الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: (p-١٣٨)) ﴿هَلْ أتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْراهِيمَ المُكْرَمِينَ﴾ ﴿إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ ﴿فَراغَ إلى أهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ ﴿فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قالَ ألا تَأْكُلُونَ﴾ ﴿فَأوْجَسَ مِنهم خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ ﴿فَأقْبَلَتِ امْرَأتُهُ في صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وجْهَها وقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ ﴿قالُوا كَذَلِكَ قالَ رَبُّكِ إنَّهُ هو الحَكِيمُ العَلِيمُ﴾ ﴿قالَ فَما خَطْبُكم أيُّها المُرْسَلُونَ﴾ ﴿قالُوا إنّا أُرْسِلْنا إلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِن طِينٍ﴾ ﴿مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ ﴿فَأخْرَجْنا مَن كانَ فِيها مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿فَما وجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ ﴿وتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ العَذابَ الألِيمَ﴾ ﴿وفِي مُوسى إذْ أرْسَلْناهُ إلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ﴿فَتَوَلّى بِرُكْنِهِ وقالَ ساحِرٌ أوْ مَجْنُونٌ﴾ ﴿فَأخَذْناهُ وجُنُودَهُ فَنَبَذْناهم في اليَمِّ وهو مُلِيمٌ﴾ ﴿وفِي عادٍ إذْ أرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العَقِيمَ﴾ ﴿ما تَذَرُ مِن شَيْءٍ أتَتْ عَلَيْهِ إلّا جَعَلَتْهُ كالرَّمِيمِ﴾ ﴿وفِي ثَمُودَ إذْ قِيلَ لَهم تَمَتَّعُوا حَتّى حِينٍ﴾ ﴿فَعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبِّهِمْ فَأخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ وهم يَنْظُرُونَ﴾ ﴿فَما اسْتَطاعُوا مِن قِيامٍ وما كانُوا مُنْتَصِرِينَ﴾ ﴿وقَوْمَ نُوحٍ مِن قَبْلُ إنَّهم كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ﴾ ) ﴿هَلْ أتاكَ﴾: تَقْرِيرٌ لِتَجْتَمِعَ نَفْسُ المُخاطَبِ، كَما تَبْدَأُ المَرْءَ إذا أرَدْتَ أنْ تُحَدِّثَهُ بِعَجِيبٍ فَتُقَرِّرَهُ هَلْ سَمِعَ ذَلِكَ أمْ لا، فَكَأنَّكَ تَقْتَضِي أنْ يَقُولَ لا. ويَسْتَطْعِمُكَ الحَدِيثَ، وفِيهِ تَفْخِيمٌ لِلْحَدِيثِ وتَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُ لَيْسَ مِن عِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وإنَّما عَرَفَهُ بِالوَحْيِ، وضَيْفُ الواحِدِ والجَماعَةِ فِيهِ سَواءٌ. وبَدَأ بِقِصَّةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإنْ كانَتْ مُتَأخِّرَةً عَنْ قِصَّةِ عادٍ، هَزْمًا لِلْعَرَبِ، إذْ كانَ أباهُمُ الأعْلى، ولِكَوْنِ الرُّسُلِ الَّذِينَ وفَدُوا عَلَيْهِ جاءُوا بِإهْلاكِ قَوْمِ لُوطٍ، إذْ كَذَّبُوهُ، فَفِيهِ وعِيدٌ لِلْعَرَبِ وتَهْدِيدٌ واتِّعاظٌ وتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ ﷺ عَلى ما يَجْرِي عَلَيْهِ مِن قَوْمِهِ. ووَصَفَهم بِالمُكْرَمِينَ لِكَرامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، كَقَوْلِهِ تَعالى في المَلائِكَةِ: ﴿بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٦]، قالَهُ الحَسَنُ، فَهي صِفَةٌ سابِقَةٌ فِيهِمْ، أوْ لِإكْرامِ إبْراهِيمَ إيّاهم، إذْ خَدَمَهم بِنَفْسِهِ وزَوْجَتِهِ سارَّةَ وعَجَّلَ لَهُمُ القِرا. وقِيلَ: لِكَوْنِهِ رَفَعَ مَجالِسَهم في صِفَةٍ حادِثَةٍ. وقَرَأ عِكْرِمَةُ: المُكَرَّمِينَ بِالتَّشْدِيدِ، وأطْلَقَ عَلَيْهِمْ ضَيْفَ، لِكَوْنِهِمْ في صُورَةِ الضَّيْفِ حَيْثُ أضافَهم إبْراهِيمُ، أوْ لِحُسْبانِهِ لِذَلِكَ. وتَقَدَّمَ ذِكْرُ عَدَدِهِمْ في سُورَةِ هُودٍ. وإذْ: مَعْمُولَةٌ لِلْمُكْرَمِينَ إذا كانَتْ صِفَةً حادِثَةً بِفِعْلِ إبْراهِيمَ، وإلّا فَبِما في (ضَيْفِ) مِن مَعْنى الفِعْلِ، أوْ بِإضْمارِ اذْكُرْ، وهَذِهِ أقْوالٌ مَنقُولَةٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: قالُوا سَلامًا، بِالنَّصْبِ عَلى المَصْدَرِ السّادِّ مَسَدَّ فِعْلِهِ المُسْتَغْنى بِهِ. ﴿قالَ سَلامٌ﴾ بِالرَّفْعِ، وهو مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الخَبَرِ تَقْدِيرُهُ: (p-١٣٩)عَلَيْكم سَلامٌ. قَصَدَ أنْ يُجِيبَهم بِأحْسَنَ مِمّا حَيَّوْهُ أخْذًا بِأدَبِ اللَّهِ تَعالى، إذْ سَلامًا دُعاءٌ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ أمْرِي سَلامٌ، وسَلامٌ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ قَدْ تَحَصَّلَ مَضْمُونُها ووَقَعَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَتَّجِهُ أنْ يَعْمَلَ في سَلامًا قالُوا، عَلى أنْ يَجْعَلَ سَلامًا في مَعْنى قَوْلًا، ويَكُونُ المَعْنى حِينَئِذٍ: أنَّهم قالُوا تَحِيَّةً، وقَوْلًا مَعْناهُ سَلامًا، وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ. وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ، والنَّخَعِيُّ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وطَلْحَةُ: قالَ سِلْمٌ، بِكَسْرِ السِّينِ وإسْكانِ اللّامِ، والمَعْنى: نَحْنُ سِلْمٌ، أوْ أنْتُمْ سِلْمٌ، وقُرِئا مَرْفُوعَيْنِ. وقُرِئَ: سَلامًا قالُوا سِلْمًا. بِنَصْبِهِما وكَسْرِ سِينِ الثّانِي وسُكُونِ لامِهِ. ﴿قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾، قالَ أبُو العالِيَةِ: أنْكَرَ سَلامَهم في تِلْكَ الأرْضِ وذَلِكَ الزَّمانِ. وقِيلَ: لا نُمَيِّزُهم ولا عَهْدَ لَنا بِهِمْ. وقِيلَ: كانَ هَذا سُؤالَهم، كَأنَّهُ قالَ: أنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، فَعَرِّفُونِي مَن أنْتُمْ. وقَوْمٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ قَدَّرَهُ أنْتُمْ، والَّذِي يُناسِبُ حالَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّهُ لا يُخاطِبُهم بِذَلِكَ، إذْ فِيهِ مِن عَدَمِ الإنْسِ ما لا يَخْفى، بَلْ يَظْهَرُ أنَّهُ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. وقالَ ذَلِكَ مَعَ نَفْسِهِ، أوْ لِمَن كانَ مَعَهُ مِن أتْباعِهِ وغِلْمانِهِ بِحَيْثُ لا يَسْمَعُ ذَلِكَ الأضْيافُ. ﴿فَراغَ إلى أهْلِهِ﴾: أيْ مَضى أثْناءَ حَدِيثِهِ، مُخْفِيًا مُضِيَّهُ مُسْتَعْجِلًا، ﴿فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾: ومِن أدَبِ المُضِيفِ أنْ يُخْفِيَ أمْرَهُ، وأنْ يُبادِرَ بِالقِرا مِن غَيْرِ أنْ يَشْعُرَ بِهِ الضَّيْفُ، حَذَرًا مِن أنْ يَمْنَعَهُ أنْ يَجِيءَ بِالضِّيافَةِ. وكَوْنُهُ عَطَفَ فَجاءَ عَلى فَراغَ يَدُلُّ عَلى سُرْعَةِ مَجِيئِهِ بِالقِرا، وأنَّهُ كانَ مُعَدًّى عِنْدَهُ لِمَن يَرِدُ عَلَيْهِ. وقالَ في سُورَةِ هُودٍ: ﴿فَما لَبِثَ أنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ [هود: ٦٩]، وهَذا يَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّهُ كانَ العِجْلُ سابِقًا شَيُّهُ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ. وقالَ قَتادَةُ: كانَ غالِبُ مالِهِ البَقَرَ، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ يُحْضِرُ لِلضَّيْفِ أكْثَرَ مِمّا يَأْكُلُ. وكانَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِضْيافًا، وحَسْبُكَ وقْفٌ لِلضِّيافَةِ أوْقافًا تُمْضِيها الأُمَمُ عَلى اخْتِلافِ أدْيانِها وأجْناسِها. ﴿فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ﴾: فِيهِ أدَبُ المُضِيفِ مِن تَقْرِيبِ القِرا لِمَن يَأْكُلُ، وفِيهِ العَرْضُ عَلى الأكْلِ، فَإنَّ في ذَلِكَ تَأْنِيسًا لِلْأكْلِ، بِخِلافِ مَن قَدَّمَ طَعامًا ولَمْ يَحُثَّ عَلى أكْلِهِ، فَإنَّ الحاضِرَ قَدْ يَتَوَهَّمُ أنَّهُ قَدَّمَهُ عَلى سَبِيلِ التَّجَمُّلِ، عَسى أنْ يَمْتَنِعَ الحاضِرُ مِنَ الأكْلِ، وهَذا مَوْجُودٌ في طِباعِ بَعْضِ النّاسِ. حَتّى أنَّ بَعْضَهم إذا لَجَّ الحاضِرُ وتَمادى في الأكْلِ، أخَذَ مِن أحْسَنِ ما أحْضَرَ وأجْزَلَهُ، فَيُعْطِيهِ لِغُلامِهِ بِرَسْمِ رَفْعِهِ لِوَقْتٍ آخَرَ يَخْتَصُّ هو بِأكْلِهِ. وقِيلَ: الهَمْزَةُ في ألا لِلْإنْكارِ، وكَأنَّهُ ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فامْتَنَعُوا مِنَ الأكْلِ، فَأنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ الأكْلِ فَقالَ: ﴿ألا تَأْكُلُونَ﴾ . وفي الحَدِيثِ: «إنَّهم قالُوا إنّا لا نَأْكُلُ إلّا ما أدَّيْنا ثَمَنَهُ، فَقالَ لَهم: وإنِّي لا أُبِيحُهُ لَكم إلّا بِثَمَنٍ، قالُوا: وما هو ؟ قالَ: أنْ تُسَمُّوا اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ عِنْدَ الِابْتِداءِ وتَحْمَدُوهُ عِنْدَ الفَراغِ مِنَ الأكْلِ، فَقالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: بِحَقٍّ اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا» . ﴿فَأوْجَسَ مِنهم خِيفَةً﴾: أيْ فَلَمّا اسْتَمَرُّوا عَلى الِامْتِناعِ مِنَ الأكْلِ، أوْجَسَ مِنهم خِيفَةً، وذَلِكَ أنَّ أكْلَ الضَّيْفِ أمَنَةٌ ودَلِيلٌ عَلى انْبِساطِ نَفْسِهِ، ولِلطَّعامِ حُرْمَةٌ وذِمامٌ، والِامْتِناعُ مِنهُ وحْشَةٌ. فَخَشِيَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّ امْتِناعَهم مِن أكْلِ طَعامِهِ إنَّما هو لِشَرٍّ يُرِيدُونَهُ، فَقالُوا لا تَخَفْ، وعَرَّفُوهُ أنَّهم مَلائِكَةٌ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: وقَعَ في نَفْسِهِ أنَّهم مَلائِكَةٌ أُرْسِلُوا لِلْعَذابِ. وعِلْمُهم بِما أضْمَرَ في نَفْسِهِ مِنَ الخَوْفِ، إنَّما يَكُونُ بِإطْلاعِ اللَّهِ مَلائِكَتَهُ عَلى ما في نَفْسِهِ، أوْ بِظُهُورِ أمارَتِهِ في الوَجْهِ، فاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلى الباطِنِ. وعَنْ يَحْيى بْنِ شَدّادٍ: مَسَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِجَناحِهِ العِجْلَ، فَقامَ يَدْرُجُ حَتّى لَحِقَ بِأُمِّهِ. ﴿بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾: أيْ سَيَكُونُ عَلِيمًا، وفِيهِ تَبْشِيرٌ بِحَياتِهِ حَتّى يَكُونَ مِنَ العُلَماءِ. وعَنِ الحَسَنِ: عَلِيمٍ نَبِيٍّ، والجُمْهُورُ: عَلى أنَّ المُبَشَّرَ بِهِ هو إسْحاقُ ابْنُ سارَّةَ. وقالَ مُجاهِدٌ: هو إسْماعِيلُ. وقِيلَ: عَلِمَ أنَّهم مَلائِكَةٌ مِن حَيْثُ بَشَّرُوهُ بِغَيْبٍ، ووَقَعَتِ البِشارَةُ بَعْدَ التَّأْنِيسِ والجُلُوسِ، وكانَتِ البِشارَةُ بِذَكَرٍ، لِأنَّهُ أسَرُّ لِلنَّفْسِ وأبْهَجُ، ووَصَفَهُ بِعَلِيمٍ لِأنَّها الصِّفَةُ الَّتِي يَخْتَصُّ بِها الإنْسانُ الكامِلُ إلّا بِالصُّورَةِ الجَمِيلَةِ والقُوَّةِ. ﴿فَأقْبَلَتِ امْرَأتُهُ في صَرَّةٍ﴾: أيْ إلى بَيْتِها، وكانَتْ في زاوِيَةٍ تَنْظُرُ (p-١٤٠)إلَيْهِمْ وتَسْمَعُ كَلامَهم. وقِيلَ: (فَأقْبَلَتِ)، أيْ شَرَعَتْ في الصِّياحِ. قِيلَ: وجَدَتْ حَرارَةَ الدَّمِ، فَلَطَمَتْ وجْهَها مِنَ الحَياءِ. والصَّرَّةُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ والضَّحّاكُ وسُفْيانُ: الصَّيْحَةُ. قالَ الشّاعِرُ: ؎فَألْحَقْنا بِالهادِياتِ ودُونَهُ حَواجِرُها في صَرَّةٍ لَمْ تُزَيَّلِ وقالَ قَتادَةُ وعِكْرِمَةُ: الرَّنَّةُ. قِيلَ: قالَتْ أُوهْ بِصِياحٍ وتَعَجُّبٍ. وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: الجَماعَةُ، أيْ مِنَ النِّسْوَةِ تَبادَرُوا نَظَرًا إلى المَلائِكَةِ. وقالَ الجَوْهَرِيُّ: الصَّرَّةُ: الصَّيْحَةُ والجَماعَةُ والشِّدَّةُ. ﴿فَصَكَّتْ وجْهَها﴾: أيْ لَطَمَتْهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وكَذَلِكَ كَما يَفْعَلُهُ مَن يَرِدُ عَلَيْهِ أمْرٌ يَسْتَهْوِ لَهُ ويَتَعَجَّبُ مِنهُ، وهو فِعْلُ النِّساءِ إذا تَعَجَّبْنَ مِن شَيْءٍ. وقالالسُّدِّيُّ وسُفْيانُ: ضَرَبَتْ بِكَفِّها جَبْهَتَها، وهَذا مُسْتَعْمَلٌ في النّاسِ حَتّى الآنَ. ﴿وقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾: أيْ إنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيها أنَّها عَجُوزٌ، وذَلِكَ مانِعٌ مِنَ الوِلادَةِ، وأنَّها عَقِيمٌ، وهي الَّتِي لَمْ تَلِدْ قَطُّ، فَكَيْفَ ألِدُ ؟ تَعَجَّبَتْ مِن ذَلِكَ. ﴿قالُوا كَذَلِكَ﴾: أيْ مِثْلُ القَوْلِ الَّذِي أخْبَرْناكِ بِهِ، (قالَ رَبُّكِ): وهو القادِرُ عَلى إيجادِ ما يُسْتَبْعَدُ. ورُوِيَ أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ لَها: انْظُرِي إلى سَقْفِ بَيْتِكِ، فَنَظَرَتْ، فَإذا جُذُوعُهُ مُورِقَةٌ مُثْمِرَةٌ. ﴿إنَّهُ هو الحَكِيمُ﴾: أيْ ذُو الحِكْمَةِ. (العَلِيمُ) بِالمَصالِحِ. ولَمّا عَلِمَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّهم مَلائِكَةٌ، وأنَّهم لا يَنْزِلُونَ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى رُسُلًا، قالَ ﴿فَما خَطْبُكُمْ﴾ إلى: ﴿قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾: أيْ ذَوِي جَرائِمَ، وهي كِبارُ المَعاصِي مِن كُفْرٍ وغَيْرِهِ. ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ﴾: أيْ لِنُهْلِكَهم بِها، ﴿حِجارَةً مِن طِينٍ﴾: وهو السِّجِّيلُ، طِينٌ يُطْبَخُ كَما يُطْبَخُ الآجِرُ حَتّى يَصِيرَ في صَلابَةٍ كالحِجارَةِ. (مُسَوَّمَةً): مُعَلَّمَةً، عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنها اسْمُ صاحِبِهِ. وقِيلَ: مُعَلَّمَةً أنَّها مِن حِجارَةِ العَذابِ. وقِيلَ: مُعَلَّمَةً أنَّها لَيْسَتْ مِن حِجارَةِ الدُّنْيا، (لِلْمُسْرِفِينَ): وهُمُ المُجاوِزُونَ الحَدَّ في الكُفْرِ. ﴿فَأخْرَجْنا مَن كانَ فِيها﴾: في القَرْيَةِ الَّتِي حَلَّ العَذابُ بِأهْلِها. ﴿غَيْرَ بَيْتٍ﴾: هو بَيْتُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهو لُوطٌ وابْنَتاهُ فَقَطْ، وقِيلَ: ثَلاثَةَ عَشَرَ نَفْسًا. وقالَ الرُّمّانِيُّ: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ الإيمانَ هو الإسْلامُ، وكَذا قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وهُما مُعْتَزَلِيّانِ. ﴿وتَرَكْنا فِيها﴾: أيْ في القَرْيَةِ، (آيَةً): عَلامَةً. قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حَجَرًا كَبِيرًا جِدًّا مَنضُودًا. وقِيلَ: ماءٌ أسْوَدُ مُنْتِنٌ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ فِيها عائِدًا عَلى الإهْلاكَةِ الَّتِي أُهْلِكُوها، فَإنَّها مِن أعاجِيبِ الإهْلاكِ، بِجَعْلِ أعالِي القَرْيَةِ أسافِلَ وإمْطارِ الحِجارَةِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وفِي مُوسى﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ﴿وتَرَكْنا فِيها﴾: أيْ في قِصَّةِ مُوسى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿وفِي مُوسى﴾ يَكُونُ عَطْفًا عَلى ﴿وفِي الأرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات: ٢٠] . ﴿وفِي مُوسى﴾، وهَذا بَعِيدٌ جِدًّا، يُنَزَّهُ القُرْآنُ عَنْ مِثْلِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أيْضًا: أوْ عَلى قَوْلِهِ، ﴿وتَرَكْنا فِيها آيَةً﴾، عَلى مَعْنى: وجَعَلْنا في مُوسى آيَةً، كَقَوْلِهِ: ؎عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً بارِدًا انْتَهى، ولا حاجَةَ إلى إضْمارِ (وتَرَكْنا)، لِأنَّهُ قَدْ أمْكَنَ أنْ يَكُونَ العامِلُ في المَجْرُورِ (وتَرَكْنا) . ﴿فَتَوَلّى بِرُكْنِهِ﴾: أيِ ازْوَرَّ وأعْرَضَ، كَما قالَ: ﴿ونَأى بِجانِبِهِ﴾ [فصلت: ٥١] . وقِيلَ: بِقُوَّتِهِ وسُلْطانِهِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: بِرُكْنِهِ: بِمَجْمُوعِهِ. وقالَ قَتادَةُ: بِقَوْمِهِ. ﴿وقالَ ساحِرٌ أوْ مَجْنُونٌ﴾: ظَنَّ أحَدَهُما، أوْ تَعَمَّدَ الكَذِبَ، وقَدْ عَلِمَ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَقًّا. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: أوْ بِمَعْنى الواوِ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ قَدْ قالَهُما، قالَ: ﴿إنَّ هَذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: ١٠٩]، و﴿قالَ إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكم لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: ٢٧]، واسْتَشْهَدَ أبُو عُبَيْدَةَ بِقَوْلِ جَرِيرٍ: ؎أثَعْلَبَةَ الفَوارِسِ أوْ رَباحًا ∗∗∗ عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ والحَشايا ولا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلى جَعْلِ أوْ بِمَعْنى الواوِ، إذْ يَكُونُ قالَهُما، وأبْهَمَ عَلى السّامِعِ، فَأوْ لِلْإبْهامِ. (هو مُلِيمٌ): أيْ أتى مِنَ المَعاصِي ما يُلامُ عَلَيْهِ. (العَقِيمَ) الَّتِي لا خَيْرَ فِيها، مِنَ الشِّتاءِ مَطَرٌ، أوْ لِقاحُ شَجَرٍ. وفي الصَّحِيحِ: «نُصِرْتُ بِالصَّبا وأُهْلِكَتْ عادٌ بِالدَّبُورِ» . فَقَوْلُ مَن ذَهَبَ إلى أنَّها الصَّبا، أوِ الجَنُوبُ، أوِ النَّكْباءُ، وهي رِيحٌ بَيْنَ رِيحَيْنِ، نَكَبَتْ عَنْ سَمْتِ القِبْلَةِ، فَسُمِّيَتْ نَكْباءَ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِمُعارَضَتِهِ لِلنَّصِّ الثّابِتِ عَنْ (p-١٤١)الرَّسُولُ ﷺ، أنَّها الدَّبُّورُ. ﴿ما تَذَرُ مِن شَيْءٍ أتَتْ عَلَيْهِ﴾: وهو عامٌّ مَخْصُوصٌ، كَقَوْلِهِ: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأمْرِ رَبِّها﴾ [الأحقاف: ٢٥]: أيْ مِمّا أرادَ اللَّهُ تَدْمِيرَهُ وإهْلاكَهُ مِن ناسٍ أوْ دِيارٍ أوْ شَجَرٍ أوْ نَباتٍ، لِأنَّها لَمْ يُرِدِ اللَّهُ بِها إهْلاكَ الجِبالِ والآكامِ والصُّخُورِ، ولا العالَمِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مِن قَوْمِ عادٍ. ﴿إلّا جَعَلَتْهُ كالرَّمِيمِ﴾: جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، والرَّمِيمُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في يس، وهُنا قالَ السُّدِّيُّ: التُّرابُ، وقَتادَةُ: الهَشِيمُ، ومُجاهِدٌ: البالِي، وقُطْرُبٌ: الرَّمادُ، وابْنُ عِيسى: المُنْسَحِقُ الَّذِي لا يَرِمُّ، جَعَلَ الهَمْزَةَ في أرَمَّ لِلسَّلْبِ. رُوِيَ أنَّ الرِّيحَ كانَتْ تَمُرُّ بِالنّاسِ، فِيهِمُ الرَّجُلُ مِن قَوْمِ عادٍ، فَتَنْزِعُهُ مِن بَيْنِهِمْ وتُهْلِكُهُ. ﴿تَمَتَّعُوا حَتّى حِينٍ﴾، قالَ الحَسَنُ: هَذا كانَ حِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ صالِحٌ، أُمِرُوا بِالإيمانِ بِما جاءَ بِهِ والتَّمَتُّعِ إلى أنْ تَأْتِيَ آجالُهم، ثُمَّ إنَّهم عَتَوْا بَعْدَ ذَلِكَ، ولِذَلِكَ جاءَ العَطْفُ بِالفاءِ المُقْتَضِيَةِ تَأخُّرَ العُتُوِّ عَنْ ما أُمِرُوا بِهِ، فَهو مُطابِقٌ لَفْظًا ووُجُودًا. وقالَ الفَرّاءُ: هَذا الأمْرُ بِالتَّمَتُّعِ كانَ بَعْدَ عَقْرِ النّاقَةِ، والحِينُ ثَلاثَةُ أيّامٍ الَّتِي أُوعِدُوا في تَمامِها بِالعَذابِ. فالعُتُوُّ كانَ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ أنْ يُقالَ لَهم تَمَتَّعُوا، ولا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلى قَوْلِ الفَرّاءِ، إذْ هو غَيْرُ مُرَتَّبٍ في الوُجُودِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: الصّاعِقَةُ؛ وعُمَرُ وعُثْمانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، والكِسائِيُّ: الصَّعْقَةُ، وهي الصَّيْحَةُ هُنا. وقَرَأ الحَسَنُ: الصّاعِقَةُ؛ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَقِراءَةِ الكِسائِيِّ. ﴿وهم يَنْظُرُونَ﴾: أيْ فَجْأةً، وهم يَنْظُرُونَ بِعُيُونِهِمْ، قالَهُ الطَّبَرِيُّ: وكانَتْ نَهارًا. وقالَ مُجاهِدٌ: ﴿وهم يَنْظُرُونَ﴾ يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ في تِلْكَ الأيّامِ الثَّلاثَةِ الَّتِي أُعْلِمُوهُ فِيها، ورَأوْا عَلاماتِهِ في قُلُوبِهِمْ، وانْتِظارُ العَذابِ أشَدُّ مِنَ العَذابِ. ﴿فَما اسْتَطاعُوا مِن قِيامٍ﴾؛ لِقَوْلِهِ: ﴿فَأصْبَحُوا في دارِهِمْ جاثِمِينَ﴾ [الأعراف: ٧٨]، ونَفْيُ الِاسْتِطاعَةِ أبْلَغُ مِن نَفْيِ القُدْرَةِ. ﴿وما كانُوا مُنْتَصِرِينَ﴾، أبْلَغُ مِن نَفْيِ الِانْتِصارِ: أيْ فَما قَدَرُوا عَلى الهَرَبِ، ولا كانُوا مِمَّنْ يَنْتَصِرُ لِنَفْسِهِ فَيَدْفَعُ ما حَلَّ بِهِ. وقِيلَ: ﴿مِن قِيامٍ﴾، هو مِن قَوْلِهِمْ: ما يَقُومُ بِهِ إذا عَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ، فَلَيْسَ المَعْنى انْتِصابَ القامَةِ، قالَهُ قَتادَةُ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: (وقَوْمِ) بِالجَرِّ عَطْفًا عَلى ما تَقَدَّمَ، أيْ وفي قَوْمِ نُوحٍ، وهي قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ، وأبُو عَمْرٍو في رِوايَةٍ: بِالنَّصْبِ. قِيلَ: عَطْفًا عَلى الضَّمِيرِ في (فَأخَذَتْهم)؛ وقِيلَ: عَطْفًا عَلى ﴿فَنَبَذْناهُمْ﴾، لِأنَّ مَعْنى كُلٍّ مِنهُما: فَأهْلَكْناهم. وقِيلَ: مَنصُوبٌ بِإضْمارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وأهْلَكْنا قَوْمَ نُوحٍ، لِدَلالَةِ مَعْنى الكَلامِ عَلَيْهِ. وقِيلَ: بِـ (اذْكُرْ) مُضْمَرَةً. ورَوى عَبْدُ الوارِثِ، ومَحْبُوبٌ والأصْمَعِيُّ عَنْ أبِي عَمْرٍو، وأبُو السَّمّالِ، وابْنُ مِقْسَمٍ: وقَوْمُ نُوحٍ بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أيْ أهْلَكْناهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب