الباحث القرآني

﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإسْلامِ ومَن يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأنَّما يَصَّعَّدُ في السَّماءِ﴾ قالَ مُقاتِلٌ: نَزَلَتْ في الرَّسُولِ ﷺ وفي أبِي جَهْلٍ، والهِدايَةُ هُنا مُقابِلَةُ الضَّلالَةِ، والشَّرْحُ كِنايَةٌ عَنْ جَعْلِهِ قابِلًا لِلْإسْلامِ مُتَوَسِّعًا لِقَبُولِ تَكالِيفِهِ، ونِسْبَةُ ذَلِكَ إلى صَدْرِهِ مَجازٌ عَنْ ذاتِ الشَّخْصِ، ولِذَلِكَ قالُوا: فُلانٌ واسِعُ الصَّدْرِ إذا كانَ الشَّخْصُ مُحْتَمِلًا ما يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ المَشاقِّ والتَّكالِيفِ، ونِسْبَةُ إرادَةِ الهُدى والضَّلالِ إلى اللَّهِ إسْنادٌ حَقِيقِيٌّ لِأنَّهُ تَعالى هو الخالِقُ ذَلِكَ والمُوجِدُ لَهُ والمُرِيدُ لَهُ، وشَرْحُ الصَّدْرِ تَسْهِيلُ قَبُولِ الإيمانِ عَلَيْهِ وتَحْسِينُهُ وإعْدادُهُ لِقَبُولِهِ، وضَمِيرُ فاعِلِ الهُدى عائِدٌ عَلى اللَّهِ، أيْ: يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ، وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الهُدى المُنْسَبِكِ مِن ﴿أنْ يَهْدِيَهُ﴾، أيْ: يَشْرَحُ الهُدى صَدْرَهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ مَذْهَبُ القَدَرِيَّةِ في خَلْقِ الأعْمالِ. انْتَهى. وفي الحَدِيثِ السُّؤالُ عَنْ كَيْفِيَّةِ هَذا الشَّرْحِ، وأنَّهُ إذا وقَعَ النُّورُ في القَلْبِ انْشَرَحَ الصَّدْرُ، وأمارَتُهُ الإنابَةُ إلى دارِ الخُلُودِ والتَّجافِي عَنْ دارِ الغُرُورِ، والِاسْتِعْدادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ الفَوْتِ. والضِّيقُ والحَرَجُ كِنايَةٌ عَنْ ضِدِّ الشَّرْحِ، واسْتِعارَةٌ لِعَدَمِ قَبُولِ الإيمانِ، والحَرِجُ الشَّدِيدُ الضِّيقِ، والضَّمِيرُ في (يَجْعَلْ) عائِدٌ عَلى (اللَّهُ)، ومَعْنى يَجْعَلُ يُصَيِّرُ لِأنَّ الإنْسانَ يُخْلَقُ أوَّلًا عَلى الفِطْرَةِ، وهي كَوْنُهُ مُهَيَّئًا لِما يُلْقى إلَيْهِ ولِما يُجْعَلُ فِيهِ، فَإذا أرادَ اللَّهُ إضْلالَهُ أضَلَّهُ وجَعَلَهُ لا يَقْبَلُ الإيمانَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (يَجْعَلْ) بِمَعْنى يَخْلُقُ، ويَنْتَصِبُ ﴿ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ عَلى الحالِ، أيْ: يَخْلُقُهُ عَلى هَذِهِ الهَيْئَةِ فَلا يَسْمَعُ الإيمانَ ولا يَقْبَلُهُ. ولِاعْتِزالِ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ ذَهَبَ إلى أنَّ (يَجْعَلْ) هُنا بِمَعْنى يُسَمِّي، قالَ: كَقَوْلِهِ: ﴿وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا﴾ [الزخرف: ١٩] قالَ: أيْ سَمُّوهم، أوْ بِمَعْنى يُحْكَمُ لَهُ بِالضِّيقِ، كَما تَقُولُ: هَذا يَجْعَلُ البَصْرَةَ مِصْرًا، أيْ: يَحْكُمُ لَها بِحُكْمِها فِرارًا مِن نِسْبَةِ خَلْقِ ذَلِكَ إلى اللَّهِ - تَعالى - أوْ تَصْيِيرُهُ وُجُوبًا عَلى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزالِيِّ. ونَحْوٌ مِنهُ في خُرُوجِ اللَّفْظِ عَنْ ظاهِرِهِ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: ﴿أنْ يَهْدِيَهُ﴾ أنْ يَلْطُفَ بِهِ، ولا يُرِيدُ أنْ يَلْطُفَ إلّا بِمَن لَهُ لُطْفٌ، ”يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإسْلامِ“: يَلْطُفْ بِهِ حَتّى يَرْغَبَ في الإسْلامِ وتَسْكُنَ (p-٢١٨)إلَيْهِ نَفْسُهُ ويُحِبَّ الدُّخُولَ فِيهِ، ﴿ومَن يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ﴾: أنْ يَخْذُلَهُ ويُخَلِّيَهُ وشَأْنَهُ، وهو الَّذِي لا لُطْفَ لَهُ، ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾: يَمْنَعُهُ ألْطافَهُ حَتّى يَقْسُوَ قَلْبُهُ ويَنْبُوَ عَنْ قَبُولِ الحَقِّ ويَنْسَدُّ فَلا يَدْخُلُهُ الإيمانُ. انْتَهى. وهَذا كُلُّهُ إخْراجُ اللَّفْظِ عَنْ ظاهِرِهِ وتَأْوِيلٌ عَلى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ، والجُمْلَةُ التَّشْبِيهِيَّةُ مَعْناها أنَّهُ كَما يُزاوِلُ أمْرًا غَيْرَ مُمْكِنٍ؛ لِأنَّ صُعُودَ السَّماءِ مَثَلٌ فِيما يَبْعُدُ ويَمْتَنِعُ مِن الِاسْتِطاعَةِ ويَضِيقُ عَلَيْهِ عِنْدَ المَقْدِرَةِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وهو قَرِيبٌ مِن تَأْوِيلِ ابْنِ جُرَيْجٍ وعَطاءٍ الخُراسانِيِّ والسُّدِّيِّ، قالُوا: أيْ كانَ هَذا الضَّيِّقُ الصَّدْرِ الحَرِجُ يُحاوِلُ الصُّعُودَ في السَّماءِ حَتّى حاوَلَ الإيمانَ أوْ فَكَّرَ فِيهِ، ويَجِدُ صُعُوبَتَهُ عَلَيْهِ كَصُعُوبَةِ الصُّعُودِ في السَّماءِ. انْتَهى. ولِامْتِناعِ ذَلِكَ عِنْدَهم حَكى اللَّهُ عَنْهم أنَّهُمُ اقْتَرَحُوا قَوْلَهم ”أوْ تَرْقى في السَّماءِ“ . وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: المَعْنى لا تَجِدُ مَسْلَكًا إلّا صَعَدًا مِن شِدَّةِ التَّضايُقِ، يُرِيدُ ضاقَتْ عَلَيْهِ الأرْضُ فَظَلَّ مُصْعِدًا إلى السَّماءِ. وقِيلَ: المَعْنى أنَّهُ عازِبُ الرَّأْيِ طائِرُ القَلْبِ في الهَواءِ كَما يَطِيرُ الشَّيْءُ الخَفِيفُ عِنْدَ عَصْفِ الرِّياحِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: (ضِيقًا) هُنا وفي الفُرْقانِ، فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مُخَفَّفًا مِن ضَيِّقٍ كَما قالُوا لِينٌ. وقالَ الكِسائِيُّ: الضَّيِّقُ بِالتَّشْدِيدِ في الأجْرامِ وبِالتَّخْفِيفِ في المَعانِي، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، قالُوا في مَصْدَرٍ ضاقَ ضَيْقٌ بِفَتْحِ الضّادِ وكَسْرِها بِمَعْنًى واحِدٍ، فَإمّا يَنْسُبُ إلى الصَّدْرِ عَلى المُبالَغَةِ، أوْ عَلى مَعْنى الإضافَةِ، أيْ: ذا ضِيقٍ، أوْ عَلى جَعْلِهِ مَجازًا عَنِ اسْمِ الفاعِلِ، وهَذا عَلى الأوْجُهِ الثَّلاثَةِ المَقُولَةِ في نَعْتِ الأجْرامِ بِالمَصادِرِ. وقَرَأ نافِعٌ وأبُو بَكْرٍ: (حَرَجًا) بِفَتْحِ الرّاءِ وهو مَصْدَرٌ، أيْ: ذا حَرَجٍ، أوْ جُعِلَ نَفْسَ الحَرَجِ، أوْ بِمَعْنى حَرِجَ بِكَسْرِ الرّاءِ، ورُوِيَتْ عَنْ عُمَرَ وقَرَأها لَهُ ثَمَّةَ بَعْضُ الصَّحابَةِ بِالكَسْرِ، فَقالَ: ابْغُونِي رَجُلًا مِن كِنانَةَ راعِيًا ولَكِنْ مَن بَنِيَ مُدْلِجٍ، فَلَمّا جاءَهُ قالَ: يا فَتى ما الحَرِجَةُ عِنْدَكم ؟ قالَ: الشَّجَرَةُ تَكُونُ بَيْنَ الأشْجارِ لا يَصِلُ إلَيْها راعِيَةً ولا وحْشِيَّةٌ، فَقالَ عُمَرُ: كَذَلِكَ قَلْبُ المُنافِقِ لا يَصِلُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الخَيْرِ. انْتَهى. وهَذا تَنْبِيهٌ - واللَّهُ أعْلَمُ - عَلى جِهَةِ اشْتِقاقِ الفِعْلِ مِن نَفْسِ العَيْنِ، كَقَوْلِهِمْ: اسْتَحْجَرَ واسْتَنْوَقَ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: (يَصْعَدُ) مُضارِعُ صَعِدَ. وقَرَأ أبُو بَكْرٍ: يَصّاعَدُ أصْلُهُ يَتَصاعَدُ فَأُدْغِمَ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: (يَصَّعَّدُ) بِتَشْدِيدِ الصّادِ والعَيْنِ، وأصْلُهُ يَتَصَعَّدُ، وبِهَذا قَرَأ عَبْدُ اللَّهِ وابْنُ مُصَرِّفٍ والأعْمَشُ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: ﴿كَأنَّما يَصَّعَّدُ﴾ مِن سُفْلٍ إلى عُلُوٍّ ولَمْ يُرِدِ السَّماءَ المُظِلَّةَ بِعَيْنِها، كَما قالَ سِيبَوَيْهِ: والقَيْدُودُ الطَّوِيلُ في غَيْرِ سَماءٍ، أيْ: في غَيْرِ ارْتِفاعٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ بِالصّاعِدِ في عَقَبَةٍ كَؤُودٍ كَأنَّهُ يَصْعَدُ بِها في الهَواءِ، ويَصْعَدُ مَعْناهُ يَعْلُو، ويَصَّعَّدُ مَعْناهُ يَتَكَلَّفُ مِن ذَلِكَ ما يَشُقُّ عَلَيْهِ، ومِنهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ: ما تَصَعَّدَنِي شَيْءٌ كَما تَصَعَّدَنِي خِطْبَةُ النِّكاحِ، ورُوِيَ: ما تَصَعَّدَنِي خِطْبَةٌ. ﴿كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ أيْ مِثْلَ ذَلِكَ الجَعْلِ جَعْلُهُ الصَّدْرَ ﴿ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ ويَبْعُدُ ما قالَهُ الزَّجّاجُ: أيْ مِثْلَ ما قَصَصْنا عَلَيْكَ (يَجْعَلُ) ومَعْنى يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ؛ يُلْقِي اللَّهُ أوْ يُصَيِّرُ اللَّهُ العَذابَ، والرِّجْسُ بِمَعْنى العَذابِ قالَهُ أهْلُ اللُّغَةِ. وتَعْدِيَةُ يَجْعَلُ بِعَلى يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ نُلْقِي كَما تَقُولُ: جَعَلْتُ مَتاعَكَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ وأنْ تَكُونَ بِمَعْنى يُصَيِّرُ و(عَلى) في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (يَجْعَلُ اللَّهُ) يَعْنِي الخِذْلانَ ومَنعَ التَّوْفِيقِ وصَفَهُ بِنَقِيضِ ما يُوصَفُ بِهِ التَّوْفِيقُ مِنَ الطِّيبِ أوْ أرادَ الفِعْلَ المُؤَدِّيَ إلى الرِّجْسِ وهو العَذابُ مِن الِارْتِجاسِ وهو الِاضْطِرابُ؛ انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقِهِ الِاعْتِزالِيِّ، ونَقِيضُ الطَّيِّبِ النَّتِنُ الرّائِحَةِ الكَرِيهَةِ، والرِّجْسُ والنَّجَسُ بِمَعْنًى واحِدٍ قالَهُ بَعْضُ أهْلِ الكُوفَةِ. وقالَ مُجاهِدٌ: الرِّجْسُ كُلُّ ما لا خَيْرَ فِيهِ. وقالَ عَطاءٌ وابْنُ زَيْدٍ وأبُو عُبَيْدَةَ: الرِّجْسُ العَذابُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. وقالَ الزَّجّاجُ: اللَّعْنَةُ في الدُّنْيا والعَذابُ في الآخِرَةِ، وقِيلَ: الرِّجْسُ السُّخْطُ. وقالَ إسْماعِيلُ الضَّرِيرُ: الرِّجْسُ التَّعْذِيبُ وأصْلُهُ النَّتِنُ النَّجِسُ وهو رَجاسَةُ الكُفْرِ. (p-٢١٩)﴿وهَذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا﴾ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: (وهَذا) إلى القُرْآنِ والشَّرْعِ الَّذِي جاءَ بِهِ الرَّسُولُ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوِ القُرْآنِ قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، أوِ التَّوْحِيدِ قالَهُ بَعْضُهم، أوْ ما قَرَّرَهُ في الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ في هَذِهِ الآيَةِ وفي غَيْرِها مِن سُبُلِ الهُدى وسُبُلِ الضَّلالَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (وهَذا صِراطُ رَبِّكَ) طَرِيقُهُ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الحِكْمَةُ وعادَتُهُ في التَّوْفِيقِ والخِذْلانِ ونَحْوٌ مِنهُ قَوْلُ إسْماعِيلَ الضَّرِيرِ يَعْنِي هَذا صُنْعُ رَبِّكَ وهَذا إشارَةٌ إلى الهُدى والضَّلالِ، وأُضِيفَ الصِّراطُ إلى الرَّبِّ عَلى جِهَةِ أنَّهُ مِن عِنْدِهِ وبِأمْرِهِ ﴿مُسْتَقِيمًا﴾ لا عِوَجَ فِيهِ وانْتَصَبَ ﴿مُسْتَقِيمًا﴾ عَلى أنَّهُ حالٌ مُؤَكِّدَةٌ. ﴿قَدْ فَصَّلْنا الآياتِ﴾ أيْ بَيَّنّاها ولَمْ نَتْرُكْ فِيها إجْمالًا ولا التِباسًا. ﴿لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ يَتَدَبَّرُونَ بِعُقُولِهِمْ وكَأنَّ الآياتِ كانَتْ شَيْئًا غائِبًا عَنْهم لَمْ يَذْكُرُوها فَلَمّا فُصِّلَتْ تَذَكَّرُوها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب