوْلِهِمْ: جالِسِ الحَسَنَ أوِ ابْنَ سِيرِينَ. انْتَهى. وقالَ النَّحْوِيُّونَ: أوْ في هَذا المِثالِ لِلْإباحَةِ فَيَجُوزُ لَهُ أنْ يُجالِسَهُما مَعًا وأنْ يُجالِسَ أحَدَهُما، والأحْسَنُ في الآيَةِ إذا قُلْنا: إنَّ ذَلِكَ مَعْطُوفٌ عَلى ”شُحُومَهُما“ أنْ تَكُونَ أوْ فِيهِ لِلتَّفْصِيلِ، فَصَلَ بِها ما حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ البَقَرِ والغَنَمِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقالَ بَعْضُ النّاسِ ﴿أوِ الحَوايا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى الشُّحُومِ. قالَ: وعَلى هَذا يَدْخُلُ الحَوايا في التَّحْرِيمِ، وهَذا قَوْلٌ لا يُعَضِّدُهُ اللَّفْظُ ولا المَعْنى بَلْ يَدْفَعانِهِ. انْتَهى. ولَمْ يُبَيِّنْ دَفْعَ اللَّفْظِ والمَعْنى لِهَذا القَوْلِ.
﴿ذَلِكَ جَزَيْناهم بِبَغْيِهِمْ﴾ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (ذَلِكَ) في مَوْضِعِ رَفْعٍ، وقالَ الحَوْفِيُّ: (ذَلِكَ) في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى إضْمارِ مُبْتَدَإٍ تَقْدِيرُهُ: الأمْرُ ذَلِكَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نُصِبَ بِـ ﴿جَزَيْناهُمْ﴾؛ لِأنَّهُ يَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ، والتَّقْدِيرُ: جَزَيْناهم ذَلِكَ. وقالَ أبُو البَقاءِ: (ذَلِكَ) في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ ﴿جَزَيْناهُمْ﴾ ولَمْ يُبَيِّنْ عَلى أيِّ شَيْءٍ انْتَصَبَ، هَلْ عَلى المَصْدَرِ أوْ عَلى المَفْعُولِ بِإذْ ؟ وقِيلَ: مُبْتَدَأٌ والتَّقْدِيرُ: جَزَيْناهُمُوهُ. انْتَهى. وهَذا ضَعِيفٌ لِضَعْفِ: زِيدٌ ضَرَبْتُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَلِكَ الجَزاءُ ﴿جَزَيْناهُمْ﴾، وهو تَحْرِيمُ الطَّيِّباتِ. انْتَهى. وظاهِرُهُ أنَّهُ مُنْتَصِبٌ انْتِصابَ المَصْدَرِ، وزَعَمَ ابْنُ مالِكٍ أنَّ اسْمَ الإشارَةِ لا يَنْتَصِبُ مُشارًا بِهِ إلى المَصْدَرِ إلّا وأُتْبِعَ بِالمَصْدَرِ، فَتَقُولُ: قُمْتُ هَذا القِيامَ وقَعَدْتُ ذَلِكَ العُقُودَ، ولا يَجُوزُ قُمْتُ هَذا ولا قَعَدْتُ ذَلِكَ، فَعَلى هَذا لا يَصِحُّ انْتِصابُ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ إشارَةٌ إلى المَصْدَرِ، والبَغْيُ هُنا الظُّلْمُ. وقالَ الحَسَنُ: الكُفْرُ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: هو قَتْلُهُمُ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وأخْذُهُمُ الرِّبا وأكْلُهم أمْوالَ النّاسِ بِالباطِلِ، ونَظِيرُهُ ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا﴾ [النساء: ١٦٠]، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ هَذا التَّحْرِيمَ كانَ عُقُوبَةً لَهم عَلى ذُنُوبِهِمْ واسْتِعْصائِهِمْ عَلى الأنْبِياءِ. قالَ القاضِي: نَفْسُ التَّحْرِيمِ لا يَكُونُ عُقُوبَةً عَلى جُرْمٍ صَدَرَ مِنهم؛ لِأنَّ التَّكْلِيفَ تَعْرِيضٌ لِلثَّوابِ، والتَّعْرِيضُ لِلثَّوابِ إحْسانٌ. والجَوابُ: أنَّ المَنعَ مِن الِانْتِفاعِ يُمْكِنُ لِمَن يَرى اسْتِحْقاقَ الثَّوابِ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ لِلْجُرْمِ المُتَقَدِّمِ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ.
﴿وإنّا لَصادِقُونَ﴾ في الإخْبارِ عَمّا ﴿حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ﴾ . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إخْبارٌ يَتَضَمَّنُ التَّعْرِيضَ بِكَذِبِهِمْ في قَوْلِهِمْ: ما حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْنا وإنَّما اقْتَدَيْنا بِإسْرائِيلَ فِيما حَرَّمَ عَلى نَفْسِهِ، ويَتَضَمَّنُ إدْحاضَ قَوْلِهِمْ ورَدَّهُ عَلَيْهِمْ. وقالَ التِّبْرِيزِيُّ: ”وإنّا لَصادِقُونَ“ في إتْمامِ جَزائِهِمْ في الآخِرَةِ الَّذِي سَبَقَ الوَعِيدَ، فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ مِنَ الجَزاءِ المُعَجَّلِ لَهم في الدُّنْيا، ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿وإنّا لَصادِقُونَ﴾ فِيما أوْعَدْنا بِهِ العُصاةَ لا نُخْلِفُهُ، كَما لا نُخْلِفُ ما وعَدْناهُ أهْلَ الطّاعَةِ، فَلَمّا عَصَوْا وبَغَوْا ألْحَقْنا بِهِمُ الوَعِيدَ وأحْلَلْنا بِهِمُ العِقابَ. انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ.
{"ayahs_start":145,"ayahs":["قُل لَّاۤ أَجِدُ فِی مَاۤ أُوحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمࣲ یَطۡعَمُهُۥۤ إِلَّاۤ أَن یَكُونَ مَیۡتَةً أَوۡ دَمࣰا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِیرࣲ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَیۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَیۡرَ بَاغࣲ وَلَا عَادࣲ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ","وَعَلَى ٱلَّذِینَ هَادُوا۟ حَرَّمۡنَا كُلَّ ذِی ظُفُرࣲۖ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ وَٱلۡغَنَمِ حَرَّمۡنَا عَلَیۡهِمۡ شُحُومَهُمَاۤ إِلَّا مَا حَمَلَتۡ ظُهُورُهُمَاۤ أَوِ ٱلۡحَوَایَاۤ أَوۡ مَا ٱخۡتَلَطَ بِعَظۡمࣲۚ ذَ ٰلِكَ جَزَیۡنَـٰهُم بِبَغۡیِهِمۡۖ وَإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ"],"ayah":"وَعَلَى ٱلَّذِینَ هَادُوا۟ حَرَّمۡنَا كُلَّ ذِی ظُفُرࣲۖ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ وَٱلۡغَنَمِ حَرَّمۡنَا عَلَیۡهِمۡ شُحُومَهُمَاۤ إِلَّا مَا حَمَلَتۡ ظُهُورُهُمَاۤ أَوِ ٱلۡحَوَایَاۤ أَوۡ مَا ٱخۡتَلَطَ بِعَظۡمࣲۚ ذَ ٰلِكَ جَزَیۡنَـٰهُم بِبَغۡیِهِمۡۖ وَإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق