الباحث القرآني
﴿وقالَتِ اليَهُودُ والنَّصارى نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ ظاهِرُ اللَّفْظِ أنَّ جَمِيعَ اليَهُودِ والنَّصارى قالُوا عَنْ جَمِيعِهِمْ ذَلِكَ ولَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ في الكَلامِ لَفٌّ وإيجازٌ؛ والمَعْنى: وقالَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى عَنْ نَفْسِها، خاصَّةً: نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ، وقالَتِ اليَهُودُ: لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ، وقالَتِ النَّصارى: لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلى شَيْءٍ. والبُنُوَّةُ هُنا بُنُوَّةُ الحَنانِ والرَّأْفَةِ. وما ذَكَرُوا مِن أنَّ اللَّهَ أوْحى إلى إسْرائِيلَ أنَّ أوْلادَكَ بِكْرِي فَضَلُّوا بِذَلِكَ، وقالُوا: نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ، لا يَصِحُّ. ولَوْ صَحَّ ما رَوَوْا: كانَ مَعْناهُ بِكْرًا في التَّشْرِيفِ والنُّبُوَّةِ ونَحْوِ ذَلِكَ. وجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهم: أبْناءُ اللَّهِ، عَلى حَذْفِ مُضافٍ، وأُقِيمَ هَذا مَقامَهُ؛ أيْ: نَحْنُ أشْياعُ ابْنَيِ اللَّهِ عُزَيْرٍ والمَسِيحِ؛ كَما قِيلَ لِأشْياعِ أبِي خُبَيْبٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الخُبَيْبِيُّونَ، وكَما كانَ يَقُولُ رَهْطُ مَسْلَمَةَ: نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ، ويَقُولُ أقْرِباءُ المَلِكِ وحَشَمُهُ: نَحْنُ المُلُوكُ. وأحِبّاؤُهُ جَمْعُ حَبِيبٍ فَعِيلٍ بِمَعْنى مَفْعُولٍ؛ أيْ: مَحْبُوبُوهُ، أُجْرِيَ مَجْرى فَعِيلٍ مِنَ المُضاعَفِ الَّذِي هو اسْمُ الفاعِلِ، نَحْوَ: لَبِيبٍ وألِبّاءَ. وقائِلُ هَذِهِ المَقالَةِ بَعْضُ اليَهُودِ الَّذِينَ كانُوا بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ، فَنُسِبَ إلى الجَمِيعِ لِأنَّ ما وقَعَ مِن بَعْضٍ قَدْ يُنْسَبُ إلى الجَمِيعِ. قالَ الحَسَنُ: يَعْنُونَ في القُرْبِ مِنهُ؛ أيْ: نَحْنُ أقْرَبُ إلى اللَّهِ مِنكم لَهُ، يَفْخَرُونَ بِذَلِكَ عَلى المُسْلِمِينَ. قالَ ابْنُ عَيّاشٍ: هم طائِفَةٌ مِنَ اليَهُودِ خَوَّفَهُمُ الرَّسُولُ عِقابَ اللَّهِ فَقالُوا: أتُخَوِّفُنا بِاللَّهِ ونَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ ؟ ورُوِيَ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ يَهُودَ المَدِينَةِ كَعْبَ بْنَ الأشْرَفِ وغَيْرَهُ مِن نَصارى نَجْرانَ السَّيِّدِ والعاقِبِ - خاصَمُوا أصْحابَ الرَّسُولِ، ﷺ، فَعَيَّرَهُمُ الصَّحابَةُ بِالكُفْرِ وغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقالَتِ اليَهُودُ: إنَّما غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْنا كَما يَغْضَبُ الرَّجُلُ عَلى ولَدِهِ، نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ. هَذا قَوْلُ اليَهُودِ، وأمّا النَّصارى فَإنَّهم زَعَمُوا أنَّ عِيسى قالَ لَهم: اذْهَبُوا إلى أبِي وأبِيكم.
﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكم بِذُنُوبِكُمْ﴾ أيْ: إنْ كُنْتُمْ كَما زَعَمْتُمْ، فَلِمَ يُعَذِّبُكم بِذُنُوبِكم ؟ وكانُوا قَدْ قالُوا لِلنَّبِيِّ، ﷺ، في غَيْرِ ما مَوْطِنٍ: نَحْنُ نَدْخُلُ النّارَ فَنُقِيمُ فِيها أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَخْلُفُونَنا فِيها؛ والمَعْنى: لَوْ كانَتْ (p-٤٥١)مَنزِلَتُكم مِنهُ فَوْقَ مَنزِلَةِ البَشَرِ لَما عَذَّبَكم ؟ وأنْتُمْ قَدْ أقْرَرْتُمْ أنَّهُ يُعَذِّبُكم، وهَذا عَلى أنَّ العَذابَ هو في الآخِرَةِ. ويَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ العَذابَ في الدُّنْيا بِمَسْخِ آبائِهِمْ عَلى تَعَدِّيهِمْ في السَّبْتِ، وبِقَتْلِ أنْفُسِهِمْ عَلى عِبادَةِ العِجْلِ، وبِالتِّيهِ عَلى امْتِناعِهِمْ مِن قِتالِ الجَبّارِينَ، وبِافْتِضاحِ مَن أذْنَبَ مِنهم بِأنْ يُصْبِحَ مَكْتُوبًا عَلى بابِهِ ذَنْبُهُ وعُقُوبَتُهُ عَلَيْهِ فَتُنَفَّذُ فِيهِمْ، والإلْزامُ بِكِلا التَّعْذِيبَيْنِ صَحِيحٌ. أمّا الأوَّلُ فَلِإقْرارِهِمْ أنَّ ذَلِكَ سَيَقَعُ، وأمّا الآخَرُ فَلِوُقُوعِ ذَلِكَ فِيما مَضى لا يُمْكِنُ إنْكارُ شَيْءٍ مِنهُ. والِاحْتِجاجُ بِما وقَعَ أقْوى. وخَرَّجَ الزَّمَخْشَرِيُّ التَّعْذِيبَيْنِ الدُّنْيَوِيَّ والأُخْرَوِيَّ في كَلامِهِ، وأشْرَبَ تَفْسِيرَ الآيَةِ بِشَيْءٍ مِن مَذْهَبِهِ الِاعْتِزالِيِّ، وحَرَّفَ التَّرْكِيبَ القُرْآنِيَّ عَلى عادَتِهِ، فَقالَ: إنْ صَحَّ أنَّكم أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ، فَلِمَ تُذْنِبُونَ وتُعَذَّبُونَ بِذُنُوبِكم فَتُمْسَخُونَ، وتَمَسَّكُمُ النّارُ في أيّامٍ مَعْدُوداتٍ عَلى زَعْمِكم ؟ ولَوْ كُنْتُمْ أبْناءَ اللَّهِ لَكُنْتُمْ مِن جِنْسِ الأبِ غَيْرَ فاعِلِينَ لِلْقَبائِحِ، ولا مُسْتَوْجَبِينَ لِلْعَذابِ. ولَوْ كُنْتُمْ أحِبّاءَهُ لَما عَصَيْتُمُوهُ، ولَما عاقَبَكُمُ. انْتَهى. ويَظْهَرُ مِن قَوْلِهِ: ولَوْ كُنْتُمْ أحِبّاءَهُ لَما عَصَيْتُمُوهُ، أنْ يَكُونَ أحِبّاؤُهُ جَمْعَ حَبِيبٍ بِمَعْنى مُحِبٍّ، لِأنَّ المُحِبَّ لا يَعْصِي مَن يُحِبُّهُ، بِخِلافِ المَحْبُوبِ فَإنَّهُ كَثِيرًا ما يَعْصِي مُحِبَّهُ. وقالَ القُشَيْرِيُّ: البُنُوَّةُ تَقْتَضِي المَحَبَّةَ، والحَقُّ مُنَزَّهٌ عَنْها، والمَحَبَّةُ الَّتِي بَيْنَ المُتَجانِسَيْنِ تَقْتَضِي الِاخْتِلاطَ والمُؤانَسَةَ، والحَقُّ مُقَدَّسٌ عَنْ ذَلِكَ، والمَخْلُوقُ لا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ بَعْضًا لِلْقَدِيمِ، والقَدِيمُ لا بَعْضَ لَهُ، لِأنَّ الأحَدِيَّةَ حَقُّهُ، وإذا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَدَدٌ لَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ، وإذا لَمْ يَكُنْ لَهُ ولَدٌ لَمْ يَجُزْ عَلى الوَجْهِ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ أنَّ بَيْنَهم وبَيْنَهُ مَحَبَّةً.
﴿بَلْ أنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ أضْرَبَ عَنِ الِاسْتِدْلالِ مِن غَيْرِ إبْطالٍ لَهُ إلى اسْتِدْلالٍ آخَرَ مِن ثُبُوتِ كَوْنِهِمْ بَشَرًا مِن بَعْضِ مَن خَلَقَ، فَهم مُساوُونَ لِغَيْرِهِمْ في البَشَرِيَّةِ والحُدُوثِ، وهُما يَمْنَعانِ البُنُوَّةَ. فَإنَّ القَدِيمَ لا يَلِدُ بَشَرًا، والأبُ لا يَخْلُقُ ابْنَهُ، فامْتَنَعَ بِهَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ البُنُوَّةُ، وامْتَنَعَ بِتَعْذِيبِهِمْ أنْ يَكُونُوا أحِبّاءَ اللَّهِ، فَبَطَلَ الوَصْفانِ اللَّذانِ ادَّعَوْهُما.
﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ﴾ أيْ: يَهْدِيهِ لِلْإيمانِ فَيَغْفِرُ لَهُ.
﴿ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ﴾ أيْ: يُوَرِّطُهُ في الكُفْرِ فَيُعَذِّبُهُ، أوْ يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ وهم أهْلُ الطّاعَةِ، ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ وهُمُ العُصاةُ. قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وفِيهِ شَيْءٌ مِن دَسِيسَةِ الِاعْتِزالِ، لِأنَّ مِنَ العُصاةِ عِنْدَنا مَن لا يُعَذِّبُهُ اللَّهُ تَعالى بَلْ يَغْفِرُ لَهُ. وقِيلَ: المَعْنى أنَّهُ لَيْسَ لِأحَدٍ عَلَيْهِ حَقٌّ يُوجِبُ أنْ يَغْفِرَ لَهُ، أوْ يَمْنَعَهُ أنْ يُعَذِّبَهُ، ولِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما﴾ فَلَهُ التَّصَرُّفُ التّامُّ يَفْعَلُ ما يَشاءُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.
﴿وإلَيْهِ المَصِيرُ﴾ أيِ: الرُّجُوعُ بِالحَشْرِ والمَعادِ.
{"ayah":"وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰۤؤُا۟ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰۤؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ یُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرࣱ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ یَغۡفِرُ لِمَن یَشَاۤءُ وَیُعَذِّبُ مَن یَشَاۤءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۖ وَإِلَیۡهِ ٱلۡمَصِیرُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق