الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ تَعالى ما أنْعَمَ بِهِ مِن مَنفَعَةِ الشَّمْسِ والقَمَرِ، وكانَ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ العُلْوِيَّةِ، ذَكَرَ في مُقابَلَتِهِما مِنَ الآثارِ السُّفْلِيَّةِ النَّجْمَ والشَّجَرَ، إذْ كانا رِزْقًا لِلْإنْسانِ، وأخْبَرَ أنَّهُما جارِيانِ عَلى ما أرادَ اللَّهُ بِهِما، مِن تَسْخِيرِهِما وكَيْنُونَتِهِما عَلى ما اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ تَعالى. ولَمّا ذَكَرَ ما بِهِ حَياةُ الأرْواحِ مِن تَعْلِيمِ القُرْآنِ، ذَكَرَ ما بِهِ حَياةُ الأشْباحِ مِنَ النَّباتِ الَّذِي لَهُ ساقٌ، وكانَ تَقْدِيمُ النَّجْمِ، وهو ما لا ساقَ لَهُ، لِأنَّهُ أصْلُ القُوتِ، والَّذِي لَهُ ساقٌ ثَمَرُهُ يُتَفَكَّهُ بِهِ غالِبًا. والظّاهِرُ أنَّ النَّجْمَ هو الَّذِي شَرَحْناهُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ اقْتِرانُهُ بِالشَّجَرِ. وقالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ والحَسَنُ: النَّجْمُ: اسْمُ الجِنْسِ مِن نُجُومِ السَّماءِ. وسُجُودُهُما، قالَ مُجاهِدٌ والحَسَنُ: ذَلِكَ في النَّجْمِ بِالغُرُوبِ ونَحْوِهِ، وفي الشَّجَرِ بِالظِّلِّ واسْتِدارَتِهِ. وقالَ مُجاهِدٌ أيْضًا: والسُّجُودُ تَجَوُّزٌ، وهو عِبارَةٌ عَنِ الخُضُوعِ والتَّذَلُّلِ. والجُمَلُ الأُوَلُ فِيها ضَمِيرٌ يَرْبُطُها بِالمُبْتَدَأِ، وأمّا في هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ فاكْتَفى بِالوَصْلِ المَعْنَوِيِّ عَنِ الوَصْلِ اللَّفْظِيِّ، إذْ مَعْلُومٌ أنَّ الحُسْبانَ هو حُسْبانُهُ، وأنَّ السُّجُودَ لَهُ لا لِغَيْرِهِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: بِحُسْبانِهِ ويَسْجُدانِ لَهُ. ولَمّا أُورِدَتْ هَذِهِ الجُمَلُ مَوْرِدَ تَعْدِيدِ النِّعَمِ رُدَّ الكَلامُ إلى العَطْفِ في وصْلِ ما يُناسِبُ وصْلَهُ، والتَّناسُبُ الَّذِي بَيْنَ هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ ظاهِرٌ، لِأنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ عُلْوِيّانِ، والنَّجْمُ والشَّجَرُ سُفْلِيّانِ. ﴿والسَّماءَ رَفَعَها﴾: أيْ خَلَقَها مَرْفُوعَةً، حَيْثُ جَعَلَها مَصْدَرَ قَضاياهُ ومَسْكَنَ مَلائِكَتِهِ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ بِالوَحْيِ عَلى أنْبِيائِهِ، ونَبَّهَ بِذَلِكَ عَلى عِظَمِ شَأْنِهِ ومِلْكِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (والسَّماءَ)، بِالنَّصْبِ عَلى الِاشْتِغالِ، رُوعِيَ مُشاكَلَةُ الجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهِ وهي ﴿يَسْجُدانِ﴾ [الرحمن: ٦] . وقَرَأ أبُو السَّمّالِ: والسَّماءُ بِالرَّفْعِ، راعى مُشاكَلَةَ الجُمْلَةِ الِابْتِدائِيَّةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ووَضَعَ المِيزانَ﴾، فِعْلًا ماضِيًا ناصِبًا المِيزانَ، أيْ أقَرَّهُ وأثْبَتَهُ. وقَرَأ إبْراهِيمُ: ووَضْعِ المِيزانِ، بِالخَفْضِ وإسْكانِ الضّادِ. والظّاهِرُ أنَّهُ كُلُّ ما يُوزَنُ بِهِ الأشْياءُ وتُعْرَفُ مَقادِيرُها، وإنِ اخْتَلَفَتِ الآلاتُ، قالَ مَعْناهُ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وقَتادَةُ، جَعَلَهُ تَعالى حاكِمًا بِالسَّوِيَّةِ في الأخْذِ والإعْطاءِ. وقالَ مُجاهِدٌ والطَّبَرِيُّ والأكْثَرُونَ: المِيزانُ: العَدْلُ، وتَكُونُ الآلاتُ مِن بَعْضِ ما يَنْدَرِجُ في العَدْلِ. بَدَأ أوَّلًا بِالعِلْمِ، فَذَكَرَ ما فِيهِ أشْرَفُ أنْواعِ العُلُومِ وهو القُرْآنُ؛ ثُمَّ ذَكَرَ ما بِهِ التَّعْدِيلُ في الأُمُورِ، وهو المِيزانُ، كَقَوْلِهِ: ﴿وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ﴾ [الحديد: ٢٥]، لِيُعَلِّمُوا الكِتابَ ويَفْعَلُوا ما يَأْمُرُهم بِهِ الكِتابُ. (أنْ لا تَطْغَوْا في المِيزانِ): أيْ لِأنْ لا تَطْغَوْا، فَتَطْغَوْا مَنصُوبٌ بِأنْ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ هي ”أنِ“ المُفَسِّرَةُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ أنْ مُفَسِّرَةً، فَيَكُونُ تَطْغَوْا جَزْمًا بِالنَّهْيِ. انْتَهى، ولا يَجُوزُ ما قالاهُ مِن أنَّ أنْ مُفَسِّرَةٌ، لِأنَّهُ فاتَ أحَدُ شَرْطَيْها، وهو أنْ يَكُونَ ما قَبْلَها جُمْلَةً فِيها مَعْنى القَوْلِ. ﴿ووَضَعَ المِيزانَ﴾ جُمْلَةٌ لَيْسَ فِيها مَعْنى القَوْلِ. والطُّغْيانُ في المِيزانِ هو أنْ يَكُونَ بِالتَّعَمُّدِ، وأمّا ما لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْرِيرِ بِالمِيزانِ فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ. ولَمّا كانَتِ التَّسْوِيَةُ مَطْلُوبَةً جِدًّا، أمَرَ اللَّهُ تَعالى فَقالَ: ﴿وأقِيمُوا الوَزْنَ﴾ . وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ولا تُخْسِرُوا﴾، مِن أخْسَرَ: أيْ أفْسَدَ ونَقَصَ، كَقَوْلِهِ: ﴿وإذا كالُوهم أوْ وزَنُوهم يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: ٣]؛ أيْ يَنْقُصُونَ. وبِلالُ بْنُ أبِي بُرْدَةَ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تَخْسَرُ بِفَتْحِ التّاءِ، يُقالُ: خَسِرَ يَخْسَرُ، وأخْسَرَ يُخْسِرُ بِمَعْنًى واحِدٍ، كَجَبَرَ وأجْبَرَ. وحَكى ابْنُ جِنِّي وصاحِبُ اللَّوامِحِ، عَنْ بِلالٍ فَتْحَ التّاءِ والسِّينِ مُضارِعُ خَسِرَ بِكَسْرِ السِّينِ، وخَرَّجَها الزَّمَخْشَرِيُّ عَلى أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: في المِيزانِ، فَحَذَفَ الجارَّ ونَصَبَ، ولا يُحْتاجُ إلى هَذا التَّخْرِيجِ. ألا تَرى أنَّ خَسِرَ جاءَ مُتَعَدِّيًا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٢]، و﴿خَسِرَ الدُّنْيا والآخِرَةَ﴾ [الحج: ١١] ؟ وقُرِئَ أيْضًا: تَخْسُرُوا، بِفَتْحِ التّاءِ وضَمِّ السِّينِ. لِما مُنِعَ مِنَ الزِّيادَةِ، وهي الطُّغْيانُ، نَهى عَنِ الخُسْرانِ الَّذِي هو نُقْصانٌ، وكَرَّرَ لَفْظَ المِيزانِ، تَشْدِيدًا لِلتَّوْصِيَةِ بِهِ وتَقْوِيَةً لِلْأمْرِ بِاسْتِعْمالِهِ والحَثِّ عَلَيْهِ. ولَمّا ذَكَرَ السَّماءَ، ذَكَرَ مُقابِلَتَها فَقالَ: ﴿والأرْضَ وضَعَها لِلْأنامِ﴾: أيْ خَفَضَها (p-١٩٠)مَدْحُوَّةً عَلى الماءِ لِيُنْتَفَعَ بِها. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”والأرْضَ“ بِالنَّصْبِ؛ وأبُو السَّمّالِ: بِالرَّفْعِ: ”والأنامُ“، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بَنُو آدَمَ فَقَطْ. وقالَ أيْضًا هو وقَتادَةُ وابْنُ زَيْدٍ والشَّعْبِيُّ: الحَيَوانُ كُلُّهُ. وقالَ الحَسَنُ: الثَّقَلانِ الجِنُّ والإنْسُ. ﴿فِيها فاكِهَةٌ﴾: ضُرُوبٌ مِمّا يُتَفَكَّهُ بِهِ. وبَدَأ بِقَوْلِهِ: ﴿فاكِهَةٌ﴾، إذْ هو مِن بابِ الِابْتِداءِ بِالأدْنى والتَّرَقِّي إلى الأعْلى، ونَكَّرَ لَفْظَها، لِأنَّ الِانْتِفاعَ بِها دُونَ الِانْتِفاعِ بِما يُذْكَرُ بَعْدَها. ثُمَّ ثَنّى بِالنَّخْلِ، فَذَكَرَ الأصْلَ ولَمْ يَذْكُرْ ثَمَرَتَها، وهو الثَّمَرُ لِكَثْرَةِ الِانْتِفاعِ بِها مِن لِيفٍ وسَعَفٍ وجَرِيدٍ وجُذُوعٍ وجُمّارٍ وثَمَرٍ. ثُمَّ أتى ثالِثًا بِالحَبِّ الَّذِي هو قِوامُ عَيْشِ الإنْسانِ في أكْثَرِ الأقالِيمِ، وهو البُرُّ والشَّعِيرُ وكُلُّ ما لَهُ سُنْبُلٌ وأوْراقٌ مُتَشَعِّبَةٌ عَلى ساقِهِ، ووَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ذُو العَصْفِ﴾ تَنْبِيهًا عَلى إنْعامِهِ عَلَيْهِمْ بِما يَقُوتُهم مِنَ الحَبِّ، ويَقُوتُ بَهائِمَهم مِن ورَقِهِ الَّذِي هو التِّبْنُ. وبَدَأ بِالفاكِهَةِ وخَتَمَ بِالمَشْمُومِ، وبَيْنَهُما النَّخْلُ والحَبُّ، لِيَحْصُلَ ما بِهِ يُتَفَكَّهُ، وما بِهِ يُتَقَوَّتُ، وما بِهِ تَقَعُ اللَّذاذَةُ مِنَ الرّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ. وذَكَرَ النَّخْلَ بِاسْمِها والفاكِهَةَ دُونَ شَجَرِها، لِعِظَمِ المَنفَعَةِ بِالنَّخْلِ مِن جِهاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وشَجَرَةُ الفاكِهَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى ثَمَرَتِها حَقِيرَةٌ، فَنَصَّ عَلى ما يَعْظُمُ بِهِ الِانْتِفاعُ مِن شَجَرَةِ النَّخْلِ ومِنَ الفاكِهَةِ دُونَ شَجَرَتِها. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿والحَبُّ ذُو العَصْفِ والرَّيْحانُ﴾، بِرَفْعِ الثَّلاثَةِ عَطْفًا عَلى المَرْفُوعِ قَبْلَهُ؛ وابْنُ عامِرٍ وأبُو حَيْوَةَ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: بِنَصْبِ الثَّلاثَةِ، أيْ وخَلَقَ الحَبَّ. وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ ﴿والرَّيْحانُ﴾ حالَةَ الرَّفْعِ وحالَةَ النَّصْبِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ وذُو الرَّيْحانِ حَذَفَ المُضافَ وأقامَ المُضافَ إلَيْهِ مَقامَهُ؛ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ والأصْمَعِيُّ، عَنْ أبِي عَمْرٍو: والرَّيْحانُ بِالجَرِّ، والمَعْنى: والحَبُّ ذُو العَصْفِ الَّذِي هو عَلَفُ البَهائِمِ، والرَّيْحانُ الَّذِي هو مَطْعَمُ النّاسِ، ويَبْعُدُ دُخُولُ المَشْمُومِ في قِراءَةِ الجَرِّ، ورَيْحانُ مِن ذَواتِ الواوِ. وأجازَ أبُو عَلِيٍّ أنْ يَكُونَ اسْمًا، ووُضِعَ مَوْضِعَ المَصْدَرِ، وأنْ يَكُونَ مَصْدَرًا عَلى وزْنِ فَعْلانَ كاللَّبّانِ. وأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً، كَما أبْدَلُوا الياءَ واوًا في أشاوى، أوْ مَصْدَرًا شاذًّا في المُعْتَلِّ، كَما شَذَّ كَبَنُونَةٍ وبَيْنُونَةٍ، فَأصْلُهُ رَيْوِحانُ، قُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ في الياءِ فَصارَ رَيِّحانَ، ثُمَّ حُذِفَتْ عَيْنُ الكَلِمَةِ، كَما قالُوا: مَيْتٌ وهَيْنٌ. ولَمّا عَدَّدَ تَعالى نِعَمَهُ، خاطَبَ الثَّقَلَيْنِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٣٢]، أيْ أنَّ نِعَمَهُ كَثِيرَةٌ لا تُحْصى، فَبِأيِّها تُكَذِّبانِ ؟ أيْ مَن هَذِهِ نِعَمُهُ لا يُمْكِنُ أنْ يُكَذَّبَ بِها. وكانَ هَذا الخِطابُ لِلثَّقَلَيْنِ، لِأنَّهُما داخِلانِ في الأنامِ عَلى أصَحِّ الأقْوالِ. ولِقَوْلِهِ: ﴿خَلَقَ الإنْسانَ﴾، و﴿وخَلَقَ الجانَّ﴾؛ ولِقَوْلِهِ: ﴿سَنَفْرُغُ لَكم أيُّها الثَّقَلانِ﴾ [الرحمن: ٣١]، وقَدْ أبْعَدَ مَن جَعَلَهُ خِطابًا لِلذَّكَرِ والأُنْثى مِن بَنِي آدَمَ. وأبْعَدُ مِن هَذا قَوْلُ مَن قالَ: إنَّهُ خِطابٌ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ: ﴿ألْقِيا في جَهَنَّمَ﴾ [ق: ٢٤]، ويا حَرَسِي اضْرِبا عُنُقَهُ، يَعْنِي أنَّهُ خِطابٌ لِلْواحِدِ بِصُورَةِ الِاثْنَيْنِ، فَبِأيِّ مُنَوَّنًا في جَمِيعِ السُّورَةِ، كَأنَّهُ حُذِفَ مِنهُ المُضافُ إلَيْهِ وأُبْدِلَ مِنهُ (آلاءِ رَبِّكُما) بَدَلَ مَعْرِفَةٍ مِن نَكِرَةٍ، وآلاءُ تَقَدَّمَ في الأعْرافِ أنَّها النِّعَمُ، واحِدُها إلْيٌ وألًا وإلًى وألْيٌ. ﴿خَلَقَ الإنْسانَ﴾: لَمّا ذَكَرَ العالَمَ الأكْبَرَ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ وما أوْجَدَ فِيها مِنَ النِّعَمِ، ذَكَرَ مَبْدَأ مَن خُلِقَتْ لَهُ هَذِهِ النِّعَمُ، والإنْسانُ هو آدَمُ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ. وقِيلَ: لِلْجِنْسِ، وساغَ ذَلِكَ لِأنَّ أباهم مَخْلُوقٌ مِنَ الصَّلْصالِ. وإذا أُرِيدَ بِالإنْسانِ آدَمُ، فَقَدْ جاءَتْ غاياتٌ لَهُ مُخْتَلِفَةٌ، وذَلِكَ بِتَنَقُّلِ أصْلِهِ؛ فَكانَ أوَّلًا تُرابًا، ثُمَّ طِينًا، ثُمَّ حَمَأً مَسْنُونًا، ثُمَّ صَلْصالًا، فَناسَبَ أنْ يُنْسَبَ خَلْقُهُ لِكُلِّ واحِدٍ مِنها. والجانُّ هو أبُو الجِنِّ، وهو إبْلِيسُ، قالَهُ الحَسَنُ. وقالَ مُجاهِدٌ: هو أبُو الجِنِّ، ولَيْسَ بِإبْلِيسَ. وقِيلَ: الجانُّ اسْمُ جِنْسٍ، والمارِجُ: ما اخْتَلَطَ مِن أصْفَرَ وأحْمَرَ وأخْضَرَ، أوِ اللَّهَبُ، أوِ الخالِصُ، أوِ الحُمْرَةُ في طَرَفِ النّارِ، أوِ المُخْتَلِطُ بِسَوادٍ، أوِ المُضْطَرِبُ بِلا دُخانٍ، أقْوالٌ، (ومِن) الأُولى لِابْتِداءِ الغايَةِ، والثّانِيَةُ في (مِن نارٍ) لِلتَّبْعِيضِ. وقِيلَ لِلْبَيانِ، والتَّكْرارُ في هَذِهِ الفَواصِلِ: لِلتَّأْكِيدِ والتَّنْبِيهِ والتَّحْرِيكِ، وهي مَوْجُودَةٌ في مَواضِعَ مِنَ القُرْآنِ. وذَهَبَ قَوْمٌ مِنهُمُ ابْنُ قُتَيْبَةَ إلى أنَّ هَذا التَّكْرارَ إنَّما هو لِاخْتِلافِ النِّعَمِ، فَكَرَّرَ (p-١٩١)التَّوْقِيفَ في كُلِّ واحِدٍ مِنها. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (رَبُّ)، و(رَبُّ) بِالرَّفْعِ، أيْ هو رَبٌّ؛ وأبُو حَيْوَةَ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: بِالخَفْضِ بَدَلًا مِن رَبِّكُما، وثَنّى المُضافَ إلَيْهِ لِأنَّهُما مَشْرِقا الصَّيْفِ والشِّتاءِ ومَغْرِباهُما، قالَهُ مُجاهِدٌ. وقِيلَ: مَشْرِقا الشَّمْسِ والقَمَرِ ومَغْرِباهُما. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: لِلشَّمْسِ مَشْرِقٌ في الصَّيْفِ مُصْعِدٌ، ومَشْرِقٌ في الشِّتاءِ مُنْحَدِرٌ، تَنْتَقِلُ فِيهِما مُصْعِدَةً ومُنْحَدِرَةً. انْتَهى. فالمَشْرِقانِ والمَغْرِبانِ لِلشَّمْسِ. وقِيلَ: المَشْرِقانِ: مَطْلَعُ الفَجْرِ ومَطْلَعُ الشَّمْسِ، والمَغْرِبانِ مَغْرِبُ الشَّفَقِ ومَغْرِبُ الشَّمْسِ. ولِسَهْلٍ التُّسْتَرِيِّ كَلامٌ في المَشْرِقَيْنِ والمَغْرِبَيْنِ شَبِيهٌ بِكَلامِ الباطِنِيَّةِ المُحَرِّفِينَ مَدْلُولَ كَلامِ اللَّهِ، ضَرَبْنا عَنْ ذِكْرِهِ صَفْحًا. وكَذَلِكَ ما وقَفْنا عَلَيْهِ مِن كَلامِ الغُلاةِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ لِلصُّوفِيَّةِ، لِأنّا لا نَسْتَحِلُّ نَقْلَ شَيْءٍ مِنهُ. وقَدْ أوْلَغَ صاحِبُ كِتابِ التَّحْرِيرِ والتَّحْبِيرِ بِحَسْبِ ما قالَهُ هَؤُلاءِ الغُلاةُ في كُلِّ آيَةٍ آيَةٍ، ويُسَمِّي ذَلِكَ الحَقائِقَ، وأرْبابُ القُلُوبِ وما ادَّعَوْا فَهْمَهُ في القُرْآنِ فَأوْغَلُوا فِيهِ لَمْ يَفْهَمْهُ عَرَبِيٌّ قَطُّ، ولا أرادَهُ اللَّهُ تَعالى بِتِلْكَ الألْفاظِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِن ذَلِكَ. ﴿مَرَجَ البَحْرَيْنِ﴾: تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ذَلِكَ في الفُرْقانِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ في ﴿مَرَجَ البَحْرَيْنِ﴾ ألْغازًا وأقْوالًا باطِنَةً لا يُلْتَفَتُ إلى شَيْءٍ مِنها. انْتَهى، والظّاهِرُ التِقاؤُهُما، أيْ يَتَجاوَرانِ، فَلا فَصْلَ بَيْنَ الماءَيْنِ في رُؤْيَةِ العَيْنِ. وقِيلَ: يَلْتَقِيانِ في كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً. وقِيلَ: مُعَدّانِ لِلِالتِقاءِ، فَحَقُّهُما أنْ يَلْتَقِيا لَوْلا البَرْزَخُ بَيْنَهُما. ﴿بَرْزَخٌ﴾: أيْ حاجِزٌ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، ﴿لا يَبْغِيانِ﴾: لا يَتَجاوَزانِ حَدَّهُما، ولا يَبْغِي أحَدُهُما عَلى الآخَرِ بِالمُمازَجَةِ. وقِيلَ: البَرْزَخُ: أجْرامُ الأرْضِ، قالَهُ قَتادَةُ؛ وقِيلَ: لا يَبْغِيانِ: أيْ عَلى النّاسِ والعُمْرانِ، وعَلى هَذا والَّذِي قَبْلَهُ يَكُونُ مِنَ البَغْيِ. وقِيلَ: هو مِن بَغى، أيْ طَلَبَ، فالمَعْنى: لا يَبْغِيانِ حالًا غَيْرَ الحالِ الَّتِي خُلِقا عَلَيْها وسُخِّرا لَها. وقِيلَ: ماءُ الأنْهارِ لا يَخْتَلِطُ بِالماءِ المِلْحِ، بَلْ هو بِذاتِهِ باقٍ فِيهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والعِيانُ لا يَقْتَضِيهِ. انْتَهى، يَعْنِي أنَّهُ يُشاهِدُ الماءَ العَذْبَ يَخْتَلِطُ بِالمِلْحِ فَيَبْقى كُلُّهُ مِلْحًا، وقَدْ يُقالُ: إنَّهُ بِالِاخْتِلاطِ تَتَغَيَّرُ أجْرامُ العَذْبِ حَتّى لا تَظْهَرَ، فَإذا ذاقَ الإنْسانُ مِنَ المِلْحِ المُنْبَثِّ فِيهِ تِلْكَ الأجْزاءُ الدَّقِيقَةُ لَمْ يُحِسَّ إلّا المُلُوحَةَ، والمَعْقُولُ يَشْهَدُ بِذَلِكَ، لِأنَّ تَداخُلَ الأجْسامِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لَكِنَّ التَّفَرُّقَ والِالتِقاءَ مُمْكِنٌ. وأنْشَدَ القاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ البَلُّوطِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: ؎ومَمْزُوجَةُ الأمْواهِ لا العَذْبُ غالِبٌ عَلى المِلْحِ طِيبًا لا ولا المِلْحُ يَعْذُبُ وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿يَخْرُجُ﴾ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ؛ ونافِعٌ وأبُو عَمْرٍو وأهْلُ المَدِينَةِ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ؛ والجُعْفِيٌّ، عَنْ أبِي عَمْرٍو: بِالياءِ مَضْمُومَةً وكَسْرِ الرّاءِ، أيْ يُخْرِجُ اللَّهُ؛ وعَنْهُ وعَنْ أبِي عَمْرٍو، وعَنِ ابْنِ مِقْسَمٍ: بِالنُّونِ. واللُّؤْلُؤُ والمَرْجانُ نُصِبَ في هاتَيْنِ القِراءَتَيْنِ. والظّاهِرُ في (مِنهُما) أنَّ ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنَ المِلْحِ والعَذْبِ. وقالَ بِذَلِكَ قَوْمٌ، حَكاهُ الأخْفَشُ. ورَدَّ النّاسُ هَذا القَوْلَ، قالُوا: والحِسُّ يُخالِفُهُ، إذْ لا يَخْرُجُ إلّا مِنَ المِلْحِ، وعابُوا قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎فَجاءَ بِها ما شِئْتَ مِن لَطِيمَةٍ ∗∗∗ عَلى وجْهِها ماءُ الفُراتِ يَمُوجُ وقالَ الجُمْهُورُ: إنَّما يَخْرُجُ مِنَ الأُجاجِ في المَواضِعِ الَّتِي تَقَعُ فِيها الأنْهارُ والمِياهُ العَذْبَةُ، فَناسَبَ إسْنادَ ذَلِكَ إلَيْهِما، وهَذا مَشْهُورٌ عِنْدَ الغَوّاصِينَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ: تَكُونُ هَذِهِ الأشْياءُ في البَحْرِ بِنُزُولِ المَطَرِ، لِأنَّ الصَّدَفَ وغَيْرَها تَفْتَحُ أفْواهَها لِلْمَطَرِ، فَلِذَلِكَ قالَ (مِنهُما) . وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: إنَّما يَخْرُجُ مِنَ المِلْحِ، لَكِنَّهُ قالَ (مِنهُما) تَجَوُّزًا. وقالَ الرُّمّانِيُّ: العَذْبُ فِيها كاللِّقاحِ لِلْمِلْحِ، فَهو كَما يُقالُ؛ الوَلَدُ يَخْرُجُ مِنَ الذَّكَرِ والأُنْثى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وتَبِعَ الزَّجّاجَ مِن حَيْثُ هُما نَوْعٌ واحِدٌ، فَخُرُوجُ هَذِهِ الأشْياءِ إنَّما هي مِنهُما، وإنْ كانَتْ تَخْتَصُّ عِنْدَ التَّفْصِيلِ المَبالَغِ بِأحَدِهِما، كَما قالَ: ﴿سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا﴾ [نوح: ١٥] ﴿وجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا﴾ [نوح: ١٦]، (p-١٩٢)وإنَّما هو في إحْداهُنَّ، وهي الدُّنْيا إلى الأرْضِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَحْوًا مِن قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ، قالَ: فَإنْ قُلْتَ: لِمَ قالَ (مِنهُما)، وإنَّما يَخْرُجانِ مِنَ المِلْحِ قُلْتُ: لَمّا التَقَيا وصارا كالشَّيْءِ الواحِدِ، جازَ أنْ يُقالَ: يَخْرُجانِ مِنهُما، كَما يُقالُ: يَخْرُجانِ مِنَ البَحْرِ، ولا يَخْرُجانِ مِن جَمِيعِ البَحْرِ، ولَكِنْ مِن بَعْضِهِ. وتَقُولُ: خَرَجْتُ مِنَ البَلَدِ، وإنَّما خَرَجْتَ مِن مَحَلَّةٍ مِن مَحالِّهِ، بَلْ مِن دارٍ واحِدَةٍ مِن دُورِهِ. وقِيلَ: لا يَخْرُجانِ إلّا مِن مُلْتَقى المِلْحِ والعَذْبِ. انْتَهى. وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: هَذا مِن بابِ حَذْفِ المُضافِ، والتَّقْدِيرُ: يَخْرُجُ مِن أحَدِهِما، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١]: أيْ مِن إحْدى القَرْيَتَيْنِ. وقِيلَ: هُما بَحْرانِ، يَخْرُجُ مِن أحَدِهِما اللُّؤْلُؤُ ومِنَ الآخَرِ المَرْجانُ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: كَلامُ اللَّهِ تَعالى أوْلى بِالِاعْتِبارِ مِن كَلامِ بَعْضِ النّاسِ ومَن أعْلَمَ أنَّ اللُّؤْلُؤَ لا يَخْرُجُ مِنَ الماءِ العَذْبِ ؟، وهَبْ أنَّ الغَوّاصِينَ ما أخْرَجُوهُ إلّا مِنَ المالِحِ. ولَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الصَّدَفَ لا يَخْرُجُ بِأمْرِ اللَّهِ مِنَ الماءِ العَذْبِ إلى الماءِ المِلْحِ وكَيْفَ يُمْكِنُ الجَزْمُ بِهِ والأُمُورُ الأرْضِيَّةُ الظّاهِرَةُ خَفِيَتْ عَنِ التُّجّارِ الَّذِينَ قَطَعُوا المَفاوِزَ ودارُوا البِلادَ، فَكَيْفَ لا يَخْفى أمْرٌ ما في قَعْرِ البَحْرِ عَلَيْهِمْ ؟ واللُّؤْلُؤُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ وقَتادَةُ: كِبارُ الجَوْهَرِ. والمَرْجانُ صِغارُهُ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا وعَلِيٍّ ومُرَّةَ الهَمْدانِيِّ عَكْسُ هَذا. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ وأبُو مالِكٍ: المَرْجانُ: الحَجَرُ الأحْمَرُ. وقالَ الزَّجّاجُ: حَجَرٌ شَدِيدُ البَياضِ. وحَكى القاضِي أبُو يَعْلى أنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، كالقُضْبانِ، والمَرْجانُ: اسْمٌ أعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ. قالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: لَمْ أسْمَعْ فِيهِ نَقْلَ مُتَصَرِّفٍ، وقالَ الأعْشى: ؎مِن كُلِّ مَرْجانَةٍ في البَحْرِ أحْرَزَها ∗∗∗ تَيّارُها ووَقاها طِينَها الصَّدَفُ قِيلَ: أرادَ اللُّؤْلُؤَةَ الكَبِيرَةَ. وقَرَأ طَلْحَةُ: اللُّؤْلِي بِكَسْرِ اللّامِ الثّالِثَةِ، وهي لُغَةٌ. وعَبَدُ الوَلِيِّ: تُقْلَبُ الهَمْزَةُ المُتَطَرِّفَةُ ياءً ساكِنَةً بَعْدَ كَسْرَةِ ما قَبْلَها، وهي لُغَةٌ، قالَهُ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ. ﴿ولَهُ الجَوارِي﴾: خَصَّ تَعالى الجَوارِيَ بِأنَّها لَهُ، وهو تَعالى لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ وما فِيهِنَّ، لِأنَّهم لَمّا كانُوا هم مُنْشِئِيها، أسْنَدَها تَعالى إلَيْهِ، إذْ كانَ تَمامُ مَنفَعَتِها إنَّما هو مِنهُ تَعالى، فَهو في الحَقِيقَةِ مالِكُها. والجَوارِي: السُّفُنُ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ والحَسَنُ وعَبْدُ الوارِثِ، عَنْ أبِي عَمْرٍو: بِضَمِّ الرّاءِ، كَما قالُوا في شاكٍ شاكٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ؛ ﴿المُنْشَآتُ﴾ بِفَتْحِ الشِّينِ، اسْمَ مَفْعُولٍ: أيْ أنْشَأها اللَّهُ، أوِ النّاسُ، أوِ المَرْفُوعاتُ الشِّراعِ. وقالَ مُجاهِدٌ: ما لَهُ شِراعٌ مِنَ المُنْشَآتِ، وما لَمْ يُرْفَعْ لَهُ شِراعٌ، فَلَيْسَ مِنَ المُنْشَآتِ. والشِّراعُ: القَلْعُ. والأعْمَشُ وحَمْزَةُ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وطَلْحَةُ وأبُو بَكْرٍ: بِخِلافٍ عَنْهُ، بِكَسْرِ الشِّينِ: أيِ الرّافِعاتُ الشِّراعِ، أوِ اللّاتِي يُنْشِئْنَ الأمْواجَ بِجَرْيِهِنَّ، أوِ الَّتِي تُنْشِئُ السَّفَرَ إقْبالًا وإدْبارًا. وشَدَّدَ الشِّينَ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ والحَسَنُ المُنَشَّأةُ، وحَدَّ الصِّفَةَ، ودَلَّ عَلى الجَمْعِ المَوْصُوفِ، كَقَوْلِهِ: ﴿أزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥]، وقَلَبَ الهَمْزَةَ ألِفًا عَلى حَدِّ قَوْلِهِ: ؎إنَّ السِّباعَ لَتَهْدا في مَرابِضِها يُرِيدُ: لَتَهْدَأُ، التّاءُ لِتَأْنِيثِ الصِّفَةِ، كُتِبَتْ تاءً عَلى لَفْظِها في الوَصْلِ. ﴿كالأعْلامِ﴾: أيْ كالجِبالِ والآكامِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى كِبَرِ السُّفُنِ حَيْثُ شَبَّهَها بِالجِبالِ، وإنْ كانَتِ المُنْشَآتُ تَنْطَلِقُ عَلى السَّفِينَةِ الكَبِيرَةِ والصَّغِيرَةِ. وعَبَّرَ بِمَن في قَوْلِهِ: ﴿كُلُّ مَن عَلَيْها﴾ تَغْلِيبًا لِمَن يَعْقِلُ، والضَّمِيرُ في (عَلَيْها) قَلِيلٌ عائِدٌ عَلى الأرْضِ في قَوْلِهِ: ﴿والأرْضَ وضَعَها لِلْأنامِ﴾، فَعادَ الضَّمِيرُ عَلَيْها، وإنْ كانَ بَعْدَ لَفْظِها. والفَناءُ عِبارَةٌ عَنْ إعْدامِ جَمِيعِ المَوْجُوداتِ مِن حَيَوانٍ وغَيْرِهِ، والوَجْهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ، والجارِحَةُ مُنْتَفِيَةٌ عَنِ اللَّهِ تَعالى، ونَحْوَ ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] . وتَقُولُ صَعالِيكُ مَكَّةَ: أيْنَ وجْهُ عَرَبِيٍّ كَرِيمٍ يَجُودُ عَلَيَّ ؟ وقَرَأ الجُمْهُورُ: ذُو بِالواوِ، وصِفَةً لِلْوَجْهِ. وأُبَيُّ وعَبْدُ اللَّهِ: ذِي بِالياءِ، صِفَةً لِلرَّبِّ. والظّاهِرُ أنَّ الخِطابَ في قَوْلِهِ: ﴿وجْهُ رَبِّكَ﴾ لِلرَّسُولِ، وفِيهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لَهُ، ﷺ . وقِيلَ: (p-١٩٣)الخِطابُ لِكُلِّ سامِعٍ. ومَعْنى ﴿ذُو الجَلالِ﴾: الَّذِي يُجِلُّهُ المُوَحِّدُونَ عَنِ التَّشْبِيهِ بِخَلْقِهِ وعَنْ أفْعالِهِمْ، أوِ الَّذِي يُتَعَجَّبُ مِن جَلالِهِ، أوِ الَّذِي عِنْدَهُ الجَلالُ والإكْرامُ لِلْمُخْلِصِينَ مِن عِبادِهِ. ﴿يَسْألُهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾: أيْ حَوائِجَهم، وهو ما يَتَعَلَّقُ بِمَن في السَّماواتِ مِن أمْرِ الدِّينِ وما اسْتُعْبِدُوا بِهِ، ومَن في الأرْضِ مِن أمْرِ دِينِهِمْ ودُنْياهم. وقالَ أبُو صالِحٍ: مَن في السَّماواتِ الرَّحْمَةَ ومَن في الأرْضِ المَغْفِرَةَ والرِّزْقَ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: المَلائِكَةُ الرِّزْقَ لِأهْلِ الأرْضِ والمَغْفِرَةَ، وأهْلُ الأرْضِ يَسْألُونَهُما جَمِيعًا. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: يَسْألُهُ اسْتِئْنافُ إخْبارٍ. وقِيلَ: حالٌ مِنَ الوَجْهِ، والعامِلُ فِيهِ يَبْقى، أيْ هو دائِمٌ في هَذِهِ الحالِ. انْتَهى، وفِيهِ بُعْدٌ. ومَن لا يَسْألُ، فَحالُهُ تَقْتَضِي السُّؤالَ، فَيَصِحُّ إسْنادُ السُّؤالِ إلى الجَمِيعِ بِاعْتِبارِ القَدْرِ المُشْتَرَكِ، وهو الِافْتِقارُ إلَيْهِ تَعالى. ﴿كُلَّ يَوْمٍ﴾: أيْ كُلَّ ساعَةٍ ولَحْظَةٍ، وذَكَرَ اليَوْمَ لِأنَّ السّاعاتِ واللَّحَظاتِ في ضِمْنِهِ. ﴿هُوَ في شَأْنٍ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في شَأْنٍ يُمْضِيهِ مِنَ الخَلْقِ والرِّزْقِ والإحْياءِ والإماتَةِ. وقالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: يُجِيبُ داعِيًا، ويَفُكُّ عانِيًا، ويَتُوبُ عَلى قَوْمٍ، ويَغْفِرُ لِقَوْمٍ. وقالَ سُوَيْدُ بْنُ غَفْلَةَ: يُعْتِقُ رِقابًا، ويُعْطِي رَغامًا ويُقْحِمُ عِقابًا. وقالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: الدَّهْرُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمانِ، أحَدُهُما اليَوْمُ الَّذِي هو مُدَّةُ الدُّنْيا، فَشَأْنُهُ فِيهِ الأمْرُ والنَّهْيُ والإماتَةُ والإحْياءُ؛ والثّانِي الَّذِي هو يَوْمُ القِيامَةِ، فَشَأْنُهُ فِيهِ الجَزاءُ والحِسابُ. وعَنْ مُقاتِلٍ: نَزَلَتْ في اليَهُودِ، فَقالُوا: إنَّ اللَّهَ لا يَقْضِي يَوْمَ السَّبْتِ شَيْئًا. وقالَ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ، وقَدْ سَألَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طاهِرٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هو في شَأْنٍ﴾: وقَدْ صَحَّ أنَّ القَلَمَ جَفَّ بِما هو كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ فَقالَ: شُئُونٌ يُبْدِيها، لا شُئُونٌ يَبْتَدِيها. وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: هو في يَوْمِ الدُّنْيا في الِابْتِلاءِ، وفي يَوْمِ القِيامَةِ في الجَزاءِ. وانْتَصَبَ ﴿كُلَّ يَوْمٍ﴾ عَلى الظَّرْفِ، والعامِلُ فِيهِ العامِلُ في قَوْلِهِ: ﴿فِي شَأْنٍ﴾، وهو مُسْتَقِرٌّ المَحْذُوفُ، نَحْوَ: يَوْمَ الجُمُعَةِ زَيْدٌ قائِمٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب