الباحث القرآني

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أنْ لا تَعْدِلُوا﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الجُمْلَةِ الأُولى في النِّساءِ، إلّا أنَّ هُناكَ بُدِئَ بِالقِسْطِ، وهُنا أُخِّرَ. وهَذا مِنَ التَّوَسُّعِ في الكَلامِ والتَّفَنُّنِ في الفَصاحَةِ. ويَلْزَمُ مَن كانَ قائِمًا لِلَّهِ أنْ يَكُونَ شاهِدًا بِالقِسْطِ، ومَن كانَ قائِمًا بِالقِسْطِ أنْ يَكُونَ قائِمًا لِلَّهِ، إلّا أنَّ الَّتِي في النِّساءِ جاءَتْ في مَعْرِضِ الِاعْتِرافِ عَلى نَفْسِهِ وعَلى الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ، فَبُدِئَ فِيها بِالقِسْطِ الَّذِي هو العَدْلُ والسَّواءِ مِن غَيْرِ مُحاباةِ نَفْسٍ ولا والِدٍ ولا قَرابَةٍ، وهُنا جاءَتْ في مَعْرِضِ تَرْكِ العَداواتِ والإحَنِ، فَبُدِئَ فِيها بِالقِيامِ لِلَّهِ تَعالى أوَّلًا لِأنَّهُ أرْدَعُ لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أرْدَفَ بِالشَّهادَةِ بِالعَدْلِ، فالَّتِي في مَعْرِضِ المَحَبَّةِ والمُحاباةِ بُدِئَ فِيهِ بِما هو آكَدُ وهو القِسْطُ، وفي مَعْرِضِ العَداوَةِ والشَّنَآنِ بُدِئَ فِيها بِالقِيامِ لِلَّهِ، فَناسَبَ كُلَّ مَعْرِضٍ بِما جِيءَ بِهِ إلَيْهِ. وأيْضًا فَتَقَدَّمَ هُناكَ حَدِيثُ النُّشُوزِ والإعْراضِ، وقَوْلُهُ: ﴿ولَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا﴾ [النساء: ١٢٩] وقَوْلُهُ: ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا﴾ [النساء: ١٢٨] فَناسَبَ ذِكْرَ تَقْدِيمِ القِسْطِ، وهُنا تَأخَّرَ ذِكْرُ العَداوَةِ فَناسَبَ أنْ يُجاوِرَها ذِكْرُ القِسْطِ، وتَعْدِيَةُ يَجْرِمَنَّكم بِـ (عَلى) إلّا أنْ يُضَمَّنَ مَعْنى ما يَتَعَدّى بِها، وهو خِلافُ الأصْلِ. ﴿اعْدِلُوا هو أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ أيْ: العَدْلُ، نَهاهم أوَّلًا أنْ تَحْمِلَهُمُ الضَّغائِنُ عَلى تَرْكِ العَدْلِ ثُمَّ أمَرَهم ثانِيًا تَأْكِيدًا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَذَكَرَ لَهم وجْهَ الأمْرِ بِالعَدْلِ وهو قَوْلُهُ: ﴿هُوَ أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾، أيْ: أدْخَلُ في مُناسَبَتِها، أوْ أقْرَبُ لِكَوْنِهِ لُطْفًا فِيها. وفي الآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلى مُراعاةِ حَقِّ المُؤْمِنِينَ في العَدْلِ، إذْ كانَ تَعالى قَدْ أمَرَ بِالعَدْلِ مَعَ الكافِرِينَ. ﴿واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ لَمّا كانَ الشَّنَآنُ مَحَلُّهُ القَلْبُ وهو الحامِلُ (p-٤٤١)عَلى تَرْكِ العَدْلِ أمَرَ بِالتَّقْوى، وأتى بِصِفَةِ (خَبِيرٌ) ومَعْناها: عَلِيمٌ، ولَكِنَّها تَخْتَصُّ بِما لَطُفَ إدْراكُهُ، فَناسَبَ هَذِهِ الصِّفَةَ أنْ يُنَبَّهَ بِها عَلى الصِّفَةِ القَلْبِيَّةِ. ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهم مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ﴾ لَمّا ذَكَرَ تَعالى أوامِرَ ونَواهِيَ، ذَكَرَ وعْدَ مَنِ اتَّبَعَ أوامِرَهُ واجْتَنَبَ نَواهِيَهُ؛ و(وعَدَ) تَتَعَدّى لِاثْنَيْنِ والثّانِي مَحْذُوفٌ؛ تَقْدِيرُهُ: الجَنَّةَ؛ وقَدْ صَرَّحَ بِها في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ لَهم مَغْفِرَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِذَلِكَ المَحْذُوفِ تَفْسِيرَ السَّبَبِ لِلْمُسَبَّبِ لِأنَّ الجَنَّةَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلى الغُفْرانِ وحُصُولِ الأجْرِ، وإذا كانَتِ الجُمْلَةُ مُفَسِّرَةً فَلا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ، والكَلامُ قَبْلَها تامٌّ؛ وجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ ”﴿لَهم مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ﴾“ بَيانًا لِلْوَعْدِ؛ قالَ: كَأنَّهُ قالَ قَدَّمَ لَهم وعْدًا فَقِيلَ: أيُّ شَيْءٍ وعْدُهُ، فَقالَ: لَهم مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ؛ أوْ يَكُونُ عَلى إرادَةِ القَوْلِ؛ وعَدَهم وقالَ: لَهم مَغْفِرَةٌ؛ أوْ عَلى إجْراءِ (وعَدَ) مَجْرى (قالَ) لِأنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ القَوْلِ أوْ يَجْعَلُ (وعَدَ) واقِعًا عَلى الجُمْلَةِ الَّتِي هي مَغْفِرَةٌ كَما وقَعَ (تَرَكْنا) عَلى قَوْلِهِ: ﴿سَلامٌ عَلى نُوحٍ في العالَمِينَ﴾ [الصافات: ٧٩] كَأنَّهُ قِيلَ: وعَدَهم هَذا القَوْلَ، وإذا وعَدَهم مَن لا يُخْلِفُ المِيعادَ فَقَدْ وعَدَهم مَضْمُونَهُ مِنَ المَغْفِرَةِ والأجْرِ العَظِيمِ، وهَذا القَوْلُ يَتَلَقَّوْنَهُ عِنْدَ المَوْتِ ويَوْمَ القِيامَةِ، فَيُسَرُّونَ ويَسْتَرِيحُونَ إلَيْهِ، وتُهَوَّنُ عَلَيْهِمُ السَّكَراتُ والأهْوالُ قَبْلَ الوُصُولِ إلى التُّرابِ. انْتَهى. وهي تَقادِيرُ مُحْتَمَلَةٌ، والأوَّلُ أوْجَهُها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب