الباحث القرآني

﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهو كَفّارَةٌ لَهُ﴾ المُتَصَدِّقُ صاحِبُ الحَقِّ. ومُسْتَوْفِي القِصاصِ الشّامِلِ لِلنَّفْسِ والأعْضاءِ ولِلْجُرُوحِ الَّتِي فِيها القِصاصُ، وهو ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى التَّصَدُّقِ؛ أيْ: فالتَّصَدُّقُ كَفّارَةٌ لِلتَّصَدُّقِ؛ والمَعْنى: أنَّ مَن تَصَدَّقَ بِجُرْحِهِ يُكَفِّرُ عَنْهُ، قالَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وجابِرٌ، وأبُو الدَّرْداءِ، وقَتادَةُ، والحَسَنُ، والشَّعْبِيُّ. وذَكَرَ أبُو الدَّرْداءِ أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ، ﷺ، يَقُولُ: «ما مِن مُسْلِمٍ يُصابُ بِشَيْءٍ مِن جَسَدِهِ فَيَهَبُهُ إلّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ دَرَجَةً وحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً» وذَكَرَ مَكِّيٌّ حَدِيثًا مِن طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ: «أنَّهُ يَحُطُّ عَنْهُ مِن ذُنُوبِهِ ما عَفى عَنْهُ مِنَ الدِّيَةِ» وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: يَهْدِمُ عَنْهُ ذُنُوبَهُ بِقَدْرِ ما تَصَدَّقَ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في لَهُ عائِدٌ عَلى الجانِي وإنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، لَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِن سِياقِ الكَلامِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ المَعْنى؛ والمَعْنى: فَذَلِكَ العَفْوُ والتَّصَدُّقُ كَفّارَةٌ لِلْجانِي يَسْقُطُ عَنْهُ ما لَزِمَهُ مِنَ القِصاصِ. وكَما أنَّ القِصاصَ كَفّارَةٌ كَذَلِكَ العَفْوُ كَفّارَةٌ، وأجْرُ العافِي عَلى اللَّهِ تَعالى قالَهُ: ابْنُ عَبّاسٍ، والسَّبِيعِيُّ، ومُجاهِدٌ، وإبْراهِيمُ، والشَّعْبِيُّ، وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، ومُقاتِلٌ. وقِيلَ: المُتَصَدِّقُ هو الجانِي، والضَّمِيرُ في لَهُ يَعُودُ عَلَيْهِ؛ والمَعْنى: إذا جَنى جانٍ فَجُهِلَ وخَفِيَ أمْرُهُ فَتَصَدَّقَ هو بِأنْ عَرَّفَ بِذَلِكَ ومَكَّنَ مِن نَفْسِهِ، فَذَلِكَ الفِعْلُ كَفّارَةٌ لِذَنْبِهِ. وقالَ مُجاهِدٌ: إذا أصابَ رَجُلٌ رَجُلًا ولَمْ يَعْلَمِ المُصابُ مَن أصابَهُ فاعْتَرَفَ لَهُ المُصِيبُ فَهو كَفّارَةٌ لِلْمُصِيبِ. وأصابَ عُرْوَةُ عِنْدَ الرُّكْنِ إنْسانًا وهم يَسْتَلِمُونَ فَلَمْ (p-٤٩٨)يَدْرِ المُصابُ مَن أصابَهُ فَقالَ لَهُ عُرْوَةُ: أنا أصَبْتُكَ، وأنا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَإنْ كانَ يَلْحَقُكَ بِها بَأْسٌ فَأنا بِها. وعَلى هَذا القَوْلِ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ تَصَدَّقَ تَفَعَّلَ مِنَ الصَّدَقَةِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِنَ الصِّدْقِ. وقَرَأ أُبَيٌّ: فَهو كَفّارَةٌ لَهُ يَعْنِي: فالتَّصَدُّقُ كَفّارَتُهُ؛ أيِ: الكَفّارَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّها لَهُ لا يُنْقَصُ مِنها، وهو تَعْظِيمٌ لِما فَعَلَ لِقَوْلِهِ: ﴿فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ﴾ [الشورى: ٤٠] وتَرْغِيبٌ في العَفْوِ. وتَأوَّلَ قَوْمٌ الآيَةَ عَلى مَعْنى: والجُرُوحَ قِصاصٌ، فَمَن أُعْطِيَ دِيَةَ الجُرْحِ وتَصَدَّقَ بِهِ فَهو كَفّارَةٌ لَهُ إذا رُضِيَتْ مِنهُ وقُبِلَتْ. وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: ومَن يَتَصَدَّقْ بِهِ فَإنَّهُ كَفّارَةٌ لَهُ. * * * ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ ناسَبَ فِيما تَقَدَّمَ ذِكْرُ الكافِرِينَ، لِأنَّهُ جاءَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: ﴿إنّا أنْزَلْنا التَّوْراةَ فِيها هُدًى ونُورٌ﴾ [المائدة: ٤٤] الآيَةَ فَفي ذَلِكَ إشارَةٌ إلى أنَّهُ لا يَحْكُمُ بِجَمِيعِها، بَلْ يُخالِفُ رَأْسًا. ولِذَلِكَ جاءَ: ﴿ولا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [المائدة: ٤٤] وهَذا كُفْرٌ، فَناسَبَ ذِكْرُ الكافِرِينَ. وهُنا جاءَ عَقِيبَ أشْياءَ مَخْصُوصَةٍ مِن أمْرِ القَتْلِ والجُرُوحِ، فَناسَبَ ذِكْرُ الظُّلْمِ المُنافِي لِلْقِصاصِ وعَدَمِ التَّسْوِيَةِ، وإشارَةً إلى ما كانُوا قَرَّرُوهُ مِن عَدَمِ التَّساوِي بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وبَنِي قُرَيْظَةَ. ﴿وقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ﴾ [المائدة: ٤٦] مُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّ التَّوْراةَ يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ، ذَكَرَ أنَّهُ قَفّاهم بِعِيسى تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ مِن جُمْلَةِ الأنْبِياءِ، وتَنْوِيهًا بِاسْمِهِ، وتَنْزِيهًا لَهُ عَمّا يَدَّعِيهِ اليَهُودُ فِيهِ، وأنَّهُ مِن جُمْلَةِ مُصَدِّقِي التَّوْراةِ. ومَعْنى: قَفَّيْنا، أتَيْنا بِهِ، يَقْفُو آثارَهم؛ أيْ: يَتْبَعُها. والضَّمِيرُ في آثارِهِمْ يَعُودُ عَلى التَّبْيِينِ مِن قَوْلِهِ: ﴿يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ﴾ [المائدة: ٤٤] وقِيلَ: عَلى الَّذِينَ كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الأحْكامُ. وعَلى آثارِهِمْ، مُتَعَلِّقٌ بِقَفَّيْنا، وبِعِيسى مُتَعَلِّقٌ بِهِ أيْضًا. وهَذا عَلى سَبِيلِ التَّضْمِينِ؛ أيْ: ثُمَّ جِئْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ قافِيًا لَهم، ولَيْسَ التَّضْعِيفُ في قَفَّيْنا لِلتَّعْدِيَةِ، إذْ لَوْ كانَ لِلتَّعْدِيَةِ ما جاءَ مَعَ الباءِ المُعَدِّيَةِ، ولا تَعَدّى (بِعَلى) . وذَلِكَ أنَّ قَفا يَتَعَدّى لِواحِدٍ قالَ تَعالى: ﴿ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: ٣٦] وتَقُولُ: قَفا فُلانٌ الأثَرَ إذا اتَّبَعَهُ، فَلَوْ كانَ التَّضْعِيفُ لِلتَّعَدِّي لَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ مَنصُوبَيْنِ، وكانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ: ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ، وكانَ يَكُونُ عِيسى هو المَفْعُولُ الأوَّلُ، وآثارِهِمْ المَفْعُولَ الثّانِيَ، لَكِنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنى جاءَ وعُدِّيَ بِالياءِ، وتَعَدّى إلى آثارِهِمْ بِعَلى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَفَّيْتُهُ مِثْلَ عَقِبْتُهُ إذا اتَّبَعْتَهُ، ثُمَّ يُقالُ: قَفَّيْتُهُ بِفُلانٍ وعَقِبْتُهُ بِهِ، فَتُعَدِّيهِ إلى الثّانِي بِزِيادَةِ الباءِ. (فَإنْ قُلْتَ): فَأيْنَ المَفْعُولُ الأوَّلُ في الآيَةِ ؟ (قُلْتُ): هو مَحْذُوفٌ، والظَّرْفُ الَّذِي هو عَلى آثارِهِمْ كالسّادِّ مَسَدَّهُ، لِأنَّهُ إذا قُفِّيَ بِهِ عَلى أثَرِهِ فَقَدْ قُفِّيَ بِهِ إيّاهُ. انْتَهى. وكَلامُهُ يَحْتاجُ إلى تَأْوِيلٍ، وذَلِكَ أنَّهُ جَعَلَ قَفَّيْتُهُ المُضَعَّفَ بِمَعْنى قَفَوْتُهُ، فَيَكُونُ فَعَّلَ بِمَعْنى فَعَلَ نَحْوَ: قَدَّرَ اللَّهُ، وقَدَرَ اللَّهُ، وهو أحَدُ المَعانِي الَّتِي جاءَتْ لَها فَعَلَ، ثُمَّ عَدّاهُ بِالباءِ، وتَعْدِيَةُ المُتَعَدِّي لِمَفْعُولٍ، بِالباءِ، لِثانٍ قَلَّ أنْ يُوجَدَ، حَتّى زَعَمَ بَعْضُهم أنَّهُ لا يُوجَدُ. ولا يَجُوزُ فَلا يُقالُ: في طَعِمَ زَيْدٌ اللَّحْمَ، أطْعَمْتُ (p-٤٩٩)زَيْدًا بِاللَّحْمِ، والصَّحِيحُ أنَّهُ جاءَ عَلى قِلَّةٍ تَقُولُ: دَفَعَ زَيْدٌ عَمْرًا، ثُمَّ تُعَدِّيهِ بِالباءِ فَتَقُولُ: دَفَعْتُ زَيْدًا بِعَمْرٍو أيْ: جَعَلْتُ زَيْدًا يَدْفَعُ عَمْرًا، وكَذَلِكَ صَكَّ الحَجَرُ الحَجَرَ. ثُمَّ تَقُولُ: صَكَكْتُ الحَجَرَ بِالحَجَرِ؛ أيْ: جَعَلْتُهُ يَصُكُّهُ. وأمّا قَوْلُهُ: المَفْعُولُ الأوَّلُ مَحْذُوفُ الظَّرْفِ كالسّادِّ مَسَدَّهُ، فَلا يَتَّجِهُ؛ لِأنَّ المَفْعُولَ هو مَفْعُولٌ بِهِ صَرِيحٌ، ولا يَسُدُّ الظَّرْفُ مَسَدَّهُ، وكَلامُهُ مُفْهِمُ التَّضْمِينِ وإنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: لِأنَّهُ إذا قَفّى بِهِ أثَرَهُ فَقَدْ قَفّى بِهِ إيّاهُ ؟ وقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: فَقَدْ قَفّى بِهِ إيّاهُ، فَصَلَ الضَّمِيرَ، وحَقُّهُ أنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، ولَيْسَ مِن مَواضِعِ فَصْلٍ، لَوْ قُلْتَ: زَيْدٌ ضَرَبْتُ بِسَوْطٍ إيّاهُ لَمْ يَجُزْ إلّا في ضَرُورَةِ شِعْرٍ، فَإصْلاحُهُ زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ بِسَوْطٍ، وانْتَصَبَ مُصَدِّقًا عَلى الحالِ مِن عِيسى. ومَعْنى: لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، لِما تَقَدَّمَهُ مِنَ التَّوْراةِ لِأنَّها جاءَتْ قَبْلَهُ، كَما أنَّ الرَّسُولَ بَيْنَ يَدَيِ السّاعَةِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في هَذا. وتَصْدِيقُهُ إيّاها هو بِكَوْنِهِ مُقِرًّا أنَّها كِتابٌ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ حَقًّا واجِبٌ العَمَلُ بِهِ قَبْلَ وُرُودِ النَّسْخِ، إذْ شَرِيعَتُهُ مُغايِرَةٌ لِبَعْضِ ما فِيها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب