الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿سَنَفْرُغُ لَكم أيُّها الثَّقَلانِ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ ﴿يامَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ إنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا مِن أقْطارِ السَّماواتِ والأرْضِ فانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلّا بِسُلْطانٍ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِن نارٍ ونُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ ﴿فَإذا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ ورْدَةً كالدِّهانِ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ ولا جانٌّ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ ﴿يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيماهم فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي والأقْدامِ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِها المُجْرِمُونَ﴾ ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَها وبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ ﴿ولِمَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ ﴿ذَواتا أفْنانٍ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ ﴿فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ ﴿فِيهِما مِن كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ ﴿مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِن إسْتَبْرَقٍ﴾ [الرحمن: ٥٤] . (p-١٩٤)لَمّا ذَكَرَ تَعالى ما أنْعَمَ بِهِ مِن تَعْلِيمِ العِلْمِ وخَلْقِ الإنْسانِ والسَّماءِ والأرْضِ وما أوْدَعَ فِيهِما وفَناءَ ما عَلى الأرْضِ، ذَكَرَ ما يَتَعَلَّقُ بِأحْوالِ الآخِرَةِ والجَزاءِ وقالَ: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ﴾: أيْ نَنْظُرُ في أُمُورِكم يَوْمَ القِيامَةِ، لا أنَّهُ تَعالى كانَ لَهُ شُغْلٌ فَيَفْرَغُ مِنهُ. وجَرى عَلى هَذا كَلامُ العَرَبِ في أنَّ المَعْنى: سَيَقْصِدُ لِحِسابِكم، فَهو اسْتِعارَةٌ مِن قَوْلِ الرَّجُلِ لِمَن يَتَهَدَّدُهُ: سَأفْرَغُ لَكَ، أيْ سَأتَجَرَّدُ لِلْإيقاعِ بِكَ مِن كُلِّ ما شَغَلَنِي عَنْهُ حَتّى لا يَكُونَ لِي شُغْلٌ سِواهُ، والمُرادُ التَّوَفُّرُ عَلى الِانْتِقامِ مِنهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ التَّوَعُّدُ بِعَذابٍ في الدُّنْيا، والأوَّلُ أبْيَنُ. انْتَهى، يَعْنِي: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَوْمَ القِيامَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ سَتَنْتَهِي الدُّنْيا ويُبْلَغُ آخِرُها، وتَنْتَهِي عِنْدَ ذَلِكَ شُئُونُ الخَلْقِ الَّتِي أرادَها بِقَوْلِهِ: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هو في شَأْنٍ﴾ [الرحمن: ٢٩]، فَلا يَبْقى إلّا شَأْنٌ واحِدٌ وهو جَزاؤُكم، فَجَعَلَ ذَلِكَ فَراغًا لَهم عَلى طَرِيقِ المَثَلِ. انْتَهى. والَّذِي عَلَيْهِ أئِمَّةُ اللُّغَةِ أنَّ فَرَغَ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ انْقِضاءِ الشُّغْلِ الَّذِي كانَ الإنْسانُ مُشْتَغِلًا بِهِ، فَلِذَلِكَ احْتاجَ قَوْلُهُ إلى التَّأْوِيلِ عَلى أنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ فَرَغَ يَكُونُ بِمَعْنى قَصَدَ واهْتَمَّ، واسْتَدَلَّ عَلى ذَلِكَ بِما أنْشَدَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ لِجَرِيرٍ: ؎الانَ وقَدْ فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ فَهَذا حِينَ كُنْتُ لَهم عَذابا أيْ: قَصَدْتُ. وأنْشَدَ النَّحّاسُ: ؎فَرَغْتُ إلى العَبْدِ المُقَيَّدِ في الحَجَلْ وفِي الحَدِيثِ: «فَرَغَ رَبُّكَ مِن أرْبَعٍ»، وفِيهِ: «لَأتَفَرَّغَنَّ إلَيْكَ يا خَبِيثُ»، يُخاطِبُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، إرْبَ العَقَبَةِ يَوْمَ بَيْعَتِها: أيْ لَأقْصِدَنَّ إبْطالَ أمْرِكَ، نُقِلَ هَذا عَنِ الخَلِيلِ والكِسائِيِّ والفَرّاءِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: سَنَفْرُغُ بِنُونِ العَظَمَةِ وضَمِّ الرّاءِ، مِن فَرَغَ بِفَتْحِ الرّاءِ، وهي لُغَةُ الحِجازِ؛ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وأبُو حَيْوَةَ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِياءِ الغَيْبَةِ؛ وقَتادَةُ والأعْرَجُ: بِالنُّونِ وفَتْحِ الرّاءِ، مُضارِعُ فَرَغَ بِكَسْرِها، وهي تَمِيمِيَّةٌ؛ وأبُو السَّمّالِ وعِيسى: بِكَسْرِ النُّونِ وفَتْحِ الرّاءِ. قالَ أبُو حاتِمٍ: هي لُغَةُ سُفْلى مُضَرَ. والأعْمَشُ وأبُو حَيْوَةَ بِخِلافٍ عَنْهُما؛ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ والزَّعْفَرانِيُّ: بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الرّاءِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ؛ وعِيسى أيْضًا: بِفَتْحِ النُّونِ وكَسْرِ الرّاءِ. والأعْرَجُ أيْضًا: بِفَتْحِ الياءِ والرّاءِ، وهي رِوايَةُ يُونُسَ والجُعْفِيِّ وعَبْدِ الوارِثِ عَنْ أبِي عَمْرٍو. والثَّقَلانِ: الإنْسُ والجِنُّ، سُمِّيا بِذَلِكَ لِكَوْنِهِما ثَقِيلَيْنِ عَلى وجْهِ الأرْضِ، أوْ لِكَوْنِهِما مُثْقَلِينَ بِالذُّنُوبِ، أوْ لِثِقَلِ الإنْسِ. وسُمِّيَ الجِنُّ ثَقَلًا لِمُجاوَرَةِ الإنْسِ، والثَّقَلُ: الأمْرُ العَظِيمُ. وفي الحَدِيثِ: «إنِّي تارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتابُ اللَّهِ وعِتْرَتِي»، سُمِّيا بِذَلِكَ لِعِظَمِهِما وشَرَفِهِما. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يامَعْشَرَ﴾ الآيَةَ مِن خِطابِ اللَّهِ إيّاهم يَوْمَ القِيامَةِ، ﴿يَوْمَ التَّنادِ﴾ [غافر: ٣٢] . وقِيلَ: يُقالُ لَهم ذَلِكَ. قالَ الضَّحّاكُ: يَفِرُّونَ في أقْطارِ الأرْضِ لِما يَرَوْنَ مِنَ الهَوْلِ، فَيَجِدُونَ المَلائِكَةَ قَدْ أحاطَتْ بِالأرْضِ، فَيَرْجِعُونَ مِن حَيْثُ جاءُوا، فَحِينَئِذٍ يُقالُ لَهم ذَلِكَ. وقِيلَ: هو خِطابٌ في الدُّنْيا، والمَعْنى: إنِ اسْتَطَعْتُمُ الفِرارَ مِنَ المَوْتِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ﴿إنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ بِأذْهانِكم وفِكْرِكم، ﴿أنْ تَنْفُذُوا﴾، فَتَعْلَمُونَ عِلْمَ ﴿أقْطارِ﴾: أيْ جِهاتِ ﴿السَّماواتِ والأرْضِ﴾ . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿يامَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ﴾، كالتَّرْجَمَةِ لِقَوْلِهِ: ﴿أيُّها الثَّقَلانِ﴾، ﴿إنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ أنْ تَهْرُبُوا مِن قَضائِي، وتَخْرُجُوا مِن مَلَكُوتِي ومِن سَمائِي وأرْضِي فافْعَلُوا؛ ثُمَّ قالَ: لا تَقْدِرُونَ عَلى النُّفُوذِ ﴿إلّا بِسُلْطانٍ﴾، يَعْنِي: بِقُوَّةٍ وقَهْرٍ وغَلَبَةٍ، وأنّى لَكم ذَلِكَ، ونَحْوُهُ: ﴿وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾ [العنكبوت: ٢٢] . انْتَهى. ﴿فانْفُذُوا﴾: أمْرُ تَعْجِيزٍ. وقالَ قَتادَةُ: السُّلْطانُ هُنا المِلْكُ، ولَيْسَ لَهم مِلْكٌ. وقالَ الضَّحّاكُ أيْضًا: بَيْنَما النّاسُ في أسْواقِهِمْ، انْفَتَحَتِ السَّماءُ ونَزَلَتِ المَلائِكَةُ، فَتَهْرُبُ الجِنُّ والإنْسُ، فَتُحَدِّقُ بِهِمُ المَلائِكَةُ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: إنِ اسْتَطَعْتُما، عَلى خِطابِ تَثْنِيَةِ الثَّقَلَيْنِ ومُراعاةِ الجِنِّ والإنْسِ؛ والجُمْهُورُ: عَلى خِطابِ (p-١٩٥)الجَماعَةِ إنِ اسْتَطَعْتُمْ، لِأنَّ كُلًّا مِنهُما تَحْتَهُ أفْرادٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ: ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ [الحجرات: ٩] . ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إذا خَرَجُوا مِن قُبُورِهِمْ، ساقَهم شُواظٌ إلى المَحْشَرِ. والشُّواظُ: لَهَبُ النّارِ. وقالَ مُجاهِدٌ: اللَّهَبُ الأحْمَرُ المُنْقَطِعُ. وقالَ الضَّحّاكُ: الدُّخانُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ اللَّهَبِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: شُواظٌ، بِضَمِّ الشِّينِ؛ وعِيسى وابْنُ كَثِيرٍ وشِبْلٌ: بِكَسْرِها. والجُمْهُورُ؛ ﴿ونُحاسٌ﴾: بِالرَّفْعِ؛ وابْنُ أبِي إسْحاقَ والنَّخَعِيُّ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو: بِالجَرِّ؛ والكَلْبِيُّ وطَلْحَةُ ومُجاهِدٌ: بِكَسْرِ نُونِ ”نِحاسٍ“ والسِّينِ. وقَرَأ ابْنُ جُبَيْرٍ: ونَحْسٌ، كَما تَقُولُ: يَوْمٌ نَحْسٌ. وقَرَأ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي بَكْرَةَ وابْنُ أبِي إسْحاقَ أيْضًا: ونَحُسُّ مُضارِعًا، وماضِيهِ حَسَّهُ، أيْ قَتَلَهُ، أيْ ويُحِسُّ بِالعَذابِ. وعَنِ ابْنِ أبِي إسْحاقَ أيْضًا: ونَحِسٌ بِالحَرَكاتِ الثَّلاثِ في الحاءِ عَلى التَّخْيِيرِ؛ وحَنْظَلَةُ بْنُ نُعْمانَ: ونَحِسٍ بِفَتْحِ النُّونِ وكَسْرِ السِّينِ؛ والحَسَنُ وإسْماعِيلُ: ونُحُسٍ بِضَمَّتَيْنِ والكَسْرِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: نُرْسِلُ بِالنُّونِ، عَلَيْكُما شُواظًا بِالنَّصْبِ، مِن نارٍ ونُحاسًا بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى شُواظًا. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُبَيْرٍ: والنُّحاسُ الدُّخانُ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا ومُجاهِدٍ: هو الصُّفْرُ المَعْرُوفُ، والمَعْنى: يُعْجِزُ الجِنَّ والإنْسَ، أيْ أنْتُما بِحالِ مَن يُرْسَلُ عَلَيْهِ هَذا، فَلا يَقْدِرُ عَلى الِامْتِناعِ مِمّا يُرْسَلُ عَلَيْهِ. ﴿فَإذا انْشَقَّتِ السَّماءُ﴾: جَوابُ إذا مَحْذُوفٌ، أيْ فَما أعْظَمَ الهَوْلَ، وانْشِقاقُها: انْفِطارُها يَوْمَ القِيامَةِ. ﴿فَكانَتْ ورْدَةً﴾: أيْ مُحْمَرَّةً كالوَرْدِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو صالِحٍ: هي مِن لَوْنِ الفَرَسِ الوَرْدِ، فَأُنِّثَ لِكَوْنِ السَّماءِ مُؤَنَّثَةً. وقالَ قَتادَةُ: هي اليَوْمَ زَرْقاءُ، ويَوْمَئِذٍ تَغْلِبُ عَلَيْها الحُمْرَةُ كَلَوْنِ الوَرْدِ، وهي النَّوّارُ المَعْرُوفُ، قالَهُ الزَّجّاجُ، ويُرِيدُ كَلَوْنِ الوَرْدِ، وقالَ الشّاعِرُ: ؎فَلَوْ كُنْتُ ورْدًا لَوْنُهُ لَعَشِقْتِنِي ∗∗∗ ولَكِنَّ رَبِّي شانَنِي بِسَوادِيا وقالَ أبُو الجَوْزاءِ: ورْدَةٌ صَفْراءُ. وقالَ: أما سَمِعْتَ العَرَبَ تُسَمِّي الخَيْلَ الوَرْدَ ؟ قالَ الفَرّاءُ: أرادَ لَوْنَ الفَرَسِ الوَرْدِ، يَكُونُ في الرَّبِيعِ إلى الصُّفْرَةِ، وفي الشِّتاءِ إلى الحُمْرَةِ، وفي اشْتِدادِ البَرْدِ إلى الغُبْرَةِ، فَشَبَّهَ تَلَوُّنَ السَّماءِ بِتَلَوُّنِ الوَرْدَةِ مِنَ الخَيْلِ، وهَذا قَوْلُ الكَلْبِيِّ. ﴿كالدِّهانِ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الأدِيمُ الأحْمَرُ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى: ؎وأجْرَدَ مِن كِرامِ الخَيْرِ طِرْفٍ ∗∗∗ كَأنَّ عَلى شَواكِلِهِ دِهانا وقالَ الشّاعِرُ: كالدِّهانِ المُخْتَلِفَةِ، لِأنَّها تَتَلَوَّنُ ألْوانًا. وقالَ الضَّحّاكُ: كالدِّهانِ خالِصَةً، جَمْعَ دُهْنٍ، كَقُرْطٍ وقِراطٍ. وقِيلَ: تَصِيرُ حَمْراءَ مِن حَرارَةِ جَهَنَّمَ، ومِثْلَ الدُّهْنِ لِذَوْبِها ودَوَرانِها. وقِيلَ: شُبِّهَتْ بِالدِّهانِ في لَمَعانِها. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿كالدِّهانِ﴾: كَدُهْنِ الزَّيْتِ، كَما قالَ: ﴿كالمُهْلِ﴾ [الكهف: ٢٩]، وهو دُرْدِيُّ الزَّيْتِ، وهو جَمْعُ دُهْنٍ أوِ اسْمُ ما يُدْهَنُ بِهِ، كالحَرامِ والأدامِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎كَأنَّهُما مَزادَتا مُتَعَجِّلٍ ∗∗∗ فَرِيّانِ لَمّا سُلِّعا بِدِهانِ وقَرَأ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: ورْدَةٌ بِالرَّفْعِ بِمَعْنى: فَحَصَلَتْ سَماءٌ ورْدَةٌ، وهو مِنَ الكَلامِ الَّذِي يُسَمّى التَّجْرِيدَ، كَقَوْلِهِ: ؎فَلَئِنْ بَقِيتُ لَأرْحَلَنَّ بِغَزْوَةٍ ∗∗∗ نَحْوَ المَغانِمِ أوْ يَمُوتَ كَرِيمُ انْتَهى. ﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾: التَّنْوِينُ فِيهِ لِلْعِوَضِ مِنَ الجُمْلَةِ المَحْذُوفَةِ، والتَّقْدِيرُ: فَيَوْمَ إذِ انْشَقَّتِ السَّماءُ، والنّاصِبُ لِيَوْمَئِذٍ ﴿لا يُسْألُ﴾، ودَلَّ هَذا عَلى انْتِفاءِ السُّؤالِ، ﴿وقِفُوهم إنَّهم مَسْئُولُونَ﴾ [الصافات: ٢٤] وغَيْرُهُ مِنَ الآياتِ عَلى وُقُوعِ السُّؤالِ. فَقالَ عِكْرِمَةُ وقَتادَةُ: هي مَواطِنُ يُسْألُ في بَعْضِها. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: حَيْثُ ذَكَرَ السُّؤالَ فَهو سُؤالُ تَوْبِيخٍ وتَقْرِيرٍ، وحَيْثُ نَفى فَهي اسْتِخْبارٌ مَحْضٌ عَنِ الذَّنْبِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِكُلِّ شَيْءٍ. وقالَ قَتادَةُ أيْضًا: كانَتْ مَسْألَةً، ثُمَّ خَتَمَ عَلى الأفْواهِ وتَكَلَّمَتِ الأيْدِي والأرْجُلُ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وقالَ أبُو العالِيَةِ وقَتادَةُ: لا يُسْألُ غَيْرُ المُجْرِمِ عَنْ ذَنْبِ المُجْرِمِ. وقَرَأ الحَسَنُ وعَمْرُو بْنُ (p-١٩٦)عُبَيْدٍ: ولا جَأْنٌ بِالهَمْزِ، فِرارًا مِنِ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ، وإنْ كانَ التِقاؤُهُما عَلى حَدِّهِ. وقَرَأ حَمّادُ بْنُ أبِي سُلَيْمانَ: بِسِيمائِهِمْ؛ والجُمْهُورُ: ﴿بِسِيماهُمْ﴾، وسِيما المُجْرِمِينَ: سَوادُ الوُجُوهِ وزُرْقَةُ العُيُونِ، قالَهُ الحَسَنُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ غَيْرَ هَذا مِنَ التَّشْوِيهاتِ، كالعَمى والبَكَمِ والصَّمَمِ. ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي والأقْدامِ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُؤْخَذُ بِناصِيَتِهِ وقَدَمَيْهِ فَيُوطَأُ، ويُجْمَعُ كالحَطَبِ، ويُلْقى كَذَلِكَ في النّارِ. وقالَ الضَّحّاكُ: يُجْمَعُ بَيْنَهُما في سِلْسِلَةٍ مِن وراءِ ظَهْرِهِ. وقِيلَ: تَسْحَبُهُمُ المَلائِكَةُ، تارَةً تَأْخُذُ بِالنَّواصِي، وتارَةً بِالأقْدامِ. وقِيلَ: بَعْضَهم سَحْبًا بِالنّاصِيَةِ، وبَعْضَهم سَحْبًا بِالقَدَمِ؛ ويُؤْخَذُ مُتَعَدٍّ إلى مَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ، وحُذِفَ هَذا الفاعِلُ والمَفْعُولُ، وأُقِيمَ الجارُّ والمَجْرُورُ مَقامَ الفاعِلِ مُضَمِّنًا مَعْنى ما يُعَدّى بِالباءِ، أيْ فَيُسْحَبُ بِالنَّواصِي والأقْدامِ، وألْ فِيهِما عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ عِوَضٌ مِنَ الضَّمِيرِ، أيْ بِنَواصِيهِمْ وأقْدامِهِمْ، وعَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ الضَّمِيرُ مَحْذُوفٌ، أيْ بِالنَّواصِي والأقْدامِ مِنهم. ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ﴾: أيْ يُقالُ لَهم ذَلِكَ عَلى طَرِيقِ التَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ. ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَها﴾: أيْ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ نارِها وبَيْنَ ما غَلى فِيها مِن مائِعِ عَذابِها. وقالَ قَتادَةُ: الحَمِيمُ يَغْلِي مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ جَهَنَّمَ، وآنٌ: أيْ مُنْتَهى الحَرِّ والنُّضْجِ، فَيُعاقَبُ بَيْنَهم وبَيْنَ تَصْلِيَةِ النّارِ، وبَيْنَ شُرْبِ الحَمِيمِ. وقِيلَ: إذا اسْتَغاثُوا مِنَ النّارِ، جُعِلَ غِياثُهُمُ الحَمِيمَ. وقِيلَ: يُغْمَسُونَ في وادٍ في جَهَنَّمَ يَجْتَمِعُ فِيهِ صَدِيدُ أهْلِ النّارِ فَتَنْخَلِعُ أوْصالُهم، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنهُ، وقَدْ أحْدَثَ اللَّهُ لَهم خَلْقًا جَدِيدًا. وقَرَأ عَلِيٌّ والسُّلَمِيُّ: يُطافُونَ؛ والأعْمَشُ وطَلْحَةُ وابْنُ مِقْسَمٍ: يُطَوِّفُونَ بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الطّاءِ وكَسْرِ الواوِ مُشَدَّدَةً. وقُرِئَ: يَطَّوَّفُونَ، أيْ يَتَطَوَّفُونَ. والجُمْهُورُ: يَطُوفُونَ مُضارِعُ طافَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِمَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ﴾، قالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: نَزَلَتْ في أبِي بَكْرٍ. ﴿مَقامَ رَبِّهِ﴾ مَصْدَرٌ، فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مُضافًا إلى الفاعِلِ، أيْ قِيامُ رَبِّهِ عَلَيْهِ، وهو مَرْوِيٌّ عَنْ مُجاهِدٍ، قالَ: مِن قَوْلِهِ: ﴿أفَمَن هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ﴾ [الرعد: ٣٣]، أيْ حافِظٌ مُهَيْمِنٌ، فالعَبْدُ يُراقِبُ ذَلِكَ، فَلا يَجْسُرُ عَلى المَعْصِيَةِ. وقِيلَ: الإضافَةُ تَكُونُ بِأدْنى مُلابَسَةٍ، فالمَعْنى أنَّهُ يَخافُ مَقامَهُ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ العِبادُ لِلْحِسابِ، مِن قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ [المطففين: ٦]، وفي هَذِهِ الإضافَةِ تَنْبِيهٌ عَلى صُعُوبَةِ المَوْقِفِ. وقِيلَ: مَقامَ مُقْحَمٌ، والمَعْنى: ولِمَن خافَ رَبَّهُ، كَما تَقُولُ: أخافُ جانِبَ فُلانٍ يَعْنِي فُلانًا. والظّاهِرُ أنَّ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنَ الخائِفِينَ ﴿جَنَّتانِ﴾، قِيلَ: إحْداهُما مَنزِلُهُ، والأُخْرى لِأزْواجِهِ وخَدَمِهِ. وقالَ مُقاتِلٌ: جَنَّةُ عَدْنٍ، وجَنَّةُ نَعِيمٍ. وقِيلَ: مَنزِلانِ يَنْتَقِلُ مِن أحَدِهِما إلى الآخَرِ لِتَتَوَفَّرَ دَواعِي لَذَّتِهِ وتَظْهَرَ ثِمارُ كَرامَتِهِ. وقِيلَ: هُما لِلْخائِفِينَ؛ والخِطابُ لِلثَّقَلَيْنِ، فَجَنَّةٌ لِلْخائِفِ الجِنِّيِّ، وجَنَّةٌ لِلْخائِفِ الإنْسِيِّ. وقالَ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ: جَنَّةٌ مِن ذَهَبٍ لِلسّابِقِينَ، وجَنَّةٌ مِن فِضَّةٍ لِلتّابِعِينَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُقالَ: جَنَّةٌ لِفِعْلِ الطّاعاتِ، وجَنَّةٌ لِتَرْكِ المَعاصِي، لِأنَّ التَّكْلِيفَ دائِرٌ عَلَيْهِما. وأنْ يُقالَ: جَنَّةٌ يُباتُ بِها، وأُخْرى يُضَمُّ إلَيْها عَلى وجْهِ التَّفَضُّلِ لِقَوْلِهِ وزِيادَةٌ؛ وخَصَّ الأفْنانَ بِالذِّكْرِ جَمْعُ فَنَنٍ، وهي الغُصُونُ الَّتِي تَتَشَعَّبُ عَنْ فُرُوعِ الشَّجَرِ، لِأنَّها الَّتِي تُورِقُ وتُثْمِرُ، ومِنها تَمْتَدُّ الظِّلالُ، ومِنها تُجْنى الثِّمارُ. وقِيلَ: الأفْنانُ جَمْعُ فَنٍّ، وهي ألْوانُ النِّعَمِ وأنْواعُها، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، والأوَّلُ قالَ قَرِيبًا مِنهُ مُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ، وهو أوْلى، لِأنَّ أفْعالًا في فَعَلٍ أكْثَرُ مِنهُ في فَعْلٍ بِسُكُونِ العَيْنِ، وفَنٌّ يُجْمَعُ عَلى فُنُونٍ. ﴿فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هُما عَيْنانِ مِثْلُ الدُّنْيا أضْعافًا مُضاعَفَةً. وقالَ: تَجْرِيانِ بِالزِّيادَةِ والكَرامَةِ عَلى أهْلِ الجَنَّةِ. وقالَ الحَسَنُ: تَجْرِيانِ بِالماءِ الزُّلالِ، إحْداهُما التَّسْنِيمُ، والأُخْرى السَّلْسَبِيلُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إحْداهُما مِن ماءٍ، والأُخْرى مِن خَمْرٍ. وقِيلَ: تَجْرِيانِ في الأعالِي والأسافِلِ مِن جَبَلٍ مِن مِسْكٍ. ﴿زَوْجانِ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ما في الدُّنْيا مِن شَجَرَةٍ حُلْوَةٍ ولا مُرَّةٍ إلّا وهي في الجَنَّةِ، (p-١٩٧)حَتّى شَجَرُ الحَنْظَلِ، إلّا أنَّهُ حُلْوًا. انْتَهى. ومَعْنى زَوْجانِ: رَطْبٌ ويابِسٌ، لا يَقْصُرُ هَذا عَنْ ذاكَ في الطِّيبِ واللَّذَّةِ. وقِيلَ: صِنْفانِ، صِنْفٌ مَعْرُوفٌ، وصِنْفٌ غَرِيبٌ. وجاءَ الفَصْلُ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿ذَواتا أفْنانٍ﴾ وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿فِيهِما مِن كُلِّ فاكِهَةٍ﴾ بِقَوْلِهِ: ﴿فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ﴾ . والأفْنانُ عَلَيْها الفَواكِهُ، لِأنَّ الدّاخِلَ إلى البُسْتانِ لا يُقْدِمُ إلّا لِلتَّفَرُّجِ بِلَذَّةِ ما فِيهِ بِالنَّظَرِ إلى خُضْرَةِ الشَّجَرِ وجَرْيِ الأنْهارِ، ثُمَّ بَعْدُ يَأْخُذُ في اجْتِناءِ الثِّمارِ لِلْأكْلِ. وانْتَصَبَ (مُتَّكِئِينَ) عَلى الحالِ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولِمَن خافَ﴾، وحَمَلَ جَمْعًا عَلى مَعْنى مَن. وقِيلَ: العامِلُ مَحْذُوفٌ، أيْ يَتَنَعَّمُونَ مُتَّكِئِينَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ نُصِبَ عَلى المَدْحِ، والِاتِّكاءُ مِن صِفاتِ المُتَنَعِّمِ الدّالَّةِ عَلى صِحَّةِ الجِسْمِ وفَراغِ القَلْبِ، والمَعْنى: (مُتَّكِئِينَ) في مَنازِلِهِمْ ﴿عَلى فُرُشٍ﴾ [الرحمن: ٥٤] . وقَرَأ الجُمْهُورُ: فُرُشٍ، بِضَمَّتَيْنِ؛ وأبُو حَيْوَةَ: بِسُكُونِ الرّاءِ. وفي الحَدِيثِ: ”قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، «هَذِهِ البَطائِنُ مِن إسْتَبْرَقٍ، كَيْفَ الظَّهائِرُ ؟ قالَ: هي مِن نُورٍ يَتَلَأْلَأُ“»، ولَوْ صَحَّ هَذا لَمْ يَجُزْ أنْ يُفَسَّرَ بِغَيْرِهِ. وقِيلَ: مِن سُنْدُسٍ. قالَ الحَسَنُ والفَرّاءُ: البَطائِنُ هي الظَّهائِرُ. ورُوِيَ عَنْ قَتادَةَ، وقالَ الفَرّاءُ: قَدْ تَكُونُ البِطانَةُ الظِّهارَةَ والظِّهارَةُ البِطانَةَ، لِأنَّ كُلًّا مِنهُما يَكُونُ وجْهًا، والعَرَبُ تَقُولُ: هَذا وجْهُ السَّماءِ، وهَذا بَطْنُ السَّماءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب