الباحث القرآني

﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم لا إلَهَ إلّا هو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعْبُدُوهُ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ﴾ [الأنعام: ١٠٢] أيْ: (ذَلِكُمُ) المَوْصُوفُ بِتِلْكَ الأوْصافِ السّابِقَةِ مِن كَوْنِهِ بَدِيعًا لَمْ يَتَّخِذْ صاحِبَةً ولا ولَدًا خالِقَ المَوْجُوداتِ عالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ هو اللَّهُ، بَدَأ بِالِاسْمِ العَلَمِ ثُمَّ قالَ: (رَبُّكم): أيْ مالِكُكم والنّاظِرُ في مَصالِحِكم، ثُمَّ حَصَرَ الأُلُوهِيَّةَ فِيهِ، ثُمَّ كَرَّرَ وصْفَ خَلْقِهِ ﴿كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٠٢] ثُمَّ أمَرَ بِعِبادَتِهِ؛ لِأنَّ مَنِ اسْتَجْمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الصِّفاتُ كانَ جَدِيرًا بِالعِبادَةِ وأنْ يُفْرَدَ بِها فَلا يُتَّخَذَ مَعَهُ شَرِيكٌ، ثُمَّ أخْبَرَ أنَّهُ مَعَ تِلْكَ الصِّفاتِ السّابِقَةِ الَّتِي مِنها خَلْقُ كُلِّ شَيْءٍ وهو المالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الأرْزاقِ والآجالِ رَقِيبٌ عَلى الأعْمالِ. ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ وهو يُدْرِكُ الأبْصارَ﴾ الإدْراكُ قِيلَ: مَعْناهُ الإحاطَةُ بِالشَّيْءِ، وبِذَلِكَ فَسَّرَهُ هُنا ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ وعَطِيَّةُ العَوْفِيُّ وابْنُ المُسَيِّبِ والزَّجّاجُ، قالَ ابْنُ المُسَيِّبِ: لا تُحِيطُ بِهِ الأبْصارُ، وقالَ الزَّجّاجُ: لا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ، والإدْراكُ يَتَضَمَّنُ الإحاطَةَ بِالشَّيْءِ والوُصُولَ إلى أعْماقِهِ وحَوْزَهُ مِن جَمِيعِ جِهاتِهِ، أوْ كَنّى بِالأبْصارِ عَنِ الأشْخاصِ لِأنَّ بِها تُدْرِكُ الأشْخاصُ الأشْياءَ، وكانَ المَعْنى: لا تُدْرِكُهُ الخَلْقُ وهو يُدْرِكُهم، أوْ يَكُونُ المَعْنى إبْصارَ القَلْبِ أيْ لا تُدْرِكُهُ عُلُومُ الخَلْقِ وهو يُدْرِكُ عُلُومَهم وذَواتَهم؛ لِأنَّهُ غَيْرُ مُحاطٍ بِهِ، وهو عَلى هَذا مُسْتَحِيلٌ عَلى اللَّهِ عِنْدَ المُسْلِمِينَ، ولا تُنافِي الرُّؤْيَةُ انْتِفاءَ الإدْراكِ، وقِيلَ: الإدْراكُ هُنا الرُّؤْيَةُ، وهي مُخْتَلَفٌ فِيها بَيْنَ المُسْلِمِينَ، فالمُعْتَزِلَةُ يُحِيلُونَها، وأهْلُ السُّنَّةِ يُجَوِّزُونَها عَقْلًا ويَقُولُونَ: هي واقِعَةٌ سَمْعًا، وهَذِهِ مَسْألَةٌ يُبْحَثُ عَنْها في عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ، وفِيهِ ذِكْرُ دَلائِلِ الفَرِيقَيْنِ مُسْتَوْفاةٌ، وقَدْ رَأيْتُ فِيها لِأبِي جَعْفَرٍ الطُّوسِيِّ، وهو مِن عُقَلاءِ الإمامِيَّةِ، سِفْرًا كَبِيرًا يَنْصُرُ فِيهِ مَقالَةَ أصْحابِهِ نُفاةِ الرُّؤْيَةِ، وقَدِ اسْتَدَلَّ نُفاةُ الرُّؤْيَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ لِمَذْهَبِهِمْ، وأُجِيبُوا بِأنَّ الإدْراكَ غَيْرُ الرُّؤْيَةِ، وعَلى تَسْلِيمٍ أنَّ الإدْراكَ هو الرُّؤْيَةُ فالأبْصارُ مَخْصُوصَةٌ أيْ: أبْصارُ الكُفّارِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرَهم أوْ لا تُدْرِكُهُ في الدُّنْيا، قالَ الماتُرِيدِيُّ: والبَصَرُ هو الجَوْهَرُ اللَّطِيفُ الَّذِي رَكَّبَهُ اللَّهُ - تَعالى - في حاسَّةِ النَّظَرِ، بِهِ تُدْرَكُ المُبْصَراتُ، وفي قَوْلِهِ: ﴿وهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الإدْراكَ لا يُرادُ بِهِ هُنا مُجَرَّدُ (p-١٩٦)الرُّؤْيَةِ، إذْ لَوْ كانَ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعالى بِذَلِكَ اخْتِصاصٌ ولا تَمَدُّحٌ؛ لِأنّا نَحْنُ نَرى الأبْصارَ فَدَلَّ عَلى أنَّ مَعْنى الإدْراكِ الإحاطَةُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، فَهو تَعالى لا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ الأبْصارُ وهو مُحِيطٌ بِحَقِيقَتِها، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والمَعْنى أنَّ الأبْصارَ لا تَتَعَلَّقُ بِهِ ولا تُدْرِكُهُ؛ لِأنَّهُ مُتَعالٍ أنْ يَكُونَ مُبْصِرًا في ذاتِهِ؛ لِأنَّ الأبْصارَ إنَّما تَتَعَلَّقُ بِما كانَ في جِهَةٍ أصْلًا أوْ تابِعًا كالأجْسامِ والهَيْئاتِ، ﴿وهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ﴾، وهو لِلُطْفِ إدْراكِهِ لِلْمُدْرَكاتِ يُدْرِكُ تِلْكَ الجَواهِرَ اللَّطِيفَةَ الَّتِي لا يُدْرِكُها مُدْرِكٌ. ﴿وهو اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾ يَلْطُفُ عَنْ أنْ تُدْرِكَهُ الأبْصارُ، الخَبِيرُ بِكُلِّ لَطِيفٍ ﴿وهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ﴾، لا تَلْطُفُ عَنْ إدْراكِهِ، وهَذا مِن بابِ اللَّفِّ. انْتَهى. وهو عَلى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزالِيِّ. وتَظافَرَتِ الأخْبارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِرُؤْيَةِ المُؤْمِنِينَ اللَّهَ في الآخِرَةِ، وقَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في الدُّنْيا بِبَصَرِهِ لَيْلَةَ المِعْراجِ ؟ فَذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ المُحَدِّثِينَ والفُقَهاءِ والمُتَكَلِّمِينَ إلى إنْكارِ ذَلِكَ، قالَتْ عائِشَةُ وابْنُ مَسْعُودٍ وأبُو هُرَيْرَةَ عَلى خِلافٍ عَنْهُما بِذَلِكَ، وذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ وكَعْبٌ والحَسَنُ وعِكْرِمَةُ وأحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وأبُو الحَسَنِ الأشْعَرِيُّ وجَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ إلى أنَّهُ رَآهُ بِبَصَرِهِ وعَيْنَيْ رَأْسِهِ، ورَوِيَ هَذا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وأبِي هُرَيْرَةَ، والأوَّلُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أشْهَرُ، وقِيلَ: ﴿وهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ﴾ مَعْناهُ: لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وخَصَّ الأبْصارَ لِتَجْنِيسِ الكَلامِ يَعْنِي المُقابَلَةَ، وقالَ الزَّجّاجُ: في هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ الخَلْقَ لا يُدْرِكُونَ الأبْصارَ أيْ لا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ حَقِيقَةِ البَصَرِ الَّذِي صارَ بِهِ الإنْسانُ مُبْصِرًا مِن عَيْنَيْهِ دُونَ أنْ يُبْصِرَ مِن غَيْرِهِما مِن سائِرِ أعْضائِهِ. ﴿وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾، قالَ أبُو العالِيَةِ: لَطِيفٌ بِاسْتِخْراجِ الأشْياءِ، خَبِيرٌ بِأماكِنِها. ﴿قَدْ جاءَكم بَصائِرٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ هَذا وارِدٌ عَلى لِسانِ الرَّسُولِ لِقَوْلِهِ آخِرَهُ: ﴿وما أنا عَلَيْكم بِحَفِيظٍ﴾، والبَصِيرَةُ نُورُ القَلْبِ الَّذِي يُسْتَبْصَرُ بِهِ، كَما أنَّ البَصَرَ نُورُ العَيْنِ الَّذِي بِهِ تُبْصِرُ، أيْ: جاءَكم مِنَ الوَحْيِ والتَّنْبِيهِ بِما يَجُوزُ عَلى اللَّهِ - تَعالى - وما لا يَجُوزُ ما هو لِلْقُلُوبِ كالبَصائِرِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: البَصِيرَةُ هي ما يَنْقُبُ عَنْ تَحْصِيلِ العَقْلِ لِلْأشْياءِ المَنظُورِ فِيها بِالِاعْتِبارِ، فَكَأنَّهُ قالَ: قَدْ جاءَكم في القُرْآنِ والآياتِ طَرائِقُ إبْصارِ الحَقِّ والمُعِينَةِ عَلَيْهِ، والبَصِيرَةُ لِلْقَلْبِ مُسْتَعارَةٌ مِن إبْصارِ العَيْنِ، وقالَ الحَوْفِيُّ: البَصِيرَةُ الحُجَّةُ البَيِّنَةُ الظّاهِرَةُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿أدْعُو إلى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ﴾ [يوسف: ١٠٨]، ﴿بَلِ الإنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة: ١٤]، وقالَ الكَلْبِيُّ: البَصائِرُ آياتُ القُرْآنِ الَّتِي فِيها الإيضاحُ والبَيِّناتُ والتَّنْبِيهُ عَلى ما يَجُوزُ عَلَيْهِ وعَلى ما يَسْتَحِيلُ، وإسْنادُ المَجِيءِ إلى البَصائِرِ مَجازٌ لِتَفْخِيمِ شَأْنِها، إذْ كانَتْ بِمَنزِلَةِ الغائِبِ المُتَوَقَّعِ حُضُورُهُ، كَما يُقالُ: جاءَتِ العافِيَةُ. ﴿فَمَن أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ﴾ أيْ: فالإبْصارُ لِنَفْسِهِ، أيْ: نَفْعُهُ وثَمَرَتُهُ. ﴿ومَن عَمِيَ فَعَلَيْها﴾ أيْ: فالعَمى عَلَيْها، أيْ: فَجَدْوى العَمى عائِدٌ عَلى نَفْسِهِ، والإبْصارُ والعَمى كِنايَتانِ عَنِ الهُدى والضَّلالِ، والمَعْنى: أنَّ ثَمَرَةَ الهُدى والضَّلالِ إنَّما هي لِلْمُهْتَدِي والضّالِّ لِأنَّهُ تَعالى غَنِيٌّ عَنْ خَلْقِهِ، وهي مِنَ الكِناياتِ الحَسَنَةِ، لَمّا ذَكَرَ البَصائِرَ أعْقَبَها تَعالى بِالإبْصارِ والعَمى، وهَذِهِ مُطابَقَةٌ، وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿فَمَن أبْصَرَ﴾ الحَقَّ وآمَنَ (فَلِنَفْسِهِ) أبْصَرَ وإيّاها نَفَعَ، ﴿ومَن عَمِيَ﴾ عَنْهُ فَعَلى نَفْسِهِ عَمِيَ، والَّذِي قَدَّرْناهُ مِنَ المَصْدَرِ أوْلى وهو فالإبْصارُ والعَمى لِوَجْهَيْنِ، أحَدُهُما أنَّ المَحْذُوفَ يَكُونُ مُفْرَدًا لا جُمْلَةً، ويَكُونُ الجارُّ والمَجْرُورُ عُمْدَةً لا فَضْلَةً، وفي تَقْدِيرِهِ هو: المَحْذُوفُ جُمْلَةٌ والجارُّ والمَجْرُورُ فَضْلَةٌ، والثّانِي وهو أقْوى، وذَلِكَ أنَّهُ لَوْ كانَ التَّقْدِيرُ فِعْلًا لَمْ تَدْخُلِ الفاءُ سَواءٌ كانَتْ (مَن) شَرْطًا أمْ مَوْصُولَةً مُشَبَّهَةً (p-١٩٧)بِالشَّرْطِ؛ لِأنَّ الفِعْلَ الماضِيَ إذا لَمْ يَكُنْ دُعاءً ولا جامِدًا ووَقَعَ جَوابَ شَرْطٍ أوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُشَبَّهٍ بِاسْمِ الشَّرْطِ لَمْ تَدْخُلِ الفاءُ في جَوابِ الشَّرْطِ ولا في خَبَرِ المُبْتَدَأِ، لَوْ قُلْتُ: مَن جاءَنِي فَأكْرَمْتُهُ، لَمْ يَجُزْ بِخِلافِ تَقْدِيرِنا، فَإنَّهُ لا بُدَّ فِيهِ مِنَ الفاءِ، ولا يَجُوزُ حَذْفُها إلّا في الشِّعْرِ، وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: البَصِيرَةُ اسْمُ الإدْراكِ التّامِّ الحاصِلِ في القَلْبِ، والآياتُ المُتَقَدِّمَةُ لَيْسَتْ في أنْفُسِها بَصائِرَ، إلّا أنَّها لِقُوَّتِها وجَلائِها تُوجِبُ البَصائِرَ لِمَن عَرَفَها، فَلَمّا كانَتْ أسْبابًا لِحُصُولِ البَصائِرِ سُمِّيَتْ بَصائِرَ. ﴿وما أنا عَلَيْكم بِحَفِيظٍ﴾ أيْ: بِرَقِيبٍ أحْصُرُ أعْمالَكم، أوْ بِوَكِيلٍ آخُذُكم بِالإيمانِ، أوْ بِحافِظِكم مِن عَذابِ اللَّهِ، أوْ بِرَبٍّ أُجازِيكم، أوْ بِشاهِدٍ، أقْوالٌ، رابِعُها لِلْحَسَنِ وخامِسُها لِلزَّجّاجِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (بِحَفِيظٍ) أحْفَظُ أعْمالَكم وأُجازِيكم عَلَيْها، إنَّما أنا مُنْذِرٌ واللَّهُ هو الحَفِيظُ عَلَيْكم. انْتَهى. وهو بَسْطُ قَوْلِ الحَسَنِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كانَ قَبْلَ ظُهُورِ الإسْلامِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كانَ حَفِيظًا عَلى العالَمِ آخِذًا لَهم بِالإسْلامِ والسَّيْفِ. ﴿وكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ﴾ أيْ: ومِثْلَ ما بَيَّنّا تِلْكَ الآياتِ الَّتِي هي بَصائِرُ وصَرَّفْناها نُصَرِّفُ الآياتِ ونَرْدُدُها عَلى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. ﴿ولِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ يَعْنِي أهْلُ مَكَّةَ حِينَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو: دارَسْتَ، أيْ: دارَسْتَ يا مُحَمَّدُ غَيْرَكَ في هَذِهِ الأشْياءِ، أيْ: قارَأْتَهُ وناظَرْتَهُ، إشارَةً مِنهم إلى سَلْمانَ وغَيْرِهِ مِنَ الأعاجِمِ واليَهُودِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وجَماعَةٌ مِن غَيْرِ السَّبْعَةِ: (دَرَسَتْ) مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ مُضْمَرًا فِيهِ، أيْ: دَرَسَتِ الآياتُ، أيْ: تَرَدَّدَتْ عَلى أسْماعِهِمْ حَتّى بَلِيَتْ وقَدِمَتْ في نُفُوسِهِمْ وأمْحَتْ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: (دَرَسْتَ) يا مُحَمَّدُ في الكُتُبِ القَدِيمَةِ ما تَجِيئُنا بِهِ، كَما قالُوا: ﴿أساطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَها﴾ [الفرقان: ٥]، وقالَ الضَّحّاكُ: (دَرَسْتَ): قَرَأْتَ وتَعَلَّمْتَ مِن أبِي فَكِيهَةَ وجَبْرٍ ويَسارٍ، وقُرِئَ: (دَرَّسْتَ) بِالتَّشْدِيدِ والخِطابِ، أيْ: دَرَّسْتَ الكُتُبَ القَدِيمَةَ، وقُرِئَ: دُرِّسْتَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ المُخاطَبِ، وقُرِئَ: (دُورِسْتَ) بِالتَّخْفِيفِ والواوِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، والواوُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الألْفِ في دارَسْتَ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: دارَسْتَ، أيْ: دارَسَتْكَ الجَماعَةُ الَّذِينَ تَتَعَلَّمُ مِنهم، وجازَ الإضْمارُ؛ لِأنَّ الشُّهْرَةَ بِالدِّراسَةِ كانَتْ لِلْيَهُودِ عِنْدَهم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الفِعْلُ لِلْآياتِ وهو لِأهْلِها أيْ: دارَسَ أهْلَ الآياتِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: (دُرِسَتْ) بِضَمِّ الرّاءِ مُسْنَدًا إلى غائِبٍ، مُبالَغَةً في دَرَسَتْ أيِ: اشْتَدَّ دُرُوسُها وبِلاها، وقَرَأ قَتادَةُ والحَسَنُ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (دُرِسَتْ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وفِيهِ ضَمِيرُ الآياتِ غائِبًا، وهي قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ بِخِلافٍ عَنْهُ، قالَ أبُو الفَتْحِ: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ عُفِيَتْ أوْ تُلِيَتْ، وكَذا قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، قالَ: بِمَعْنى قُرِئَتْ أوْ عُفِيَتْ، أمّا بِمَعْنى قُرِئَتْ فَظاهِرٌ لِأنَّ دَرَسَ بِمَعْنى كَرَّرَ القِراءَةَ مُتَعَدٍّ، وأمّا دَرَسَ بِمَعْنى بَلِيَ وأُمْحِيَ فَلا أحْفَظُهُ مُتَعَدِّيًا، وما وجَدْناهُ في أشْعارِ مِن وقَفْنا عَلى شِعْرِهِ مِنَ العَرَبِ إلّا لازَما، وقَرَأ أُبَيٌّ: دَرَسَ أيْ مُحَمَّدٌ أوِ الكِتابُ، وهي مُصْحَفُ عَبْدِ اللَّهِ، ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ: دَرَسْنَ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ مُسْنَدًا إلى النُّونِ أيْ دَرَسَ الآياتُ، وكَذا هي في بَعْضِ مَصاحِفِ عَبْدِ اللَّهِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: دَرَّسْنَ بِتَشْدِيدِ الرّاءِ مُبالَغَةً في دَرَسْنَ، وقُرِئَ: دارِساتٌ أيْ هي قَدِيماتٌ أوْ ذاتُ دَرْسٍ كَعِيشَةٍ راضِيَةٍ، فَهَذِهِ ثَلاثَ عَشْرَ قِراءَةً في هَذِهِ الكَلِمَةِ. وقَرَأتْ طائِفَةٌ: (ولْيَقُولُوا) بِسُكُونِ اللّامِ عَلى جِهَةِ الأمْرِ المُتَضَمِّنِ لِلتَّوْبِيخِ والوَعِيدِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ بِكَسْرِها، وقالُوا: هَذِهِ اللّامُ هي الَّتِي تُضْمَرُ أنْ بَعْدَها، والفِعْلُ مَنصُوبٌ بِأنِ المُضْمَرَةِ. (p-١٩٨)قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلى أنَّها لامُ كَيْ، وهي عَلى هَذا لامُ الصَّيْرُورَةِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهم عَدُوًّا وحَزَنًا﴾ [القصص: ٨] أيْ: لِما صارَ أمْرُهم إلى ذَلِكَ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (ولِيَقُولُوا) جَوابُهُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: ولِيَقُولُوا دارَسْتَ تَصَرُّفَها، (فَإنْ قُلْتَ): أيُّ فَرْقٍ بَيْنَ اللّامَيْنِ في (لِيَقُولُوا) و(لِنُبَيِّنَهُ) ؟ (قُلْتُ): الفَرْقُ بَيْنَهُما أنَّ الأُولى مَجازٌ والثّانِيَةَ حَقِيقَةٌ، وذَلِكَ أنَّ الآياتِ صُرِّفَتْ لِلتَّبْيِينِ ولَمْ تُصَرَّفْ لِيَقُولُوا دارَسْتَ، ولَكِنَّهُ لِأنَّهُ حَصَلَ هَذا القَوْلُ بِتَصْرِيفِ الآياتِ كَما حَصَلَ التَّبْيِينُ شُبِّهَ بِهِ فَسِيقَ مَساقَهُ، وقِيلَ: (لِيَقُولُوا) كَما قِيلَ: (لِنُبَيِّنَهُ) . انْتَهى. وتَسْمِيَتُهُ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ قَوْلَهُ ”لِيَقُولُوا“ جَوابًا اصْطِلاحٌ غَرِيبٌ، ومِثْلُ هَذا لا يُسَمّى جَوابًا، لا تَقُولُ: في جِئْتُ مِن قَوْلِكَ: جِئْتُ لِتَقُومَ، أنَّهُ جَوابٌ، وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن تَخْرِيجِ (لِيَقُولُوا) عَلَيْهِ هو الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مَن أنْكَرَ لامَ الصَّيْرُورَةِ وهي الَّتِي تُسَمّى أيْضًا لامَ العاقِبَةِ والمَآلِ، وهو أنَّهُ لَمّا تَرَتَّبَ عَلى التِقاطِهِ كَوْنُهُ صارَ لَهم عَدُوًّا وحَزَنًا، جُعِلَ كَأنَّهُ عِلَّةٌ لِالتِقاطِهِ، فَهو عِلَّةٌ مَجازِيَّةٌ، وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: واللّامُ في (لِيَقُولُوا) عَلى قِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ ومَن وافَقَهُ بِمَعْنى لِئَلّا يَقُولُوا، أيْ: صُرِّفَ الآياتُ وأُحْكِمَتْ لِئَلّا يَقُولُوا هَذِهِ أساطِيرُ الأوَّلِينَ قَدِيمَةٌ قَدْ تُلِيَتْ وتَكَرَّرَتْ عَلى الأسْماعِ، واللّامُ عَلى سائِرِ القِراءاتِ لامُ الصَّيْرُورَةِ، وما أجازَهُ أبُو عَلِيٍّ مِن إضْمارِ لا بَعْدَ اللّامِ المُضْمَرِ بَعْدَها أنْ هو مَذْهَبٌ لِبَعْضِ الكُوفِيِّينَ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: لِئَلّا يَقُولُوا، كَما أضْمَرُوها بَعْدَ أنِ المُظْهِرَةِ في قَوْلِهِ: ”أنْ تَضِلُّوا“، ولا يُجِيزُ البَصْرِيُّونَ إضْمارَ لا إلّا في القَسَمِ عَلى ما تَبَيَّنَ فِيهِ، وقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهم عَلى أنَّ اللّامَ لامُ كَيْ حَقِيقَةً، فَقالَ: المَعْنى تَصْرِيفُ هَذِهِ الدَّلائِلِ حالًا بَعْدَ حالٍ لِيَقُولَ بَعْضُهم دارَسْتَ فَيَزْدادُوا كُفْرًا عَلى كُفْرٍ، وتَنْبِيهٌ لِبَعْضِهِمْ فَيَزْدادُوا إيمانًا عَلى إيمانٍ، ونَظِيرُهُ ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦]، ﴿وأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥]، ولا يَتَعَيَّنُ ما ذَكَرَهُ المُعْرِبُونَ والمُفَسِّرُونَ مِن أنَّ اللّامَ في (ولِيَقُولُوا) لامُ كَيْ أوْ لامُ الصَّيْرُورَةِ، بَلِ الظّاهِرُ أنَّها لامُ الأمْرِ، والفِعْلُ مَجْزُومٌ بِها لا مَنصُوبٌ بِإضْمارِ أنْ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ مَن سَكَّنَ اللّامَ، والمَعْنى عَلَيْهِ مُتَمَكِّنٌ، كَأنَّهُ قِيلَ: ومِثْلَ ذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ ولِيَقُولُوا هم ما يَقُولُونَ مِن كَوْنِكَ دَرَسْتَها وتَعَلَّمَتْها، أوْ دَرَسَتْ هي أيْ بَلِيَتْ وقَدُمَتْ، فَإنَّهُ لا يَحْفُلُ بِهِمْ ولا يَلْتَفِتُ إلى قَوْلِهِمْ، وهو أمْرٌ مَعْناهُ الوَعِيدُ بِالتَّهْدِيدِ وعَدَمِ الِاكْتِراثِ بِهِمْ وبِما يَقُولُونَ في الآياتِ، أيْ نُصَرِّفُها لِيَدَّعُوا فِيها ما شاءُوا فَلا اكْتِراثَ بِدَعْواهم. ﴿ولِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أيْ: نُصَرِّفُ الآياتِ، وأعادَ الضَّمِيرَ مُفْرَدًا، قالُوا: عَلى مَعْنى الآياتِ لِأنَّها القُرْآنُ، كَأنَّهُ قالَ: وكَذَلِكَ نُصَرِّفُ القُرْآنَ أوْ عَلى القُرْآنِ، ودَلَّ عَلَيْهِ الآياتُ أوْ دَرَسْتَ أوْ عَلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن (ولِنُبَيِّنَهُ) أيْ: ولِنُبَيِّنَ التَّبْيِينَ، كَما تَقُولُ: ضَرَبْتُهُ زَيْدًا، إذا أرَدْتَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَ زَيْدًا، أوْ عَلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مَن نُصَرِّفُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: (لِقَوْمٍ) يُرِيدُ أوْلِياءَ الَّذِينَ هَداهم إلى سَبِيلِ الرَّشادِ. ﴿اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ لا إلَهَ إلّا هو وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ أمَرَهُ تَعالى بِأنْ يَتَّبِعَ ما أُوحِيَ إلَيْهِ وبِأنْ يُعْرِضَ عَنْ مِن أشْرَكَ، والأمْرُ بِالإعْراضِ عَنْهم كانَ قَبْلَ نَسْخِهِ بِالقِتالِ والسَّوْقِ إلى الدِّينِ طَوْعًا أوْ كَرْهًا، والجُمْلَةُ بَيْنَ الأمْرَيْنِ اعْتِراضٌ أكَّدَ بِهِ وُجُوبَ اتِّباعِ المُوحى، أوْ في مَوْضِعِ الحالِ المُؤَكِّدَةِ. ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكُوا﴾ أيْ: إنَّ إشْراكَهم لَيْسَ في الحَقِيقَةِ بِمَشِيئَتِهِمْ وإنَّما هو بِمَشِيئَةِ اللَّهِ - تَعالى - وظاهِرُ الآيَةِ يَرُدُّ عَلى المُعْتَزِلَةِ ويَتَأوَّلُونَها عَلى مَشِيئَةِ القَسْرِ والإلْجاءِ. ﴿وما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ أيْ: رَقِيبًا تَحْفَظُهم مِنَ الإشْراكِ. ﴿وما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ أيْ: بِمُسَلَّطٍ عَلَيْهِمْ، والجُمْلَتانِ مُتَقارِبَتانِ في المَعْنى، إلّا أنَّ الأُولى فِيها نَفْيُ جَعْلِ الحِفْظِ مِنهُ تَعالى لَهُ عَلَيْهِمْ، والثّانِيَةُ فِيها نَفْيُ الوِكالَةِ عَلَيْهِمْ، والمَعْنى: أنّا لَمْ نُسَلِّطْكَ ولا أنْتَ في ذاتِكَ بِمُسَلَّطٍ، فَناسَبَ أنْ تُعْرِضَ عَنْهم إذْ لَسْتَ مَأْمُورًا مِنّا بِأنْ تَكُونَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ، ولا أنْتَ وكِيلٌ (p-١٩٩)عَلَيْهِمْ مِن تِلْقائِكَ. ﴿ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ «قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: سَبَبُها أنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ قالُوا لِأبِي طالِبٍ: إمّا أنْ يَنْتَهِيَ مُحَمَّدٌ وأصْحابُهُ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنا والغَضِّ مِنها، وإمّا أنْ نَسُبَّ إلَهَهُ ونَهْجُوَهُ، فَنَزَلَتْ» . وقِيلَ: قالُوا ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ: ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] . وقِيلَ: كانَ المُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ آلِهَتَهم فَنُهُوا لِئَلّا يَكُونَ سَبُّهم سَبَبًا لِسَبِّ اللَّهِ - تَعالى - وحُكْمُ هَذِهِ الآيَةَ باقٍ في هَذِهِ الأُمَّةِ، فَإذا كانَ الكافِرُ في مَنَعَةٍ، وخِيفَ أنْ يُسَبَّ الإسْلامُ أوِ الرَّسُولُ أوِ اللَّهُ، فَلا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ ذَمُّ دِينِ الكافِرِ ولا صَنَمِهِ ولا صَلِيبِهِ ولا يَتَعَرَّضُ إلى ما يُؤَدِّي إلى ذَلِكَ، ولَمّا أمَرَ تَعالى بِاتِّباعِ ما أُوحِيَ إلَيْهِ وبِمُوادَعَةِ المُشْرِكِينَ عَدَلَ عَنْ خِطابِهِ إلى خِطابِ المُؤْمِنِينَ، فَنُهُوا عَنْ سَبِّ أصْنامِ المُشْرِكِينَ، ولَمْ يُواجَهْ هو ﷺ بِالخِطابِ وإنْ كانَ هو الَّذِي سُبَّتِ الأصْنامُ عَلى لِسانِهِ، وأصْحابُهُ تابِعُونَ لَهُ في ذَلِكَ، لِما في مُواجَهَتِهِ وحْدَهُ بِالنَّهْيِ مِن خِلافِ ما كانَ عَلَيْهِ ﷺ مِنَ الأخْلاقِ الكَرِيمَةِ، إذْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ السَّلامُ فَحّاشًا ولا صَخّابًا ولا سَبّابًا، فَلِذَلِكَ جاءَ الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقِيلَ: ﴿ولا تَسُبُّوا﴾، ولَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ: ولا تَسُبَّ، كَما جاءَ (وأعْرِضْ)، وإذا كانَتِ الطّاعَةُ تُؤَدِّي إلى مَفْسَدَةٍ خَرَجَتْ عَنْ أنْ تَكُونَ طاعَةً، فَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْها كَما يُنْهى عَنِ المَعْصِيَةِ، و﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ هُمُ الأصْنامُ، أيْ: يَدْعُونَهُمُ المُشْرِكُونَ، وعَبَّرَ عَنِ الأصْنامِ وهي لا تَعْقِلُ بِالَّذِينِ كَما يُعَبَّرُ عَنِ العاقِلِ، عَلى مُعامَلَةِ ما لا يَعْقِلُ مُعامَلَةَ مَن يَعْقِلُ، إذْ كانُوا يُنْزِلُونَهم مَنزِلَةَ مَن يَعْقِلُ في عِبادَتِهِمْ واعْتِقادِهِمْ فِيهِمْ أنَّهم شُفَعاءُ لَهم عِنْدَ اللَّهِ - تَعالى - وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِـ ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ الكُفّارُ، وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿فَيَسُبُّوا اللَّهَ﴾ أنَّهم يُقْدِمُونَ عَلى سَبِّ اللَّهِ إذا سَبَّ آلِهَتَهم وإنْ كانُوا مُعْتَرِفِينَ بِاللَّهِ - تَعالى - لَكِنْ يَحْمِلُهم عَلى ذَلِكَ انْتِصارُهم لِآلِهَتِهِمْ وشَدَّةُ غَيْظِهِمْ لِأجْلِها، فَيَخْرُجُونَ عَنْ الِاعْتِدالِ إلى ما يُنافِي العَقْلَ، كَما يَقَعُ مِن بَعْضِ المُسْلِمِينَ إذا اشْتَدَّ غَضَبُهُ وانْحَرَفَ، فَإنَّهُ قَدْ يَلْفِظُ بِما يُؤَدِّي إلى الكُفْرِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِن ذَلِكَ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: رُبَّما كانَ بَعْضُهم قائِلًا بِالدَّهْرِ ونَفْيِ الصّانِعِ، فَكانَ يَأْتِي بِهَذا النَّوْعِ مِنَ الشَّناعَةِ، أوْ كانَ المُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ الأصْنامَ، وهم كانُوا يَسُبُّونَ الرَّسُولَ، فَأُجْرِيَ سَبُّ الرَّسُولِ مُجْرى سَبِّ اللَّهِ - تَعالى - كَما قالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح: ١٠]، وكَما قالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [الأحزاب: ٥٧]، أوْ كانَ بَعْضُ الكَفَرَةِ يَعْتَقِدُ أنْ شَيْطانًا يَحْمِلُ الرَّسُولَ عَلى ادِّعاءِ النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ، وكانُوا بِجَهْلِهِمْ يَشْتُمُونَ ذَلِكَ الشَّيْطانَ بِأنَّهُ إلَهُ مُحَمَّدٍ. انْتَهى. وهَذِهِ احْتِمالاتٌ مُخالِفَةٌ لِلظّاهِرِ، وإنَّما أوْرَدَها لِأنَّهُ ذَكَرَ أنَّ المُعْتَرِفِينَ بِوُجُودِ الصّانِعِ لا يَجْسُرُونَ أنْ يُقْدِمُوا عَلى سَبِّهِ تَعالى، وقَدْ ذَكَرْنا ما يُحْمَلُ عَلى حَمْلِ الكَلامِ عَلى ظاهِرِهِ، وقالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: بِمَعْنى خاطِبُوهم بِلِسانِ الحُجَّةِ وإلْزامِ الدَّلِيلِ ولا تُكَلِّمُوهم عَلى نَوازِعِ النَّفْسِ والعادَةِ، و(فَيَسُبُّوا) مَنصُوبٌ عَلى جَوابِ النَّهْيِ، وقِيلَ: هو مَجْزُومٌ عَلى العَطْفِ، كَقَوْلِكَ: (p-٢٠٠)لا تَمْدُدْها فَتَشْقُقْها، و(عَدْوًا) مَصْدَرُ عَدا، وكَذا عَدَوَ وعُدْوانٍ بِمَعْنى اعْتَدى أيْ ظَلَمَ، وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو رَجاءٍ وقَتادَةُ ويَعْقُوبُ وسَلّامٌ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بِضَمِّ العَيْنِ والدّالِ وتَشْدِيدِ الواوِ، وهو مَصْدَرٌ لِعَدا كَما ذَكَرْناهُ، وجَوَّزُوا فِيهِما انْتِصابَهُما عَلى المَصْدَرِ في مَوْضِعِ الحالِ، أوْ عَلى المَصْدَرِ مِن غَيْرِ لَفْظِ الفِعْلِ؛ لِأنَّ سَبَّ اللَّهِ عُدْوانٌ، أوْ عَلى المَفْعُولِ لَهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَرَأ بَعْضُ المَكِّيِّينَ، وعَيَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقالَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: بِفَتْحِ العَيْنِ وضَمِّ الدّالِ وتَشْدِيدِ الواوِ أيْ أعْداءً، وهو مَنصُوبٌ عَلى الحالِ المُؤَكِّدَةِ، وعَدُوٌّ يُخْبَرُ بِهِ عَنِ الجَمْعِ، كَما قالَ: ”﴿هُمُ العَدُوُّ﴾ [المنافقون: ٤]“، ومَعْنى ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ عَلى جَهالَةٍ بِما يَجِبُ لِلَّهِ - تَعالى - أنْ يُذْكَرَ بِهِ، وهو بَيانٌ لِمَعْنى الِاعْتِداءِ. ﴿كَذَلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ أيْ: مِثْلَ تَزْيِينِ عِبادَةِ الأصْنامِ لِلْمُشْرِكِينَ ﴿زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ﴾، وظاهِرُ ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ العُمُومُ في الأُمَمِ وفي العَمَلِ فِيهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ المُؤْمِنُونَ والكافِرُونَ، وتَزْيِينُهُ هو ما يَخْلُقُهُ ويَخْتَرِعُهُ في النُّفُوسِ مِنَ المَحَبَّةِ لِلْخَيْرِ أوِ الشَّرِّ والِاتِّباعِ لِطُرُقِهِ، وتَزْيِينُ الشَّيْطانِ هو ما يَقْذِفُهُ في النُّفُوسِ مِنَ الوَسْوَسَةِ وخَطَراتِ السُّوءِ، وخَصَّ الزَّمَخْشَرِيُّ ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ فَقالَ: مِن أُمَمِ الكُفّارِ سُوءُ عَمَلِهِمْ، أيْ: خَلَّيْناهم وشَأْنَهم ولَمْ نَكُفُّهم حَتّى حَسُنَ عِنْدَهم سُوءُ عَمَلِهِمْ، وأمْهَلْنا الشَّيْطانَ حَتّى زَيَّنَ لَهم أوْ زَيَّنّاهُ في زَعْمِهِمْ وقَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ أمَرَنا بِهَذا وزَيَّنَهُ لَنا. انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزالِيَّةِ. وقالَ الحَسَنُ: أيْ ﴿زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ العَمَلَ الَّذِي أوْجَبْناهُ عَلَيْهِمْ، فَجَعَلَ (زَيَّنّا) بِمَعْنى شَرَعْنا، و﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ عامٌّ، والعَمَلُ خاصٌّ بِما أوْجَبَهُ اللَّهُ تَعالى. وأنْكَرَ هَذا الزَّجّاجُ وقالَ: هو بِمَعْنى طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ: ﴿أفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ [فاطر: ٨] . انْتَهى. وما فَسَّرَ بِهِ الحَسَنُ قَدْ أوْضَحَهُ بَعْضُ المُعْتَزِلَةِ فَقالَ: المُرادُ بِتَزْيِينِ العَمَلِ تَزْيِينُ المَأْمُورِ بِهِ لا المَنهِيِّ عَنْهُ، ويُحْمَلُ عَلى الخُصُوصِ وإنْ كانَ عامًّا لِئَلّا يُؤَدِّيَ إلى تَناقُضِ النُّصُوصِ؛ لِأنَّهُ نُصَّ عَلى تَزْيِينِ اللَّهِ لِلْإيمانِ وتَكْرِيهِهِ لِلْكُفْرِ في قَوْلِهِ: ﴿حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ وزَيَّنَهُ في قُلُوبِكم وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ﴾ [الحجرات: ٧]، فَلَوْ دَخَلَ تَزْيِينُ الكُفْرِ في هَذِهِ الآيَةِ في المُرادِ لَوَجَبَ التَّناقُضُ بَيْنَ الآيَتَيْنِ؛ ولِذَلِكَ أضافَ التَّزْيِينَ إلى الشَّيْطانِ بِقَوْلِهِ: ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٨]، فَلا يَكُونُ اللَّهُ مُزَيِّنًا ما زَيَّنَهُ الشَّيْطانُ، فَنَقُولُ: اللَّهُ يُزَيِّنُ ما يَأْمُرُ بِهِ، والشَّيْطانُ يُزَيِّنُ ما يَنْهى عَنْهُ، حَتّى يَكُونَ ذَلِكَ عَمَلًا بِجَمِيعِ النُّصُوصِ. انْتَهى. وأُجِيبَ بِأنْ لا تَناقُضَ لِاخْتِلافِ التَّزْيِينِ: تَزْيِينِ اللَّهِ بِالخَلْقِ لِلشَّهَواتِ، وتَزْيِينِ الشَّيْطانِ بِالدُّعاءِ إلى المَعاصِي، فالآيَةُ عَلى عُمُومِها في كُلِّ أُمَّةٍ وفي عَمَلِهِمْ. ﴿ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهم فَيُنَبِّئُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أيْ: أمْرُهم مُفَوَّضٌ إلى اللَّهِ وهو عالِمٌ بِأحْوالِهِمْ مُطَّلِعٌ عَلى ضَمائِرِهِمْ، ومُنْقَلَبُهم يَوْمَ القِيامَةِ إلَيْهِ، فَيُجازى كُلٌّ بِمُقْتَضى عَمَلِهِ، وفي ذَلِكَ وعْدٌ جَمِيلٌ لِلْمُحْسِنِ ووَعِيدٌ لِلْمُسِيئِ. ﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهم آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها﴾ أيْ: آيَةٌ مِنِ اقْتِراحِهِمْ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: حَتّى تُنَزِّلَ ﴿إنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أعْناقُهم لَها خاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤] أنْزِلْها عَلَيْنا حَتّى نُؤْمِنَ بِها، فَقالَ المُسْلِمُونَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أنْزِلْها عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوْ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: يَجْعَلُ الصَّفا ذَهَبًا، حَتّى ذَكَرُوا مُعْجِزَةَ مُوسى في الحَجَرِ، وعِيسى في إحْياءِ المَوْتى، وصالِحٍ في النّاقَةِ، فَقامَ الرَّسُولُ يَدْعُو، فَجاءَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ (p-٢٠١)السَّلامُ - فَقالَ لَهُ: إنْ شِئْتَ أصْبَحَ الصَّفا ذَهَبًا، فَإنْ لَمْ يُؤْمِنُوا هَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ مُعاجَلَةً كَما فُعِلَ بِالأُمَمِ الماضِيَةِ، إذْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالآياتِ المُقْتَرَحَةِ، وإنْ شِئْتَ تَرَكْتَهم حَتّى يَتُوبَ تائِبُهم، فَقالَ: ”بَلْ حَتّى يَتُوبَ تائِبُهم“، وإنَّما اقْتَرَحُوا آيَةً مُعَيَّنَةً لِأنَّهم شَكُّوا في القُرْآنِ، ولِهَذا قالُوا: دارَسْتَ أيِ العُلَماءَ وباحَثْتَ أهْلَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، وكابَرَ أكْثَرُهم وعانَدَ، والمَعْنى: أنَّهم حَلَفُوا غايَةَ حَلِفِهِمْ، وسُمِّيَ الحَلِفُ قَسَمًا لِأنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ انْقِسامِ النّاسِ إلى التَّصْدِيقِ والتَّكْذِيبِ، فَكَأنَّهُ يُقَوِّي القِسْمَ الَّذِي يَخْتارُهُ، قالَ التِّبْرِيزِيُّ: الإقْسامُ إفْعالٌ مِنَ القَسَمِ الَّذِي هو بِمَعْنى النَّصِيبِ والقِسْمَةِ، وكانَ إقْسامُهم بِاللَّهِ غايَةً في الحَلِفِ، وكانُوا يُقْسِمُونَ بِآبائِهِمْ وآلِهَتِهِمْ، فَإذا كانَ الأمْرُ عَظِيمًا أقْسَمُوا بِاللَّهِ تَعالى. والجَهْدُ: بِفَتْحِ الجِيمِ المَشَقَّةُ، وبِضَمِّها الطّاقَةُ، ومِنهم مَن يَجْعَلُهُما بِمَعْنًى واحِدٍ، وانْتَصَبَ (جَهْدَ) عَلى المَصْدَرِ المَنصُوبِ بِـ (أقْسَمُوا) أيْ: أقْسَمُوا جَهْدَ إقْساماتِهِمْ، والأيْمانُ بِمَعْنى الإقْساماتِ، كَما تَقُولُ: ضَرَبْتُهُ أشَدَّ الضَّرَباتِ، وقالَ الحَوْفِيُّ: مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ في (أقْسَمُوا) أيْ: مُجْتَهِدِينَ في أيْمانِهِمْ، وقالَ المُبَرِّدَ: مَصْدَرٌ مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مِن لَفْظِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ﴿جَهْدَ أيْمانِهِمْ﴾ في المائِدَةِ، و﴿لَئِنْ جاءَتْهُمْ﴾ إخْبارٌ عَنْهم لا حِكايَةٌ لِقَوْلِهِمْ إذْ لَوْ حُكِيَ قَوْلُهم لَكانَ: لَئِنْ جاءَتْنا آيَةٌ، وعامَلَ الإخْبارَ عَنِ القَسَمِ مُعامَلَةَ حِكايَةِ القَسَمِ بِلَفْظِ ما نَطَقَ بِهِ المُقْسِمُ، وأنَّهُ لا يُرادُ بِها مُطْلَقُ آيَةٍ، إذْ قَدْ جاءَتْهم آياتٌ كَثِيرَةٌ ولَكِنَّهم أرادُوا آيَةً مُقْتَرَحَةً، كَما ذَكَرْناهُ. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: ﴿لَيُؤْمَنَنْ بِها﴾ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وبِالنُّونِ الخَفِيفَةِ. ﴿قُلْ إنَّما الآياتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ هَذا أمَرٌ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وأنَّ مَجِيءَ الآياتِ لَيْسَ لِي إنَّما ذَلِكَ لِلَّهِ - تَعالى - وهو القادِرُ عَلَيْها يُنَزِّلُها عَلى وجْهِ المَصْلَحَةِ كَيْفَ شاءَ لِحِكْمَتِهِ، ولَيْسَتْ عِنْدِي فَتُقْتَرَحُ عَلَيَّ. ﴿وما يُشْعِرُكم أنَّها إذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ اسْتِفْهامِيَّةٌ، ويَعُودُ عَلَيْها ضَمِيرُ الفاعِلِ في (يُشْعِرُكم)، وقَرَأ قَوْمٌ بِسُكُونِ ضَمَّةِ الرّاءِ، وقُرِئَ بِاخْتِلاسِها، وأمّا الخِطابُ فَقالَ مُجاهِدٌ وابْنُ زَيْدٍ: هو لِلْكُفّارِ، وقالَ الفَرّاءُ وغَيْرُهُ: المُخاطَبُ بِها المُؤْمِنُونَ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو والعَلِيمِيُّ والأعْشى عَنْ أبِي بَكْرٍ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وعاصِمٌ في رِوايَةِ داوُدَ الإيادِيِّ أنَّها بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِفَتْحِها، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ: (لا تُؤْمِنُونَ) بِتاءِ الخِطابِ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِياءِ الغَيْبَةِ، فَتَرَتَّبَتْ أرْبَعُ قِراءاتٍ، الأُولى كَسْرُ الهَمْزَةِ والياءِ، وهي قِراءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وأبِي عَمْرٍو وأبِي بَكْرٍ بِخِلافٍ عَنْهُ في كَسْرِ الهَمْزَةِ، وهَذِهِ قِراءَةٌ واضِحَةٌ، أخْبَرَ تَعالى أنَّهم ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ البَتَّةَ عَلى تَقْدِيرِ مَجِيءِ الآيَةِ، وتَمَّ الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وما يُشْعِرُكُمْ﴾، ومُتَعَلَّقُ (يُشْعِرُكم) مَحْذُوفٌ، أيْ: ﴿وما يُشْعِرُكُمْ﴾ ما يَكُونُ، فَإنْ كانَ الخِطابُ لِلْكُفّارِ كانَ التَّقْدِيرُ: ﴿وما يُشْعِرُكُمْ﴾ ما يَكُونُ مِنكم، ثُمَّ أخْبَرَ عَلى جِهَةِ الِالتِفاتِ بِما عَلِمَهُ مِن حالِهِمْ لَوْ جاءَتْهُمُ الآياتُ، وإنْ كانَ الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ كانَ التَّقْدِيرُ: ﴿وما يُشْعِرُكُمْ﴾ أيُّها المُؤْمِنُونَ ما يَكُونُ مِنهم، ثُمَّ أخْبَرَ المُؤْمِنِينَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ. القِراءَةُ الثّانِيَةُ كَسْرُ الهَمْزَةِ والتّاءُ، وهي رِوايَةُ العَلِيمِيِّ والأعْشى عَنْ أبِي بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ، والمُناسِبُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِلْكُفّارِ في هَذِهِ القِراءَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: وما يُدْرِيكم أيُّها الكُفّارُ ما يَكُونُ مِنكم، ثُمَّ أخْبَرَهم عَلى جِهَةِ الجَزْمِ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ عَلى تَقْدِيرِ مَجِيئِها، ويَبْعُدُ جِدًّا أنْ يَكُونَ الخِطابُ في ﴿وما يُشْعِرُكُمْ﴾ لِلْمُؤْمِنِينَ، وفي ”لا تُؤْمِنُونَ“ لِلْكُفّارِ. القِراءَةُ الثّالِثَةُ فَتْحُ الهَمْزَةِ والتّاءُ، وهي قِراءَةُ نافِعٍ والكِسائِيِّ وحَفْصٍ، فالظّاهِرُ أنَّ الخِطابَ لِلْمُؤْمِنِينَ، والمَعْنى: وما يُدْرِيكم أيُّها المُؤْمِنُونَ أنَّ الآيَةَ الَّتِي تَقْتَرِحُونَها إذا جاءَتْ (p-٢٠٢)لا يُؤْمِنُونَ بِها، يَعْنِي أنا أعْلَمُ أنَّها إذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وأنْتُمْ لا تَدْرُونَ بِذَلِكَ، وكانَ المُؤْمِنُونَ يَطْمَعُونَ في إيمانِهِمْ إذا جاءَتْ تِلْكَ الآيَةُ، ويَتَمَنَّوْنَ مَجِيئَها، فَقالَ: وما يُدْرِيكم أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ، عَلى مَعْنى أنَّكم لا تَدْرُونَ ما سَبَقَ عِلْمِي بِهِ مِن أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ ﴿كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ﴾، ويَبْعُدُ جِدًّا أنَّ يَكُونَ الخِطابُ في ﴿وما يُشْعِرُكُمْ﴾ لِلْكُفّارِ، و(أنَّ) في هَذِهِ القِراءَةِ مَصْدَرِيَّةٌ ولا عَلى مَعْناها مِنَ النَّفْيِ، وجَعَلَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ (أنَّ) هُنا بِمَعْنى لَعَلَّ، وحُكِيَ مِن كَلامِهِمْ ذَلِكَ، قالُوا: إيتِ السُّوقَ إنَّكَ تَشْتَرِي لَحْمًا، يُرِيدُونَ: لَعَلَّكَ، وقالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎عُوجا عَلى الطَّلَلِ المُحِيلِ لِأنَّنا نَبْكِي الدِّيارَ كَما بَكى ابْنُ حَرامِ وذَكَرَ ذَلِكَ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ، و(لَعَلَّ) تَأْتِي كَثِيرًا في مِثْلِ هَذا المَوْضِعِ، قالَ تَعالى: ﴿وما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى﴾ [عبس: ٣]، ﴿وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: ١٧]، وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: وما أدْراكم لَعَلَّها إذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ، وضَعَّفَ أبُو عَلِيٍّ هَذا القَوْلَ بِأنَّ التَّوَقُّعَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ (لَعَلَّ) لا يُناسِبُ قِراءَةَ الكَسْرِ؛ لِأنَّها تَدُلُّ عَلى حُكْمِهِ تَعالى عَلَيْهِمْ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ (أنَّها) مَعْمُولَةً لِـ (يُشْعِرُكم) بَلْ جَعَلَها عِلَّةً عَلى حَذْفِ لامِها، والتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: ﴿قُلْ إنَّما الآياتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ لِأنَّها إذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ، فَهو لا يَأْتِي بِها لِإصْرارِهِمْ عَلى كُفْرِهِمْ فَيَكُونُ نَظِيرَ ”وما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إلّا أنْ كَذَّبَ بِها الأوَّلُونَ“ أيْ بِالآياتِ المُقْتَرَحَةِ. انْتَهى. ويَكُونُ ﴿وما يُشْعِرُكُمْ﴾ اعْتِراضًا بَيْنَ المَعْلُولِ وعِلَّتِهِ، إذْ صارَ المَعْنى: ﴿قُلْ إنَّما الآياتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أيِ: المُقْتَرَحَةُ لا يَأْتِي بِها لِانْتِفاءِ إيمانِهِمْ وإصْرارِهِمْ عَلى ضَلالِهِمْ، وجَعَلَ بَعْضُهم ”لا“ زائِدَةً فَيَكُونُ المَعْنى: وما يُدْرِيكم بِإيمانِهِمْ، كَما قالُوا: إذا جاءَتْ، وإنَّما جَعَلَها زائِدَةً لِأنَّها لَوْ بَقِيَتْ عَلى النَّفْيِ لَكانَ الكَلامُ عُذْرًا لِلْكَفّارِ وفَسَدَ المُرادُ بِالآيَةِ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، قالَ: وضَعَّفَ الزَّجّاجُ وغَيْرُهُ زِيادَةَ لا. انْتَهى قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ. والقائِلُ بِزِيادَةِ ”لا“ هو الكِسائِيُّ والفَرّاءُ، وقالَ الزَّجّاجُ: زَعَمَ سِيبَوَيْهِ أنَّ مَعْناها لَعَلَّها إذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ، وهي قِراءَةُ أهْلِ المَدِينَةِ، قالَ: وهَذا الوَجْهُ أقْوى في العَرَبِيَّةِ، والَّذِي ذَكَرَ أنَّ ”لا“ لَغْوٌ غالِطٌ لِأنَّ ما كانَ لَغْوًا لا يَكُونُ غَيْرَ لَغْوٍ، ومَن قَرَأ بِالكَسْرِ فالإجْماعُ عَلى أنَّ ”لا“ غَيْرُ لَغْوٍ، فَلَيْسَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى مَرَّةً إيجابًا ومَرَّةً غَيْرَ ذَلِكَ في سِياقِ كَلامٍ واحِدٍ، وتَأوَّلَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ الآيَةَ عَلى حَذْفِ مَعْطُوفٍ يُخْرِجُ ”لا“ عَنِ الزِّيادَةِ وتَقْدِيرُهُ: ﴿وما يُشْعِرُكم أنَّها إذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ أوْ يُؤْمِنُونَ، أيْ: ما يُدْرِيكم بِانْتِفاءِ الإيمانِ أوْ وُقُوعِهِ، ذَكَرَهُ النَّحّاسُ وغَيْرُهُ، ولا يَحْتاجُ الكَلامُ إلى زِيادَةِ ”لا“، ولا إلى هَذا الإضْمارِ، ولا يَكُونُ (أنَّ) بِمَعْنى (لَعَلَّ) وهَذا كُلُّهُ خُرُوجٌ عَنِ الظّاهِرِ لِفَرْضِهِ، بَلْ حَمْلُهُ عَلى الظّاهِرِ أوْلى، وهو واضِحٌ سائِغٌ كَما بَحَثْناهُ أوَّلًا، أيْ: ﴿وما يُشْعِرُكُمْ﴾ ويُدْرِيكم بِمَعْرِفَةِ انْتِفاءِ إيمانِهِمْ، لا سَبِيلَ لَكم إلى الشُّعُورِ بِها. القِراءَةُ الرّابِعَةُ: فَتْحُ الهَمْزَةِ والتّاءِ، وهي قِراءَةُ ابْنِ عامِرٍ وحَمْزَةَ، والظّاهِرُ أنَّهُ خِطابٌ لِلْكُفّارِ، ويَتَّضِحُ مَعْنى هَذِهِ القِراءَةِ عَلى زِيادَةِ ”لا“، أيْ: وما يُدْرِيكم أنَّكم تُؤْمِنُونَ إذا جاءَتْ كَما أقْسَمْتُمْ عَلَيْهِ، وعَلى تَأْوِيلِ (أنَّ) بِمَعْنى لَعَلَّ، وكَوْنِ ”لا“ نَفْيًا، أيْ: وما يُدْرِيكم بِحالِهِمْ لَعَلَّها إذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وكَذَلِكَ يَصِحُّ المَعْنى عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ المَعْطُوفِ، أيْ: وما يُدْرِيكم بِانْتِفاءِ إيمانِكم إذا جاءَتْ أوْ وُقُوعِهِ؛ لِأنَّ مَآلَ أمْرِكم مُغَيَّبٌ عَنْكم، فَكَيْفَ تُقْسِمُونَ عَلى الإيمانِ إذا جاءَتْكُمُ الآيَةُ ؟ وكَذَلِكَ يَصِحُّ مَعْناها عَلى تَقْدِيرٍ، أيْ عَلى أنْ تَكُونَ أنَّها عِلَّةٌ، أيْ: ﴿قُلْ إنَّما الآياتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ فَلا يَأْتِيكم بِها لِأنَّها ﴿إذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ وما يُشْعِرُكم بِأنَّكم تُؤْمِنُونَ، وأمّا عَلى إقْرارِ أنَّ (أنَّها) مَعْمُولَةٌ لِـ (يُشْعِرُكم) وبَقاءِ (لا) عَلى النَّفْيِ، فَيُشْكِلُ مَعْنى هَذِهِ القِراءَةِ؛ لِأنَّهُ يَكُونُ المَعْنى ﴿وما يُشْعِرُكُمْ﴾ أيُّها الكُفّارُ بِانْتِفاءِ إيمانِكم إذا جاءَتْكُمُ الآيَةُ المُقْتَرَحَةُ، والَّذِي يُناسِبُ صَدْرَ الآيَةِ ﴿وما يُشْعِرُكُمْ﴾ بِوُقُوعِ الإيمانِ مِنكم إذا جاءَتْ، وقَدْ يَصِحُّ أنْ (p-٢٠٣)يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وأيُّ شَيْءٍ يُشْعِرُكم بِانْتِفاءِ الإيمانِ إذا جاءَتْ، أيْ: لا يَقَعُ ذَلِكَ في خَواطِرِكم، بَلْ أنْتُمْ مُصَمِّمُونَ عَلى الإيمانِ إذا جاءَتْ، وأنا أعْلَمُ أنَّكم لا تُؤْمِنُونَ إذا جاءَتْ لِأنَّكم مَطْبُوعٌ عَلى قُلُوبِكم، وكَمْ آيَةٌ جاءَتْكم فَلَمْ تُؤْمِنُوا. وقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ ”ما“ في قَوْلِهِ ﴿وما يُشْعِرُكُمْ﴾ نافِيَةٌ، والفاعِلُ بِـ (يُشْعِرُكم) ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى اللَّهِ، ويَتَكَلَّفُ مَعْنى الآيَةِ عَلى جَعْلِها نافِيَةً، سَواءٌ فُتِحَتْ (أنَّ) أمْ كُسِرَتْ. ومُتَعَلَّقُ ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ مَحْذُوفٌ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ كَوْنُ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ وقَعَ فاصِلَةً، وتَقْدِيرُهُ: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ بِها. وقَدِ اتَّضَحَ مِن تَرْتِيبِ هَذِهِ القِراءاتِ الأرْبَعِ أنَّهُ لا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلى الإطْلاقِ ولا لِلْكُفّارِ عَلى الإطْلاقِ، بَلِ الخِطابُ يَكُونُ عَلى ما يَصِحُّ بِهِ المَعْنى الَّذِي لِلْقِراءَةِ. ﴿ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهم كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ ونَذَرُهم في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ الظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: (ونُقَلِّبُ) جُمْلَةٌ اسْتِئْنافِيَّةٌ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ، وهي إشارَةٌ إلى الحَيْرَةِ والتَّرَدُّدِ وصَرْفِ الشَّيْءِ عَنْ وجْهِهِ، والمَعْنى أنَّهُ تَعالى يُحَوِّلُهم عَنِ الهُدى، ويَتْرُكُهم في الضَّلالِ والكُفْرِ، و(كَما) لِلتَّعْلِيلِ؛ أيْ يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ؛ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ وقْتٍ جاءَهم هُدى اللَّهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ وماتُوا وهم كافِرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٥]، ويُؤَكِّدُ هَذا المَعْنى آخِرُ الآيَةِ: ﴿ونَذَرُهم في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أيْ نَتْرُكُهم في تَغَمُّطِهِمْ في الشَّرِّ، والإفْراطِ فِيهِ يَتَحَيَّرُونَ، وهَذا كُلُّهُ إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى بِفِعْلِهِ بِهِمْ في الدُّنْيا، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هَذا الإخْبارُ هو عَلى تَقْدِيرِ أنَّهُ لَوْ جاءَتِ الآيَةُ الَّتِي اقْتَرَحُوها، صَنَعْنا بِهِمْ ذَلِكَ، ولِذَلِكَ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم ونَذَرُهم، عَطْفٌ عَلى ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ داخِلٌ في حُكْمِ: ﴿وما يُشْعِرُكُمْ﴾ بِمَعْنى: وما يُشْعِرُكم أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ، وما يُشْعِرُكم أنّا نُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهم؛ أيْ فَنَطْبَعُ عَلى أبْصارِهِمْ وقُلُوبِهِمْ فَلا يَفْقَهُونَ ولا يُبْصِرُونَ الحَقَّ؛ كَما كانُوا عِنْدَ نُزُولِ آياتِنا أوَّلًا لا يُؤْمِنُونَ بِها؛ لِكَوْنِهِمْ وما يُشْعِرُكم أنّا نَذَرُهم في طُغْيانِهِمْ؛ أيْ نُخَلِّيهِمْ وشَأْنَهم لا نَكُفُّهم ونَصْرِفُهم عَنِ الطُّغْيانِ حَتّى يَعْمَهُوا فِيهِ. انْتَهى. وهَذا مَعْنى ما قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وابْنُ زَيْدٍ، قالُوا: لَوْ أتَيْناهم بِآيَةٍ كَما سَألُوا لَقَلَبْنا أفْئِدَتَهم وأبْصارَهم عَنِ الإيمانِ بِها وحُلْنا بَيْنَهم وبَيْنَ الهُدى فَلَمْ يُؤْمِنُوا؛ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِما رَأوْا قَبْلَها عُقُوبَةً لَهم عَلى ذَلِكَ، والفَرْقُ بَيْنَ هَذا القَوْلِ والَّذِي بَدَأْنا بِهِ أوَّلًا أنَّ ذَلِكَ اسْتِئْنافُ إخْبارٍ بِما يَفْعَلُ بِهِمْ تَعالى في الدُّنْيا، وهَذا إخْبارٌ عَلى تَقْدِيرِ مَجِيءِ الآيَةِ المُقْتَرَحَةِ، فَذَلِكَ واقِعٌ وهَذا غَيْرُ واقِعٍ؛ لِأنَّ الآيَةَ المُقْتَرَحَةَ لَمْ تَقَعْ، فَلَمْ يَقَعْ ما رُتِّبَ عَلَيْها، وقالَ مُقاتِلٌ: نُقَلِّبُ أفْئِدَةَ هَؤُلاءِ وأبْصارَهم عَنِ الإيمانِ وعَنِ الآياتِ كَما لَمْ يُؤْمِن أوائِلُهم مِنَ الأُمَمِ الخالِيَةِ بِما رَأوْا مِنَ الآياتِ وقِيلَ: تَقْلِيبُها بِإزْعاجِ نُفُوسِهِمْ هَمًّا وغَمًّا. وقالَ الكِرْمانِيُّ: مَعْناهُ أنّا نُحِيطُ عِلْمًا بِذاتِ الصُّدُورِ وخائِنَةِ الأعْيُنِ مِنهم. انْتَهى. ولا يَسْتَقِيمُ هَذا التَّفْسِيرُ لِقَوْلِهِ: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ لا عَلى التَّعْلِيلِ لا عَلى التَّشْبِيهِ إلّا إنْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ ”أنَّها إذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ“ أيْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ فَيَصِحُّ عَلى بُعْدٍ في تَفْسِيرِ هَذا التَّقْلِيبِ بِإحاطَةِ العِلْمِ. وقالَ الكَعْبِيُّ: المُرادُ أنّا لا نَفْعَلُ بِهِمْ ما نَفْعَلُ بِالمُؤْمِنِينَ مِنَ الفَوائِدِ والألْطافِ مِن حَيْثُ أخْرَجُوا أنْفُسَهم عَنِ الهِدايَةِ بِسَبَبِ الكُفْرِ. انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقِهِ الِاعْتِزالِيِّ. ومَعْنى تَقْلِيبِ القَلْبِ والبَصَرِ ما يَنْشَأُ عَنِ القَلْبِ والبَصَرِ مِنَ الدَّواعِي إلى الحَيْرَةِ والضَّلالِ لِأنَّ القَلْبَ والبَصَرَ يَتَقَلَّبانِ بِأنْفُسِهِما فَنِسْبَةُ التَّقْلِيبِ إلَيْهِما مَجازٌ، وقُدِّمَتِ الأفْئِدَةُ؛ لِأنَّ مَوْضِعَ الدَّواعِي والصَّوارِفِ هو القَلْبُ؛ فَإذا حَصَلَتِ الدّاعِيَةُ في القَلْبِ انْصَرَفَ البَصَرُ إلَيْهِ شاءَ أمْ أبى، وإذا حَصَلَتِ الصَّوارِفُ في القَلْبِ انْصَرَفَ البَصَرُ عَنْهُ، وإنْ كانَ تَحَدُّقُ النَّظَرِ إلَيْهِ ظاهِرًا، وهَذِهِ التَّفاسِيرُ عَلى أنَّ ذَلِكَ في الدُّنْيا، وقالَتْ فِرْقَةٌ إنَّ ذَلِكَ إخْبارٌ أنَّ اللَّهِ تَعالى يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ في الآخِرَةِ. فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ جَوابٌ لِسُؤالِهِمْ (p-٢٠٤)فِي الآخِرَةِ الرُّجُوعَ إلى الدُّنْيا، والمَعْنى: لَوْ رُدُّوا لَحُلْنا بَيْنَهم وبَيْنَ الهُدى كَما حُلْنا بَيْنَهم وبَيْنَهُ أوَّلَ مَرَّةٍ، وهم في الدُّنْيا. انْتَهى. وهَذا يَنْبُو عَنْهُ تَرْكِيبُ الكَلامِ وقِيلَ: تَقْلِيبُها في النّارِ في جَهَنَّمَ عَلى لَهِيبِها وجَمْرِها لِيُعَذَّبُوا كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ؛ يَعْنِي في الدُّنْيا، وقالَهُ الجُبّائِيُّ، وقالَ أبُو الهُذَيْلِ: تَقْلِيبُ أفْئِدَتِهِمْ بُلُوغُها الحَناجِرَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وأنْذِرْهم يَوْمَ الآزِفَةِ﴾ [غافر: ١٨]، وقِيلَ: تَقْلِيبُ أبْصارِهِمْ إلى الزُّرْقَةِ، وحَمْلُ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ في الآخِرَةِ ضَعِيفٌ قَلِقُ النَّظْمِ؛ لِأنَّ التَّقْلِيبَ في الآخِرَةِ، وتَرْكَهم في الطُّغْيانِ في الدُّنْيا، فَيَخْتَلِفُ الظَّرْفانِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ عَلى اخْتِلافِهِما، بَلِ الظّاهِرُ أنَّ ذَلِكَ إخْبارٌ مُسْتَأْنَفٌ كَما قَرَّرْناهُ أوَّلًا، والكافُ في (كَما) ذَكَرْنا أنَّها لِلتَّعْلِيلِ، وهو واضِحٌ فِيها، وإنْ كانَ اسْتِعْمالُها فِيهِ قَلِيلًا، وقالَتْ فِرْقَةٌ (كَما) هي بِمَعْنى المُجازاةِ؛ أيْ: لَمّا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ نُجازِيهِمْ بِأنْ نُقَلِّبَ أفْئِدَتَهم عَنِ الهُدى، ونَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَكَأنَّهُ قالَ: ونَحْنُ نُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهم جَزاءً لِما لَمْ يُؤْمِنُوا أوَّلَ مَرَّةٍ بِما دُعُوا إلَيْهِ مِنَ الشَّرْعِ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وهو مَعْنى التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرْناهُ؛ إلّا أنَّ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ بِمَعْنى المُجازاةِ غَرِيبَةٌ، لا يُعْهَدُ في كَلامِ النَّحْوِيِّينَ أنَّ الكافَ لِلْمُجازاةِ، وقِيلَ: لِلتَّشْبِيهِ، وقِيلَ: وفي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَلا يُؤْمِنُونَ بِهِ ثانِيَ مَرَّةٍ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ، وقِيلَ: الكافُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ تَقْلِيبًا لِكُفْرِهِمْ أيْ عُقُوبَةً مُساوِيَةً لِمَعْصِيَتِهِمْ. قالَهُ أبُو البَقاءِ، وقالَ الحَوْفِيُّ: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ إيمانًا ثانِيًا كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ. انْتَهى. والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى اللَّهِ، أوِ القُرْآنِ أوِ الرَّسُولِ. أقْوالٌ. وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّهُ يَعُودُ عَلى التَّقْلِيبِ، وانْتَصَبَ (أوَّلَ مَرَّةٍ) عَلى أنَّهُ ظَرْفُ زَمانٍ، وقَرَأ النَّخَعِيُّ: (ويُقَلِّبُ ويَذَرُهم) بِالياءِ فِيهِما، والفاعِلُ ضَمِيرُ اللَّهِ، وقَرَأ أيْضًا فِيما رَوى عَنْهُ مُغِيرَةُ: وتُقَلَّبُ أفْئِدَتُهم وأبْصارُهم، بِالرَّفْعِ فِيهِما عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، ويَذَرُهم بِالياءِ وسُكُونِ الرّاءِ، وافَقَهُ عَلى (ويَذَرُهُمُ) الأعْمَشُ والهَمَدانِيُّ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقَرَأ الأعْمَشُ: وتُقَلَّبُ أفْئِدَتُهم وأبْصارُهم، عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب