الباحث القرآني

﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لُعِنُوا بِكُلِّ لِسانٍ. لُعِنُوا عَلى عَهْدِ مُوسى في التَّوْراةِ، وعَلى عَهْدِ داوُدَ في الزَّبُورِ، وعَلى عَهْدِ عِيسى في الإنْجِيلِ، وعَلى عَهْدِ مُحَمَّدٍ في القُرْآنِ. ورَوى ابْنُ جُرَيْجٍ: أنَّهُ اقْتَرَنَ بِلَعْنَتِهِمْ عَلى لِسانِ داوُدَ أنْ مُسِخُوا خَنازِيرَ، وذَلِكَ أنَّ داوُدَ مَرَّ عَلى نَفَرٍ وهم في بَيْتٍ فَقالَ: مَن في البَيْتِ ؟ قالُوا: خَنازِيرُ، عَلى مَعْنى الِاحْتِجابِ، قالَ: اللَّهُمَّ خَنازِيرَ، فَكانُوا خَنازِيرَ. ثُمَّ دَعا عِيسى عَلى مَنِ افْتَرى عَلَيْهِ وعَلى أُمِّهِ ولَعَنَهم. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: لُعِنَ عَلى لِسانِ داوُدَ أصْحابُ السَّبْتِ، وعَلى لِسانِ عِيسى الَّذِينَ كَفَرُوا بِالمائِدَةِ. وقالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: إنَّ أهْلَ أيْلَةَ لَمّا اعْتَدَوْا في السَّبْتِ قالَ داوُدُ: اللَّهُمَّ العَنْهم واجْعَلْهم آيَةً؛ فَمُسِخُوا قِرَدَةً. ولَمّا كَفَرَ أصْحابُ عِيسى بَعْدَ المائِدَةِ قالَ عِيسى: اللَّهُمَّ عَذِّبْ مَن كَفَرَ بَعْدَما أكَلَ مِنَ المائِدَةِ عَذابًا لَمْ تُعَذِّبْهُ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ، والعَنْهم كَما لَعَنْتَ أصْحابَ السَّبْتِ؛ فَأصْبَحُوا خَنازِيرَ، وكانُوا خَمْسَةَ آلافِ رَجُلٍ ما فِيهِمُ امْرَأةٌ ولا صَبِيٌّ. وقالَ الأصَمُّ وغَيْرُهُ: بَشَّرَ داوُدُ وعِيسى بِمُحَمَّدٍ، ﷺ، ولَعَنا مَن كَذَّبَهُ. وقِيلَ: دَعَوْا عَلى مَن عَصاهُما ولَعَناهُ. ورُوِيَ أنَّ داوُدَ قالَ: اللَّهُمَّ (p-٥٤٠)لِيَلْبِسُوا اللَّعْنَةَ مِثْلَ الرِّداءِ ومِثْلَ مِنطَقَةِ الحِقْوَيْنِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهم آيَةً ومِثالًا لِخَلْقِكَ؛ والظّاهِرُ مِنَ الآيَةِ الإخْبارُ عَنْ أسْلافِ اليَهُودِ والنَّصارى أنَّهم مَلْعُونُونَ. وبِناءُ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى هو اللّاعِنُ لَهم عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسى، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونا هُما اللّاعِنانِ لَهم. ولَمّا كانُوا يَتَبَجَّحُونَ بِأسْلافِهِمْ وأنَّهم أوْلادُ الأنْبِياءِ، أُخْبِرُوا أنَّ الكُفّارَ مِنهم مَلْعُونُونَ عَلى لِسانِ أنْبِيائِهِمْ. واللَّعْنَةُ هي الطَّرْدُ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ، ولا تَدُلُّ الآيَةُ عَلى اقْتِرانِ اللَّعْنَةِ بِمَسْخٍ. والأفْصَحُ أنَّهُ إذا فُرِّقَ مُنْضَمّا الجُزْئَيْنِ اخْتِيرَ الإفْرادُ عَلى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ وعَلى لَفْظِ الجَمْعِ، فَكَذَلِكَ جاءَ ”عَلى لِسانِ“ مُفْرَدًا ولَمْ يَأْتِ عَلى لِسانَيْ داوُدَ وعِيسى، ولا عَلى ألْسِنَةِ داوُدَ وعِيسى. فَلَوْ كانَ المُنْضَمّانِ غَيْرَ مُتَفَرِّقَيْنِ اخْتِيرَ لَفْظُ الجَمْعِ عَلى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ وعَلى الإفْرادِ نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما﴾ [التحريم: ٤] والمُرادُ بِاللِّسانِ هُنا الجارِحَةُ لا اللُّغَةُ؛ أيِ: النّاطِقُ بِلَعْنَتِهِمْ هو داوُدُ وعِيسى. ﴿ذَلِكَ بِما عَصَوْا﴾ أيْ: ذَلِكَ اللَّعْنُ كانَ بِسَبَبِ عِصْيانِهِمْ، وذُكِرَ هَذا عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وإلّا فَقَدْ فُهِمَ سَبَبُ اللَّعْنَةِ بِإسْنادِها إلى مَن تَعَلَّقَ بِهِ الوَصْفُ الدّالُّ عَلى العِلِّيَّةِ، وهو الَّذِينَ كَفَرُوا. كَما تَقُولُ: رُجِمَ الزّانِي، فَيُعْلَمُ أنَّ سَبَبَهُ الزِّنا. كَذَلِكَ اللَّعْنُ سَبَبُهُ الكُفْرُ، ولَكِنْ أُكِدَّ بِذِكْرِهِ ثانِيَةً في قَوْلِهِ: ذَلِكَ بِما عَصَوْا. ﴿وكانُوا يَعْتَدُونَ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى عَصَوْا، فَيَتَقَدَّرُ بِالمَصْدَرِ؛ أيْ: وبِكَوْنِهِمْ يَعْتَدُونَ، يَتَجاوَزُونَ الحَدَّ في العِصْيانِ والكُفْرِ، ويَنْتَهُونَ إلى أقْصى غاياتِهِ. ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ اسْتِئْنافَ إخْبارٍ مِنَ اللَّهِ بِأنَّهُ كانَ شَأْنَهم وأمْرَهُمُ الِاعْتِداءُ، ويُقَوِّي هَذا ما جاءَ بَعْدَهُ كالشَّرْحِ وهو قَوْلُهُ: ﴿كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ ظاهِرُهُ التَّفاعُلُ بِمَعْنى الِاشْتِراكِ؛ أيْ: لا يَنْهى بَعْضُهم بَعْضًا، وذَلِكَ أنَّهم جَمَعُوا بَيْنَ فِعْلِ المُنْكَرِ والتَّجاهُرِ بِهِ، وعَدَمِ النَّهْيِ عَنْهُ. والمَعْصِيَةُ إذا فُعِلَتْ وقُدِّرَتْ عَلى العَبْدِ يَنْبَغِي أنْ يَسْتَتِرَ بِها، مَنِ ابْتُلِيَ مِنكم بِشَيْءٍ مِن هَذِهِ القاذُوراتِ فَلْيَسْتَتِرْ، فَإذا فُعِلَتْ جِهارًا وتَواطَئُوا عَلى عَدَمِ الإنْكارِ كانَ ذَلِكَ تَحْرِيضًا عَلى فِعْلِها وسَبَبًا مُثِيرًا لِإفْشائِها وكَثْرَتِها. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ وقَعَ تَرْكُ التَّناهِي عَنِ المُنْكَرِ تَفْسِيرًا لِلْمَعْصِيَةِ (قُلْتُ): مِن قِبَلِ أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ بِالتَّناهِي، فَكانَ الإخْلالُ بِهِ مَعْصِيَةً وهو اعْتِداءٌ، لِأنَّ في التَّناهِي حَسْمًا لِلْفَسادِ. وفي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ، ﷺ: «إنْ أوَّلَ ما دَخَلَ النَّقْصُ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ كانَ الرَّجُلُ يَلْقى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يا هَذا اتَّقِ اللَّهَ ودَعْ ما تَصْنَعُ، فَإنَّهُ لا يَحِلُّ لَكَ. ثُمَّ يَلْقاهُ مِنَ الغَدِ وهو عَلى حالِهِ فَلا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ أكِيلَهُ وشَرِيبَهُ وقَعِيدَهُ، فَلَمّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَرَأ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرائِيلَ الآيَةَ إلى قَوْلِهِ فاسِقُونَ ثُمَّ قالَ: واللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ ولَتَأْخُذُنَّ بِهِ عَلى يَدِ الظّالِمِ ولَتَأْطُرُنَّهُ عَنِ الحَقِّ أطْرًا، أوْ لَيَضْرِبُ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكم عَلى بَعْضٍ ولَيَلْعَنُكم كَما لَعَنَهم» أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. ومَعْنى لَتَأْطُرُنَّهُ لَتَرُدُّنَّهُ. وقِيلَ: التَّفاعُلُ هُنا بِمَعْنى الِافْتِعالِ يُقالُ: . انْتَهى عَنِ الأمْرِ وتَناهى عَنْهُ إذا كَفَّ عَنْهُ، كَما تَقُولُ: تَجاوَزُوا واجْتَوَزُوا؛ والمَعْنى: كانُوا لا يَمْتَنِعُونَ عَنْ مُنْكَرٍ. وظاهِرُ المُنْكِرِ أنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَيَصْلُحُ إطْلاقُهُ عَلى أيِّ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ. وقِيلَ: صَيْدُ السَّمَكِ يَوْمَ السَّبْتِ. وقِيلَ: أخْذُ الرَّشا في الحُكْمِ. وقِيلَ: أكْلُ الرِّبا وأثْمانِ الشُّحُومِ. ولا يَصِحُّ التَّناهِي عَمّا فُعِلَ، فَإمّا أنْ يَكُونَ المَعْنى أرادُوا فِعْلَهُ كَما تَرى آلاتِ أماراتِ الفِسْقِ وآلاتِهِ تُسَوّى وتُهَيَّأُ فَيُنْكَرُ، وإمّا أنْ يَكُونَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ؛ أيْ: مُعاوَدَةِ مُنْكَرٍ أوْ مِثْلِ مُنْكَرٍ. ﴿لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ ذَمٌّ لِما صَدَرَ عَنْهم مِن فِعْلِ المُنْكَرِ وعَدَمِ تَناهِيهِمْ عَنْهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَعْجِيبٌ مِن سُوءِ فِعْلِهِمْ، مُؤَكِّدًا لِذَلِكَ بِالقَسَمِ، فَيا حَسْرَتا عَلى المُسْلِمِينَ في إعْراضِهِمْ عَنْ بابِ التَّناهِي عَنِ المُنْكَرِ وقِلَّةِ عِنايَتِهِمْ بِهِ كَأنَّهُ لَيْسَ مِن مِلَّةِ الإسْلامِ في شَيْءٍ مَعَ ما يَتْلُونِ مِن كِتابِ اللَّهِ، وما فِيهِ مِنَ المُبالَغاتِ في هَذا البابِ. انْتَهى. وقالَ (p-٥٤١)حُذّاقُ أهْلِ العِلْمِ: لَيْسَ مِن شُرُوطِ النّاهِي أنْ يَكُونَ سَلِيمًا مِنَ المَعْصِيَةِ، بَلْ يَنْهى العُصاةُ بَعْضُهم بَعْضًا. وقالَ بَعْضُ الأُصُولِيِّينَ: فَرْضٌ عَلى الَّذِينَ يَتَعاطَوْنَ الكُئُوسَ أنْ يَنْهى بَعْضُهم بَعْضًا، واسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ لِأنَّ قَوْلَهُ: لا يَتَناهَوْنَ وفَعَلُوهُ، يَقْتَضِي اشْتِراكَهم في الفِعْلِ، وذَمَّهم عَلى تَرْكِ التَّناهِي. وفي الحَدِيثِ: «لا يَزالُ العَذابُ مَكْفُوفًا عَنِ العِبادِ ما اسْتَتَرُوا بِمَعاصِي اللَّهِ، فَإذا أعْلَنُوها فَلَمْ يُنْكِرُوها اسْتَحَقُّوا عِقابَ اللَّهِ تَعالى» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب