الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَةٍ مِن هَذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ﴾ ﴿وقالَ قَرِينُهُ هَذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ ﴿ألْقِيا في جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّارٍ عَنِيدٍ﴾ ﴿مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ﴾ ﴿الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَألْقِياهُ في العَذابِ الشَّدِيدِ﴾ ﴿قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أطْغَيْتُهُ ولَكِنْ كانَ في ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ ﴿قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وقَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكم بِالوَعِيدِ﴾ ﴿ما يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ وما أنا بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وتَقُولُ هَلْ مِن مَزِيدٍ﴾ ﴿وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ ﴿هَذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أوّابٍ حَفِيظٍ﴾ ﴿مَن خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ وجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ ﴿ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الخُلُودِ﴾ ﴿لَهم ما يَشاءُونَ فِيها ولَدَيْنا مَزِيدٌ﴾ ﴿وكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِن قَرْنٍ هم أشَدُّ مِنهم بَطْشًا فَنَقَّبُوا في البِلادِ هَلْ مِن مَحِيصٍ﴾ [ق: ٣٦] ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَن كانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ ألْقى السَّمْعَ وهو شَهِيدٌ﴾ [ق: ٣٧] ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ وما مَسَّنا مِن لُغُوبٍ﴾ [ق: ٣٨] ﴿فاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ الغُرُوبِ﴾ [ق: ٣٩] ﴿ومِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وأدْبارَ السُّجُودِ﴾ [ق: ٤٠] ﴿واسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِي المُنادِي مِن مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ [ق: ٤١] ﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الخُرُوجِ﴾ [ق: ٤٢] ﴿إنّا نَحْنُ نُحْيِي ونُمِيتُ وإلَيْنا المَصِيرُ﴾ [ق: ٤٣] ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهم سِراعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ﴾ [ق: ٤٤] ﴿نَحْنُ أعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ﴾ [ق: ٤٥] ﴿فَذَكِّرْ بِالقُرْآنِ مَن يَخافُ وعِيدِ﴾ [ق: ٤٥] والذّارِياتِ. (p-١٢٥)قَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَةٍ﴾، بِفَتْحِ التّاءِ والكافِ في ”كُنْتَ“ و”﴿غِطاءَكَ﴾“ و”بَصَرُكَ“، والجَحْدَرِيُّ: بِكَسْرِها عَلى مُخاطَبَةِ النَّفْسِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ﴾، بِفَتْحِ التّاءِ والكافِ، حَمْلًا عَلى لَفْظِ ”كُلُّ“ مِنَ التَّذْكِيرِ، والجَحْدَرِيُّ، وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: عَنْكِ غِطاءَكِ فَبَصَرُكِ، بِالكَسْرِ مُراعاةً لِلنَّفْسِ أيْضًا، ولَمْ يَنْقِلِ الكَسْرَ في الكافِ صاحِبُ اللَّوامِحِ إلّا عَنْ طَلْحَةَ وحْدَهُ. قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: ولَمْ أجِدْ عَنْهُ في ﴿لَقَدْ كُنْتَ﴾ . فَإنْ كَسَرَ فَإنَّ الجَمِيعَ شَرْعٌ واحِدٌ، وإنْ فَتَحَ ﴿لَقَدْ كُنْتَ﴾، فَحَمْلٌ عَلى ”كُلُّ“ أنَّهُ مُذَكَّرٌ. ويَجُوزُ تَأْنِيثُ كُلُّ في هَذا البابِ لِإضافَتِهِ إلى نَفْسٍ، وهو مُؤَنَّثٌ، وإنْ كانَ كَذَلِكَ، فَإنَّهُ حَمَلَ بَعْضَهُ عَلى اللَّفْظِ وبَعْضَهُ عَلى المَعْنى، مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿فَلَهُ أجْرُهُ﴾ [البقرة: ١١٢]، ثُمَّ قالَ: ﴿ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٦٢] . انْتَهى. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وصالِحُ بْنُ كَيْسانَ، والضَّحّاكُ: يُقالُ لِلْكافِرِ الغافِلِ مِن ذَوِي النَّفْسِ الَّتِي مَعَها السّائِقُ والشَّهِيدُ، إذا حَصَلَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ، وعايَنَ الحَقائِقَ الَّتِي لا يُصَدِّقُ بِها في الدُّنْيا، ويَتَغافَلُ عَنِ النَّظَرِ فِيها: ﴿لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَةٍ مِن هَذا﴾: أيْ مِن عاقِبَةِ الكُفْرِ. فَلَمّا كَشَفَ الغِطاءَ عَنْكَ، احْتَدَّ بَصَرُكَ: أيْ بَصِيرَتُكَ، وهَذا كَما تَقُولُ: فُلانٌ حَدِيدُ الذِّهْنِ. وقالَ مُجاهِدٌ: هو بَصَرُ العَيْنِ، أيِ احْتَدَّ التِفاتُهُ إلى مِيزانِهِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن أهْوالِ القِيامَةِ. وعَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ قَوْلٌ في هَذِهِ الآيَةِ يَحْرُمُ نَقْلُهُ، وهو في كِتابِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وكَنّى بِالغِطاءِ عَنِ الغَفْلَةِ، كَأنَّها غَطَّتْ جَمِيعَهُ أوْ عَيْنَيْهِ، فَهو لا يُبْصِرُ. فَإذا كانَ في القِيامَةِ، زالَتْ عَنْهُ الغَفْلَةُ، فَأبْصَرَ ما كانَ لَمْ يُبْصِرْهُ مِنَ الحَقِّ. ﴿وقالَ قَرِينُهُ﴾: أيْ مِن زَبانِيَةِ جَهَنَّمَ، (هَذا): العَذابُ الَّذِي لَدَيَّ لِهَذا الإنْسانِ الكافِرِ، (عَتِيدٌ): حاضِرٌ، ويُحَسِّنُ هَذا القَوْلَ إطْلاقُ ما عَلى ما لا يَعْقِلُ. وقالَ قَتادَةُ: قَرِينُهُ: المَلَكُ المُوَكَّلُ بِسَوْقِهِ، أيْ هَذا الكافِرُ الَّذِي أسُوقُهُ لَدَيَّ حاضِرٌ. وقالَ الزَّهْراوِيُّ: وقِيلَ قَرِينُهُ: (p-١٢٦)شَيْطانُهُ، وهَذا ضَعِيفٌ، وإنَّما وقَعَ فِيهِ أنَّ القَرِينَ في قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا ما أطْغَيْتُهُ﴾ هو شَيْطانُهُ في الدُّنْيا ومُغْوِيهِ بِلا خِلافٍ. ولَفْظُ القَرِينِ اسْمُ جِنْسٍ، فَسائِقُهُ قَرِينٌ، وصاحِبُهُ مِنَ الزَّبانِيَةِ قَرِينٌ، ومُماشِي الإنْسانِ في طَرِيقَةِ قَرِينٌ. وقِيلَ: قَرِينُهُ هُنا: عَمَلُهُ قَلْبًا وجَوارِحًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقالَ قَرِينُهُ: هو الشَّيْطانُ الَّذِي قُيِّضَ لَهُ في قَوْلِهِ ﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهو لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: ٣٦]، يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أطْغَيْتُهُ﴾، ﴿هَذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾، هَذا شَيْءٌ لَدَيَّ، وفي مَلَكَتِي عَتِيدٌ لِجَهَنَّمَ. والمَعْنى: أنَّ مَلَكًا يَسُوقُهُ وآخَرَ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، وشَيْطانًا مَقْرُونًا بِهِ يَقُولُ: قَدْ أعْتَدْتُهُ لِجَهَنَّمَ وهَيَّأْتُهُ لَها بِإغْوائِي وإضْلالِي. انْتَهى، وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ. وقالَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ أيْضًا: المَلَكُ الشَّهِيدُ عَلَيْهِ. وقالَ الحَسَنُ أيْضًا: هو كاتِبُ سَيِّئاتِهِ، وما نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِالظَّرْفِ وبِـ ”عَتِيدٌ“ ومَوْصُولَةٌ، والظَّرْفُ صِلَتُها. وعَتِيدٌ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَدَلٌ أوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. انْتَهى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: عَتِيدٌ بِالرَّفْعِ، وعَبْدُ اللَّهِ: بِالنَّصْبِ عَلى الحالِ، والأوْلى إذْ ذاكَ أنْ تَكُونَ ما مَوْصُولَةً. ﴿ألْقِيا في جَهَنَّمَ﴾: الخِطابُ مِنَ اللَّهِ لِلْمَلَكَيْنِ السّائِقِ والشَّهِيدِ. وقِيلَ: لِلْمَلَكَيْنِ مِن مَلائِكَةِ العَذابِ، فَعَلى هَذا الألِفُ ضَمِيرُ الِاثْنَيْنِ. وقالَ مُجاهِدٌ وجَماعَةٌ: هو قَوْلٌ إمّا لِلسّائِقِ، وإمّا لِلَّذِي هو مِنَ الزَّبانِيَةِ، وعَلى أنَّهُ خِطابٌ لِلْواحِدِ. وقالَ المُبَرِّدُ مَعْناهُ: ألْقِ ألْقِ، فَثَنّى. وقالَ الفَرّاءُ: هو مِن خِطابِ الواحِدِ بِخِطابِ الِاثْنَيْنِ. وقِيلَ: الألِفُ بَدَلٌ مِنَ النُّونِ الخَفِيفَةِ، أجْرى الوَصْلَ مُجْرى الوَقْفِ، وهَذِهِ أقْوالٌ مَرْغُوبٌ عَنْها، ولا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلى الخُرُوجِ عَنْ ظاهِرِ اللَّفْظِ لِقَوْلِ مُجاهِدٍ. وقَرَأ الحَسَنُ: ألْقَيْنَ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الخَفِيفَةِ، وهي شاذَّةٌ مُخالِفَةٌ لِنَقْلِ التَّواتُرِ بِالألِفِ. (كُلَّ كَفّارٍ): أيْ يَكْفُرُ النِّعْمَةَ والمُنْعِمَ، (عَتِيدٍ)، قالَ قَتادَةُ: مُنْحَرِفٌ عَنِ الطّاعَةِ. وقالَ الحَسَنُ: جاحِدٌ مُتَمَرِّدٌ. وقالَ السُّدِّيُّ: المَساقُ مِنَ العِنْدِ، وهو عَظْمٌ يَعْرِضُ في الحَلْقِ. وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: المُعْجَبُ بِما فِيهِ. ﴿مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ﴾، قالَ قَتادَةُ ومُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ: يَعْنِي الزَّكاةَ. وقِيلَ: بَخِيلٌ. وقِيلَ: مانِعٌ بَنِي أخِيهِ مِنَ الإيمانِ، كالوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، كانَ يَقُولُ لَهم: مَن دَخَلَ مِنكم فِيهِ لَمْ أنْفَعْهُ بِشَيْءٍ ما عِشْتَ، والأحْسَنُ عُمُومُ الخَيْرِ في المالِ وغَيْرِهِ. (مُرِيبٍ)، قالَ الحَسَنُ: شاكٍّ في اللَّهِ أوْ في البَعْثِ. وقِيلَ: مُتَّهِمٍ الَّذِي جَوَّزُوا فِيهِ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بَدَلًا مِن كُلِّ كَفّارٍ، وأنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بَدَلًا مِن كَفّارٍ، وأنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِداءِ مُضَمَّنًا مَعْنى الشَّرْطِ، ولِذَلِكَ دَخَلَتِ الفاءُ في خَبَرِهِ، وهو فَألْقِياهُ. والظّاهِرُ تَعَلُّقُهُ بِما قَبْلَهُ عَلى جِهَةِ البَدَلِ، ويَكُونُ فَألْقِياهُ تَوْكِيدًا. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ صِفَةً مِن حَيْثُ يَخْتَصُّ ”كَفّارٍ“ بِالأوْصافِ المَذْكُورَةِ، فَجازَ وصْفُهُ بِهَذِهِ المَعْرِفَةِ. انْتَهى. وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ لَوْ وُصِفَتِ النَّكِرَةُ بِأوْصافٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يَجُزْ أنْ تُوصَفَ بِالمَعْرِفَةِ. ﴿قالَ قَرِينُهُ﴾: لَمْ تَأْتِ هَذِهِ الجُمْلَةُ بِالواوِ، بِخِلافٍ ﴿وقالَ قَرِينُهُ﴾ قَبْلَهُ، لِأنَّ هَذِهِ اسْتُؤْنِفَتْ كَما اسْتُؤْنِفَتِ الجُمَلُ في حِكايَةِ التَّقاوُلِ في مُقاوَلَةِ مُوسى وفِرْعَوْنَ، فَجَرَتْ مُقاوَلَةٌ بَيْنَ الكافِرِ وقَرِينِهِ، فَكَأنَّ الكافِرَ قالَ رَبِّي هو أطْغانِي، ﴿قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أطْغَيْتُهُ﴾ . وأمّا ﴿وقالَ قَرِينُهُ﴾ فَعُطِفَ لِلدَّلالَةِ عَلى الجَمْعِ بَيْنَ مَعْناها ومَعْنى ما قَبْلَها في الحُصُولِ، أعْنِي مَجِيءَ كُلِّ نَفْسٍ مَعَ المَلَكَيْنِ. وقَوْلُ قَرِينِهِ: ما قالَ لَهُ، ومَعْنى ما أطْغَيْتُهُ: تَنْزِيهٌ لِنَفْسِهِ مِن أنَّهُ أثَّرَ فِيهِ، ﴿ولَكِنْ كانَ في ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾: أيْ مِن نَفْسِهِ لا مِنِّي، فَهو الَّذِي اسْتَحَبَّ العَمى عَلى الهُدى، كَقَوْلِهِ: ﴿وما كانَ لِي عَلَيْكم مِن سُلْطانٍ إلّا أنْ دَعَوْتُكم فاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ [إبراهيم: ٢٢]، وكَذَّبَ القَرِينَ، قَدْ أطْغاهُ بِوَسْوَسَتِهِ وتَزْيِينِهِ. ﴿قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ﴾: اسْتِئْنافٌ أيْضًا مِثْلُ قالَ قَرِينُهُ، كَأنَّ قائِلًا قالَ: ما قالَ اللَّهُ تَعالى ؟ فَقِيلَ: ﴿لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ﴾ أيْ في دارِ الجَزاءِ ومَوْقِفِ الحِسابِ. ﴿وقَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكم بِالوَعِيدِ﴾ لِمَن عَصانِي، فَلَمْ أتْرُكْ لَكم حُجَّةً. ﴿ما يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ﴾: أيْ عِنْدِي، فَما أمْضَيْتُهُ لا يُمْكِنُ تَبْدِيلُهُ. وقالَ الفَرّاءُ: ما يُكَذَّبُ لَدَيَّ لِعِلْمِي بِجَمِيعِ الأُمُورِ. وقَدَّمْتُ: يَجُوزُ أنْ (p-١٢٧)يَكُونَ بِمَعْنى تَقَدَّمْتُ، أيْ قَدْ تَقَدَّمَ قَوْلِي لَكم مُلْتَبِسًا بِالوَعِيدِ، أوْ يَكُونَ قَدَّمَ المُتَعَدِّيَةِ، و”بِالوَعِيدِ“ هو المَفْعُولُ، والباءُ زائِدَةٌ، والتَّقْدِيمُ كانَ في الدُّنْيا، ونَهْيُهم عَنِ الِاخْتِصامِ في الآخِرَةِ، فاخْتَلَفَ الزَّمانانِ. فَلا تَكُونُ الجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وقَدْ قَدَّمْتُ﴾ حالًا إلّا عَلى تَأْوِيلِ، أيْ وقَدْ صَحَّ عِنْدَكم أنِّي قَدَّمْتُ، وصِحَّةُ ذَلِكَ في الآخِرَةِ، فاتَّفَقَ زَمانُ النَّهْيِ عَنِ الِاخْتِصامِ، وصِحَّةُ التَّقْدِيمِ بِالحالِ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ مُقارَنَةً. ﴿وما أنا بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾: تَقَدَّمَ شَرْحُ مِثْلِهِ في أواخِرِ آلِ عِمْرانَ، والمَعْنى: لا أُعَذِّبُ مَن لا يَسْتَحِقُّ العَذابَ. وقَرَأ يَوْمَ يَقُولُ، بِياءِ الغَيْبَةِ الأعْرَجُ، وشَيْبَةُ، ونافِعٌ، وأبُو بَكْرٍ، والحَسَنُ، وأبُو رَجاءٍ، وأبُو جَعْفَرٍ، والأعْمَشُ، وباقِي السَّبْعَةِ: بِالنُّونِ، وعَبْدُ اللَّهِ، والحَسَنُ، والأعْمَشُ أيْضًا: يُقالُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وانْتِصابُ ”يَوْمَ“ بِظَلّامٍ، أوْ بِاذْكُرْ، أوْ بِأنْذِرْ كَذَلِكَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ بِنُفِخَ، كَأنَّهُ قِيلَ: ونُفِخَ في الصُّورِ يَوْمَ نَقُولُ، وعَلى هَذا يُشارُ بِذَلِكَ إلى (يَوْمَ يَقُولُ) . انْتَهى، وهَذا بَعِيدٌ جِدًّا، قَدْ فُصِلَ عَلى هَذا القَوْلِ بَيْنَ العامِلِ والمَعْمُولِ بِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ، فَلا يُناسِبُ هَذا القَوْلُ فَصاحَةَ القُرْآنِ وبَلاغَتَهُ. و﴿هَلِ امْتَلَأْتِ﴾: تَقْرِيرٌ وتَوْقِيفٌ، لا سُؤالُ اسْتِفْهامٍ حَقِيقَةً، لِأنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِأحْوالِ جَهَنَّمَ. قِيلَ: وهَذا السُّؤالُ والجَوابُ مِنها حَقِيقَةً. وقِيلَ: هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ نَقُولُ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ، قالَهُ الرُّمّانِيُّ. وقِيلَ: السُّؤالُ والجَوابُ مِن بابِ التَّصْوِيرِ الَّذِي يَثْبُتُ المَعْنى، أيْ حالُها حالُ مَن لَوْ نَطَقَ بِالجَوابِ لِسائِلِهِ لَقالَ كَذا، وهَذا القَوْلُ يُظْهِرُ أنَّها إذْ ذاكَ لَمْ تَكُنْ مَلْأى. فَقَوْلُها: ﴿مِن مَزِيدٍ﴾، سُؤالٌ ورَغْبَةٌ في الزِّيادَةِ والِاسْتِكْثارِ مِنَ الدّاخِلِينَ فِيها. وقالَ الحَسَنُ، وعَمْرٌو، وواصِلٌ: كانَتْ مَلْأى وقْتَ السُّؤالِ، فَلا تَزْدادُ عَلى امْتِلائِها، كَما جاءَ في الحَدِيثِ وهَلْ تَرَكَ لَنا عَقِيلٌ مِن دارٍ أيْ ما تَرَكَهُ، و(مَزِيدٍ) يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أوِ اسْمَ مَفْعُولٍ. ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾: مَكانًا غَيْرَ بَعِيدٍ، وهو تَأْكِيدٌ لِـ ﴿أُزْلِفَتْ﴾ [التكوير: ١٣] . رَفَعَ مَجازَ القُرْبِ بِالوَعْدِ والإخْبارِ. فانْتِصابُ (غَيْرَ) عَلى الظَّرْفِ صِفَةً قامَتْ مَقامَ مَكانٍ، فَأُعْرِبَتْ بِإعْرابِهِ. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَنْتَصِبَ (غَيْرَ بَعِيدٍ) عَلى الحالِ مِنَ الجَنَّةِ. قالَ: وتَذْكِيرُهُ يَعْنِي (بَعِيدٍ)، لِأنَّهُ عَلى زِنَةِ المَصْدَرِ، كالزَّئِيرِ والصَّلِيلِ، والمَصادِرُ يَسْتَوِي في الوَصْفِ بِها المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ. انْتَهى. وكَوْنُهُ عَلى وزْنِ المَصْدَرِ، لا يُسَوِّغُ أنْ يَكُونَ المُذَكَّرُ صِفَةً لِلْمُؤَنَّثِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أيْضًا: أوْ عَلى حَذْفِ المَوْصُوفِ، أيْ شَيْئًا غَيْرَ بَعِيدٍ. انْتَهى. وكَأنَّهُ يَعْنِي إزْلافًا غَيْرَ بَعِيدٍ، هَذا إشارَةٌ لِلثَّوابِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (ما تُوعَدُونَ)، خِطابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو: بِياءِ الغَيْبَةِ، أيْ هَذا القَوْلُ هو الَّذِي وقَعَ الوَعْدُ بِهِ، وهي جُمْلَةٌ اعْتِراضِيَّةٌ بَيْنَ المُبْدَلِ مِنهُ والبَدَلِ. و﴿لِكُلِّ أوّابٍ﴾: هو البَدَلُ مِنَ المُتَّقِينَ. ﴿مَن خَشِيَ﴾: بَدَلٌ بَعْدَ بَدَلٍ تابِعٍ (لِكُلِّ)، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وإنَّما جَعَلَهُ تابِعًا (لِكُلِّ)، لا بَدَلًا مِن (لِلْمُتَّقِينَ)، لِأنَّهُ لا يَتَكَرَّرُ الإبْدالُ مِن مُبْدَلٍ مِنهُ واحِدٍ. قالَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن مَوْصُوفِ أوّابٍ وحَفِيظٍ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ في حُكْمِ أوّابٍ وحَفِيظٍ، لِأنَّ مَن لا يُوصَفُ بِهِ، ولا يُوصَفُ مِن بَيْنِ سائِرِ المَوْصُولاتِ إلّا بِالَّذِي. انْتَهى. يَعْنِي بِقَوْلِهِ: في حُكْمِ أوّابٍ: أنْ يُجْعَلَ مِن صِفَتِهِ، وهَذا حُكْمٌ صَحِيحٌ. وأمّا قَوْلُهُ: ولا يُوصَفُ مِن بَيْنِ المَوْصُولاتِ إلّا بِالَّذِي، فالحَصْرُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، قَدْ وصَفَتِ العَرَبُ بِما فِيهِ ألْ، وهو مَوْصُولٌ، نَحْوُ القائِمِ والمَضْرُوبِ، ووَصَفَتْ بِـ ذُو الطّائِيَّةِ، وذاتُ في المُؤَنَّثِ. ومِن كَلامِهِمْ: بِالفَضْلِ ذُو فَضَّلَكُمُ اللَّهُ بِهِ، والكَرامَةِ ذاتُ أكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِهِ، يُرِيدُ بِالفَضْلِ الَّذِي فَضَّلَكم والكَرامَةِ الَّتِي أكْرَمَكم، ولا يُرِيدُ الزَّمَخْشَرِيُّ خُصُوصِيَّةَ الَّذِي، بَلْ فُرُوعِهِ مِنَ المُؤَنَّثِ والمُثَنّى والمَجْمُوعِ عَلى اخْتِلافِ لُغاتِ ذَلِكَ. وجَوَّزَ أنْ تَكُونَ مَن مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً خَبَرُهُ القَوْلُ المَحْذُوفُ، تَقْدِيرُهُ: يُقالُ لَهُمُ ادْخُلُوها، لِأنَّ مَن في مَعْنى الجَمْعِ، وأنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، والجَوابُ الفِعْلُ المَحْذُوفُ، أيْ فَيُقالُ: وأنْ يَكُونَ مُنادًى، كَقَوْلِهِمْ: مَن لا يَزالُ مُحْسِنًا أحْسِنْ إلَيَّ، وحَذَفَ حَرْفَ (p-١٢٨)النِّداءِ لِلتَّقْرِيبِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَن نَعْتًا. انْتَهى، وهَذا لا يَجُوزُ، لِأنَّ مَن لا يُنْعَتُ بِها، وبِالغَيْبِ حالٌ مِنَ المَفْعُولِ، أيْ وهو غائِبٌ عَنْهُ، وإنَّما أدْرَكَهُ بِالعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، إذْ كُلُّ مَصْنُوعٍ لا بُدَّ لَهُ مِن صانِعٍ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرِ خَشِيَ، أيْ خَشِيَهُ خَشْيَةً مُلْتَبِسَةً بِالغَيْبِ، حَيْثُ خَشِيَ عِقابَهُ وهو غائِبٌ، أوْ خَشِيَهُ بِسَبَبِ الغَيْبِ الَّذِي أوْعَدَهُ بِهِ مِن عَذابِهِ. وقِيلَ: في الخَلْوَةِ حَيْثُ لا يَراهُ أحَدٌ، فَيَكُونُ حالًا مِنَ الفاعِلِ. وقَرَنَ بِالخَشْيَةِ بِالرَّحْمَنِ بِناءً عَلى الخاشِي، حَيْثُ عَلِمَ أنَّهُ واسِعُ الرَّحْمَةِ، وهو مَعَ ذَلِكَ يَخْشاهُ. ﴿ادْخُلُوها بِسَلامٍ﴾: أيْ سالِمِينَ مِنَ العَذابِ، أوْ مُسَلَّمًا عَلَيْكم مِنَ اللَّهِ ومَلائِكَتِهِ. ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الخُلُودِ﴾: كَقَوْلِهِ: ﴿فادْخُلُوها خالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣]: أيْ مُقَدِّرِينَ الخُلُودَ، وهو مُعادِلٌ لِقَوْلِهِ في الكُفّارِ: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الوَعِيدِ﴾ [ق: ٢٠] . ﴿لَهم ما يَشاءُونَ فِيها﴾: أيْ ما تَعَلَّقَتْ بِهِ مَشِيئاتُهم مِن أنْواعِ المَلاذِّ والكَراماتِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَكم فِيها ما تَشْتَهِي أنْفُسُكُمْ﴾ [فصلت: ٣١] . ﴿ولَدَيْنا مَزِيدٌ﴾: زِيادَةٌ، أوْ شَيْءٌ مَزِيدٌ عَلى ما تَشاءُونَ، ونَحْوُهُ: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهم مِن قُرَّةِ أعْيُنٍ﴾ [السجدة: ١٧]، وكَما جاءَ في الحَدِيثِ: «أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ ما أطْلَعْتُهم عَلَيْهِ»، و”مَزِيدٌ“: مُبْهَمٌ، فَقِيلَ: مُضاعَفَةُ الحَسَنَةِ بِعَشْرِ أمْثالِها. وقِيلَ: أزْواجٌ مِن حُورِ الجَنَّةِ. وقِيلَ: تَجَلِّي اللَّهُ تَعالى لَهم حَتّى يَرَوْنَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب