الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ﴾ ﴿إنّا أرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِبًا إلّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهم بِسَحَرٍ﴾ ﴿نِعْمَةً مِن عِنْدِنا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ﴾ ﴿ولَقَدْ أنْذَرَهم بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ﴾ ﴿ولَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أعْيُنَهم فَذُوقُوا عَذابِي ونُذُرِ﴾ ﴿ولَقَدْ صَبَّحَهم بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ﴾ ﴿فَذُوقُوا عَذابِي ونُذُرِ﴾ ﴿ولَقَدْ يَسَّرْنا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ﴾ ﴿ولَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ﴾ ﴿كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأخَذْناهم أخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾ ﴿أكُفّارُكم خَيْرٌ مِن أُولَئِكم أمْ لَكم بَراءَةٌ في الزُّبُرِ﴾ ﴿أمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾ ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ ﴿بَلِ السّاعَةُ مَوْعِدُهم والسّاعَةُ أدْهى وأمَرُّ﴾ ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في ضَلالٍ وسُعُرٍ﴾ ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ ﴿إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾ ﴿وما أمْرُنا إلّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ﴾ ﴿ولَقَدْ أهْلَكْنا أشْياعَكم فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ﴾ ﴿وكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ في الزُّبُرِ﴾ ﴿وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ ﴿إنَّ المُتَّقِينَ في جَنّاتٍ ونَهَرٍ﴾ ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ . (p-١٨٢)تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وقَوْمِهِ. والحاصِبُ مِنَ الحَصْباءِ، وهو المَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِن سِجِّيلٍ﴾ [الحجر: ٧٤] . (إلّا آلَ لُوطٍ)، قِيلَ: إلّا ابْنَتاهُ، و(بِسَحَرٍ): هو بُكْرَةٌ، فَلِذَلِكَ صُرِفَ، وانْتَصَبَ (نِعْمَةً) عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، أيْ نَجَّيْناهم لِإنْعامِنا عَلَيْهِمْ أوْ عَلى المَصْدَرِ، لِأنَّ المَعْنى: أنْعَمْنا بِالتَّنْجِيَةِ إنْعامًا. (كَذَلِكَ نَجْزِي): أيْ مِثْلُ ذَلِكَ الإنْعامِ والتَّنْجِيَةِ نَجْزِي ﴿مَن شَكَرَ﴾ إنْعامَنا وأطاعَ وآمَنَ. ﴿ولَقَدْ أنْذَرَهم بَطْشَتَنا﴾: أيْ أخْذَتَنا لَهم بِالعَذابِ، ﴿فَتَمارَوْا﴾: أيْ تَشَكَّكُوا وتَعاطَوْا ذَلِكَ، (بِالنُّذُرِ): أيْ بِالإنْذارِ، أوْ يَكُونُ جَمْعَ نَذِيرٍ. ﴿فَطَمَسْنا﴾، قالَ قَتادَةُ: الطَّمْسُ حَقِيقَةً جَرُّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى أعْيُنِهِمْ جَناحَهُ، فاسْتَوَتْ مَعَ وُجُوهِهِمْ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: مَطْمُوسَةٌ بِجِلْدٍ كالوَجْهِ. قِيلَ: لَمّا صَفَقَهم جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِجَناحِهِ، تَرَكَهم يَتَرَدَّدُونَ لا يَهْتَدُونَ إلى البابِ، حَتّى أخْرَجَهم لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلامُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ: هَذِهِ اسْتِعارَةٌ، وإنَّما حَجَبَ إدْراكَهم، فَدَخَلُوا المَنزِلَ ولَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَجُعِلَ ذَلِكَ كالطَّمْسِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: فَطَمَسْنا بِتَخْفِيفِ المِيمِ؛ وابْنُ مِقْسَمٍ: بِتَشْدِيدِها. (فَذُوقُوا): أيْ فَقُلْتُ لَهم عَلى ألْسِنَةِ المَلائِكَةِ: ذُوقُوا. ﴿ولَقَدْ صَبَّحَهم بُكْرَةً﴾: أيْ أوَّلَ النَّهارِ وباكِرَهُ، لِقَوْلِهِ: (مُشْرِقِينَ) و(مُصْبِحِينَ) . وقَرَأ الجُمْهُورُ: بُكْرَةً بِالتَّنْوِينِ، أرادَ بُكْرَةً مِنَ البِكْرِ، فَصُرِفَ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. ﴿عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ﴾: أيْ لَمْ يَكْشِفْهُ عَنْهم كاشِفٌ، بَلِ اتَّصَلَ بِمَوْتِهِمْ، ثُمَّ بِما بَعْدَ ذَلِكَ مِن عَذابِ القَبْرِ، ثُمَّ عَذابِ جَهَنَّمَ. ﴿فَذُوقُوا عَذابِي ونُذُرِ﴾: تَوْكِيدٌ وتَوْبِيخٌ، ذَلِكَ عِنْدَ الطَّمْسِ، وهَذا عِنْدَ تَصْبِيحِ العَذابِ. قِيلَ: وفائِدَةُ تَكْرارِ هَذا وتَكْرارِ (ولَقَدْ يَسَّرْنا)، التَّجَرُّدُ عِنْدَ اسْتِماعِ كُلِّ نَبَأٍ مِن أنْباءِ الأوَّلِينَ، لِلِاتِّعاظِ واسْتِئْنافِ التَّيَقُّظِ إذا سَمِعُوا الحَثَّ عَلى ذَلِكَ لِئَلّا تَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِمُ الغَفْلَةُ، وهَكَذا حُكْمُ التَّكْرِيرِ لِقَوْلِهِ: ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ١٣] عِنْدَ كُلِّ نِعْمَةٍ عَدَّها في سُورَةِ الرَّحْمَنِ. وقَوْلُهُ: ﴿ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات: ١٥] عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ أوْرَدَها في سُورَةِ والمُرْسَلاتِ، وكَذَلِكَ تَكْرِيرُ القَصَصِ في أنْفُسِها، لِتَكُونَ العِبْرَةُ حاضِرَةً لِلْقُلُوبِ، مَذْكُورَةً في كُلِّ أوانٍ. ﴿ولَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ﴾: هم مُوسى وهارُونُ وغَيْرُهُما مِنَ الأنْبِياءِ، لِأنَّهُما عَرَضا عَلَيْهِمْ ما أنْذَرَ بِهِ المُرْسَلُونَ، أوْ يَكُونُ جَمْعُ نَذِيرٍ المَصْدَرَ بِمَعْنى الإنْذارِ. (كَذَّبُوا بِآياتِنا) هي التِّسْعُ، والتَّوْكِيدُ هُنا كَهو في قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ أرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها﴾ [طه: ٥٦] . والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في: (كَذَّبُوا)، وفي: (فَأخَذْناهم) عائِدٌ عَلى آلِ فِرْعَوْنَ. وقِيلَ: هو عائِدٌ عَلى جَمِيعِ مَن تَقَدَّمَ مِنَ الأُمَمِ ذِكْرُهُ، وتَمَّ الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: (النُّذُرُ) . ﴿فَأخَذْناهم أخْذَ عَزِيزٍ﴾: لا يُغالَبُ، (مُقْتَدِرٍ): لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ. ﴿أكُفّارُكُمْ﴾: خِطابٌ لِأهْلِ مَكَّةَ، ﴿خَيْرٌ مِن أُولَئِكُمْ﴾: الإشارَةُ إلى قَوْمِ نُوحٍ وهُودٍ وصالِحٍ ولُوطٍ، وإلى فِرْعَوْنَ، والمَعْنى: أهم خَيْرٌ في القُوَّةِ وآلاتِ الحُرُوبِ والمَكانَةِ في الدُّنْيا، أوْ أقَلُّ كُفُؤًا وعِنادًا ؟ فَلِأجْلِ كَوْنِهِمْ خَيْرًا لا يُعاقَبُونَ عَلى الكُفْرِ بِاللَّهِ، وقَّفَهم عَلى تَوْبِيخِهِمْ، أيْ لَيْسَ كُفّارُكم خَيْرًا مِن أُولَئِكم، بَلْ هم مِثْلُهم أوْ شَرٌّ مِنهم، وقَدْ عَلِمْتُمْ ما لَحِقَ أُولَئِكَ مِنَ الهَلاكِ المُسْتَأْصِلِ لَمّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ. ﴿أمْ لَكم بَراءَةٌ في الزُّبُرِ﴾: أيْ ألَكم في الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ بَراءَةٌ مِن عَذابِ اللَّهِ تَعالى ؟ قالَهُ الضَّحّاكُ وعِكْرِمَةُ وابْنُ زَيْدٍ. ﴿أمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ﴾ أيْ واثِقُونَ بِجَماعَتِنا، مُنْتَصِرُونَ بِقُوَّتِنا، تَقُولُونَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الإعْجابِ بِأنْفُسِكم. وقَرَأ الجُمْهُورُ: أمْ يَقُولُونَ، بِياءِ الغَيْبَةِ التِفاتًا، وكَذا ما بَعْدَهُ لِلْغائِبِ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ ومُوسى الأسْوارِيُّ (p-١٨٣)وأبُو البَرَهْسَمِ: بِتاءِ الخِطابِ لِلْكُفّارِ، اتِّباعًا لِما تَقَدَّمَ مِن خِطابِهِمْ. وقَرَءُوا: سَتَهْزِمُ الجَمْعَ، بِفَتْحِ التّاءِ وكَسْرِ الزّايِ وفَتْحِ العَيْنِ، خِطابًا لِلرَّسُولِ، ﷺ؛ وأبُو حَيْوَةَ أيْضًا ويَعْقُوبُ: بِالنُّونِ مَفْتُوحَةً وكَسْرِ الزّايِ وفَتْحِ العَيْنِ؛ والجُمْهُورُ: بِالياءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وضَمِّ العَيْنِ. وعَنْ أبِي حَيْوَةَ وابْنِ أبِي عَبْلَةَ أيْضًا: بِفَتْحِ الياءِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ ونَصْبِ العَيْنِ: أيْ سَيَهْزِمُ اللَّهُ الجَمْعَ. والجُمْهُورُ: ﴿ويُوَلُّونَ﴾ بِياءِ الغَيْبَةِ؛ وأبُو حَيْوَةَ وداوُدُ بْنُ أبِي سالِمٍ، عَنْ أبِي عَمْرٍو: بِتاءِ الخِطابِ. والدُّبُرُ هُنا: اسْمُ جِنْسٍ، وجاءَ في مَوْضِعٍ آخَرَ ﴿لَيُوَلُّنَّ الأدْبارَ﴾ [الحشر: ١٢]، وهو الأصْلُ، وحَسَّنَ اسْمَ الجِنْسِ هُنا كَوْنُهُ فاصِلَةً. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾: أيِ الأدْبارَ، كَما قالَ: كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكم تَعُفُّوا. وقُرِئَ: الأدْبارَ. انْتَهى، ولَيْسَ مِثْلَ بَطْنِكم، لِأنَّ مَجِيءَ الدُّبُرِ مُفْرَدًا لَيْسَ بِحَسَنٍ، ولا يَحْسُنُ لِإفْرادِ بَطْنِكم. وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ﴾ عِدَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِرَسُولِهِ، ﷺ، بِهَزِيمَةِ جَمْعِ قُرَيْشٍ؛ والجُمْهُورُ: عَلى أنَّها مَكِّيَّةٌ، وتَلاها رَسُولُ اللَّهِ، ﷺ، مُسْتَشْهِدًا بِها. وقِيلَ: نَزَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ. ﴿بَلِ السّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ﴾: انْتَقَلَ مِن تِلْكَ الأقْوالِ إلى أمْرِ السّاعَةِ الَّتِي عَذابُها أشُدُّ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ هَزِيمَةٍ وقِتالٍ. ﴿والسّاعَةُ أدْهى﴾: أيْ أفْظَعُ وأشَدُّ، والدّاهِيَةُ الأمَرُّ: المُنْكَرُ الَّذِي لا يُهْتَدى لِدَفْعِهِ، وهي الرَّزِيَّةُ العُظْمى تَحُلُّ بِالشَّخْصِ. (وأمَرُّ) مِنَ المَرارَةِ: اسْتِعارَةٌ لِصُعُوبَةِ الشَّيْءِ عَلى النَّفْسِ. ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في ضَلالٍ﴾: أيْ في حَيْرَةٍ وتَخَبُّطٍ في الدُّنْيا. (وسُعُرٍ): أيِ احْتِراقٍ في الآخِرَةِ، جُعِلُوا فِيهِ مِن حَيْثُ مَصِيرُهم إلَيْهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: وخُسْرانٍ وجُنُونٍ، والسُّعُرُ: الجُنُونُ، وتَقَدَّمَ مِثْلُهُ في قِصَّةِ صالِحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ. ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ﴾: يُجَرُّونَ (في النّارِ)، وفي قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: إلى النّارِ. ﴿عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا﴾: أيْ مَقُولًا لَهم: ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ . وقَرَأ مَحْبُوبٌ عَنْ أبِي عَمْرٍو: مَسَّقَرٍ، بِإدْغامِ السِّينِ في السِّينِ. قالَ ابْنُ مُجاهِدٍ: إدْغامُهُ خَطَأٌ لِأنَّهُ مُشَدَّدٌ. انْتَهى. والظَّنُّ بِأبِي عَمْرٍو أنَّهُ لَمْ يُدْغِمْ حَتّى حَذَفَ إحْدى السِّينَيْنِ لِاجْتِماعِ الأمْثالِ، ثُمَّ أدْغَمَ. ﴿إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾، قِراءَةُ الجُمْهُورِ: كُلَّ شَيْءٍ بِالنَّصْبِ. وقَرَأ أبُو السَّمّالِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وقَوْمٌ مِن أهْلِ السُّنَّةِ: بِالرَّفْعِ. قالَ أبُو الفَتْحِ: هو الوَجْهُ في العَرَبِيَّةِ، وقِراءَتُنا بِالنَّصْبِ مَعَ الجَماعَةِ. وقالَ قَوْمٌ: إذا كانَ الفِعْلُ يُتَوَهَّمُ فِيهِ الوَصْفُ، وأنَّ ما بَعْدَهُ يَصْلُحُ لِلْخَبَرِ، وكانَ المَعْنى عَلى أنْ يَكُونَ الفِعْلُ هو الخَبَرَ، اخْتِيرَ النَّصْبُ في الِاسْمِ الأوَّلِ حَتّى يَتَّضِحَ أنَّ الفِعْلَ لَيْسَ بِوَصْفٍ، ومِنهُ هَذا المَوْضِعُ، لِأنَّ في قِراءَةِ الرَّفْعِ يُتَخَيَّلُ أنَّ الفِعْلَ وصْفٌ، وأنَّ الخَبَرَ يُقَدَّرُ. فَقَدْ تَنازَعَ أهْلُ السُّنَّةِ والقَدَرِيَّةُ الِاسْتِدْلالَ بِهَذِهِ الآيَةِ. فَأهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: كُلُّ شَيْءٍ فَهو مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعالى بِقُدْرَةٍ دَلِيلُهُ قِراءَةُ النَّصْبِ، لِأنَّهُ لا يُفَسِّرُ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ إلّا ما يَصِحُّ أنْ يَكُونَ خَبَرًا لَوْ وقَعَ الأوَّلُ عَلى الِابْتِداءِ. وقالَتِ القَدَرِيَّةُ: القِراءَةُ بِرَفْعِ كُلِّ، وخَلَقْناهُ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِكُلِّ، أيْ إنْ أمْرُنا أوْ شَأْنُنا كُلُّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ فَهو بِقَدَرٍ أوْ بِمِقْدارٍ، عَلى حَدِّ ما في هَيْئَتِهِ وزَمَنِهِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ”كُلَّ شَيْءٍ“ مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظّاهِرُ. وقُرِئَ: كُلُّ شَيْءٍ بِالرَّفْعِ، والقَدَرُ هو التَّقْدِيرُ. وقُرِئَ بِهِما، أيْ خَلَقْنا كُلَّ شَيْءٍ مُقَدَّرًا مُحْكَمًا مُرَتَّبًا عَلى حَسَبِ ما اقْتَضَتْهُ الحِكْمَةُ، أوْ مُقَدَّرًا مَكْتُوبًا في اللَّوْحِ، مَعْلُومًا قَبْلَ كَوْنِهِ، قَدْ عَلِمْنا حالَهُ وزَمانَهُ. انْتَهى. قِيلَ: والقَدَرُ فِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنْ يَكُونَ بِمَعْنى المِقْدارِ في ذاتِهِ وصِفاتِهِ. والثّانِي: التَّقْدِيرُ، قالَ تَعالى: ﴿فَقَدَرْنا فَنِعْمَ القادِرُونَ﴾ [المرسلات: ٢٣] . وقالَ الشّاعِرُ: ؎وما قَدَّرَ الرَّحْمَنُ ما هو قادِرُ أيْ ما هو مَقْدُورٌ. والثّالِثُ: القَدَرُ الَّذِي يُقالُ مَعَ القَضاءِ، يُقالُ: كانَ ذَلِكَ بِقَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ، والمَعْنى: أنَّ القَضاءَ ما في العِلْمِ، والقَدَرَ ما في الإرادَةِ، فالمَعْنى في الآيَةِ: ﴿خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾: أيْ بِقُدْرَةٍ مَعَ إرادَةٍ. انْتَهى. ﴿وما أمْرُنا إلّا واحِدَةٌ﴾: أيْ إلّا كَلِمَةٌ واحِدَةٌ وهي: كُنْ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ، تَشْبِيهٌ بِأعْجَلِ ما يُحَسُّ، وفي أشْياءَ، أمْرُ اللَّهِ تَعالى أوْحى مِن ذَلِكَ، والمَعْنى: أنَّهُ إذا أرادَ (p-١٨٤)تَكْوِينَ شَيْءٍ لَمْ يَتَأخَّرْ عَنْ إرادَتِهِ. ﴿ولَقَدْ أهْلَكْنا أشْياعَكُمْ﴾: أيِ الفِرَقَ المُتَشايِعَةَ في مَذْهَبٍ ودِينٍ. ﴿وكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ﴾: أيْ فَعَلَتْهُ الأُمَمُ المُكَذِّبَةُ، مَحْفُوظٌ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ وقَتادَةُ وابْنُ زَيْدٍ. ومَعْنى (في الزُّبُرِ): في دَواوِينِ الحَفَظَةِ. ﴿وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ﴾ مِنَ الأعْمالِ، ومِن كُلِّ ما هو كائِنٌ، ﴿مُسْتَطَرٌ﴾: أيْ مَسْطُورٌ في اللَّوْحِ. يُقالُ: سَطَّرْتُ واسْتَطَرْتُ بِمَعْنًى. وقَرَأ الأعْمَشُ وعِمْرانُ بْنُ حُدَيْرٍ وعِصْمَةُ عَنْ أبِي بَكْرٍ: بِشَدِّ راءِ ”مُسْتَطَرٌّ“ . قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن طُرَّ النَّباتُ والشّارِبُ إذا ظَهَرَ وثَبَتَ بِمَعْنى: كُلُّ شَيْءٍ ظاهِرٌ في اللَّوْحِ مُثْبَتٌ فِيهِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِنَ الِاسْتِطارِ، لَكِنْ شَدَّدَ الرّاءَ لِلْوَقْفِ عَلى لُغَةِ مَن يَقُولُ: جَعْفَرٌّ ونَفْعَلُّ بِالتَّشْدِيدِ وقْفًا. انْتَهى، ووَزْنُهُ عَلى التَّوْجِيهِ الأوَّلِ اسْتَفْعَلَ، وعَلى الثّانِي افْتَعَلَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ونَهَرٍ عَلى الإفْرادِ، والهاءُ مَفْتُوحَةٌ؛ والأعْرَجُ ومُجاهِدٌ وحُمَيْدٌ وأبُو السَّمّالِ والفَيّاضُ بْنُ غَزْوانَ: بِسُكُونِها، والمُرادُ بِهِ الجِنْسُ، إنْ أُرِيدَ بِهِ الأنْهارُ، أوْ يَكُونُ مَعْنى ونَهَرٍ وسَعَةً في الأرْزاقِ والمَنازِلِ، ومِنهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الخَطِيمِ: ؎مَلَكْتُ بِها كَفِّي فَأنْهَرْتُ فَتْقَها ∗∗∗ يَرى قائِمٌ مِن دُونِها ما وراءَها أيْ: أوْسَعْتُ فَتْقَها. وقَرَأ زُهَيْرٌ العُرْقُبِيُّ والأعْمَشُ وأبُو نَهِيكٍ وأبُو مِجْلَزٍ واليَمانِيُّ: بِضَمِّ النُّونِ والهاءِ، جَمْعَ نُهُرٍ، كَرَهْنٍ ورُهُنٍ، أوْ نُهْرٍ كَأسَدٍ وأُسْدٍ، وهو مُناسِبٌ لِجَمْعِ جَنّاتٍ. وقِيلَ: نُهُرٌ جَمْعُ نَهارٍ، ولا لَيْلَ في الجَنَّةِ، وهو بَعِيدٌ. ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ضِدَّ الكَذِبِ، أيْ في المَقْعَدِ الَّذِي صَدَقُوا في الخَبَرِ بِهِ، وأنْ يَكُونَ مِن قَوْلِكَ: رَجُلُ صِدْقٍ: أيْ خَيْرٍ وجُودٍ وصَلاحٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: في مَقْعَدِ، عَلى الإفْرادِ، يُرادُ بِهِ اسْمُ الجِنْسِ؛ وعُثْمانُ البَتِّيُّ: (في مَقاعِدِ) عَلى الجَمْعِ؛ و”عِنْدَ“ تَدُلُّ عَلى قُرْبِ المَكانَةِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب