الباحث القرآني

﴿ولَوْ أنَّهم أقامُوا التَّوْراةَ والإنْجِيلَ وما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِن رَبِّهِمْ لَأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ﴾ هَذا اسْتِدْعاءٌ لِإيمانِهِمْ، وتَنْبِيهٌ لَهم عَلى اتِّباعِ ما في كُتُبِهِمْ، وتَرْغِيبٌ لَهم في عاجِلِ الدُّنْيا وبَسْطِ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ فِيها، إذْ أكْثَرُ ما في التَّوْراةِ مِنَ المَوْعُودِ بِهِ عَلى الطّاعاتِ هو الإحْسانُ إلَيْهِمْ في الدُّنْيا. ولَمّا رَغَّبَهم في الآيَةِ قَبْلُ في مَوْعُودِ الآخِرَةِ مِن تَكْفِيرِ السَّيِّئاتِ وإدْخالِهِمُ الجَنَّةَ، رَغَّبَهم في هَذِهِ الآيَةِ في مَوْعُودِ الدُّنْيا لِيَجْمَعَ لَهم بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، وكانَ تَقْدِيمُ مَوْعُودِ الآخِرَةِ أهَمَّ لِأنَّهُ هو الدّائِمُ الباقِي، والَّذِي بِهِ النَّجاةُ السَّرْمَدِيَّةُ، والنَّعِيمُ الَّذِي لا يَنْقَضِي. ومَعْنى إقامَةِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ: هو إظْهارُ ما انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الأحْكامِ والتَّبْشِيرِ بِالرَّسُولِ والأمْرِ بِاتِّباعِهِ، كَقَوْلِهِمْ: أقامُوا السُّوقَ؛ أيْ: حَرَّكُوها وأظْهَرُوها، وذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِالقائِمِ مِنَ النّاسِ إذْ هي أظْهَرُ هَيْآتِهِ. وفي قَوْلِهِ: والإنْجِيلَ؛ دَلِيلٌ عَلى دُخُولِ النَّصارى في لَفْظِ أهْلِ الكِتابِ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: وما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِن رَبِّهِمْ؛ العُمُومُ في الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ مِثْلَ: كِتابِ أشْعِياءَ، وكِتابِ حَزْقِيلَ، وكِتابِ دانْيالَ، فَإنَّها مَمْلُوءَةٌ مِنَ البِشارَةِ بِمَبْعَثِ الرَّسُولِ. وقِيلَ: ما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِن رَبِّهِمْ هو القُرْآنُ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: لَأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ، أنَّهُ اسْتِعارَةٌ عَنْ سُبُوغِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ، وتَوْسِعَةِ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ، كَما يُقالُ: قَدْ عَمَّهُ الرِّزْقُ مِن فَرْقِهِ إلى قَدَمِهِ ولا فَوْقَ ولا تَحْتَ حَكاهُ الطَّبَرِيُّ والزَّجّاجُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والسُّدِّيُّ: لَأعْطَتْهُمُ السَّماءُ مَطَرَها وبَرَكَتَها، والأرْضُ نَباتَها كَما قالَ تَعالى: ﴿لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ﴾ [الأعراف: ٩٦] وذَكَرَ النَّقّاشُ مِن فَوْقِهِمْ مِن رِزْقِ الجَنَّةِ، ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ مِن رِزْقِ الدُّنْيا إذْ هو مِن نَباتِ الأرْضِ؛ وقِيلَ: مِن فَوْقِهِمْ: كَثْرَةُ الأشْجارِ المُثْمِرَةِ، ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمُ: الزَّرْعُ المُغِلَّةُ. وقِيلَ: مِن فَوْقِهِمُ: الجِنانُ اليانِعَةُ الثِّمارِ يَجْتَنُونَ ما تَهَدَّلَ مِنها مِن رُءُوسِ الشَّجَرِ، ويَلْتَقِطُونَ ما تَساقَطَ مِنها عَلى الأرْضِ، وتَحْتَ أرْجُلِهِمْ؛ (p-٥٢٨)وقالَ تاجُ القُرّاءِ: مِن فَوْقِهِمْ ما يَأْتِيهِمْ مِن كُبَرائِهِمْ ومُلُوكِهِمْ، ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ ما يَأْتِيهِمْ مِن سِفْلَتِهِمْ وعَوامِّهِمْ، وعَبَّرَ بِالأكْلِ عَنِ الأخْذِ، لِأنَّهُ أجَلُّ مَنافِعِهِ وأبْلَغُ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ في دَيْمُومَةِ الحَياةِ. ﴿مِنهم أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾ الضَّمِيرُ في مِنهم يَعُودُ عَلى أهْلِ الكِتابِ. والأُمَّةُ هُنا يُرادُ بِها الجَماعَةُ القَلِيلَةُ لِلْمُقابِلَةِ لَها بِقَوْلِهِ: وكَثِيرٌ مِنهم. والِاقْتِصادُ مِنَ القَصْدِ وهو الِاعْتِدالُ، وهو افْتَعَلَ بِمَعْنى اعْتَمَلَ واكْتَسَبَ؛ أيْ: كانَتْ أوَّلًا جائِزَةً ثُمَّ اقْتَصَدَتْ. قِيلَ: هم مُؤْمِنُو الفَرِيقَيْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ وأصْحابُهُ، وثَمانِيَةٌ وأرْبَعُونَ مِنَ النَّصارى. واقْتِصادُهم هو الإيمانُ بِاللَّهِ تَعالى. وقالَ مُجاهِدٌ: المُقْتَصِدَةُ مُسْلِمَةُ أهْلِ الكِتابِ قَدِيمًا وحَدِيثًا، ونَحْوُهُ قَوْلُ ابْنُ زَيْدٍ: هم أهْلُ طاعَةِ اللَّهِ مِن أهْلِ الكِتابِ. وذَكَرَ الزَّجّاجُ وغَيْرُهُ: أنَّها الطَّوائِفُ الَّتِي لَمْ تُناصِبِ الأنْبِياءَ مُناصَبَةَ المُتَمَرِّدِينَ المُجاهِدِينَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُقْتَصِدَةٌ حالُها أُمَمٌ في عَداوَةِ الرَّسُولِ، ﷺ . وقالَ الطَّبَرِيُّ: مِن بَنِي إسْرائِيلَ مَن يَقْتَصِدُ في عِيسى فَيَقُولُ: هو عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ ورُوحٌ مِنهُ، والأكْثَرُ مِنهم غَلا فِيهِ فَقالَ بَعْضُهم: هو الإلَهُ، وعَلى هَذا مَشى الرُّومُ ومَن دَخَلَ بِآخِرَةٍ في مِلَّةِ عِيسى. وقالَ بَعْضُهم وهو الأكْثَرُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ: هو آدَمِيٌّ كَغَيْرِهِ لِغَيْرِ رُشْدِهِ، فَتُلَخَّصُ في الِاقْتِصادِ أهُوَ في حَقِّ عِيسى، أوْ في المُناصَبَةِ، أوْ في الإيمانِ ؟ فَإنْ كانَ في المُناصَبَةِ فَهَلْ هو بِالنِّسْبَةِ إلى الرَّسُولِ وحْدَهُ أمْ بِالنِّسْبَةِ إلى الأنْبِياءِ ؟ قَوْلانِ. وإنْ كانَ في الإيمانِ فَهَلْ هو في إيمانِ مَن آمَنَ بِالرَّسُولِ مِنَ الفَرِيقَيْنِ أوْ مَن آمَنَ قَدِيمًا وحَدِيثًا ؟ قَوْلانِ. ﴿وكَثِيرٌ مِنهم ساءَ ما يَعْمَلُونَ﴾ هَذا تَنْوِيعٌ في التَّفْصِيلِ. فالجُمْلَةُ الأُولى جاءَتْ مِنهم أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، جاءَ الخَبَرُ الجارُّ والمَجْرُورُ، والخَبَرُ الجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: ساءَ ما يَعْمَلُونَ، وبَيْنَ التَّرْكِيبَيْنِ تَفاوُتٌ غَرِيبٌ مِن حَيْثُ المَعْنى. وذَلِكَ أنَّ الِاقْتِصادَ جُعِلَ وصْفًا، والوَصْفُ ألْزَمُ لِلْمَوْصُوفِ مِنَ الخَبَرِ، فَأتى بِالوَصْفِ اللّازِمِ في الطّائِفَةِ المَمْدُوحَةِ، وأخْبَرَ عَنْها بِقَوْلِهِ: مِنهم، والخَبَرُ لَيْسَ مِن شَأْنِهِ اللُّزُومُ ولا سِيَّما هُنا، فَأخْبَرَ عَنْهم بِأنَّهم مِن أهْلِ الكِتابِ في الأصْلِ، ثُمَّ قَدْ تَزُولُ هَذِهِ النِّسْبَةُ بِالإسْلامِ فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْهم والإخْبارُ بِأنَّهم مِنهم، بِاعْتِبارِ الحالَةِ الماضِيَةِ. وأمّا في الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ فَإنَّهم مِنهم حَقِيقَةً لِأنَّهم كُفّارٌ، فَجاءَ الوَصْفُ بِالإلْزامِ، ولَمْ يُجْعَلْ خَبَرًا، وجُعِلَ خَبَرَ الجُمْلَةِ الَّتِي هي ساءَ ما يَعْمَلُونَ، لِأنَّ الخَبَرَ لَيْسَ مِن شَأْنِهِ اللُّزُومُ، فَهم بِصَدَدِ أنَّ يُسْلِمَ ناسٌ مِنهم فَيَزُولَ عَنْهُمُ الإخْبارُ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الجُمْلَةِ، واخْتارَ الزَّمَخْشَرِيُّ في ساءَ أنْ تَكُونَ الَّتِي لا تَنْصَرِفُ، فَإنَّ فِيهِ التَّعَجُّبَ كَأنَّهُ قِيلَ: ما أسْوَأ عَمَلَهم ولَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَذا الوَجْهِ. واخْتارَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ تَكُونَ المُتَصَرِّفَةَ؛ تَقُولُ: ساءَ الأمْرُ يَسُوءُ، وأجازَ أنْ تَكُونَ غَيْرَ المُتَصَرِّفَةِ فَتُسْتَعْمَلَ اسْتِعْمالَ نِعْمَ وبِئْسَ؛ كَقَوْلِهِ: ساءَ مَثَلًا. فالمُتَصَرِّفَةُ تَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ مَفْعُولٍ؛ أيْ: ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ، وغَيْرُ المُتَصَرِّفَةِ تَحْتاجُ إلى تَمْيِيزٍ؛ أيْ: ساءَ عَمَلًا ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب