الباحث القرآني
(p-١٥٦)﴿والنَّجْمِ إذا هَوى﴾ ﴿ما ضَلَّ صاحِبُكم وما غَوى﴾ ﴿وما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى﴾ ﴿إنْ هو إلّا وحْيٌ يُوحى﴾ ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوى﴾ ﴿ذُو مِرَّةٍ فاسْتَوى﴾ ﴿وهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلى﴾ ﴿ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى﴾ ﴿فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنى﴾ ﴿فَأوْحى إلى عَبْدِهِ ما أوْحى﴾ ﴿ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأى﴾ ﴿أفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى﴾ ﴿ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى﴾ ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى﴾ [النجم: ١٤] ﴿عِنْدَها جَنَّةُ المَأْوى﴾ [النجم: ١٥] ﴿إذْ يَغْشى السِّدْرَةَ ما يَغْشى﴾ [النجم: ١٦] ﴿ما زاغَ البَصَرُ وما طَغى﴾ [النجم: ١٧] ﴿لَقَدْ رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى﴾ [النجم: ١٨] ﴿أفَرَأيْتُمُ اللّاتَ والعُزّى﴾ [النجم: ١٩] ﴿ومَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرى﴾ [النجم: ٢٠] ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنْثى﴾ [النجم: ٢١] ﴿تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزى﴾ [النجم: ٢٢] ﴿إنْ هي إلّا أسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكم ما أنْزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلْطانٍ إنْ يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وما تَهْوى الأنْفُسُ ولَقَدْ جاءَهم مِن رَبِّهِمُ الهُدى﴾ [النجم: ٢٣] ﴿أمْ لِلْإنْسانِ ما تَمَنّى﴾ [النجم: ٢٤] ﴿فَلِلَّهِ الآخِرَةُ والأُولى﴾ [النجم: ٢٥] .
(p-١٥٧)هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. ومُناسَبَتُها لِآخِرِ ما قَبْلَها ظاهِرَةٌ، لِأنَّهُ قالَ: ﴿أمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ﴾ [الطور: ٣٣]: أيِ اخْتَلَقَ القُرْآنَ، ونَسَبُوهُ إلى الشِّعْرِ وقالُوا: هو كاهِنٌ ومَجْنُونٌ؛ فَأقْسَمَ تَعالى أنَّهُ، ﷺ، ما ضَلَّ، وأنَّ ما يَأْتِي بِهِ هو وحْيٌ مِنَ اللَّهِ، وهي أوَّلُ سُورَةٍ أعْلَنَ رَسُولُ اللَّهِ، ﷺ، بِها في الحَرَمِ، والمُشْرِكُونَ يَسْتَمِعُونَ، فِيها سَجَدَ وسَجَدَ مَعَهُ المُؤْمِنُونَ والمُشْرِكُونَ والجِنُّ والإنْسُ غَيْرَ أبِي لَهَبٍ، فَإنَّهُ رَفَعَ حَفْنَةً مِن تُرابٍ إلى جَبْهَتِهِ وقالَ: يَكْفِي هَذا. وسَبَبُ نُزُولِها قَوْلُ المُشْرِكِينَ: إنَّ مُحَمَّدًا، ﷺ، يَخْتَلِقُ القُرْآنَ. وأقْسَمَ تَعالى بِالنَّجْمِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ والفَرّاءُ والقاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هو الجُمْلَةُ مِنَ القُرْآنِ إذا نَزَلَتْ، وقَدْ نَزَلَ مُنَجَّمًا في عِشْرِينَ سَنَةً. وقالَ الحَسَنُ ومَعْمَرُ بْنُ المُثَنّى: هو هُنا اسْمُ جِنْسٍ، والمُرادُ النُّجُومُ إذا هَوَتْ: أيْ غَرَبَتْ، قالَ الشّاعِرُ:
؎فَباتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ في مُسْتَجَرِّهِ سَرِيعٍ بِأيْدِي الآكِلِينَ حَمُودُها
أيْ: تَعُدُّ النُّجُومَ. وقالَ الحَسَنُ وأبُو حَمْزَةَ الثُّمالِيُّ: النُّجُومُ إذا انْتَثَرَتْ في القِيامَةِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: هو انْقَضَّ في أثَرِ الشَّياطِينِ، وهَذا تُساعِدُهُ اللُّغَةُ. وقالَ الأخْفَشُ: والنَّجْمُ إذا طَلَعَ، وهَوِيُّهُ: سُقُوطُهُ عَلى الأرْضِ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الصّادِقُ هو النَّبِيُّ، ﷺ، وهَوِيُّهُ: نُزُولُهُ لَيْلَةَ المِعْراجِ. وقِيلَ: النَّجْمُ مُعَيَّنٌ. فَقالَ مُجاهِدٌ وسُفْيانُ: هو الثُّرَيّا، وهَوِيُّها: سُقُوطُها مَعَ الفَجْرِ، وهو عَلَمٌ عَلَيْها بِالغَلَبَةِ، ولا تَقُولُ العَرَبُ النَّجْمَ مُطْلَقًا إلّا لِلثُّرَيّا، ومِنهُ قَوْلُ العَرَبِ:
؎طَلَعَ النَّجْمُ عِشاءْ ∗∗∗ فابْتَغى الرّاعِي كِساءْ
؎طَلَعَ النَّجْمُ غُدْيَهْ ∗∗∗ فابْتَغى الرّاعِي كُسْيَهْ
وقِيلَ: الشِّعْرى، وإلَيْها الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وأنَّهُ هو رَبُّ الشِّعْرى﴾ [النجم: ٤٩]، والكُهّانُ والمُنَجِّمُونَ يَتَكَلَّمُونَ عَلى المُغَيَّباتِ عِنْدَ طُلُوعِها. وقِيلَ: الزُّهْرَةُ، وكانَتْ تُعْبَدُ. وقِيلَ: ﴿والنَّجْمِ﴾: هُمُ الصَّحابَةُ. وقِيلَ: العُلَماءُ مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الجَمْعُ، وهو في اللُّغَةِ خَرْقُ الهَوى ومَقْصِدُهُ السُّفْلُ، إذْ مَصِيرُهُ إلَيْهِ، وإنْ لَمْ يُقْصَدْ إلَيْهِ. وقالَ الشّاعِرُ:
هُوِيَّ الدَّلْوِ أسْلَمَها الرِّشاءُ
ومِنهُ: هَوى العُقابُ.
﴿صاحِبُكُمْ﴾: هو مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، ﷺ، والخِطابُ لِقُرَيْشٍ: أيْ هو مُهْتَدٍ راشِدٌ، ولَيْسَ كَما تَزْعُمُونَ مِن نِسْبَتِكم إيّاهُ إلى الضَّلالِ والغَيِّ.
﴿وما يَنْطِقُ﴾: أيِ الرَّسُولُ، عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ﴿عَنِ الهَوى﴾: أيْ عَنْ هَوى نَفْسِهِ ورَأْيِهِ.
﴿إنْ هو إلّا وحْيٌ﴾ مِن عِنْدِ اللَّهِ، (يُوحى) إلَيْهِ. وقِيلَ: ﴿وما يَنْطِقُ﴾: أيِ القُرْآنُ، عَنْ هَوًى وشَهْوَةٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿هَذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكم بِالحَقِّ﴾ [الجاثية: ٢٩] . (إنْ هو): أيِ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ. أوْ (إنْ هو): أيِ القُرْآنُ. (عَلَّمَهُ): الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الرَّسُولِ، ﷺ، فالمَفْعُولُ الثّانِي مَحْذُوفٌ، أيْ عَلَّمَهُ الوَحْيَ. أوْ عَلى القُرْآنِ، فالمَفْعُولُ الأوَّلُ مَحْذُوفٌ، أيْ عَلَّمَهُ الرَّسُولَ، ﷺ، ﴿شَدِيدُ القُوى﴾: هو جِبْرِيلُ، وهو مُناسِبٌ لِلْأوْصافِ الَّتِي بَعْدَهُ، وقالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ والرَّبِيعُ. وقالَ الحَسَنُ: ﴿شَدِيدُ القُوى﴾: هو اللَّهُ تَعالى، وهو بَعِيدٌ.
﴿ذُو مِرَّةٍ﴾: ذُو قُوَّةٍ، ومِنهُ لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ. وقِيلَ: ذُو هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ. وقِيلَ: هو جِسْمٌ طَوِيلٌ حَسَنٌ. ولا يُناسِبُ هَذانِ القَوْلانِ إلّا إذا كانَ شَدِيدُ القُوى هو جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ. (فاسْتَوى): الضَّمِيرُ لِلَّهِ في قَوْلِ الحَسَنِ، وكَذا ﴿وهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلى﴾ لِلَّهِ تَعالى، عَلى مَعْنى العَظَمَةِ والقُدْرَةِ والسُّلْطانِ. وعَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ: (فاسْتَوى): أيْ جِبْرِيلُ في الجَوِّ، ﴿وهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلى﴾، إنْ رَآهُ الرَّسُولُ، عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، بِحِراءٍ قَدْ سَدَّ الأُفُقَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَناحٍ، وحِينَئِذٍ دَنا مِن مُحَمَّدٍ حَتّى كانَ قابَ قَوْسَيْنِ، وكَذَلِكَ هو المَرْئِيُّ في النَّزْلَةِ الأُخْرى بِسِتِّمِائَةِ جَناحٍ عِنْدَ السِّدْرَةِ، قالَهُ الرَّبِيعُ والزَّجّاجُ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: (p-١٥٨)والفَرّاءُ: المَعْنى فاسْتَوى جِبْرِيلُ؛ وقَوْلُهُ: (وهو)، يَعْنِي مُحَمَّدًا، ﷺ، وفي هَذا التَّأْوِيلِ العَطْفُ عَلى الضَّمِيرِ المَرْفُوعِ مِن غَيْرِ فَصْلٍ، وهو مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ. وقَدْ يُقالُ: الضَّمِيرُ في اسْتَوى لِلرَّسُولِ، وهو لِجِبْرِيلَ، والأعْلى لِعِمَّةِ الرَّأْسِ وما جَرى مَعَهُ. وقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: هو أُفُقُ مَشْرِقِ الشَّمْسِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فاسْتَوى): فاسْتَقامَ عَلى صُورَةِ نَفْسِهِ الحَقِيقِيَّةِ دُونَ الصُّورَةِ الَّتِي كانَ يَتَمَثَّلُ بِها كُلَّما هَبَطَ بِالوَحْيِ، وكانَ يَنْزِلُ في صُورَةِ دِحْيَةَ، وذَلِكَ أنَّ الرَّسُولَ، ﷺ، أحَبَّ أنْ يَراهُ في صُورَتِهِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْها، فاسْتَوى لَهُ بِالأُفُقِ الأعْلى، وهو أُفُقُ الشَّمْسِ، فَمَلَأ الأُفُقَ. وقِيلَ: ما رَآهُ أحَدٌ مِنَ الأنْبِياءِ في صُورَتِهِ الحَقِيقِيَّةِ غَيْرُ مُحَمَّدٍ، ﷺ، مَرَّةً في الأرْضِ، ومَرَّةً في السَّماءِ.
﴿ثُمَّ دَنا﴾ مِن رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، ﴿فَتَدَلّى﴾: فَتَعَلَّقَ عَلَيْهِ في الهَوى. وكانَ مِقْدارُ مَسافَةِ قُرْبِهِ مِنهُ مِثْلَ ﴿قابَ قَوْسَيْنِ﴾، فَحُذِفَتْ هَذِهِ المُضافاتُ، كَما قالَ أبُو عَلِيٍّ في قَوْلِهِ:
؎وقَدْ جَعَلْتَنِي مِن خُزَيْمَةَ أُصْبُعا
أيْ: ذا مَسافَةٍ مِقْدارَ أُصْبُعٍ، ﴿أوْ أدْنى﴾ عَلى تَقْدِيرِكم، كَقَوْلِهِ: ﴿أوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧] .
﴿إلى عَبْدِهِ﴾: أيْ إلى عَبْدِ اللَّهِ، وإنْ لَمْ يَجْرِ لِاسْمِهِ عَزَّ وجَلَّ ذِكْرٌ، لِأنَّهُ لا يُلْبِسُ، كَقَوْلِهِ: ﴿ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها﴾ [فاطر: ٤٥] .
﴿ما أوْحى﴾: تَفْخِيمٌ لِلْوَحْيِ الَّذِي أُوحِيَ إلَيْهِ قَبْلُ. انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿ثُمَّ دَنا﴾، قالَ الجُمْهُورُ: أيْ جِبْرِيلُ إلى مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، عِنْدَ حِراءٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وأنَسٌ في حَدِيثِ الإسْراءِ: ما يَقْتَضِي أنَّ الدُّنُوَّ يَسْتَنِدُ إلى اللَّهِ تَعالى. وقِيلَ: كانَ الدُّنُوُّ إلى جِبْرِيلَ. وقِيلَ: إلى الرَّسُولِ، ﷺ، أيْ دَنا وحْيُهُ وسُلْطانُهُ وقُدْرَتُهُ، والصَّحِيحُ أنَّ جَمِيعَ ما في هَذِهِ الآياتِ هو مَعَ جِبْرِيلَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى﴾، فَإنَّهُ يَقْتَضِي نَزْلَةً مُتَقَدِّمَةً. وما رُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، رَأى رَبَّهُ قَبْلَ لَيْلَةِ الإسْراءِ. ودَنا أعَمُّ مِن تَدَلّى، فَبَيَّنَ هَيْئَةَ الدُّنُوِّ كَيْفَ كانَتْ قابَ قَدْرٍ، قالَ قَتادَةُ وغَيْرُهُ: مَعْناهُ مِن طَرَفِ العُودِ إلى طَرَفِهِ الآخَرِ. وقالَ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ: مِنَ الوَتَرِ إلى العُودِ في وسَطِ القَوْسِ عِنْدَ المِقْبَضِ. وقالَ أبُو رَزِينٍ: لَيْسَتْ بِهَذِهِ القَوْسِ، ولَكِنْ قَدْرُ الذِّراعَيْنِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ القَوْسَ هُنا ذِراعٌ تُقاسُ بِهِ الأطْوالُ. وذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أنَّهُ مِن لُغَةِ الحِجازِ.
(فَأوْحى): أيِ اللَّهُ، ﴿إلى عَبْدِهِ﴾: أيِ الرَّسُولِ، ﷺ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقِيلَ: ﴿إلى عَبْدِهِ﴾ جِبْرِيلَ، ﴿ما أوْحى﴾: إبْهامٌ عَلى جِهَةِ التَّعْظِيمِ والتَّفْخِيمِ، والَّذِي عُرِفَ مِن ذَلِكَ فَرْضُ الصَّلَواتِ. وقالَ الحَسَنُ: فَأوْحى جِبْرِيلُ إلى عَبْدِ اللَّهِ، مُحَمَّدٍ، ﷺ، ما أوْحى، كالأوَّلِ في الإبْهامِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: فَأوْحى جِبْرِيلُ إلى عَبْدِ اللَّهِ، مُحَمَّدٍ، ﷺ، ما أوْحاهُ اللَّهُ تَعالى إلى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿ما أوْحى﴾: أوْحى إلَيْهِ أنَّ الجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلى الأنْبِياءِ حَتّى تَدْخُلَها، وعَلى الأُمَمِ حَتّى تَدْخُلَها أُمَّتُكَ.
﴿ما كَذَبَ﴾ فُؤادُ مُحَمَّدٍ، ﷺ، ما رَآهُ بِبَصَرِهِ مِن صُورَةِ جِبْرِيلَ: أيْ ما قالَ فُؤادُهُ لَمّا رَآهُ لَمْ أعْرِفْكَ، يَعْنِي أنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ وعَرَفَهُ بِقَلْبِهِ، ولَمْ يَشُكَّ في أنَّ ما رَآهُ حَقٌّ. انْتَهى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ما كَذَبَ مُخَفَّفًا، عَلى مَعْنى: لَمْ يَكْذِبْ قَلْبُ مُحَمَّدٍ، ﷺ، الشَّيْءَ الَّذِي رَآهُ، بَلْ صَدَّقَهُ وتَحَقَّقَهُ نَظَرًا، وكَذَبَ يَتَعَدّى. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو صالِحٍ: رَأى مُحَمَّدٌ، ﷺ، اللَّهَ تَعالى بِفُؤادِهِ. وقِيلَ: ما رَأى بِعَيْنِهِ لَمْ يُكَذِّبْ ذَلِكَ قَلْبُهُ، بَلْ صَدَّقَهُ وتَحَقَّقَهُ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فِيما رَأى.
وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةَ وكَعْبِ الأحْبارِ: أنَّ مُحَمَّدًا، ﷺ، رَأى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وأبَتْ ذَلِكَ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها، وقالَتْ: أنا سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، عَنْ هَذِهِ الآياتِ، فَقالَ لِي: «هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيها كُلِّها» . وقالَ الحَسَنُ: المَعْنى ما رَأى مِن مَقْدُوراتِ اللَّهِ تَعالى ومَلَكُوتِهِ. وسَألَ أبُو ذَرٍّ رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ ؟ فَقالَ: «نُورٌ أنّى أراهُ» . وحَدِيثُ عائِشَةَ قاطِعٌ لِكُلِّ تَأْوِيلٍ في اللَّفْظِ، لِأنَّ قَوْلَ غَيْرِها إنَّما هو (p-١٥٩)مُنْتَزَعٌ مِن ألْفاظِ القُرْآنِ، ولَيْسَتْ نَصًّا في الرُّؤْيَةِ بِالبَصَرِ، بَلْ ولا بِغَيْرِهِ. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ وأبُو جَعْفَرٍ وقَتادَةُ والجَحْدَرِيُّ وخالِدُ بْنُ إلْياسَ وهِشامٌ عَنِ ابْنِ عامِرٍ: ما كَذَّبَ مُشَدَّدًا. وقالَ كَعْبُ الأحْبارِ: إنَّ اللَّهَ قَسَّمَ الرُّؤْيَةَ والكَلامَ بَيْنَ مُحَمَّدٍ ومُوسى عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَكَلَّمَ مُوسى مَرَّتَيْنِ، ورَآهُ مُحَمَّدٌ، ﷺ، مَرَّتَيْنِ. وقالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها: لَقَدْ وقَفَ شَعَرِي مِن سَماعِ هَذا، وقَرَأتْ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ وهو يُدْرِكُ الأبْصارَ﴾ [الأنعام: ١٠٣]، وذَهَبَتْ هي وابْنُ مَسْعُودٍ وقَتادَةُ والجُمْهُورُ إلى أنَّ المَرْئِيَّ مَرَّتَيْنِ هو جِبْرِيلُ، مَرَّةً في الأرْضِ، ومَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿أفَتُمارُونَهُ﴾: أيْ أتُجادِلُونَهُ عَلى شَيْءٍ رَآهُ بِبَصَرِهِ وأبْصَرَهُ، وعُدِّيَ بِعَلى لِما في الجِدالِ مِنَ المُغالَبَةِ، وجاءَ يَرى بِصِيغَةِ المُضارِعِ، وإنْ كانَتِ الرُّؤْيَةُ قَدْ مَضَتْ، إشارَةً إلى ما يُمْكِنُ حُدُوثُهُ بَعْدُ. وقَرَأ عَلِيٌّ وعَبْدُ اللَّهِ وابْنُ عَبّاسٍ والجَحْدَرِيُّ ويَعْقُوبُ وابْنُ سَعْدانَ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: بِفَتْحِ التّاءِ وسُكُونِ المِيمِ، مُضارِعُ مَرَيْتَ: أيْ جَحَدْتَ، يُقالُ: مَرَيْتُهُ حَقَّهُ، إذا جَحَدْتُهُ، قالَ الشّاعِرُ:
؎لَئِنْ سَخَرْتَ أخا صِدْقٍ ومَكْرُمَةٍ ∗∗∗ لَقَدْ مَرَيْتَ أخًا ما كانَ يُمْرِيكا
وعَدّى بِعَلى عَلى مَعْنى التَّضْمِينِ. وكانَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أخْبَرَهم، ﷺ، بِأمْرِهِ في الإسْراءِ، كَذَّبُوا واسْتَخَفُّوا، حَتّى وصَفَ لَهم بَيْتَ المَقْدِسِ وأمْرَ عِيرِهِمْ وغَيْرَ ذَلِكَ مِمّا هو مُسْتَقْصًى في حَدِيثِ الإسْراءِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ فِيما حَكى ابْنُ خالَوَيْهِ والشَّعْبِيُّ فِيما ذَكَرَ شُعْبَةُ: بِضَمِّ التّاءِ وسُكُونِ المِيمِ، مُضارِعُ أمْرَيْتَ. قالَ أبُو حاتِمٍ: وهو غَلَطٌ.
﴿ولَقَدْ رَآهُ﴾: الضَّمِيرُ المَنصُوبُ عائِدٌ عَلى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وعائِشَةُ ومُجاهِدٌ والرَّبِيعُ.
﴿نَزْلَةً أُخْرى﴾: أيْ مَرَّةً أُخْرى، أيْ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَرَّةً أُخْرى في صُورَةِ نَفْسِهِ، فَرَآهُ عَلَيْها، وذَلِكَ لَيْلَةَ المِعْراجِ. وأُخْرى تَقْتَضِي نَزْلَةً سابِقَةً، وهي المَفْهُومَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ دَنا﴾ جِبْرِيلُ، ﴿فَتَدَلّى﴾: وهو الهُبُوطُ والنُّزُولُ مِن عُلُوٍّ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وكَعْبُ الأحْبارِ: الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى اللَّهِ، عَلى ما سَبَقَ مِن قَوْلِهِما أنَّ رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، رَأى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ. وانْتَصَبَ ”نَزْلَةً“، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُصِبَ الظَّرْفُ الَّذِي هو مَرَّةٌ، لِأنَّ الفَعْلَةَ اسْمٌ لِلْمَرَّةِ مِنَ الفِعْلِ. وقالَ الحَوْفِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ: مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ","مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ","وَمَا یَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰۤ","إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیࣱ یُوحَىٰ","عَلَّمَهُۥ شَدِیدُ ٱلۡقُوَىٰ","ذُو مِرَّةࣲ فَٱسۡتَوَىٰ","وَهُوَ بِٱلۡأُفُقِ ٱلۡأَعۡلَىٰ","ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ","فَكَانَ قَابَ قَوۡسَیۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ","فَأَوۡحَىٰۤ إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَاۤ أَوۡحَىٰ","مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰۤ","أَفَتُمَـٰرُونَهُۥ عَلَىٰ مَا یَرَىٰ","وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً أُخۡرَىٰ"],"ayah":"فَأَوۡحَىٰۤ إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَاۤ أَوۡحَىٰ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق