الباحث القرآني

﴿فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ ذُكِرَ أنَّ السَّبَبَ في نُزُولِها أنَّهم قالُوا لِلرَّسُولِ: «مَن قَتَلَ الشّاةَ الَّتِي ماتَتْ ؟ قالَ: ”اللَّهُ“، قالُوا: فَتَزْعُمُ أنَّ ما قَتَلْتَ أنْتَ وأصْحابُكَ وما قَتَلَهُ الصَّقْرُ والكَلْبُ حَلالٌ، وما قَتَلَهُ اللَّهُ حَرامٌ» . «وقالَ عِكْرِمَةُ: لَمّا أُنْزِلَ تَحْرِيمُ المَيْتَةِ كَتَبَ مَجُوسُ فارِسَ إلى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وكانُوا أوْلِياءَهم في الجاهِلِيَّةِ وبَيْنَهم مُكاتَبَةٌ: إنَّ مُحَمَّدًا وأصْحابَهُ يَزْعُمُونَ أنَّهم يَتَّبِعُونَ أمْرَ اللَّهِ، ثُمَّ يَزْعُمُونَ أنَّ ما ذَبَحُوا فَهو حَلالٌ، وما ذَبَحَ اللَّهُ فَهو حَرامٌ، فَوَقَعَ (p-٢١١)فِي أنْفُسِ ناسٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿ولا تَأْكُلُوا مِمّا﴾ [الأنعام: ١٢١]»، ولَمّا تَضَمَّنَتِ الآيَةُ الَّتِي قَبْلَها الإنْكارَ عَلى اتِّباعِ المُضِلِّينَ الَّذِينَ يُحِلُّونَ الحَرامَ ويُحَرِّمُونَ الحَلالَ، وكانُوا يُسَمُّونَ في كَثِيرٍ مِمّا يُذَكِّرُونَهُ اسْمَ آلِهَتِهِمْ، أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِأكْلِ ما سُمِّيَ عَلى ذَكاتِهِ اسْمُ اللَّهِ لا غَيْرِهِ مِن آلِهَتِهِمْ أمْرَ إباحَةٍ، وما ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَهو المُذَكّى لا ما ماتَ حَتْفَ أنْفِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَكُلُوا) مُتَسَبِّبٌ عَنْ إنْكارِ اتِّباعِ المُضِلِّينَ، وعُلِّقَ أكْلُ ما سُمِّيَ اللَّهُ عَلى ذَكاتِهِ بِالإيمانِ، كَما تَقُولُ: أطِعْنِي إنْ كُنْتَ ابْنِي، أيْ: أنْتُمْ مُؤْمِنُونَ فَلا تُخالِفُوا أمْرَ اللَّهِ وهو حَثٌّ عَلى أكْلِ ما أحَلَّ وتَرْكِ ما حَرَّمَ. ﴿وما لَكَمَ ألا تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وقَدْ فَصَّلَ لَكم ما حَرَّمَ عَلَيْكم إلّا ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ﴾ أيْ: وأيُّ غَرَضٍ لَكم في الِامْتِناعِ مِن أكْلِ ما ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ؟ وهو اسْتِفْهامٌ يَتَضَمَّنُ الإنْكارَ عَلى مَنِ امْتَنَعَ مِن ذَلِكَ، أيْ: لا شَيْءَ يَمْنَعُ مِن ذَلِكَ، ﴿وقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ﴾ في هَذِهِ السُّورَةِ لِأنَّها - عَلى ما نُقِلَ - مَكِّيَّةٌ، ونَزَلَتْ في مَرَّةٍ واحِدَةٍ، فَلا يُناسِبُ أنْ تَكُونَ ﴿وقَدْ فَصَّلَ﴾ راجِعًا إلى تَفْصِيلِ البَقَرَةِ والمائِدَةِ لِتَأْخِيرِهِما في النُّزُولِ عَنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿وقَدْ فَصَّلَ لَكم ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ مِمّا لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْكم، وهو قَوْلُهُ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣] . انْتَهى. وذَكَرْنا أنَّ تَفْصِيلَ التَّحْرِيمِ بِما في البَقَرَةِ والمائِدَةِ لا يُناسِبُ، ودَعْوى زِيادَةِ (لا) هُنا لا حاجَةَ إلَيْها، والمَعْنى عَلى كَوْنِها نافِيَةً صَحِيحٌ واضِحٌ، و﴿ألّا تَأْكُلُوا﴾ أصْلُهُ: في أنْ لا تَأْكُلُوا، فَحَذَفَ (في) المُتَعَلِّقَةَ بِما تَعَلَّقَ بِهِ (لَكُمُ) الواقِعُ خَبَرًا لِما الِاسْتِفْهامِيَّةِ، ونَفْيُ ﴿ألّا تَأْكُلُوا﴾، عَلى الخِلافِ أهْوَ مَنصُوبٌ أوْ مَجْرُورٌ، ومَن ذَهَبَ إلى أُنَّ ﴿ألّا تَأْكُلُوا﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: تارِكِينَ الأكْلَ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ (أنْ) ومَعْمُولَها لا يَقَعُ حالًا، وهَذا مَنصُوصٌ عَلَيْهِ مِن سِيبَوَيْهِ، ولا نَعْلَمُ مُخالِفًا لَهُ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ، ولَهُ عِلَّةٌ مَذْكُورَةٌ في النَّحْوِ، والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وقَدْ فَصَّلَ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ. وقَرَأ العَرَبِيّانِ وابْنُ كَثِيرٍ: (فُصِّلَ) و(حُرِّمَ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، ونافِعٌ وحَفْصٌ: (فَصَّلَ) و(حَرَّمَ) عَلى بِنائِهِما لِلْفاعِلِ، والأخَوانِ وأبُو بَكْرٍ: (فَصَّلَ) مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ و(حُرِّمَ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وعَطِيَّةُ كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ خَفَّفَ الصّادَ، والمَعْنى: ﴿إلّا ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ﴾ مِن ﴿ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ في حالَةِ الِاخْتِيارِ فَإنَّهُ حَلالٌ لَكم في حالَةِ الِاضْطِرارِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وما يُرِيدُ بِها جَمِيعُ ما حَرَّمَ كالمَيْتَةِ وغَيْرِها، قالَ هو والحَوْفِيُّ، وهي في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالِاسْتِثْناءِ، أوِ الِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعٌ. وقالَ أبُو البَقاءِ: (ما) في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الِاسْتِثْناءِ مِنَ الجِنْسِ مِن طَرِيقِ المَعْنى، كَأنَّهُ وبَّخَهم بِتَرْكِ الأكْلِ مِمّا سُمِّيَ عَلَيْهِ، وذَلِكَ يَتَضَمَّنُ إباحَةَ الأكْلِ مُطْلَقًا. ﴿وإنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أيْ: وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الكُفّارِ المُجادِلِينَ في المَطاعِمِ وغَيْرِها لَيُضِلُّونَ بِالتَّحْرِيمِ والتَّحْلِيلِ وبِأهْوائِهِمْ وشَهَواتِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أيْ: بِغَيْرِ شَرْعٍ مِنَ اللَّهِ بَلْ بِمُجَرَّدِ أهْوائِهِمْ، كَعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ ومَن دُونَهُ مِنَ المُشْرِكِينَ كَأبِي الأحْوَصِ بْنِ مالِكٍ الجَشْمِيِّ وبُدَيْلِ بْنِ ورْقاءَ الخُزاعِيِّ وحُلَيْسِ بْنِ يَزِيدَ القُرَشِيِّ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا البَحائِرَ والسَّوائِبَ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو: (لَيَضِلُّونِ) بِفَتْحِ الياءِ هُنا، وفي يُونُسَ ﴿رَبَّنا لِيَضِلُّوا﴾ [يونس: ٨٨]، وفي إبْراهِيمَ ﴿أنْدادًا لِيَضِلُّوا﴾ [إبراهيم: ٣٠]، وفي الحَجِّ ﴿ثانِيَ عِطْفِهِ لِيَضِلَّ﴾ [الحج: ٩]، وفي لُقْمانَ ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [لقمان: ٦]، وفي الزُّمَرِ ﴿أنْدادًا لِيَضِلَّ﴾ [الزمر: ٨]، وضَمَّها الكُوفِيُّونَ في السِّتَّةِ، وافَقَهُمُ الصّاحِبانِ، إلّا في يُونُسَ وهُنا فَفَتَحَ. ﴿إنَّ رَبَّكَ هو أعْلَمُ بِالمُعْتَدِينَ﴾ أيْ: بِالمُجاوِزِينَ (p-٢١٢)الحَدَّ في الِاعْتِداءِ فَيُحَلِّلُونَ ويُحَرَّمُونَ مِن غَيْرِ إذَنِ اللَّهِ، وهَذا إخْبارٌ يَتَضَمَّنُ الوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِمَنِ اعْتَدى، أيْ: فَيُجازِيهِمْ عَلى اعْتِدائِهِمْ. ﴿وذَرُوا ظاهِرَ الإثْمِ وباطِنَهُ﴾ (الإثْمُ) عامٌّ في جَمِيعِ المَعاصِي، لَمّا عَتَبَ عَلَيْهِمْ في تَرْكِ أكْلِ ما سُمِّيَ اللَّهُ عَلَيْهِ أُمِرُوا بِتَرْكِ (الإثْمِ) ما فُعِلَ ظاهِرًا وما فُعِلَ في خُفْيَةٍ، فَكَأنَّهُ قالَ: اتْرُكُوا المَعاصِيَ ظاهِرَها وباطِنَها، قالَهُ أبُو العالِيَةِ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ وعَطاءُ وابْنُ الأنْبارِيِّ والزَّجّاجُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ظاهِرُهُ الزِّنا. وقالَ السُّدِّيُّ: الزِّنا الشَّهِيرُ الَّذِي كانَتِ العَرَبُ تَفْعَلُهُ وباطِنُهُ اتِّخاذُ الأخْدانِ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ظاهِرُهُ ما نَصَّ اللَّهُ عَلى تَحْرِيمِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] الآيَةَ، ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ﴾ [النساء: ٢٢] الآيَةَ. والباطِنُ الزِّنا. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: ظاهِرُهُ نَزْعُ أثْوابِهِمْ إذْ كانُوا يَطُوفُونَ بِالبَيْتِ عُراةً، وباطِنُهُ الزِّنا. وقِيلَ: ظاهِرُهُ عَمَلُ الجَوارِحِ وباطِنُهُ عَمَلُ القَلْبِ مِنَ الكِبْرِ والحَسَدِ والعُجْبِ وسُوءِ الِاعْتِقادِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن مَعاصِي القَلْبِ. وقِيلَ: ظاهِرُهُ الخَمْرُ وباطِنُهُ النَّبِيذُ، وقالَ مُجاهِدٌ أيْضًا: ظاهِرُهُ الزِّنا وباطِنُهُ ما نَواهُ. وقالَ الماتُرِيدِيُّ: الألْيَقُ أنْ يُحْمَلَ ﴿ظاهِرَ الإثْمِ وباطِنَهُ﴾ عَلى أكْلِ المَيْتَةِ وما لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وقالَ مُقاتِلٌ: (الإثْمُ) هُنا الشِّرْكُ، وقالَ غَيْرُهُ: جَمِيعُ الذُّنُوبِ سِوى الشِّرْكِ، وكُلُّ هَذِهِ الأقْوالِ تَخْصِيصاتٌ لا دَلِيلَ عَلَيْها، والظّاهِرُ العُمُومُ في المَعاصِي كُلِّها مِنَ الشِّرْكِ وغَيْرِهِ، ظاهِرِها وخَفِيِّها، ويَدْخُلُ في هَذا العُمُومِ كُلُّ ما ذَكَرُوهُ. ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ﴾ أيْ: يَكْسِبُونَ الإثْمَ في الدُّنْيا سَيُجْزَوْنَ في الآخِرَةِ، وهَذا وعِيدٌ وتَهْدِيدٌ لِلْعُصاةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب