الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿يَوْمَ تَرى المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهم بَيْنَ أيْدِيهِمْ وبِأيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ اليَوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ ﴿يَوْمَ يَقُولُ المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكم قِيلَ ارْجِعُوا وراءَكم فالتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهم بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وظاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العَذابُ﴾ ﴿يُنادُونَهم ألَمْ نَكُنْ مَعَكم قالُوا بَلى ولَكِنَّكم فَتَنْتُمْ أنْفُسَكم وتَرَبَّصْتُمْ وارْتَبْتُمْ وغَرَّتْكُمُ الأمانِيُّ حَتّى جاءَ أمْرُ اللَّهِ وغَرَّكم بِاللَّهِ الغَرُورُ﴾ ﴿فاليَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكم فِدْيَةٌ ولا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النّارُ هي مَوْلاكم وبِئْسَ المَصِيرُ﴾ . العامِلُ في ”يَوْمَ“ ما عَمِلَ في لَهم؛ التَّقْدِيرُ: ومُسْتَقِرٌّ لَهُ أجْرٌ كَرِيمٌ يَوْمَ تَرى، أوِ اذْكُرْ يَوْمَ تَرى إعْظامًا لِذَلِكَ اليَوْمِ. والرُّؤْيَةُ هُنا رُؤْيَةُ عَيْنٍ، والنُّورُ حَقِيقَةٌ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ، ورُوِيَ في ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ آثارٌ، وأنَّ كُلَّ مَظْهَرٍ مِنَ الإيمانِ لَهُ نُورٌ فَيُطْفِئُ نُورَ المُنافِقِ، ويَبْقى نُورُ المُؤْمِنِ، وهم مُتَفاوِتُونَ في النُّورِ. مِنهم مَن يُضِيءُ كَما بَيْنَ مَكَّةَ وصَنْعاءَ، ومَن نُورُهُ كالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ، ومَن يُضِيءُ لَهُ ما قُرْبَ قَدَمَيْهِ. ومِنهم مَن يَهِمُّ بِالِانْطِفاءِ مَرَّةً ويَبِينُ مَرَّةً، وذَلِكَ عَلى قَدْرِ الأعْمالِ. وقالَ الضَّحّاكُ: النُّورُ اسْتِعارَةٌ عَنِ الهُدى والرِّضْوانِ الَّذِي هم فِيهِ. والظّاهِرُ أنَّ النُّورَ يَتَقَدَّمُ لَهم بَيْنَ أيْدِيهِمْ، ويَكُونُ أيْضًا بِأيْمانِهِمْ، فَيَظْهَرُ أنَّهُما نُورانِ: نُورٌ ساعٍ بَيْنَ أيْدِيهِمْ، ونُورٌ بِأيْمانِهِمْ؛ فَذَلِكَ يُضِيءُ الجِهَةَ الَّتِي يَؤُمُّونَها، وهَذا يُضِيءُ ما حَوالَيْهِمْ مِنَ الجِهاتِ. وقالَ الجُمْهُورُ: النُّورُ أصْلُهُ بِأيْمانِهِمْ، والَّذِي بَيْنَ أيْدِيهِمْ هو الضَّوْءُ المُنْبَسِطُ (p-٢٢١)مِن ذَلِكَ النُّورِ. وقِيلَ: الباءُ بِمَعْنى عَنْ، أيْ عَنْ أيْمانِهِمْ، والمَعْنى: في جَمِيعِ جِهاتِهِمْ. وعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالأيْمانِ تَشْرِيفًا لَها. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنَّما قالَ ﴿بَيْنَ أيْدِيهِمْ وبِأيْمانِهِمْ﴾، لِأنَّ السُّعَداءَ يُؤْتَوْنَ صَحائِفَ أعْمالِهِمْ مِن هاتَيْنِ الجِهَتَيْنِ، كَما أنَّ الأشْقِياءَ يُؤْتَوْنَها مِن شَمائِلِهِمْ ووَراءِ ظُهُورِهِمْ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (وبِأيْمانِهِمْ)، جَمْعُ يَمِينٍ؛ وسَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ السَّهْمِيُّ، وأبُو حَيْوَةَ: بِكَسْرِ الهَمْزَةِ. وعُطِفَ هَذا المَصْدَرُ عَلى الظَّرْفِ لِأنَّ الظَّرْفَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أيْ كائِنًا بَيْنَ أيْدِيهِمْ، وكائِنًا بِسَبَبِ أيْمانِهِمْ. ﴿بُشْراكُمُ اليَوْمَ جَنّاتٌ﴾: جُمْلَةٌ مَعْمُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أيْ تَقُولُ لَهُمُ المَلائِكَةُ الَّذِينَ يَتَلَقَّوْنَهم: جَنّاتٌ، أيْ دُخُولُ جَنّاتٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (خالِدِينَ فِيها)، إلى آخِرِ الآيَةِ، مُخاطَبَةٌ لِمُحَمَّدٍ، ﷺ، انْتَهى. ولا مُخاطَبَةَ هُنا، بَلْ هَذا مِن بابِ الِالتِفاتِ مِن ضَمِيرِ الخِطابِ في (بُشْراكم) إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ في (خالِدِينَ) . ولَوْ جَرى عَلى الخِطابِ، لَكانَ التَّرْكِيبُ خالِدًا أنْتُمْ فِيها، والِالتِفاتُ مِن فُنُونِ البَيانِ ﴿يَوْمَ يَقُولُ﴾ بَدَلٌ مِن ﴿يَوْمَ تَرى﴾ . وقِيلَ: مَعْمُولٌ لِـ اذْكُرْ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَظْهَرُ لِي أنَّ العامِلَ فِيهِ ﴿ذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾، ومَجِيءُ مَعْنى الفَوْزِ أفْخَمُ، كَأنَّهُ يَقُولُ: إنَّ المُؤْمِنِينَ يَفُوزُونَ بِالرَّحْمَةِ يَوْمَ يَعْتَرِي المُنافِقِينَ كَذا وكَذا، لِأنَّ ظُهُورَ المَرْءِ يَوْمَ خُمُولِ عَدُوِّهِ ومُضادِّهِ أبْدَعُ وأفْخَمُ. انْتَهى. فَظاهِرُ كَلامِهِ وتَقْدِيرُهُ أنَّ يَوْمَ مَنصُوبٌ بِالفَوْزِ، وهو لا يَجُوزُ، لِأنَّهُ مَصْدَرٌ قَدْ وُصِفَ قَبْلَ أخْذِ مُتَعَلِّقاتِهِ، فَلا يَجُوزُ إعْمالُهُ. فَلَوْ أعْمَلَ وصْفَهُ، وهو العَظِيمُ، لَجازَ، أيِ الفَوْزُ الَّذِي عَظُمَ، أيْ قَدْرُهُ ﴿يَوْمَ يَقُولُ﴾ . (انْظُرُونا): أيِ انْتَظِرُونا، لِأنَّهم لَمّا سَبَقُوكم إلى المُرُورِ عَلى الصِّراطِ، وقَدْ طُفِئَتْ أنْوارُهم، قالُوا ذَلِكَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (انْظُرُونا): انْتَظِرُونا، لِأنَّهم يُسْرَعُ بِهِمْ إلى الجَنَّةِ كالبُرُوقِ الخاطِفَةِ عَلى رِكابٍ تُذَفُّ بِهِمْ وهَؤُلاءِ مُشاةٌ، أوِ انْظُرُوا إلَيْنا، لِأنَّهم إذا نَظَرُوا إلَيْهِمُ اسْتَقْبَلُوهم بِوُجُوهِهِمْ والنُّورُ بَيْنَ أيْدِيهِمْ فَيَسْتَضِيئُونَ بِهِ. انْتَهى. فَجُعِلَ انْظُرُونا بِمَعْنى انْظُرُوا إلَيْنا، ولا يَتَعَدّى النَّظَرُ هَذا في لِسانِ العَرَبِ إلّا بِـ إلى لا بِنَفَسِهِ، وإنَّما وُجِدَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ في الشِّعْرِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وابْنُ وثّابٍ والأعْمَشُ وطَلْحَةُ وحَمْزَةُ: أنْظِرُونا مِن أنْظَرَ رُباعِيًّا، أيْ أخِّرُونا، أيِ اجْعَلُونا في آخِرِكم، ولا تَسْبِقُونا بِحَيْثُ تُفَوِّتُونَنا، ولا نَلْحَقُ بِكم. ﴿نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ﴾: أيْ نُصِبْ مِنهُ حَتّى نَسْتَضِيءَ بِهِ. ويُقالُ: اقْتَبَسَ الرَّجُلُ واسْتَقْبَسَ: أخَذَ مِن نارِ غَيْرِهِ قَبَسًا. ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وراءَكُمْ﴾: القائِلُ المُؤْمِنُونَ أوِ المَلائِكَةُ. والظّاهِرُ أنْ (وراءَكم) مَعْمُولٌ لِـ ارْجِعُوا. وقِيلَ: لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعْرابِ لِأنَّهُ بِمَعْنى ارْجِعُوا، كَقَوْلِهِمْ: وراءَكَ أوْسَعُ لَكَ، أيِ ارْجِعْ تَجِدْ مَكانًا أوْسَعَ لَكَ. وارْجِعُوا أمْرُ تَوْبِيخٍ وطَرْدٍ، أيِ ارْجِعُوا إلى المَوْقِفِ حَيْثُ أُعْطِينا الفَوْزَ فالتَمِسُوهُ هُناكَ، أوِ ارْجِعُوا إلى الدُّنْيا والتَمِسُوا نُورًا، أيْ بِتَحْصِيلِ سَبَبِهِ وهو الإيمانُ، أوْ تَنَحَّوْا عَنّا، ﴿فالتَمِسُوا نُورًا﴾ غَيْرَ هَذا فَلا سَبِيلَ لَكم إلى الِاقْتِباسِ مِنهُ. وقَدْ عَلِمُوا أنْ لا نُورَ وراءَهم، وإنَّما هو إقْناطٌ لَهم. ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ﴾: أيْ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والمُنافِقِينَ، (بِسُورٍ): بِحاجِزٍ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: هو الأعْرافُ. وقِيلَ: حاجِزٌ غَيْرُهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: فَضُرِبَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ؛ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، أيِ اللَّهُ، ويَبْعُدُ قَوْلُ مَن قالَ: إنَّ هَذا السُّورَ هو الجِدارُ الشَّرْقِيُّ مِن مَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ، وهو مَرْوِيٌّ عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ وابْنِ عَبّاسٍ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وكَعْبِ الأحْبارِ، ولَعَلَّهُ لا يَصِحُّ عَنْهم. والسُّورُ هو الحاجِزُ الدّائِرُ عَلى المَدِينَةِ لِلْحِفْظِ مِن عَدُوٍّ. والظّاهِرُ في باطِنِهِ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ مِنهُ عَلى البابِ لِقُرْبِهِ. وقِيلَ: عَلى السُّورِ، وباطِنُهُ الشِّقُّ الَّذِي لِأهْلِ الجَنَّةِ، وظاهِرُهُ ما يُدانِيهِ، مِن قِبَلِهِ مِن جِهَتِهِ العَذابُ. (يُنادُونَهم): اسْتِئْنافُ إخْبارٍ، أيْ يُنادُونَ المُنافِقُونَ المُؤْمِنِينَ، ﴿ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾: أيْ في الظّاهِرِ، ﴿قالُوا بَلى﴾: أيْ كُنْتُمْ مَعَنا في الظّاهِرِ، ﴿ولَكِنَّكم فَتَنْتُمْ أنْفُسَكُمْ﴾: أيْ عَرَّضْتُمْ أنْفُسَكم لِلْفِتْنَةِ بِنِفاقِكم، (وتَرَبَّصْتُمْ) أيْ بِإيمانِكم حَتّى وافَيْتُمْ عَلى الكُفْرِ، أوْ تَرَبَّصْتُمْ بِالمُؤْمِنِينَ الدَّوائِرَ، قالَهُ قَتادَةُ، (وارْتَبْتُمْ): شَكَكْتُمْ في أمْرِ الدِّينِ، ﴿وغَرَّتْكُمُ الأمانِيُّ﴾: وهي الأطْماعُ، مِثْلُ (p-٢٢٢)قَوْلِهِمْ: سَيَهْلِكُ مُحَمَّدٌ هَذا العامَ، تَهْزِمُهُ قَبِيلَةُ قُرَيْشٍ مُسْتَأْجِرَةً الأحْزابَ إلى غَيْرِ ذَلِكَ، أوْ طُولُ الآمالِ في امْتِدادِ الأعْمارِ، ﴿حَتّى جاءَ أمْرُ اللَّهِ﴾، وهو المَوْتُ عَلى النِّفاقِ، والغَرُورُ: الشَّيْطانُ بِإجْماعٍ. وقَرَأ سِماكُ بْنُ حَرْبٍ: الغُرُورُ، وتَقَدَّمَ ذَلِكَ. ﴿فاليَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكم فِدْيَةٌ﴾ أيُّها المُنافِقُونَ، والنّاصِبُ لِلْيَوْمِ الفِعْلُ المَنفِيُّ بِلا، وفِيهِ حُجَّةٌ عَلى مَن مَنَعَ ذَلِكَ، ﴿ولا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، في الحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ تَعالى يُعَزِّرُ الكافِرَ فَيَقُولُ لَهُ: أرَأيْتَكَ لَوْ كانَ لَكَ أضْعافُ الدُّنْيا، أكُنْتَ تَفْتَدِي بِجَمِيعِ ذَلِكَ مِن عَذابِ النّارِ ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يا رَبِّ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى: قَدْ سَألْتُكَ ما هو أيْسَرُ مِن ذَلِكَ وأنْتَ في ظَهْرِ أبِيكَ آدَمَ أنْ لا تُشْرِكَ بِي فَأبَيْتَ إلّا الشِّرْكَ» . وقَرَأ الجُمْهُورُ: لا يُؤْخَذُ؛ وأبُو جَعْفَرٍ والحَسَنُ وابْنُ أبِي إسْحاقَ والأعْرَجُ وابْنُ عامِرٍ وهارُونُ عَنْ أبِي عَمْرٍو: بِالتّاءِ لِتَأْنِيثِ الفِدْيَةِ. ﴿هِيَ مَوْلاكُمْ﴾، قِيلَ: أوْلى بِكم، وهَذا تَفْسِيرُ مَعْنًى. وكانَتْ مَوْلاهم مِن حَيْثُ أنَّها تَضُمُّهم وتُباشِرُهم، وهي تَكُونُ لَكم مَكانَ المَوْلى، ونَحْوُهُ قَوْلُهُ: ؎تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وجِيعُ وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ هي ناصِرُكم، أيْ لا ناصِرَ لَكم غَيْرُها. والمُرادُ نَفْيُ النّاصِرِ عَلى البَتاتِ، ونَحْوُهُ قَوْلُهم: أُصِيبَ فُلانٌ بِكَذا فاسْتَنْصَرَ الجَزَعَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُغاثُوا بِماءٍ كالمُهْلِ﴾ [الكهف: ٢٩] . وقِيلَ: تَتَوَلّاكم كَما تَوَلَّيْتُمْ في الدُّنْيا أعْمالَ أهْلِ النّارِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب