الباحث القرآني

﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبًا فَقالُوا هَذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهَذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إلى اللَّهِ وما كانَ لِلَّهِ فَهو يَصِلُ إلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ والسُّدِّيِّ أنَّ العَرَبَ كانَتْ تَجْعَلُ مِن غَلّاتِها وزُرُوعِها وأثْمارِها وأنْعامِها جُزْءًا تُسَمِّيهِ لِلَّهِ، وجُزْءًا تُسَمِّيهِ لِأصْنامِها، وكانَتْ عادَتُها تُبالِغُ وتَجْتَهِدُ في إخْراجِ نَصِيبِ الأصْنامِ أكْثَرَ مِنها في نَصِيبِ اللَّهِ، إذْ كانُوا يَعْتَقِدُونَ أنَّ الأصْنامَ بِها فَقْرٌ ولَيْسَ ذَلِكَ بِاللَّهِ، فَكانُوا إذا جَمَعُوا الزَّرْعَ فَهَبَّتِ الرِّيحُ فَحَمَلَتْ مِنَ الَّذِي لِلَّهِ إلى الَّذِي لِشُرَكائِهِمْ تَرَكُوهُ ولَمْ يَرُدُّوهُ إلى نَصِيبِ اللَّهِ، ويَفْعَلُونَ عَكْسَ هَذا، وإذا تَفَجَّرَ مِن سَقْيِ ما جَعَلُوهُ لِلَّهِ في نَصِيبِ شُرَكائِهِمْ تَرَكُوهُ، وبِالعَكْسِ سَدُّوهُ، وإذا لَمْ يَنْجَحُ شَيْءٌ مِن نَصِيبِ آلِهَتِهِمْ جَعَلُوا نَصِيبَ اللَّهِ لَها، وكَذا في الأنْعامِ. وإذا أجْدَبُوا أكَلُوا نَصِيبَ اللَّهِ وتَرَكُوا نَصِيبَها. لَمّا ذَكَرَ تَعالى قُبْحَ طَرِيقَةِ مُشْرِكِي العَرَبِ في إنْكارِهِمُ البَعْثَ، ذَكَرَ أنْواعًا مِن جَهالاتِهِمْ تَنْبِيهًا عَلى ضَعْفِ عُقُولِهِمْ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِمّا ذَرَأ﴾ أنَّهُ تَعالى كانَ أوْلى أنْ يُجْعَلَ لَهُ الأحْسَنُ والأجْوَدُ، وأنْ يَكُونَ جانِبُهُ تَعالى هو الأرْجَحَ، إذْ كانَ تَعالى هو المُوجِدَ لِما جَعَلُوا لَهُ مِنهُ نَصِيبًا، والقادِرُ عَلى تَنْمِيَتِهِ دُونَ أصْنامِهِمُ العاجِزَةِ عَنْ ما يَحِلُّ بِها، فَضْلًا عَنْ أنْ تَخْلُقَ شَيْئًا أوْ تُنَمِّيَهُ، وفي قَوْلِهِ (مِمّا) بِمِنِ التَّبْعِيضِيَّةِ دَلِيلٌ عَلى قِسْمٍ ثالِثٍ وهو ما بَقِيَ لَهم مِن غَيْرِ النَّصِيبَيْنِ، وفي الكَلامِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ التَّقْسِيمُ، أيْ: ونَصِيبًا ﴿لِشُرَكائِهِمْ﴾، ألا تَرى إلى قَوْلِهِمْ: ﴿هَذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهَذا لِشُرَكائِنا﴾ . و﴿الحَرْثِ﴾ قِيلَ هُنا: الزَّرْعُ. وقِيلَ: الزَّرْعُ والأشْجارُ وما يَكُونُ مِنَ الأرْضِ. ﴿والأنْعامِ﴾ الإبِلُ والبَقَرُ والغَنَمُ، يَتَقَرَّبُونَ بِذَبْحِ ذَلِكَ. وقِيلَ: إنَّهُ البَحِيرَةُ والسّائِبَةُ والوَصِيلَةُ والحامِي. وقِيلَ: النَّصِيبُ مِنَ الأنْعامِ هو النَّفَقَةُ عَلَيْها، وفي قَوْلِهِ: (فَقالُوا) تَأْكِيدٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي هو الجَعْلُ بِالقَوْلِ لِيَتَطابَقَ ويَتَظافَرَ الفِعْلُ بِالقَوْلِ، ثُمَّ إنَّهم أخْلَفُوا ذَلِكَ، واعْتَرَضَ أثْناءَ الكَلامِ قَوْلُهُ: ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾ وجاءَ إثْرَ قَوْلِهِمْ: ﴿هَذا لِلَّهِ﴾ لِأنَّهُ إخْبارُ كَذِبٍ، حَيْثُ أخْلَفَ ما جَعَلُوهُ وأكَّدُوهُ بِالقَوْلِ، ولَمْ يَأْتِ ذَلِكَ إثْرَ قَوْلِهِمْ: ﴿وهَذا لِشُرَكائِنا﴾ لِتَحْقِيقِ ما لِشُرَكائِهِمْ أنَّهُ لَهم، والزَّعْمُ في أكْثَرِ كَلامِ العَرَبِ أقْرَبُ إلى غَيْرِ اليَقِينِ، والحَقُّ نَبَّهَ عَلى أنَّهم فَعَلُوا ذَلِكَ مِن غَيْرِ أنْ يَأْمُرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ ولا أنْ يُشَرِّعَهُ لَهم، وذَلِكَ جَرْيٌ عَلى عادَتِهِمْ في شَرْعِ أحْكامٍ لَمْ يَأْذَنْ فِيها ولَمْ يُشَرِّعْها. وقَرَأ الكِسائِيُّ: ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾ فِيهِما بِضَمِّ الزّايِ، وهي لُغَةُ بَنِي أسَدٍ، والفَتْحُ لُغَةُ الحِجازِ، وبِهِ قَرَأ باقِي السَّبْعَةِ، وهُما مَصْدَرانِ. وقِيلَ: الفَتْحُ في المَصْدَرِ والضَّمُّ في الِاسْمِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ بِفَتْحِ الزّايِ والعَيْنِ فِيهِما. والكَسْرُ لُغَةٌ لِبَعْضِ قَيْسٍ وتَمِيمٍ، ولَمْ يُقْرَأْ (p-٢٢٨)بِهِ، ويَتَعَلَّقُ ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾ بِقالُوا. وقِيلَ: بِما تَعَلَّقَ بِهِ ﴿لِلَّهِ﴾ مِن الِاسْتِقْرارِ، و﴿شُرَكاؤُهُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٧] آلِهَتُهم، والشُّرَكاءُ مِنَ الشِّرْكِ، والإضافَةُ إضافَةُ تَخْصِيصٍ، أيِ: الشُّرَكاءُ الَّذِينَ أشْرَكُوا بَيْنَهم وبَيْنَ اللَّهِ في القُرْبَةِ، ولَيْسَ مَعْناهُ الإضافَةُ إلى فاعِلٍ ولا مَفْعُولٍ. وقِيلَ: سُمُّوا شُرَكاءَ لِأنَّهم نَزَّلُوها مَنزِلَةَ الشُّرَكاءِ في أمْوالِهِمْ، فَتَكُونُ إضافَةُ إمّا إلى الفاعِلِ فالتَّقْدِيرُ: وهَذا لِأصْنامِنا الَّتِي تُشْرِكُنا في أمْوالِنا، وإمّا إلى المَفْعُولِ فالتَّقْدِيرُ: الَّتِي شَرَكْناها في أمْوالِنا. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: سَمَّوْهم شُرَكاءَ عَلى مُعْتَقَدِهِمْ فِيهِمْ أنَّهم يُساهِمُونَهم في الخَيْرِ والشَّرِّ، ومَعْنى ﴿فَلا يَصِلُ إلى اللَّهِ﴾ أيْ: لا يَقَعُ مَوْقِعَ ما يُصْرَفُ في وُجُوهِ البِرِّ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلى المَساكِينِ وزُوّارِ بَيْتِ اللَّهِ ونَحْوِها، ولَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْ لِأنَّهم أشْرَكُوا، أوْ لا يَصِلُ البَتَّةَ إلى تِلْكَ الوُجُوهِ المَقْصُودِ بِها التَّقَرُّبُ إلى اللَّهِ. وقالَ الحَسَنُ: كانُوا إذا هَلَكَ الَّذِي لِأوْثانِهِمْ أخَذُوا بَدَلَهُ مِمّا لِلَّهِ، ولا يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ لِلَّهِ. وقِيلَ: كانُوا يَصْرِفُونَ مِمّا جَعَلُوهُ لِلَّهِ إلى سَدَنَةِ الأصْنامِ، ولا يَتَصَدَّقُونَ بِشَيْءٍ مِمّا جَعَلُوهُ لِلْأوْثانِ، ومَعْنى ﴿فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكائِهِمْ﴾ بِإنْفاقٍ عَلَيْها بِذَبْحِ نِسائِكَ عِنْدَها، والآخَرُ لِلنَّفَقَةِ عَلى سَدَنَتِها. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جُمْهُورُ المُتَأوِّلِينَ أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلا يَصِلُ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿يَصِلُ﴾ ما قَدَّمْنا ذِكْرَهُ مِن حِمايَتِهِمْ نَصِيبَ آلِهَتِهِمْ في هُبُوبِ الرِّيحِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: إنَّما ذَلِكَ في أنَّهم كانُوا إذا ذَبَحُوا لِلَّهِ ذَكَرُوا آلِهَتَهم عَلى ذَلِكَ الذَّبْحِ، وإذا ذَبَحُوا لِآلِهَتِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ، قالَ: ﴿فَلا يَصِلُ﴾ إلى ذِكْرٍ، وقالَ: ﴿فَهُوَ يَصِلُ﴾ إلى ذِكْرِ اللَّهِ. انْتَهى. وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ ما جَعَلُوهُ نَصِيبًا لِشُرَكائِهِمْ فَلا يُصْرَفُ مِنهُ شَيْءٌ في وُجُوهِ البِرِّ الَّذِي يَقْتَضِيها وجْهُهُ، وما جَعَلُوهُ نَصِيبًا لِلَّهِ أُنْفِقَ في مَصارِيفِ آلِهَتِهِمْ. ﴿ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ هَذِهِ ذَمٌّ بالِغٌ عامٌّ لِأحْكامِهِمْ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ حُكْمُهم هَذا السّابِقُ وغَيْرُهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: في إيثارِهِمْ آلِهَتَهم عَلى اللَّهِ وعَمَلِهِمْ ما لَمْ يُشْرَعْ لَهم. وقالَ الماتُرِيدِيُّ: أيْ بِئْسَ الحُكْمُ حُكْمُهم حَيْثُ قَرَنُوا حَقِّي بِحَقِّ الأصْنامِ وبَخَسُونِي. وقِيلَ: ﴿ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ لِأنْفُسِهِمْ، والظّاهِرُ أنَّ ﴿ساءَ﴾ هُنا مُجْراةٌ مُجْرى بِئْسَ في الذَّمِّ، كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ﴾ [البقرة: ٩٣]، والخِلافُ الجارِي في ﴿بِئْسَما﴾ [البقرة: ٩٠]، وإعْرابِ ما جارَ هُنا، وتَقَدَّمَ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى في قَوْلِهِ: ﴿بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ [البقرة: ٩٠] في البَقَرَةِ، وعَلى أنَّ حُكْمَها حَكَمُ ﴿بِئْسَما﴾ [البقرة: ٩٠] . فَسَّرَها الماتُرِيدِيُّ فَقالَ: بِئْسَ الحُكْمُ حُكْمُهم، وأعْرَبَها الحَوْفِيُّ وجَعَلَ ما مَوْصُولَةً بِمَعْنى الَّذِي، قالَ: والتَّقْدِيرُ: ساءَ الَّذِي يَحْكُمُونَ حُكْمُهم، فَيَكُونُ حُكْمُهم رَفْعًا بِالِابْتِداءِ، وما قَبْلَهُ الخَبَرُ وحُذِفَ لِدَلالَةِ يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ما تَمْيِيزًا عَلى مَذْهَبِ مَن يُجِيزُ ذَلِكَ في ﴿بِئْسَما﴾ [البقرة: ٩٠] فَيَكُونُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، التَّقْدِيرُ: ﴿ساءَ﴾ حُكْمًا حُكْمُهم، ولا يَكُونُ ﴿يَحْكُمُونَ﴾ صِفَةً لِما لِأنَّ الغَرَضَ الإبْهامُ، ولَكِنْ في الكَلامِ حَذْفٌ يَدُلُّ ”ما“ عَلَيْهِ، والتَّقْدِيرُ: ساءَ ما ﴿ما يَحْكُمُونَ﴾ . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: و(ما) في مَوْضِعِ رَفْعٍ، كَأنَّهُ قالَ: ساءَ الَّذِي يَحْكُمُونَ، ولا يَتَّجِهُ عِنْدِي أنْ تُجْرى هُنا ﴿ساءَ﴾ مُجْرى نِعْمَ وبِئْسَ؛ لِأنَّ المُفَسِّرَ هُنا مُضْمَرٌ ولا بُدَّ مِن إظْهارِهِ بِاتِّفاقٍ مِنَ النُّحاةِ، وإنَّما اتَّجَهَ أنْ يُجْرِيَ مُجْرى بِئْسَ في قَوْلِهِ: ﴿ساءَ مَثَلًا القَوْمُ﴾ [الأعراف: ١٧٧]؛ لِأنَّ المُفَسِّرَ ظاهِرٌ في الكَلامِ. انْتَهى. وهَذا قَوْلُ مَن شَدا يَسِيرًا مِنَ العَرَبِيَّةِ ولَمْ يُرَسِّخْ قَدَمَهُ فِيها، بَلْ إذا جَرى ساءَ مُجْرى نِعْمَ وبِئْسَ كانَ حُكْمُها حُكْمَهَما سَواءً، لا يَخْتَلِفُ في شَيْءٍ البَتَّةَ مِن فاعِلٍ مُضْمَرٍ أوْ ظاهِرٍ وتَمْيِيزٍ، ولا خِلافَ في جَوازِ حَذْفِ المَخْصُوصِ بِالمَدْحِ والذَّمِّ، والتَّمْيِيزُ فِيها لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ، فَقَوْلُهُ: لِأنَّ المُفَسِّرَ هُنا مُضْمَرٌ ولا بُدَّ مِن إظْهارِهِ بِاتِّفاقِ النُّحاةِ إلى آخِرِهِ، كَلامٌ ساقِطٌ، ودَعْواهُ الِاتِّفاقَ، مَعَ أنَّ الِاتِّفاقَ عَلى خِلافِ ما ذَكَرَ، عَجَبٌ عُجابٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب