الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿أفَعَيِينا بِالخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هم في لَبْسٍ مِن خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ ونَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ونَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِن حَبْلِ الوَرِيدِ﴾ ﴿إذْ يَتَلَقّى المُتَلَقِّيانِ عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ﴾ ﴿ما يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ ﴿وجاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ ما كُنْتَ مِنهُ تَحِيدُ﴾ ﴿ونُفِخَ في الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الوَعِيدِ﴾ ﴿وجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وشَهِيدٌ﴾ . (p-١٢٣)﴿أفَعَيِينا بِالخَلْقِ الأوَّلِ﴾: وهو إنْشاءُ الإنْسانِ مِن نُطْفَةٍ عَلى التَّدْرِيجِ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ عَيِيَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ﴾ [الأحقاف: ٣٣] . وقَرَأ الجُمْهُورُ: أفَعَيِينا، بِياءٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَها ياءٌ ساكِنَةٌ، ماضِي عَيِيَ، كَرَضِيَ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ، والوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، والقُورُصْبِيُّ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ، والسِّمْسارُ عَنْ شَيْبَةَ، وأبُو بَحْرٍ عَنْ نافِعٍ: بِتَشْدِيدِ الياءِ مِن غَيْرِ إشْباعٍ في الثّانِيَةِ، هَكَذا قالَ أبُو القاسِمِ الهُذَلِيُّ في كِتابِ الكامِلِ. وقالَ ابْنُ خالَوَيْهِ في كِتابِ شَواذِّ القِراءاتِ لَهُ: أفَعَيِّنا بِتَشْدِيدِ الياءِ. ابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وفَكَّرْتُ في تَوْجِيهِ هَذِهِ القِراءَةِ، إذْ لَمْ يَذْكُرْ أحَدٌ تَوْجِيهَها، فَخَرَّجْتُها عَلى لُغَةِ مَن أدْغَمَ الياءَ في الياءِ في الماضِي، فَقالَ: عَيَّ في عَيِيَ، وحَيَّ في حَيِيَ. فَلَمّا أدْغَمَ ألْحَقَهُ ضَمِيرَ المُتَكَلِّمِ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ، ولَمْ يَفُكَّ الإدْغامَ فَقالَ: عَيِّنا، وهي لُغَةٌ لِبَعْضِ بَكْرِ بْنِ وائِلٍ، يَقُولُونَ في رَدَدْتُ ورَدَدْنا: رَدَّتْ ورَدَّنا، فَلا يَفُكُّونَ، وعَلى هَذِهِ اللُّغَةِ تَكُونُ الياءُ المُشَدَّدَةُ مَفْتُوحَةً. فَلَوْ كانَ نا ضَمِيرَ نَصْبٍ، لاجْتَمَعَتِ العَرَبُ عَلى الإدْغامِ، نَحْوُ: رَدَّنا زَيْدٌ. وقالَ الحَسَنُ: الخَلْقُ الأوَّلُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، والمَعْنى: أعَجَزْنا عَنِ الخَلْقِ الأوَّلِ فَنَعْجِزَ عَنِ الخَلْقِ الثّانِي، وهَذا تَوْقِيفٌ لِلْكُفّارِ، وتَوْبِيخٌ وإقامَةُ الحُجَّةِ الواضِحَةِ عَلَيْهِمْ. ﴿بَلْ هم في لَبْسٍ﴾: أيْ خَلْطٍ وشُبْهَةٍ وحَيْرَةٍ، ومِنهُ قَوْلُ عَلِيٍّ: يا جارِ إنَّهُ لَمَلْبُوسٌ عَلَيْكَ، اعْرِفِ الحَقَّ تَعْرِفْ أهْلَهُ. ﴿مِن خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾: أيْ مِنَ البَعْثِ مِنَ القُبُورِ. ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ﴾: هَذِهِ آياتٌ فِيها إقامَةُ حُجَجٍ عَلى الكُفّارِ في إنْكارِهِمُ البَعْثَ، والإنْسانُ اسْمُ جِنْسٍ. وقِيلَ: آدَمُ. ﴿ونَحْنُ أقْرَبُ﴾: قُرْبَ عِلْمٍ بِهِ وبِأحْوالِهِ، لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن خَفِيّاتِهِ، فَكَأنَّ ذاتَهُ قَرِيبَةٌ مِنهُ، كَما يُقالُ: اللَّهُ في كُلِّ مَكانٍ، أيْ بِعِلْمِهِ، وهو مُنَزَّهٌ عَنِ الأمْكِنَةِ. و﴿حَبْلِ الوَرِيدِ﴾: مَثَلٌ في فَرْطِ القُرْبِ، كَقَوْلِ العَرَبِ: هو مِنِّي مَقْعَدَ القابِلَةِ، ومَقْعَدَ الإزارِ. قالَ ذُو الرُّمَّةِ: ؎والمَوْتُ أدْنى لِي مِنَ الوَرِيدِ والحَبْلُ: العِرْقُ الَّذِي شُبِّهَ بِواحِدِ الحِبالِ، وإضافَتُهُ إلى الوَرِيدِ لِلْبَيانِ، كَقَوْلِهِمْ: بَعِيرٌ سائِبَةٌ. أوْ يُرادُ حَبْلُ العاتِقِ، فَيُضافُ إلى الوَرِيدِ، كَما يُضافُ إلى العاتِقِ لِاجْتِماعِهِما في عُضْوٍ واحِدٍ، والعامِلُ في إذْ أقْرَبُ. وقِيلَ: اذْكُرْ، قِيلَ: ويَحْسُنُ تَقْدِيرُ اذْكُرْ، لِأنَّهُ أخْبَرَ خَبَرًا مُجَرَّدًا بِالخَلْقِ والعِلْمِ بِخَطَراتِ الأنْفُسِ والقُرْبِ بِالقُدْرَةِ والمِلْكِ. فَلَمّا تَمَّ الإخْبارُ، أخْبَرَ بِذِكْرِ الأحْوالِ الَّتِي تُصَدِّقُ هَذا الخَبَرَ، وتُعِينُ وُرُودَهُ عِنْدَ السّامِعِ. فَمِنها: ﴿إذْ يَتَلَقّى المُتَلَقِّيانِ﴾، ومِنها مَجِيءُ سَكْرَةِ المَوْتِ، ومِنها: النَّفْخُ في الصُّورِ، ومِنها: مَجِيءُ كُلِّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وشَهِيدٌ. والمُتَلَقِّيانِ: المَلَكانِ المُوَكَّلانِ بِكُلِّ إنْسانٍ، مَلَكُ اليَمِينِ يَكْتُبُ الحَسَناتِ، ومَلَكُ الشِّمالِ يَكْتُبُ السَّيِّئاتِ. وقالَ الحَسَنُ: الحَفَظَةُ أرْبَعَةٌ، اثْنانِ بِالنَّهارِ واثْنانِ بِاللَّيْلِ. وقَعِيدٌ: مُفْرَدٌ، فاحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ مُقاعِدَ، كَما تَقُولُ: جَلِيسٌ وخَلِيطٌ: أيْ مُجالِسُ ومُخالِطُ، وأنْ يَكُونَ عَدْلٌ مِن فاعِلٍ إلى فَعِيلٍ لِلْمُبالَغَةِ، كَعَلِيمٍ. قالَ الكُوفِيُّونَ: مُفْرَدٌ أُقِيمَ مَقامَ اثْنَيْنِ، والأجْوَدُ أنْ يَكُونَ حَذْفٌ مِنَ الأوَّلِ لِدَلالَةِ الثّانِي عَلَيْهِ، أيْ عَنِ اليَمِينِ قَعِيدٌ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎رَمانِي بِأمْرٍ كُنْتُ مِنهُ ووالِدِي ∗∗∗ بَرِيئًا ومِن أجْلِ الطَّوِيِّ رَمانِي عَلى أحْسَنِ الوَجْهَيْنِ فِيهِ، أيْ كُنْتُ مِنهُ بَرِيًّا، ووالِدِي بَرِيًّا. ومَذْهَبُ المُبَرِّدِ أنَّ التَّقْدِيرَ عَنِ اليَمِينِ قَعِيدٌ، وعَنِ الشِّمالِ، فَأخَّرَ قَعِيدٌ عَنْ مَوْضِعِهِ. ومَذْهَبُ الفَرّاءِ أنَّ لَفْظَ ”قَعِيدٌ“ يَدُلُّ عَلى الِاثْنَيْنِ والجَمْعِ، فَلا يَحْتاجُ إلى تَقْدِيرٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ما يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ﴾، وظاهِرُ ما يَلْفِظُ العُمُومُ. قالَ مُجاهِدٌ، وأبُو الحَوْراءِ: يُكْتَبُ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ حَتّى أنِينَهُ في مَرَضِهِ. وقالَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ: يَكْتُبانِ جَمِيعَ الكَلامِ، فَيُثْبِتُ اللَّهُ تَعالى مِن ذَلِكَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ، ويَمْحُو غَيْرَ ذَلِكَ. وقِيلَ: هو مَخْصُوصٌ، أيْ مِن قَوْلِ خَيْرٍ أوْ شَرٍّ. (p-١٢٤)وقالَ: مَعْناهُ عِكْرِمَةُ، وما خَرَجَ عَنْ هَذا لا يُكْتَبُ. واخْتَلَفُوا في تَعْيِينِ قُعُودِ المَلَكَيْنِ، ولا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ. (رَقِيبٌ): مَلَكٌ يَرْقُبُ. (عَتِيدٌ): حاضِرٌ، وإذا كانَ عَلى اللَّفْظِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، فَأحْرى عَلى العَمَلِ. وقالَ الحَسَنُ: فَإذا ماتَ، طُوِيَتْ صَحِيفَتُهُ. وقِيلَ: لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ اقْرَأْ كِتابَكَ. ﴿وجاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ﴾: هو مَعْطُوفٌ عَلى ﴿إذْ يَتَلَقّى﴾، وسَكْرَةُ المَوْتِ: ما يَعْتَرِي الإنْسانَ عِنْدَ نِزاعِهِ، والباءُ في (بِالحَقِّ) لِلتَّعْدِيَةِ، أيْ جاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ الحَقَّ، وهو الأمْرُ الَّذِي أنْطَقَ اللَّهُ بِهِ كُتُبَهُ وبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، مِن سَعادَةِ المَيِّتِ أوْ شَقاوَتِهِ، أوْ لِلْحالِ، أيْ مُلْتَبَسِهِ بِالحَقِّ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: سَكْرانُ جَمْعًا. ﴿ذَلِكَ ما كُنْتَ مِنهُ تَحِيدُ﴾: أيْ تَمِيلُ. تَقُولُ: أعِيشُ كَذا وأعِيشُ كَذا، فَمَتى فَكَّرَ في قُرْبِ المَوْتِ، حادَ بِذِهْنِهِ عَنْهُ وأمَّلَ إلى مَسافَةٍ بَعِيدَةٍ مِنَ الزَّمَنِ. ومِنَ الحَيْدِ: الحَذَرُ مِنَ المَوْتِ، وظاهِرُ تَحِيدُ أنَّهُ خِطابٌ لِلْإنْسانِ الَّذِي جاءَتْهُ سَكْرَةُ المَوْتِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الخِطابُ لِلْفاجِرِ. تَحِيدُ: تَنْفِرُ وتَهْرُبُ. ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الوَعِيدِ﴾، هو عَلى حَذْفٍ: أيْ وقْتُ ذَلِكَ يَوْمُ الوَعِيدِ. والإشارَةُ إلى مَصْدَرِ نَفَخَ، وأضافَ اليَوْمَ إلى الوَعِيدِ، وإنْ كانَ يَوْمُ الوَعْدِ والوَعِيدِ مَعًا عَلى سَبِيلِ التَّخْوِيفِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: مَعَها، وطَلْحَةُ: بِالحاءِ مُثْقَلَةً، أدْغَمَ العَيْنَ في الهاءِ، فانْقَلَبَتا حاءً، كَما قالُوا: ذَهَبَ مَحَّمْ، يُرِيدُ مَعَهم، ﴿سائِقٌ﴾: جاثٍ عَلى السَّيْرِ، ﴿وشَهِيدٌ﴾: يَشْهَدُ عَلَيْهِ. قالَ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ، ومُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: مَلَكانِ مُوَكَّلانِ بِكُلِّ إنْسانٍ، أحَدُهُما يَسُوقُهُ، والآخَرُ مِن حِفْظِهِ يَشْهَدُ عَلَيْهِ. وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ: السّائِقُ مَلَكٌ، والشَّهِيدُ النَّبِيُّ. وقِيلَ: الشَّهِيدُ: الكِتابُ الَّذِي يَلْقاهُ مَنشُورًا، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿سائِقٌ وشَهِيدٌ﴾ اسْما جِنْسٍ، فالسّائِقُ: مَلائِكَةٌ مُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ، والشَّهِيدُ: الحَفَظَةُ وكُلُّ مَن يَشْهَدُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والضَّحّاكُ: السّائِقُ مَلَكٌ، والشَّهِيدُ: جَوارِحُ الإنْسانِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا يَبْعُدُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، لِأنَّ الجَوارِحَ إنَّما تَشْهَدُ بِالمَعاصِي، وقَوْلُهُ: كُلُّ نَفَسٍ يَعُمُّ الصّالِحِينَ، فَإنَّما مَعْناهُ: وشَهِيدٌ بِخَيْرِهِ وشَرِّهِ. ويَقْوى في شَهِيدٍ اسْمُ الجِنْسِ، فَشَهِدَ بِالخَيْرِ المَلائِكَةُ والبِقاعُ، ومِنهُ قَوْلُهُ ﷺ: «لا يَسْمَعُ مَدى صَوْتِ المُؤَذِّنِ إنْسٌ ولا جِنٌّ ولا شَيْءٌ إلّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ» . وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ: السّائِقُ مَلَكٌ، والشَّهِيدُ العَمَلُ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: السّائِقُ شَيْطانٌ، وهو قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَلَكانِ، أحَدُهُما يَسُوقُهُ إلى المَحْشَرِ، والآخَرُ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِعَمَلِهِ، أوْ مَلَكٌ واحِدٌ جامِعٌ بَيْنَ الأمْرَيْنِ، كَأنَّهُ قِيلَ: مَلَكٌ يَسُوقُهُ ويَشْهَدُ عَلَيْهِ، ومَحَلُّ مَعَها سائِقٌ النَّصْبُ عَلى الحالِ مِن (كُلُّ) لِتَعَرُّفِهِ بِالإضافَةِ إلى ما هو في حُكْمِ المَعْرِفَةِ، هَذا كَلامٌ ساقِطٌ لا يَصْدُرُ عَنْ مُبْتَدِئٍ في النَّحْوِ، لِأنَّهُ لَوْ نُعِتَ كُلُّ نَفْسٍ، لَما نُعِتَ إلّا بِالنَّكِرَةِ، فَهو نَكِرَةٌ عَلى كُلِّ حالٍ، فَلا يُمْكِنُ أنْ يُتَعَرَّفُ كُلٌّ، وهو مُضافٌ إلى نَكِرَةٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب