الباحث القرآني

﴿ولْيَحْكم أهْلُ الإنْجِيلِ بِما أنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ﴾ أمَرَ تَعالى أهْلَ الإنْجِيلِ أنْ يَحْكُمُوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الأحْكامِ ويَكُونُ هَذا الأمْرُ عَلى سَبِيلِ الحِكايَةِ، وقُلْنا لَهُمُ: احْكُمُوا؛ أيْ: حِينَ إيتائِهِ عِيسى أمَرْناهم بِالحُكْمِ بِما فِيهِ إذْ لا يُمْكِنُ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ بَعْدَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ، ﷺ، إذْ شَرِيعَتُهُ ناسِخَةٌ لِجَمِيعِ الشَّرائِعِ، أوْ بِما أنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مَخْصُوصًا بِالدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، وهو قَوْلُ الأصَمِّ، أوْ بِخُصُوصِ الزَّمانِ إلى بَعْثَةِ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، أوْ عَبَّرَ بِالحُكْمِ بِما أنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ عَنْ عَدَمِ تَحْرِيفِهِ وتَغْيِيرِهِ. فالمَعْنى: ولْيَقْرَأْهُ أهْلُ الإنْجِيلِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي أُنْزِلَ، لا يُغَيِّرُونَهُ ولا يُبَدِّلُونَهُ، وهَذا بَعِيدٌ. وظاهِرُ الأمْرِ يَرُدُّ قَوْلَ مَن قالَ: إنَّ عِيسى كانَ مُتَعَبِّدًا بِأحْكامِ التَّوْراةِ. وقالَ تَعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنكم شِرْعَةً ومِنهاجًا﴾ [المائدة: ٤٨] ولِهَذا القائِلِ أنْ يَقُولَ: بِما أنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مِن إيجابِ العَمَلِ بِأحْكامِ التَّوْراةِ؛ والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ الأحْكامَ في الإنْجِيلِ قَلِيلَةٌ، وإنَّما أكْثَرُهُ زَواجِرُ؛ وتِلْكَ الأحْكامُ المُخالِفَةُ لِأحْكامِ التَّوْراةِ أُمِرُوا بِالعَمَلِ بِها، ولِهَذا جاءَ: ﴿ولِأُحِلَّ لَكم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: ٥٠] . وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ولْيَحْكُمْ﴾؛ بِلامِ الأمْرِ ساكِنَةً، وبَعْضُ القُرّاءِ يَكْسِرُها. وقَرَأ أُبَيٌّ: وأنْ لِيَحْكُمَ؛ بِزِيادَةِ أنْ قَبْلَ لامِ كَيْ، وتَقَدَمَ كَلامُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِيما يَتَعَلَّقُ بِهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والمَعْنى وآتَيْناهُ الإنْجِيلَ لِيَتَضَمَّنَ الهُدى والنُّورَ والتَّصْدِيقَ، ولِيَحْكُمَ أهْلُ الإنْجِيلِ بِما أنْزَلُ اللَّهُ فِيهِ. انْتَهى. فَعَطَفَ ولِيَحْكُمَ عَلى تَوَهُّمِ عِلَّةٍ ولِذَلِكَ قالَ: لِيَتَضَمَّنَ الهُدى. والزَّمَخْشَرِيُّ جَعَلَهُ مَعْطُوفًا عَلى هُدًى ومَوْعِظَةً، عَلى تَوَهُّمِ النُّطْقِ بِاللّامِ فِيهِما كَأنَّهُ قالَ: ولِلْهُدى والمَوْعِظَةِ ولِلْحُكْمِ؛ أيْ: جَعَلَهُ مَقْطُوعًا مِمّا قَبْلَهُ، وقُدِّرَ العامِلُ مُؤَخَّرًا؛ أيْ: ولْيَحْكُمَ أهْلُ الإنْجِيلِ بِما أنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ آتَيْناهُ إيّاهُ. وقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ أقْرَبُ إلى الصَّوابِ، لِأنَّ الهُدى الأوَّلَ والنُّورَ والتَّصْدِيقَ لَمْ يُؤْتَ بِها عَلى سَبِيلِ العِلَّةِ، إنَّما جِيءَ بِقَوْلِهِ: فِيهِ هُدًى ونُورٌ، عَلى مَعْنى كائِنًا فِيهِ ذَلِكَ ومُصَدِّقًا، وهَذا مَعْنى الحالِ، والحالُ لا يَكُونُ عِلَّةً. فَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: لِيَتَضَمَّنَ كَيْتَ وكَيْتَ، ولْيَحْكُمَ، بَعِيدٌ. ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ ناسَبَ هُنا ذِكْرُ الفِسْقَ، لِأنَّهُ خَرَجَ عَنْ أمْرِ اللَّهِ تَعالى إذْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: ولْيَحْكم، وهو أمْرٌ. كَما قالَ تَعالى: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلّا إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: ٥٠] (p-٥٠١)أيْ: خَرَجَ عَنْ طاعَةِ أمْرِهِ تَعالى؛ فَقَدِ اتَّضَحَ مُناسَبَةُ خَتْمِ الجُمْلَةِ الأُولى بِالكافِرِينَ، والثّانِيَةِ بِالظّالِمِينَ، والثّالِثَةِ بِالفاسِقِينَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وتَكْرِيرُ هَذِهِ الصِّفاتِ لِمَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ هو عَلى جِهَةِ التَّوْكِيدِ، وأصْوَبُ ما يُقالُ فِيها: إنَّها تَعُمُّ كُلَّ مُؤْمِنٍ وكافِرٍ، فَيَجِيءُ كُلُّ ذَلِكَ في الكافِرِ عَلى أتَمِّ وُجُوهِهِ، وفي المُؤْمِنِ عَلى مَعْنى كُفْرِ المَعْصِيَةِ وظُلْمِها وفِسْقِها. وقالَ القَفّالُ: هي لِمَوْصُوفٍ واحِدٍ كَما تَقُولُ: مَن أطاعَ اللَّهَ فَهو البَرُّ، ومَن أطاعَ فَهو المُؤْمِنُ، ومَن أطاعَ فَهو المُتَّقِي. وقِيلَ: الأوَّلُ في الجاحِدِ، والثّانِي والثّالِثُ في المُقِرِّ التّارِكِ. وقالَ الأصَمُّ: الأوَّلُ والثّانِي في اليَهُودِ، والثّالِثُ في النَّصارى. وعَلى قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ يَعُمُّ كُلَّ كافِرٍ ومُؤْمِنٍ، يَكُونُ إطْلاقُ الكافِرِينَ والظّالِمِينَ والفاسِقِينَ عَلَيْهِمْ لِلِاشْتِراكِ في قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب