الباحث القرآني

﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَن لَعَنَهُ اللَّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ وجَعَلَ مِنهُمُ القِرَدَةَ والخَنازِيرَ وعَبَدَ الطّاغُوتَ﴾ الخِطابُ بِالأمْرِ لِلرَّسُولِ، ﷺ، (p-٥١٨)وتَضَمَّنَ الخِطابَ لِأهْلِ الكِتابِ الَّذِينَ أُمِرَ أنْ يُنادِيَهم أوْ يُخاطِبَهم بِقَوْلِهِ تَعالى: يا أهْلَ الكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا؛ هَذا هو الظّاهِرُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الخِطابِ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ أيْ: قُلْ يا مُحَمَّدُ لِلْمُؤْمِنِينَ هَلْ أُنَبِّئُكم بِشَرٍّ مِن حالِ هَؤُلاءِ الفاسِقِينَ في وقْتِ الرُّجُوعِ إلى اللَّهِ، أُولَئِكَ أسْلافُهُمُ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِمْ، وتَكُونُ الإشارَةُ بِذَلِكَ إلى حالِهِمْ. انْتَهى. فَعَلى هَذا الإضْمارِ يَكُونُ قَوْلُهُ: بِشَرٍّ؛ أفْعَلَ تَفْضِيلٍ باقِيَةً عَلى أصْلِ وضْعِها مِن كَوْنِها تَدُلُّ عَلى الِاشْتِراكِ في الوَصْفِ، وزِيادَةِ الفَضْلِ عَلى المُفَضَّلِ عَلَيْهِ في الوَصْفِ، فَيَكُونُ ضَلالُ أُولَئِكَ الأسْلافِ وشَرُّهم أكْثَرَ مِن ضَلالِ هَؤُلاءِ الفاسِقِينَ، وإنْ كانَ الضَّمِيرُ خِطابًا لِأهْلِ الكِتابِ، فَيَكُونُ شَرٌّ عَلى بابِها مِنَ التَّفْضِيلِ عَلى مُعْتَقَدِ أهْلِ الكِتابِ إذْ قالُوا: ما نَعْلَمُ دِينًا شَرًّا مِن دِينِكم. وفي الحَقِيقَةِ لا ضَلالَ عِنْدَ المُؤْمِنِينَ، ولا شَرِكَةَ لَهم في ذَلِكَ مَعَ أهْلِ الكِتابِ، وذَلِكَ كَما ذَكَرْنا إشارَةٌ إلى دِينِ المُؤْمِنِينَ أوْ حالِ أهْلِ الكِتابِ، فَيَحْتاجُ إلى حَذْفِ مُضافٍ إمّا قَبْلَهُ، وإمّا بَعْدَهُ؛ فَيُقَدَّرُ قَبْلَهُ: بِشَرٍّ مِن أصْحابِ هَذِهِ الحالِ، ويُقَدَّرُ بَعْدَهُ: حالُ مَن لَعَنَهُ اللَّهُ؛ ولِكَوْنِ لَعَنَهُ اللَّهُ. . . . . . . . . أنَّ اسْمَ الإشارَةِ يَكُونُ عَلى كُلِّ حالٍ مِن تَأْنِيثٍ وتَثْنِيَةٍ وجَمْعٍ كَما يَكُونُ لِلْواحِدِ المُذَكَّرِ، فَيَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكم مِن هَذِهِ اللُّغَةِ، فَيَصِيرَ إشارَةً إلى الأشْخاصِ كَأنَّهُ قالَ: بِشَرٍّ مِن أُولَئِكم، فَلا يَحْتاجَ إلى تَقْدِيرِ مُضافٍ، لا قَبْلَ اسْمِ الإشارَةِ، ولا بَعْدَهُ، إذْ يَصِيرُ مَن لَعَنَهُ اللَّهُ: تَفْسِيرُ أشْخاصٍ بِأشْخاصٍ. ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكم أيْضًا: إشارَةً إلى مُتَشَخِّصٍ، وأُفْرِدَ عَلى مَعْنى الجِنْسِ كَأنَّهُ قالَ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكم بِشَرٍّ مِن جِنْسِ الكِتابِيِّ، أوْ مِن جِنْسِ المُؤْمِنِ، عَلى اخْتِلافِ التَّقْدِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ سَبَقا، ويَكُونُ أيْضًا مَن لَعَنَهُ اللَّهُ: تَفْسِيرَ شَخْصٍ بِشَخْصٍ. وقَرَأ النَّخَعِيُّ وابْنُ وثّابٍ: أُنْبِئُكم مِن أنْبَأ، وابْنُ بُرَيْدَةَ، والأعْرَجُ، ونُبَيْجٌ، وابْنُ عِمْرانَ: مَثْوَبَةً كَمَعْوَرَةٍ. والجُمْهُورُ: مِن نَبَّأ ومَثُوبَةً كَمَعُونَةً. وتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ القِراءَتَيْنِ في ﴿لَمَثُوبَةٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٠٣] وانْتَصَبَ مَثُوبَةً هُنا عَلى التَّمْيِيزِ، وجاءَ التَّرْكِيبُ الأكْثَرُ الأفْصَحُ مِن تَقْدِيمِ المُفَضَّلِ عَلَيْهِ عَلى التَّمْيِيزِ كَقَوْلِهِ: ﴿ومَن أصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٨٧] وتَقْدِيمُ التَّمْيِيزِ عَلى المُفَضَّلِ أيْضًا فَصِيحٌ كَقَوْلِهِ: ﴿ومَن أحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إلى اللَّهِ﴾ [فصلت: ٣٣] وهَذِهِ المَثُوبَةُ هي في الحَشْرِ يَوْمَ القِيامَةِ. فَإنْ لُوحِظَ أصْلُ الوَضْعِ فالمَعْنى مَرْجُوعًا، ولا يَدُلُّ إذْ ذاكَ عَلى مَعْنى الإحْسانِ. وإنْ لُوحِظَ كَثْرَةُ الِاسْتِعْمالِ في الخَيْرِ والإحْسانِ، فَوُضِعَتِ المَثُوبَةُ هُنا مَوْضِعَ العُقُوبَةِ عَلى طَرِيقَةٍ بَيْنَهم في: ”تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وجِيعٌ“ ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١] و”مَن“ في مَوْضِعِ رَفْعٍ كَأنَّهُ قِيلَ: مَن هو ؟ فَقِيلَ: هو مَن لَعَنَهُ اللَّهُ. أوْ في مَوْضِعِ جَرٍّ عَلى البَدَلِ مِن قَوْلِهِ: بِشَرٍّ؛ وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى مَوْضِعِ بِشَرٍّ؛ أيْ: أُنَبِّئُكم مَن لَعَنَهُ اللَّهُ. ويَحْتَمِلُ مَن لَعَنَهُ اللَّهُ أنْ يُرادَ بِهِ أسْلافُ أهْلِ الكِتابِ كَما تَقَدَّمَ، أوِ الأسْلافُ والأخْلافُ، فَيَنْدَرِجُ هَؤُلاءِ الحاضِرُونَ فِيهِمْ. والَّذِي تَقْتَضِيهِ الفَصاحَةُ أنْ يَكُونَ مِن وضْعِ الظّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ تَنْبِيهًا عَلى الوَصْفِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ كَوْنُهُ شَرًّا مَثُوبَةً، وهي اللَّعْنَةُ والغَضَبُ. وجَعَلَ القِرَدَةَ والخَنازِيرَ مِنهم، وعَبْدَ الطّاغُوتَ، وكَأنَّهُ قِيلَ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ أنْتُمْ؛ أيْ: هو أنْتُمْ. ويَدُلُّ عَلى هَذا المَعْنى قَوْلُهُ بَعْدُ: ﴿وإذا جاءُوكم قالُوا آمَنّا﴾ [المائدة: ٦١] فَيَكُونُ الضَّمِيرُ واحِدًا. وقَرَأ أُبَيٌّ وعَبْدُ اللَّهِ: مَن غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وجَعَلَهم قِرَدَةً وخَنازِيرَ، وجَعَلَ هُنا بِمَعْنى صَيَّرَ. وقالَ الفارِسِيُّ: بِمَعْنى خَلَقَ، لِأنَّ بَعْدَهُ وعَبْدَ الطّاغُوتِ، وهو مُعْتَزِلِيٌّ لا يَرى أنَّ اللَّهَ يُصَيِّرُ أحَدًا عابِدَ طاغُوتٍ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في مَسْخِهِمْ قِرَدَةً في البَقَرَةِ. وأمّا الَّذِينَ مُسِخُوا خَنازِيرَ فَقِيلَ: شُيُوخُ أصْحابِ السَّبْتِ، إذْ مُسِخَ شُبّانُهم قِرَدَةً، قالَهُ: ابْنُ عَبّاسٍ. وقِيلَ: أصْحابُ مائِدَةِ عِيسى. وذُكِرَتْ أيْضًا قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ في مَسْخِ بَنِي إسْرائِيلَ خَنازِيرَ مُلَخَّصُها: أنَّ امْرَأةً مِنهم مُؤْمِنَةً قاتَلَتْ مَلِكَ مَدِينَتِها ومَن مَعَهُ، وكانُوا قَدْ كَفَرُوا بِمَنِ اجْتَمَعَ إلَيْها مِمَّنْ دَعَتْهُ إلى (p-٥١٩)الجِهادِ ثَلاثَ مَرّاتٍ وأتْباعُها يُقْتَلُونَ، وتَنْفَلِتُ هي، فَبَعْدَ الثّالِثَةِ سُبِيَتْ واسْتَبْرَأتْ في دِينِها، فَمَسَخَ اللَّهُ أهْلَ المَدِينَةِ خَنازِيرَ في لَيْلَتِهِمْ تَثْبِيتًا لَها عَلى دِينِها، فَلَمّا رَأتْهم قالَتِ: اليَوْمَ عَلِمْتُ أنَّ اللَّهَ أعَزَّ دِينَهُ وأقَرَّهُ، فَكانَ المَسْخُ خَنازِيرَ عَلى يَدَيْ هَذِهِ المَرْأةِ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الطّاغُوتِ. وقَرَأ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: وعَبَدَ الطّاغُوتَ. وقَرَأ أُبَيٌّ: وعَبَدُوا الطّاغُوتَ. وقَرَأ الحَسَنُ في رِوايَةٍ: وعَبْدَ الطّاغُوتِ، بِإسْكانِ الباءِ. وخَرَّجَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلى أنَّهُ أرادَ وعَبْدًا مُنَوَّنًا فَحُذِفَ التَّنْوِينُ كَما حُذِفَ في قَوْلِهِ: ولا ذاكِرَ اللَّهَ إلّا قَلِيلًا ولا وجْهَ لِهَذا التَّخْرِيجِ، لِأنَّ عَبْدًا لا يُمْكِنُ أنْ يَنْصِبَ الطّاغُوتَ، إذْ لَيْسَ بِمَصْدَرٍ ولا اسْمِ فاعِلٍ، والتَّخْرِيجُ الصَّحِيحُ: أنْ يَكُونَ تَخْفِيفًا مِن عَبَدَ بِفَتْحِها كَقَوْلِهِمْ: في سَلَفَ سَلْفَ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ في رِوايَةٍ: عَبُدَ، بِضَمِّ الباءِ، نَحْوَ شَرُفَ الرَّجُلُ؛ أيْ: صارَ لَهُ عَبْدٌ كالخُلُقِ والأمْرِ المُعْتادِ قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ: صارَ مَعْبُودًا مِن دُونِ اللَّهِ كَقَوْلِكَ: أمُرَ إذا صارَ أمِيرًا. انْتَهى. وقَرَأ النَّخَعِيُّ وابْنُ القَعْقاعِ والأعْمَشُ في رِوايَةِ هارُونَ، وعُبِدَ الطّاغُوتُ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، كَضُرِبَ زَيْدٌ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ في رِوايَةٍ: وعُبِدَتِ الطّاغُوتُ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، كَضُرِبَتِ المَرْأةُ. فَهَذِهِ سِتُّ قِراءاتٍ بِالفِعْلِ الماضِي، وإعْرابُها واضِحٌ. والظّاهِرُ أنَّ هَذا المَفْعُولَ مَعْطُوفٌ عَلى صِلَةِ مَن وُصِلَتْ بِلَعَنَهُ، وغَضِبَ، وجَعَلَ، وعَبَدَ، والمَبْنِيُّ لِلْمَفْعُولِ ضَعَّفَهُ الطَّبَرِيُّ وهو يَتَّجِهُ عَلى حَذْفِ الرّابِطِ؛ أيْ: وعُبِدَ الطّاغُوتُ فِيهِمْ أوْ بَيْنَهم. ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ وعَبَدَ لَيْسَ داخِلًا في الصِّلَةِ، لَكِنَّهُ عَلى تَقْدِيرِ مَن، وقَدْ قَرَأ بِها مُظْهَرَةً عَبْدُ اللَّهِ قَرَأ: ومَن عَبَدَ؛ فَإمّا عَطْفًا عَلى القِرَدَةِ والخَنازِيرِ، وإمّا عَطْفًا عَلى ”مَن“ في قَوْلِهِ: مَن لَعَنَهُ اللَّهُ. وقَرَأ أبُو واقِدٍ الأعْرابِيُّ: وعُبّادَ الطّاغُوتِ؛ جَمْعُ عابِدٍ، كَضُرّابِ زَيْدٍ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةٍ، وجَماعَةٌ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ وثّابٍ: وعُبُدَ الطّاغُوتِ؛ جَمْعُ عَبْدٍ، كَرَهْنٍ ورُهُنٍ. وقالَ ثَعْلَبٌ: جَمْعُ عابِدٍ، كَشارِفٍ وشُرُفٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ تابِعًا لِلْأخْفَشِ: جَمْعُ عَبِيدٍ، فَيَكُونُ إذْ ذاكَ جَمْعَ جَمْعٍ وأنْشَدُوا: ؎انْسُبِ العَبْدَ إلى آبائِهِ أسْوَدَ الجِلْدَةِ مِن قَوْمٍ عُبُدِ وقَرَأ الأعْمَشُ وغَيْرُهُ: وعُبُدَ الطّاغُوتِ جَمْعُ عابِدٍ، كَضارِبٍ وضُرُبٍ. وقَرَأ بَعْضُ البَصْرِيِّينَ: وعِبادَ الطّاغُوتِ؛ جَمْعُ عابِدٍ كَقائِمٍ وقِيامٍ، أوْ جَمْعُ عَبْدٍ. أنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: ؎أتُوعِدُنِي بِقَوْمِكَ يابْنَ حِجْلٍ ∗∗∗ أُساباتٍ يُخالُونَ العِبادا وسُمِّيَ عَرَبُ الحِيرَةِ مِنَ العِراقِ لِدُخُولِهِمْ في طاعَةِ كِسْرى: عِبادًا. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةٍ: وعَبِيدَ الطّاغُوتِ؛ جَمْعُ عَبْدٍ، نَحْوَ كَلْبٍ وكَلِيبٍ. وقَرَأ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: وأعْبُدَ الطّاغُوتِ؛ جَمْعُ عَبْدٍ، كَفَلْسٍ وأفْلُسَ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: وعَبَدَ الطّاغُوتِ؛ يُرِيدُ: وعَبَدَةَ جَمْعُ عابِدٍ، كَفاجِرٍ وفَجَرَةٍ، وحَذَفَ التّاءَ لِلْإضافَةِ، أوِ اسْمُ جَمْعٍ كَخادِمٍ وخَدَمٍ، وغائِبٍ وغَيَبٍ. وقُرِئَ: وعَبَدَةَ الطّاغُوتِ؛ بِالتّاءِ نَحْوَ فاجِرٍ وفَجَرَةٍ، فَهَذِهِ ثَمانِ قِراءاتٍ بِالجَمْعِ المَنصُوبِ عَطْفًا عَلى القِرَدَةِ والخَنازِيرِ مُضافًا إلى الطّاغُوتِ. وقُرِئَ وعابِدِي، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةٍ: وعابِدُو. وقَرَأ عَوْنٌ العَقِيلِيُّ: وعابِدُو، وتَأوَّلَها أبُو عَمْرٍو عَلى أنَّها عَآبِدُ. وهَذانِ جَمْعا سَلامَةٍ أُضِيفا إلى الطّاغُوتِ، فَبِالتّاءِ عَطْفًا عَلى القِرَدَةِ والخَنازِيرِ، وبِالواوِ عَطْفًا عَلى مَن لَعَنَهُ اللَّهُ أوْ عَلى إضْمارِهِمْ. وتَحْتَمِلُ قِراءَةُ عَوْنٍ أنْ يَكُونَ عابِدَ مُفْرَدًا اسْمَ جِنْسٍ. وقَرَأ أبُو عُبَيْدَةَ: وعابِدَ؛ عَلى وزْنِ ضارِبٍ مُضافًا إلى لَفْظِ الشَّيْطانِ، بَدَلَ الطّاغُوتِ. وقَرَأ الحَسَنُ: وعَبْدَ الطّاغُوتِ؛ عَلى وزْنِ كَلْبٍ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ في رِوايَةٍ: وعَبَّدَ؛ عَلى وزْنِ حَطَّمَ، وهو بِناءُ مُبالَغَةٍ. وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ والأعْمَشُ وحَمْزَةُ: وعَبِدَ؛ عَلى وزْنِ يَقِظٍ ونَدِسٍ، فَهَذِهِ أرْبَعُ قِراءاتٍ بِالمُفْرَدِ المُرادِ بِهِ الجِنْسُ أُضِيفَتْ إلى الطّاغُوتِ. وفي القِراءَةِ الأخِيرَةِ مِنها خِلافٌ بَيْنَ العُلَماءِ. قالَ نُصَيْرٌ النَّحْوِيُّ صاحِبُ (p-٥٢٠)الكِسائِيِّ: وهو وهْمٌ مِمَّنْ قَرَأ بِهِ، ولْيَسْألْ عَنْهُ العُلَماءَ حَتّى نَعْلَمَ أنَّهُ جائِزٌ. وقالَ الفَرّاءُ: إنْ يَكُنْ لُغَةً مِثْلَ حَذِرَ وعَجِلَ فَهو وجْهٌ، وإلّا فَلا يَجُوزُ في القِراءَةِ. وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: إنَّما مَعْنى العُبُدِ عِنْدَهُمُ الأعْبَدُ، يُرِيدُونَ خَدَمَ الطّاغُوتِ، ولَمْ نَجِدْ هَذا يَصِحُّ عَنْ أحَدٍ مِن فُصَحاءِ العَرَبِ أنَّ العَبْدَ يُقالُ فِيهِ عَبِدٌ، وإنَّما هو عَبْدٌ وأعْبُدٌ بِالألِفِ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: لَيْسَ في أبْنِيَةِ المَجْمُوعِ مِثْلُهُ، ولَكِنَّهُ واحِدٌ يُرادُ بِهِ الكَثْرَةُ، وهو بِناءٌ يُرادُ بِهِ المُبالَغَةُ، فَكَأنَّ هَذا قَدْ ذَهَبَ في عِبادَةِ الطّاغُوتِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَعْناهُ العُلُوُّ في العُبُودِيَّةِ كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ حَذِرٌ فَطِنٌ لِلْبَلِيغِ في الحَذَرِ والفِطْنَةِ؛ قالَ الشّاعِرُ: ؎أبَنِي لُبَيْنى إنَّ أُمَّكُمُ ∗∗∗ أمَةٌ وإنَّ أباكُمُ عَبِدُ انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَبِدٌ لَفْظُ مُبالَغَةٍ كَيَقِظٍ ونَدِسٍ، فَهو لَفْظٌ مُفْرَدٌ يُرادُ بِهِ الجِنْسُ، وبُنِيَ بِناءَ الصِّفاتِ، لِأنَّ عَبْدًا في الأصْلِ صِفَةٌ، وإنْ كانَ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمالَ الأسْماءِ، وذَلِكَ لا يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ الصِّفَةِ، ولِذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أنْ يُبْنى مِنهُ بِناءُ مُبالَغَةٍ. وأنْشَدَ أبَنِي لُبَيْنى. . . . . . . . . البَيْتَ، وقالَ: ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ وغَيْرُهُ، بِضَمِّ الباءِ، . انْتَهى. وعَدَّ ابْنُ مالِكٍ في أبْنِيَةِ أسْماءِ الجَمْعِ فُعُلًا فَقالَ: ومِنها فُعُلٌ كَنَحْوِ سُمُرٍ وعُبُدٍ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ فِيما رَوى عَنْهُ عِكْرِمَةُ: وعُبُدَ الطّاغُوتَ جَمْعُ عابِدٍ كَضارِبٍ وضُرُبٍ، ونَصَبَ الطّاغُوتَ أرادَ عُبُدًا مُنَوَّنًا فَحُذِفَ التَّنْوِينُ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ كَما قالَ: (ولا ذاكِرَ اللَّهَ إلّا قَلِيلًا) فَهَذِهِ إحْدى وعِشْرُونَ قِراءَةً بِقِراءَةِ بُرَيْدٍ، تَكُونُ اثْنَيْنِ وعِشْرِينَ قِراءَةً. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ جازَ أنْ يَجْعَلَ اللَّهُ مِنهم عِبادَ الطّاغُوتِ ؟ (قُلْتُ): فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ خَذَلَهم حَتّى عَبَدُوها، والثّانِي: أنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ ووَصَفَهم بِهِ كَقَوْلِهِمْ: ﴿وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا﴾ [الزخرف: ١٩] . انْتَهى. وهَذا عَلى طَرِيقِ المُعْتَزِلَةِ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الطّاغُوتِ. وقَرَأ الحَسَنُ: الطَّواغِيتِ. ورُوِيَ أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ كانَ المُسْلِمُونَ يُعَيِّرُونَ اليَهُودَ يَقُولُونَ: يا إخْوَةَ القِرَدَةِ والخَنازِيرِ، فَيُنَكِّسُونَ رُءُوسَهم. * * * ﴿أُولَئِكَ شَرٌّ مَكانًا﴾ الإشارَةُ إلى المَوْصُوفِينَ بِاللَّعْنَةِ وما بَعْدَها، وانْتَصَبَ مَكانًا عَلى التَّمْيِيزِ. فَإنْ كانَ ذَلِكَ في الآخِرَةِ أنْ يُرادَ بِالمَكانِ حَقِيقَةً إذْ هو جَهَنَّمُ، وإنْ كانَ في الدُّنْيا فَيَكُونُ كِنايَةً واسْتِعارَةً لِلْمَكانَةِ في قَوْلِهِ: أُولَئِكَ شَرٌّ، لِدُخُولِهِ في بابِ الكِنايَةِ كَقَوْلِهِمْ: فُلانٌ طَوِيلُ النِّجادِ وهي إشارَةٌ إلى الشَّيْءِ بِذِكْرِ لِوِزامِهِ وتَوابِعِهِ قَبْلَ المَفْضُولِ، وهو مَكانُ المُؤْمِنِينَ، ولا شَرَّ في مَكانِهِمْ. وقالَ الزَّجّاجُ: شَرٌّ مَكانًا عَلى قَوْلِكم وزَعْمِكم. وقالَ النَّحّاسُ: أحْسَنُ ما قِيلَ شَرٌّ مَكانًا في الآخِرَةِ مِن مَكانِكم في الدُّنْيا، لِما يَلْحَقُكم مِنَ الشَّرِّ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَكانُهم سَقَرٌ، ولا مَكانَ أشَدُّ شَرًّا مِنهُ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ المَفْضُولَ هو غَيْرُهم مِنَ الكُفّارِ، لِأنَّ اليَهُودَ جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ والرُّسُلُ والمُعْجِزاتُ ما لَمْ يَجِئْ غَيْرُهم كَثْرَةً، فَكانُوا أبْعَدَ ناسٍ عَنِ اتِّباعِ الحَقِّ وتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وأوْغَلَهم في العِصْيانِ، وكَفَرُوا بِأنْواعٍ مِنَ الكُفْرِ والرُّسُلِ، تَنْتابُهُمُ الغَيْبَةُ بَعْدَ الغَيْبَةِ، فَأخْبَرَ تَعالى عَنْهم بِأنَّهم شَرٌّ مِنَ الكُفّارِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب