الباحث القرآني

﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ هو المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الجُمْلَةِ وقائِلُو ذَلِكَ: هُمُ اليَعْقُوبِيَّةُ، زَعَمُوا أنَّ اللَّهَ تَعالى تَجَلّى في شَخْصِ عِيسى، عَلَيْهِ السَّلامُ. ﴿وقالَ المَسِيحُ يابَنِي إسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ﴾ رَدَّ اللَّهُ تَعالى مَقالَتَهم بِقَوْلِ مَن يَدَّعُونَ إلَهِيَّتَهُ وهُ وعِيسى، أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَهُ وبَيْنَهم في أنَّهم كُلُّهم مَرْبُوبُونَ، وأمَرَهم بِإخْلاصِ العِبادَةِ، ونَبَّهَ عَلى الوَصْفِ المُوجِبِ (p-٥٣٥)لِلْعِبادَةِ وهو الرُّبُوبِيَّةُ. وفي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ في فَسادِ دَعْواهم، وهو أنَّ الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ ويَرْفَعُونَ قَدْرَهُ عَمّا لَيْسَ لَهُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَقالَتَهم، وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ تَعالى عَنْهُ هو مَذْكُورٌ في إنْجِيلِهِمْ يَقْرَءُونَهُ ولا يَعْمَلُونَ بِهِ، وهو قَوْلُ المَسِيحِ: يا مَعْشَرَ بَنِي المَعْمُودِيَّةِ. وفي رِوايَةٍ: يا مَعْشَرَ الشُّعُوبِ قُومُوا بِنا إلى أبِي وأبِيكم، وإلَهِي وإلَهِكم، ومُخَلِّصِي ومُخَلِّصِكم. ﴿إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ومَأْواهُ النّارُ﴾ الظّاهِرُ أنَّهُ مِن كَلامِ المَسِيحِ، فَهو داخِلٌ تَحْتَ القَوْلِ. وفِيهِ أعْظَمُ رَدْعٍ مِنهُ عَنْ عِبادَتِهِ، إذْ أخْبَرَ أنَّهُ مَن عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ مَنَعَهُ اللَّهُ دارَ مَن أفْرَدَهُ بِالعِبادَةِ، وجَعَلَ مَأْواهُ النّارَ. ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨] . وقِيلَ: هو مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى مُسْتَأْنَفٌ، أخْبَرَ بِذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الوَعِيدِ والتَّهْدِيدِ. وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ عِتْبانَ بْنِ مالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ: ”«إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ النّارَ عَلى مَن قالَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وجْهَ اللَّهِ» ) . ﴿وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ ظاهِرُهُ أنَّهُ مِن كَلامِ عِيسى، أخْبَرَهم أنَّهُ مَن تَجاوَزَ ووَضَعَ الشَّيْءَ غَيْرَ مَوْضِعِهِ فَلا ناصِرَ لَهُ، ولا مُساعِدَ فِيما افْتَرى وتَقَوَّلَ، وفي ذَلِكَ رَدْعٌ لَهم عَمّا انْتَحَلُوهُ في حَقِّهِمْ مِن دَعْوى أنَّهُ إلَهٌ، وأنَّهُ ظُلْمٌ إذا جَعَلُوا ما هو مُسْتَحِيلٌ في العَقْلِ واجِبًا وُقُوعُهُ، أوْ فَلا ناصِرَ لَهُ ولا مُنَجِّيَ مِن عَذابِ اللَّهِ في الآخِرَةِ. ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى، أخْبَرَ أنَّهم ظَلَمُوا وعَدَلُوا عَنِ الحَقِّ في أمْرِ عِيسى وتَقَوُّلِهِمْ عَلَيْهِ، فَلا ناصِرَ لَهم عَلى ذَلِكَ. ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ هَؤُلاءِ هُمُ المَلْكِيَّةُ مِنَ النَّصارى القائِلُونَ بِالتَّثْلِيثِ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ثالِثُ ثَلاثَةٍ، أحَدُ ألِهَةٍ ثَلاثَةٍ. قالَ المُفَسِّرُونَ: أرادُوا بِذَلِكَ أنَّ اللَّهَ تَعالى وعِيسى وأُمَّهُ آلِهَةٌ ثَلاثَةٌ، ويُؤَكِّدُهُ ﴿أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة: ١١٦]، ﴿ما اتَّخَذَ صاحِبَةً ولا ولَدًا﴾ [الجن: ٣]، ﴿أنّى يَكُونُ لَهُ ولَدٌ ولَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ﴾ [الأنعام: ١٠١]، ﴿ما اتَّخَذَ اللَّهُ مِن ولَدٍ وما كانَ مَعَهُ مِن إلَهٍ﴾ [المؤمنون: ٩١] . وحَكى المُتَكَلِّمُونَ عَنِ النَّصارى أنَّهم يَقُولُونَ: جَوْهَرٌ واحِدٌ ثَلاثَةُ أقانِيمَ: أبٌ، وابْنٌ، ورُوحُ قُدُسٍ. وهَذِهِ الثَّلاثَةُ إلَهٌ واحِدٌ، كَما أنَّ الشَّمْسَ تَتَناوَلُ: القُرْصَ، والشُّعاعَ، والحَرارَةَ؛ وعَنَوْا بِالأبِ الذّاتَ، وبِالِابْنِ الكَلِمَةَ، وبِالرُّوحِ الحَياةَ. وأثْبَتُوا الذّاتَ والكَلِمَةَ والحَياةَ وقالُوا: إنَّ الكَلِمَةَ الَّتِي هي كَلامُ اللَّهِ اخْتَلَطَتْ بِجَسَدِ عِيسى اخْتِلاطَ الماءِ بِالخَمْرِ، أوِ اخْتِلاطَ اللَّبَنِ بِالماءِ، وزَعَمُوا أنَّ الأبَ إلَهٌ، والِابْنَ إلَهٌ، والرُّوحَ إلَهٌ، والكُلُّ إلَهٌ واحِدٌ. وهَذا مَعْلُومُ البُطْلانِ بِبَدِيهَةِ العَقْلِ أنَّ الثَّلاثَةَ لا تَكُونُ واحِدًا، وأنَّ الواحِدَ لا يَكُونُ ثَلاثَةً، ولا يَجُوزُ في العَرَبِيَّةِ في ثالِثُ ثَلاثَةٍ إلّا الإضافَةُ، لِأنَّكَ لا تَقُولُ ثَلَّثْتُ الثَّلاثَةَ. وأجازَ النَّصْبَ في الَّذِي يَلِي اسْمَ الفاعِلِ المُوافِقَ لَهُ في اللَّفْظِ أحْمَدُ بْنُ يَحْيَـى ثَعْلَبٌ، ورَدُّوهُ عَلَيْهِ جَعَلُوهُ كاسْمِ الفاعِلِ مَعَ العَدَدِ المُخالِفِ نَحْوَ: رابِعُ ثَلاثَةٍ، ولَيْسَ مِثْلَهُ إذْ تَقُولُ: رَبَّعْتُ الثَّلاثَةَ؛ أيْ: صَيَّرْتُهم بِكَ أرْبَعَةً. ﴿وما مِن إلَهٍ إلّا إلَهٌ واحِدٌ﴾ مَعْناهُ لا يَكُونُ إلَهٌ في الوُجُودِ إلّا مُتَّصِفًا بِالوَحْدانِيَّةِ، وأكَدَّ ذَلِكَ بِزِيادَةِ“ مِنِ ”الِاسْتِغْراقِيَّةِ وحَصْرِ إلَهِيَّتِهِ في صِفَةِ الوَحْدانِيَّةِ؛ وإلَهٌ رُفِعَ عَلى البَدَلِ (p-٥٣٦)مِن إلَهٍ عَلى المَوْضِعِ؛ وأجازَ الكِسائِيُّ إتْباعَهُ عَلى اللَّفْظِ، لِأنَّهُ يُجِيزُ زِيادَةَ مِن في الواجِبِ، والتَّقْدِيرُ: وما إلَهٌ في الوُجُودِ إلّا إلَهٌ واحِدٌ؛ أيْ: مَوْصُوفٌ بِالوَحْدانِيَّةِ لا ثانِيَ لَهُ وهو اللَّهُ تَعالى. ﴿وإنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ أيْ: عَمّا يَفْتَرُونَ ويَعْتَقِدُونَ في عِيسى مِن أنَّهُ هو اللَّهُ، أوْ أنَّهُ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، أوْعَدَهُـمْ بِإصابَةِ العَذابِ الألِيمِ لَهم في الدُّنْيا بِالسَّبْيِ والقَتْلِ، وفي الآخِرَةِ بِالخُلُودِ في النّارِ، وقَدَّمَ الوَعِيدَ عَلى الِاسْتِدْلالِ بِسِماتِ الحُدُوثِ إبْلاغًا في الزَّجْرِ؛ أيْ: هَذِهِ المَقالَةُ في غايَةِ الفَسادِ، بِحَيْثُ لا تَخْتَلِفُ العُقُولُ في فَسادِها، فَلِذَلِكَ تَوَعَّدَ أوَّلًا عَلَيْها بِالعَذابِ، ثُمَّ أتْبَعَ الوَعِيدَ بِالِاسْتِدْلالِ بِسِماتِ الحُدُوثِ عَلى بُطْلانِها. ولَيَمَسَّنَّ اللّامُ فِيهِ جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ قَبْلَ أداةِ الشَّرْطِ، وأكْثَرُ ما يَجِيءُ هَذا التَّرْكِيبُ وقَدْ صَحِبَتْ إنِ اللّامَ المُؤْذِنَةَ بِالقَسَمِ المَحْذُوفِ كَقَوْلِهِ: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنافِقُونَ والَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمُرْجِفُونَ في المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾ [الأحزاب: ٦٠] ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٢٣] ومِثْلُهُ: ﴿وإنْ أطَعْتُمُوهم إنَّكم لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ١٢١] ومَعْنى مَجِيءِ إنَّ بِغَيْرِ فاءٍ، دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ قَبْلَ إنْ قَسَمٌ مَحْذُوفٌ إذْ لَوْلا نِيَّةُ القَسَمِ لَقالَ: فَإنَّكم لَمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ أيِ: الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلى هَذا الِاعْتِقادِ. وأقامَ الظّاهِرَ مَقامَ المُضْمَرِ، إذْ كانَ الرَّبْطُ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ: لَيَمَسَّنَّهم، لِتَكْرِيرِ الشَّهادَةِ عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ في قَوْلِهِ: لَقَدْ كَفَرَ ولِلْإعْلامِ بِأنَّهم كانُوا بِمَكانٍ مِنَ الكُفْرِ، إذْ جَعَلَ الفِعْلَ في صِلَةِ الَّذِينَ وهي تَقْتَضِي كَوْنَها مَعْلُومَةً لِلسّامِعِ مَفْرُوغًا مِن ثُبُوتِها، واسْتِقْرارِها لَهم و“ مِن ”في“ مِنهم ”لِلتَّبْعِيضِ؛ أيْ: كائِنًا مِنهم، والرَّبْطُ حاصِلٌ بِالضَّمِيرِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: كافِرَهم ولَيْسُوا كُلُّهم بَقُوا عَلى الكُفْرِ، بَلْ قَدْ تابَ كَثِيرٌ مِنهم مِنَ النَّصْرانِيَّةِ. ومَن أثْبَتَ أنَّ“ مِن " تَكُونُ لِبَيانِ الجِنْسِ أجازَ ذَلِكَ هُنا، ونَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثانِ﴾ [الحج: ٣٠] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب