﴿إذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعَلى والِدَتِكَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (إذْ) بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ﴾ [المائدة: ١٠٩]، والمَعْنى أنَّهُ يُوَبِّخُ الكافِرِينَ يَوْمَئِذٍ بِسُؤالِ الرُّسُلِ عَنْ إجابَتِهِمْ، وبِتَعَدُّدِ ما أظْهَرَ عَلى أيْدِيهِمْ مِنَ الآياتِ العِظامِ، فَكَذَّبُوهم، وسَمُّوهم سَحَرَةً، وجاوَزُوا حَدَّ التَّصْدِيقِ إلى أنِ اتَّخَذُوهم آلِهَةً، كَما قالَ بَعْضُ بَنِي إسْرائِيلَ فِيما أظْهَرَ عَلى يَدِ عِيسى مِنَ البَيِّناتِ ﴿هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [النمل: ١٣] . واتَّخَذَهُ بَعْضُهم وأُمَّهُ إلَهَيْنِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ العامِلُ في (إذْ) مُضْمَرًا، تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ يا مُحَمَّدُ، وقالَ هُنا بِمَعْنى يَقُولُ؛ لِأنَّ الظّاهِرَ مِن هَذا القَوْلِ أنَّهُ في القِيامَةِ؛ تَقْدُمَةً لِقَوْلِهِ: ﴿أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦]، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (إذْ) بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ﴾ [المائدة: ١٠٩] انْتَهى. وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ إذْ في مَوْضِعِ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: ذَلِكَ إذْ قالَ اللَّهُ. وإذا كانَ المُنادى عَلَمًا مُفْرَدًا ظاهِرَ الضَّمَّةِ مَوْصُوفًا بِابْنٍ مُتَّصِلًا مُضافًا إلى عَلَمٍ، جازَ فَتْحُهُ إتْباعًا لِفَتْحَةِ ابْنٍ، هَذا مَذْهَبُ الجُمْهُورِ. وأجازَ الفَرّاءُ وتَبِعَهُ أبُو البَقاءِ في ما لا يَظْهَرُ فِيهِ تَقْدِيرُ الضَّمَّةِ والفَتْحَةِ، فَإنْ لَمْ تَجْعَلْ ﴿ابْنَ مَرْيَمَ﴾ صِفَةً، وجَعَلْتَهُ بَدَلًا، أوْ مُنادًى، فَلا يَجُوزُ في ذَلِكَ العَلَمِ إلّا الضَّمُّ. وقَدْ خَلَطَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ، وبَعْضُ مَن يَنْتَمِي إلى النَّحْوِ هُنا، فَقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ (عِيسى) في مَحَلِّ الرَّفْعِ؛ لِأنَّهُ مُنادًى مَعْرِفَةٌ غَيْرُ مُضافٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَحَلِّ النَّصْبِ؛ لِأنَّهُ في نِيَّةِ الإضافَةِ، ثُمَّ جُعِلَ الِابْنُ تَوْكِيدًا، وكُلُّ ما كانَ مِثْلَ هَذا جازَ فِيهِ الوَجْهانِ، نَحْوَ يا زَيْدُ بْنَ عَمْرٍو؛ وأنْشَدَ النَّحْوِيُّونَ:
؎يا حَكَمُ بْنَ المُنْذِرِ بْنِ الجارُودْ أنْتَ الجَوادُ بْنُ الجَوادِ بْنِ الجُودِ
قالَ التَّبْرِيزِيُّ: الأظْهَرُ عِنْدِي أنَّ مَوْضِعَ (عِيسى) نَصْبٌ؛ لِأنَّكَ تَجْعَلُ الِاسْمَ مَعَ نَعْتِهِ إذا أضَفْتَهُ إلى العَلَمِ، كالشَّيْءِ الواحِدِ المُضافِ انْتَهى. والَّذِي ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ في نَحْوِ، يا زَيْدُ بْنَ بَكْرٍ إذا فَتَحْتَ آخِرَ المُنادى؛ أنَّها حَرَكَةُ إتْباعٍ لِحَرَكَةِ نُونِ ابْنٍ، ولَمْ يُعْتَدَّ بِسُكُونِ باءِ ابْنٍ؛ لِأنَّ السّاكِنَ حاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ، قالُوا: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِالذِّكْرِ هُنا؛ الإقْرارُ، وأنْ يُرادَ بِهِ الإعْلامُ، وفائِدَةُ هَذا الذِّكْرِ إسْماعُ الأُمَمِ ما خَصَّهُ بِهِ تَعالى مِنَ الكَرامَةِ، وتَأْكِيدُ حُجَّتِهِ عَلى جاحِدِهِ. وقِيلَ: أُمِرَ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا لِغَيْرِهِ عَلى مَعْرِفَةِ حَقِّ النِّعْمَةِ، ووُجُوبِ شُكْرِ المُنْعِمِ. قالَ الحَسَنُ: ذِكْرُ النِّعْمَةِ شُكْرُها. والنِّعْمَةُ هُنا جِنْسٌ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ ما عَدَّدَهُ بَعْدَ هَذا التَّوْحِيدِ اللَّفْظِيِّ مِنَ النِّعَمِ، وإضافَتِها إلَيْهِ؛ تَنْبِيهًا عَلى عِظَمِها، ونِعَمُهُ عَلَيْهِ قَدْ عَدَّدَها هُنا، وفي البَقَرَةِ وآلِ عِمْرانَ ومَرْيَمَ، وفي مَواضِعَ مِنَ القُرْآنِ، ونِعْمَتُهُ عَلى أُمِّهِ؛ بَراءَتُها مِمّا نُسِبَ إلَيْها، وتَكْفِيلُها لِزَكَرِيّا، وتَقَبُّلُها بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وما ذُكِرَ في سُورَةِ التَّحْرِيمِ (ومَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرانَ) إلى آخِرِهِ، وغَيْرُ ذَلِكَ. وأُمِرَ بِذِكْرِ نِعْمَةِ أُمِّهِ؛ لِأنَّها نِعْمَةٌ صائِرَةٌ إلَيْهِ.
﴿إذْ أيَّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ قَرَأ (p-٥١)الجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ الياءِ، وقَرَأ مُجاهِدٌ وابْنُ مُحَيْصِنٍ (أيَّدْتُكَ) عَلى (أفْعَلْتُكَ) . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلى وزْنِ فاعَلْتُكَ، ثُمَّ قالَ: ويَظْهَرُ أنَّ الأصْلَ في القِراءَتَيْنِ أيَّدْتُكَ، عَلى وزْنِ أفْعَلْتُكَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الإعْلالُ، والمَعْنى فِيهِما (أيَّدْتُكَ) مِنَ الأيَدِ؛ وقالَ عَبْدُ المُطَّلِبِ:
؎الحَمْدُ لِلَّهِ الأعَزِّ الأكْرَمِ ∗∗∗ أيَّدَنا يَوْمَ زُحُوفِ الأشْرَمِ
انْتَهى. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ أيَّدَ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ، لَيْسَ وزْنُهُ أفْعَلَ؛ لِمَجِيءِ المُضارِعِ عَلى يُؤَيِّدُ، فالوَزْنُ فَعَّلَ، ولَوْ كانَ أفْعَلَ لَكانَ المُضارِعُ يُؤَيِّدُ كَمُضارِعِ آمَنَ يُؤْمِنُ، وأمّا مَن قَرَأ آيَدَ، فَيَحْتاجُ إلى نَقْلِ مُضارِعِهِ مِن كَلامِ العَرَبِ، فَإنْ كانَ يُؤايِدُ، فَهو (فاعَلَ)، وإنْ كانَ (يُؤَيِّدُ)، فَهو (أفْعَلَ) . وأمّا قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: أنَّهُ في القِراءَتَيْنِ، يَظْهَرُ أنَّ وزْنَهُ أفْعَلْتُكَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الإعْلالُ، فَلا أفْهَمُ ما أرادَ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ في قَوْلِهِ ﴿وأيَّدْناهُ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧] .
﴿تُكَلِّمُ النّاسَ في المَهْدِ وكَهْلًا﴾ ﴿وإذْ عَلَّمْتُكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتَّوْراةَ والإنْجِيلَ وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْرًا بِإذْنِي وتُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ بِإذْنِي وإذْ تُخْرِجُ المَوْتى بِإذْنِي﴾ .
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الجُمَلِ والقِراءاتِ الَّتِي فِيها، والإعْرابُ، وما لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ، نَذْكُرُهُ فَنَقُولُ: جاءَ هُناكَ ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ﴾ . وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ فَتَنْفُخُها فَتَكُونُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (فَتَكُونُ) بِالتّاءِ مِن فَوْقٍ. وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ (فِيها فَيَكُونُ)، بِالياءِ مِن تَحْتٍ، والضَّمِيرُ في (فِيها) . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اضْطَرَبَ المُفَسِّرُونَ فِيهِ. قالَ مَكِّيٌّ: هو في آلِ عِمْرانَ عائِدٌ عَلى الطّائِرِ، وفي المائِدَةِ عائِدٌ عَلى الهَيْئَةِ، قالَ: ويَصِحُّ عَكْسُ هَذا. وقالَ غَيْرُهُ: الضَّمِيرُ المَذْكُورُ عائِدٌ عَلى (الطِّينِ) . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولا يَصِحُّ عَوْدُ هَذا الضَّمِيرِ، لا عَلى الطِّينِ، ولا عَلى الهَيْئَةِ؛ لِأنَّ الطَّيْرَ، أوِ الطّائِرَ الَّذِي يَجِيءُ الطَّيْرُ عَلى هَيْئَتِهِ، لا نَفْخَ فِيهِ البَتَّةَ، وكَذَلِكَ لا نَفْخَ في هَيْئَتِهِ الخاصَّةِ بِهِ، وكَذَلِكَ الطِّينُ، إنَّما هو الطِّينُ العامُّ، ولا نَفْخَ في ذَلِكَ انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولا يَرْجِعُ بَعْضُ الضَّمِيرِ إلى الهَيْئَةِ المُضافِ إلَيْها؛ لِأنَّها لَيْسَتْ مِن خَلْقِهِ، ولا نَفْخِهِ في شَيْءٍ، وكَذَلِكَ الضَّمِيرُ في يَكُونُ انْتَهى. والَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلامُ مَكِّيٍّ؛ أنَّهُ لا يُرِيدُ بِهِ ما فُهِمَ عَنْهُ، بَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ عائِدًا (p-٥٢)عَلى الطّائِرِ، لا يُرِيدُ بِهِ الطّائِرَ المُضافَ إلَيْهِ الهَيْئَةُ، بَلِ الطّائِرَ الَّذِي صَوَّرَهُ عِيسى، ويَكُونُ التَّقْدِيرُ، وإذْ يَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ طائِرًا صُورَةً مِثْلَ صُورَةِ الطّائِرِ الحَقِيقِيِّ، فَيَنْفُخُ فِيهِ، فَيَكُونُ طائِرًا حَقِيقَةً، بِإذْنِ اللَّهِ. ويَكُونُ قَوْلُهُ عائِدًا عَلى الهَيْئَةِ، لا يُرِيدُ بِهِ الهَيْئَةَ المُضافَةَ إلى الطّائِرِ، بَلِ الهَيْئَةَ الَّتِي تَكُونُ الكافُ صِفَةً لَها، ويَكُونُ التَّقْدِيرُ؛ وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ هَيْئَةً مِثْلَ هَيْئَةِ الطَّيْرِ، فَتَنْفُخُ فِيها؛ أيْ في الهَيْئَةِ المَوْصُوفَةِ بِالكافِ، المَنسُوبِ خَلْقِها إلى عِيسى. وأمّا قَوْلُ مَكِّيٍّ، ويَصِحُّ عَكْسُ هَذا؛ وهو أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ المُذَكَّرُ عائِدًا عَلى الهَيْئَةِ، والضَّمِيرُ المُؤَنَّثُ عائِدًا عَلى الطّائِرِ، فَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلى أنَّهُ ذُكِّرَ الضَّمِيرُ، وإنْ كانَ عائِدًا عَلى مُؤَنَّثٍ؛ لِأنَّهُ لُحِظَ فِيها مَعْنى الشَّكْلِ، كَأنَّهُ قَدَّرَ هَيْئَةً كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِقَوْلِهِ شَكْلًا كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. وأنَّهُ أنَّثَ الضَّمِيرَ، وإنْ كانَ عائِدًا عَلى مُذَكَّرٍ؛ لِأنَّهُ لُحِظَ فِيهِ مَعْنى الهَيْئَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والوَجْهُ عَوْدُ ضَمِيرِ المُؤَنَّثِ عَلى ما تَقْتَضِيهِ الآيَةُ ضَرُورَةً؛ أيْ صُوَرًا، أوْ أشْكالًا، أوْ أجْسامًا، وعَوْدُ الضَّمِيرِ المُذَكَّرِ عَلى المَخْلُوقِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ (تَخْلُقُ)، ثُمَّ قالَ: ولَكَ أنْ تُعِيدَهُ عَلى ما تَدُلُّ عَلَيْهِ الكافُ في مَعْنى المِثْلِ؛ لِأنَّ المَعْنى وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ مِثْلَ هَيْئَةٍ، ولَكَ أنْ تُعِيدَ الضَّمِيرَ عَلى الكافِ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ اسْمًا في غَيْرِ الشِّعْرِ، فَهو قَوْلُ أبِي الحَسَنِ وحْدَهُ مِنَ البَصْرِيِّينَ، وكَذا قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّ الضَّمِيرَ في فِيها، لِلْكافِ، قالَ: لِأنَّها صِفَةُ الهَيْئَةِ الَّتِي كانَ يَخْلُقُها عِيسى، ويَنْفُخُ فِيها. وجاءَ في آلِ عِمْرانَ ﴿بِإذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٤٩] مَرَّتَيْنِ، وجاءَ هُنا (بِإذْنِي) أرْبَعَ مَرّاتٍ عَقِيبَ أرْبَعِ جُمَلٍ؛ لِأنَّ هَذا مَوْضِعُ ذِكْرِ النِّعْمَةِ والِامْتِنانِ بِها، فَناسَبَ الإسْهابَ، وهُناكَ مَوْضِعُ إخْبارٍ لِبَنِي إسْرائِيلَ، فَناسَبَ الإيجازَ. والتَّقْدِيرُ في وإذْ تُخْرِجُ المَوْتى؛ تُحْيِي المَوْتى، فَعَبَّرَ بِالإخْراجِ عَنِ الإحْياءِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ الخُرُوجُ﴾ [ق: ١١] بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿وأحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ [ق: ١١]، أوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ؛ وإذْ تُخْرِجُ المَوْتى مِن قُبُورِهِمْ أحْياءً.
﴿وإذْ كَفَفْتُ بَنِي إسْرائِيلَ عَنْكَ إذْ جِئْتَهم بِالبَيِّناتِ﴾ أيْ مَنَعْتُهم مِن قَتْلِكَ حِينَ هَمُّوا بِكَ، وأحاطُوا بِالبَيْتِ الَّذِي أنْتَ فِيهِ. وقالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: لَمّا قالَ اللَّهُ لِعِيسى: ﴿اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ﴾ كانَ يَلْبَسُ الشَّعْرَ، ويَأْكُلُ الشَّجَرَ، ولا يُؤَخِّرُ شَيْئًا لِغَدْوٍ، يَقُولُ مَعَ كُلِّ يَوْمٍ رِزْقُهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ فَيُخَرَّبَ، ولا ولَدٌ فَيَمُوتَ، أيْنَ ما أمْسى باتَ. وهَذا القَوْلُ يَظْهَرُ مِنهُ أنَّ عِيسى خُوطِبَ بِذَلِكَ قَبْلَ الرَّفْعِ. والبَيِّناتُ هُنا؛ هي المُعْجِزاتُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُها، وظَهَرَتْ عَلى يَدَيْهِ، ولَمّا فَصَّلَ تَعالى نِعْمَتَهُ ذَكَرَ ذَلِكَ مَنسُوبًا لِعِيسى دُونَ أُمِّهِ؛ لِأنَّ مِن هَذِهِ النِّعَمِ نِعْمَةَ النُّبُوَّةِ، وظُهُورَ هَذِهِ الخَوارِقِ، فَنِعْمَتُهُ عَلَيْهِ أعْظَمُ مِنها عَلى أُمِّهِ، إذْ ولَدَتْ مِثْلَ هَذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ؛ وقالَ الشّاعِرُ فِيما يُشْبِهُ هَذا:
؎شَهِدَ العَوالِمُ أنَّها لَنَفِيسَةٌ ∗∗∗ بِدَلِيلِ ما ولَدَتْ مِنَ النُّجَباءِ
﴿فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهم إنْ هَذا إلّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ (ساحِرٌ) بِالألِفِ هُنا. وفي هُودٍ والصَّفِّ، فَهَذا هُنا إشارَةٌ إلى عِيسى. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ (سِحْرٌ)، فَهَذا إشارَةٌ إلى ما جاءَ بِهِ عِيسى مِنَ البَيِّناتِ.
﴿وإذْ أوْحَيْتُ إلى الحَوارِيِّينَ أنْ آمِنُوا بِي وبِرَسُولِي﴾ أيْ أوْحَيْتُ إلَيْهِمْ عَلى ألْسِنَةِ الرُّسُلِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إمّا أنْ يَكُونَ وحْيَ إلْهامٍ، أوْ وحْيَ أمْرٍ. والرَّسُولُ هُنا؛ هو عِيسى، وهَذا الإيحاءُ إلى الحَوارِيِّينَ؛ هو مِن نِعَمِ اللَّهِ عَلى عِيسى بِأنْ جَعَلَ لَهُ أتْباعًا يُصَدِّقُونَهُ، ويَعْمَلُونَ بِما جاءَ بِهِ. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً؛ لِأنَّهُ تَقَدَّمَها جُمْلَةٌ في مَعْنى القَوْلِ، وأنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً.
﴿قالُوا آمَنّا واشْهَدْ بِأنَّنا مُسْلِمُونَ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ في آلِ عِمْرانَ، إلّا أنَّ هُناكَ (آمَنّا بِاللَّهِ) لِأنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَّهِ فَقَطْ في قَوْلِهِ: ﴿مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ قالَ الحَوارِيُّونَ نَحْنُ أنْصارُ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٥٢]، وهُنا جاءَ (قالُوا آمَنّا) فَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِلَفْظِ الجَلالَةِ، إذْ قَدْ تَقَدَّمَ (p-٥٣)أنْ آمَنُوا بِي وبِرَسُولِي، وجاءَ هُناكَ ﴿واشْهَدْ بِأنّا﴾ [آل عمران: ٥٢]، وهُنا ﴿واشْهَدْ بِأنَّنا﴾ . وهَذا هو الأصْلُ، إذْ (أنَّ) مَحْذُوفٌ مِنهُ النُّونُ؛ لِاجْتِماعِ الأمْثالِ.
﴿إذْ قالَ الحَوارِيُّونَ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿إذْ قالَ الحَوارِيُّونَ﴾ اعْتِراضٌ لِما وصَفَ حالَ قَوْمِ اللَّهِ لِعِيسى يَوْمَ القِيامَةِ، وتَضَمَّنَ الِاعْتِراضُ إخْبارَ مُحَمَّدٍ وأُمَّتِهِ بِنازِلَةِ الحَوارِيِّينَ في المائِدَةِ، إذْ هي مِثالٌ نافِعٌ لِكُلِّ أُمَّةٍ مَعَ نَبِيِّها انْتَهى. والَّذِي يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ اللَّفْظِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إذْ قالَ اللَّهُ ياعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ﴾ إلى آخِرِ قِصَّةِ المائِدَةِ، كانَ ذَلِكَ في الدُّنْيا ذَكَّرَ عِيسى بِنِعَمِهِ، وبِما أجْراهُ عَلى يَدَيْهِ مِنَ المُعْجِزاتِ، وبِاخْتِلافِ بَنِي إسْرائِيلَ عَلَيْهِ، وانْقِسامِهِمْ إلى كافِرٍ ومُؤْمِنٍ، وهُمُ الحَوارِيُّونَ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إلى قِصَّةِ المائِدَةِ، ثُمَّ إلى سُؤالِهِ تَعالى لِعِيسى ﴿أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦]، وإنَّما حَمَلَ بَعْضُهم عَلى أنَّ ذَلِكَ في الآخِرَةِ كَوْنُهُ اعْتَقَدَ أنَّ (إذْ) بَدَلٌ مِن ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ﴾ [المائدة: ١٠٩]، وأنَّ في آخِرِ الآياتِ ﴿هَذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ﴾ [المائدة: ١١٩] . ولا يَتَعَيَّنُ هَذا المَحْمَلُ عَلى ما نُبَيِّنُهُ، إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، في قَوْلِهِ: ﴿هَذا يَوْمُ يَنْفَعُ﴾ [المائدة: ١١٩]، بَلِ الظّاهِرُ ما ذَكَرْناهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾، بِالياءِ وضَمِّ الباءِ. وهَذا اللَّفْظُ يَقْتَضِي ظاهِرُهُ الشَّكَّ في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، عَلى أنْ يُنْزِلَ مائِدَةً مِنَ السَّماءِ، وذَلِكَ هو الَّذِي حَمَلَ الزَّمَخْشَرِيَّ عَلى أنَّ الحَوارِيِّينَ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، قالَ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ قالُوا هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ بَعْدَ إيمانِهِمْ وإخْلاصِهِمْ ؟ قُلْتُ: ما وصَفَهُمُ اللَّهُ بِالإيمانِ والإخْلاصِ، وإنَّما حَكى ادِّعاءَهم لَهُما، ثُمَّ أتْبَعَهُ قَوْلَهُ: (إذْ قالُوا) فَآذَنَ أنَّ دَعْواهم كانَتْ باطِلَةً، وأنَّهم كانُوا شاكِّينَ. وقَوْلُهُ: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾ كَلامٌ لا يَرِدُ مِثْلُهُ عَنْ مُؤْمِنِينَ مُعَظِّمِينَ لِرَبِّهِمْ، ولِذَلِكَ قَوْلُ عِيسى لَهم مَعْناهُ؛ اتَّقُوا اللَّهَ، ولا تَشُكُّوا في اقْتِدارِهِ واسْتِطاعَتِهِ، ولا تَقْتَرِحُوا عَلَيْهِ، ولا تُحَكِّمُوا ما تَشْتَهُونَ مِنَ الآياتِ، فَتَهْلِكُوا إذا عَصَيْتُمُوهُ بَعْدَها.
﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إنْ كانَتْ دَعْواكم لِلْإيمانِ صَحِيحَةً انْتَهى. وأمّا غَيْرُ الزَّمَخْشَرِيِّ مِن أهْلِ التَّفْسِيرِ، فَأطْبَقُوا عَلى أنَّ الحَوارِيِّينَ كانُوا مُؤْمِنِينَ حَتّى قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لا خِلافَ أحْفَظُهُ في أنَّ الحَوارِيِّينَ كانُوا مُؤْمِنِينَ. وقالَ قَوْمٌ: قالَ الحَوارِيُّونَ هَذِهِ المَقالَةَ في صَدْرِ الأمْرِ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِأنَّهُ يُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ، ويُحْيِي المَوْتى. قالَ المُفَسِّرُونَ: والحَوارِيُّونَ هم خَواصُّ عِيسى، وكانُوا مُؤْمِنِينَ، ولَمْ يَشُكُّوا في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى ذَلِكَ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: لا يَجُوزُ لِأحَدٍ أنْ يَتَوَهَّمَ أنَّ الحَوارِيِّينَ شَكُّوا في قُدْرَةِ اللَّهِ، وإنَّما هَذا كَما يَقُولُ الإنْسانُ لِصاحِبِهِ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَقُومَ مَعِي ؟ وهو يَعْلَمُ أنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لَهُ، ولَكِنَّهُ يُرِيدُ هَلْ يَسْهُلُ عَلَيْكَ انْتَهى. وقالَ الفارِسِيُّ: مَعْناهُ هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَسْألَتِكَ إيّاهُ. وقالَ الحَسَنُ: لَمْ يَشُكُّوا في قُدْرَةِ اللَّهِ، وإنَّما سَألُوهُ سُؤالَ مُسْتَخْبِرٍ، هَلْ يُنَزِّلُ أمْ لا ؟ فَإنْ كانَ يُنَزِّلُ فاسْألْهُ لَنا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَلْ يَفْعَلُ تَعالى هَذا ؟ وهَلْ يَقَعُ مِنهُ إجابَةٌ إلَيْهِ ؟ كَما قالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُرِيَنِيَ كَيْفَ كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، يَتَوَضَّأُ ؟ فالمَعْنى هَلْ يُحِبُّ ذَلِكَ، وهَلْ يَفْعَلُهُ انْتَهى. وقِيلَ: المُرادُ مِن هَذا الكَلامِ اسْتِفْهامُ أنَّ ذَلِكَ جائِزٌ، أمْ لا ؟ وذَلِكَ لِأنَّ أفْعالَهُ مَوْقُوفَةٌ عَلى وُجُوهِ الحِكْمَةِ، فَإنْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ مِن وُجُوهِ الحِكْمَةِ، كانَ الفِعْلُ مُمْتَنِعًا، فَإنَّ المُنافِيَ مِن وُجُوهِ الحِكْمَةِ، كالمُنافِي مِن وُجُوهِ القُدْرَةِ. قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: هَذا الجَوابُ يَمْشِي عَلى قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ، وأمّا عَلى مَذْهَبِنا، فَهو مَحْمُولٌ عَلى أنَّهُ تَعالى، هَلْ قَضى بِذَلِكَ ؟ وهَلْ عَلِمَ وُقُوعَهُ ؟ فَإنَّهُ إنْ لَمْ يَقْضِ بِهِ ويَعْلَمْ وُقُوعَهُ، كانَ ذَلِكَ مُحالًا غَيْرَ مَقْدُورٍ؛ لِأنَّ خِلافَ (p-٥٤)المَعْلُومِ غَيْرُ مَقْدُورٍ، وقالَ أيْضًا لَيْسَ المَقْصُودُ مِن هَذا الكَلامِ كَوْنَهم شاكِّينَ فِيهِ، بَلِ المَقْصُودُ تَقْرِيرُ أنَّ ذَلِكَ في غايَةِ الظُّهُورِ، كَمَن يَأْخُذُ بِيَدِ ضَعِيفٍ، ويَقُولُ: هَلْ يَقْدِرُ السُّلْطانُ عَلى إشْباعِ هَذا ؟ ويَكُونُ غَرَضُهُ مِنهُ أنَّ ذَلِكَ أمْرٌ واضِحٌ، لا يَجُوزُ لِلْعاقِلِ أنْ يَشُكَّ فِيهِ، وأبْعَدَ مَن قالَ: هَلْ يُنَزِّلُ رَبُّكَ مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ؟ (ويَسْتَطِيعُ) صِلَةٌ، ومَن قالَ: الرَّبُّ هَنا جِبْرِيلُ؛ لِأنَّهُ كانَ يُرَبِّي عِيسى، ويَخُصُّهُ بِأنْواعِ الإعانَةِ، ولِذَلِكَ قالَ في أوَّلِ الآيَةِ ﴿إذْ أيَّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ . ورُوِيَ أنَّ الَّذِي نَحا بِهِمْ هَذا المَنحى مِنَ الِاقْتِراحِ؛ هو أنَّ عِيسى قالَ لَهم مَرَّةً: هَلْ لَكم في صِيامِ ثَلاثِينَ يَوْمًا لِلَّهِ تَعالى، ثُمَّ إنْ سَألْتُمُوهُ حاجَةً، قَضاها، فَلَمّا صامُوها، قالُوا: يا مُعَلِّمَ الخَيْرِ ! إنَّ حَقَّ مَن عَمِلَ عَمَلًا أنْ يُطْعَمَ، فَهَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ؟ فَأرادُوا أنْ تَكُونَ المائِدَةُ عِيدَ ذَلِكَ الصَّوْمِ. وقَرَأ الكِسائِيُّ (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ)، بِالتّاءِ مِن فَوْقُ (رَبَّكَ) بِنَصْبِ الباءِ، وهي قِراءَةُ عَلِيٍّ ومُعاذٍ وابْنِ عَبّاسٍ وعائِشَةَ وابْنِ جُبَيْرٍ. قالَتْ عائِشَةُ: كانَ الحَوارِيُّونَ أعْرَفَ بِاللَّهِ مِن أنْ يَقُولُوا ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾ نَزَّهَتْهم عَنْ بَشاعَةِ اللَّفْظِ، وعَنْ مُرادِهِمْ ظاهِرَهُ. وقَدْ ذَكَرْنا تَأْوِيلاتِ ذَلِكَ، ومَعْنى هَذِهِ القِراءَةِ؛ هَلْ تَسْتَطِيعُ سُؤالَ رَبِّكَ ؟ و﴿أنْ يُنَزِّلَ﴾ مَعْمُولٌ لِسُؤالٍ المَحْذُوفِ إذْ هو حَذْفٌ لا يَتِمُّ المَعْنى إلّا بِهِ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: وقَدْ يُمْكِنُ أنْ يُسْتَغْنى عَنْ تَقْدِيرِ سُؤالٍ، عَلى أنْ يَكُونَ المَعْنى؛ هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ يُنَزِّلَ رَبُّكَ بِدُعائِكَ ؟ فَيَئُولُ المَعْنى، ولا بُدَّ إلى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ما ذُكِرَ مِنَ اللَّفْظِ انْتَهى. ولا يَظْهَرُ ما قالَ أبُو عَلِيٍّ؛ لِأنَّ فِعْلَ اللَّهِ تَعالى، وإنْ كانَ سَبَبُهُ الدُّعاءَ، لا يَكُونُ مَقْدُورًا لِعِيسى. وأدْغَمَ الكِسائِيُّ لامَ (هَلْ) في ياءِ (يَسْتَطِيعُ) وعَلى هَذِهِ القِراءَةِ يَكُونُ قَوْلُ عِيسى ﴿اتَّقُوا اللَّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمُ الِاقْتِراحَ لِلْآياتِ، وهو عَلى كِلْتا القِراءَتَيْنِ يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ تَقْرِيرًا لِلْإيمانِ، كَما تَقُولُ افْعَلْ كَذا، وكَذا إنْ كُنْتَ رَجُلًا. وقالَ مُقاتِلٌ وجَماعَةٌ: اتَّقُوهُ أنْ تَسْألُوهُ البَلاءَ؛ لِأنَّها إنْ نَزَلَتْ، وكَذَّبْتُمْ عُذِّبْتُمْ. وقالَ أبُو عُبَيْدٍ وجَماعَةٌ: أنْ تَسْألُوهُ ما لَمْ تَسْألْهُ الأُمَمُ قَبْلَكم. وقِيلَ: أنْ تَشُكُّوا في قُدْرَتِهِ عَلى إنْزالِ المائِدَةِ. وقِيلَ: اتَّقُوا اللَّهَ في الشَّكِّ فِيهِ، وفي رُسُلِهِ وآياتِهِمْ. وقِيلَ: اتَّقُوا مَعاصِيَ اللَّهِ. وقِيلَ: أمَرَهم بِالتَّقْوى لِيَكُونَ سَبَبًا لِحُصُولِ هَذا المَطْلُوبِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: ٢] . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنا (عِيسى) في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى اتْباعِ حَرَكَتِهِ حَرَكَةَ الِابْنِ، كَقَوْلِكَ يا زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو ! وهي اللُّغَةُ الفاشِيَةُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَضْمُومًا، كَقَوْلِكَ يا زَيْدُ بْنَ عَمْرٍو ! والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أحارُ ابْنَ عُمَرَ كَأنِّي خَمْرٌ لِأنَّ التَّرْخِيمَ لا يَكُونُ إلّا في المَضْمُومِ انْتَهى. فَقَوْلُهُ: عِيسى في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ، وعَلى تَقْدِيرِ ضَمِّهِ، فَهو لا اخْتِصاصَ لَهُ بِكَوْنِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى تَقْدِيرِ الإتْباعِ، فَإصْلاحُهُ عِيسى مُقَدَّرٌ فِيهِ الفَتْحَةُ عَلى إتْباعِ الحَرَكَةِ، وقَوْلُهُ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَضْمُومًا؛ هَذا مَذْهَبُ الفَرّاءِ، وهو تَقْدِيرُ الفَتْحِ والضَّمِّ، ونَحْوُهُ مِمّا لا تَظْهَرُ فِيهِ الضَّمَّةُ قِياسًا عَلى الصَّحِيحِ، ولَمْ يَبْدَأْ أوَّلًا بِالضَّمِّ الَّذِي هو مُجْمَعٌ عَلى تَقْدِيرِهِ: فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، ألا تُرى إلى جَوازِ تَرْخِيمِ رَجُلٍ اسْمُهُ مُثَنًّى ؟ فَتَقُولُ: يا مُثَنُّ أقْبِلْ، وإلى تَرْخِيمِ بَعْلَبَكَّ، وهو مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، لَكِنَّهُ في تَقْدِيرِ الِاسْمِ المَضْمُومِ، وإنْ عَنى ضَمَّةً مُقَدَّرَةً، فَإنْ عَنى ضَمَّةً ظاهِرَةً، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، ألا تَرى إلى جَوازِ تَرْخِيمِ رَجُلٍ اسْمُهُ مُثَنًّى ؟ فَتَقُولُ: يا مُثَنُّ، فَإنَّ مِثْلَ يا جَعْفَرَ بْنَ زَيْدٍ مِمّا فُتِحَ فِيهِ آخِرُ المُنادى لِأجْلِ الإتْباعِ، مُقَدَّرٌ فِيهِ الضَّمَّةُ لِشَغْلِ الحَرْفِ بِحَرَكَةِ الإتْباعِ، كَما قَدَّرَ الأعْرابِيُّ في قِراءَةِ مَن قَرَأ (الحَمْدِ لِلَّهِ)، بِكَسْرِ الدّالِ، لِأجْلِ إتْباعِ حَرَكَةِ (لِلَّهِ)، فَقَوْلُكَ: يا حارُ ! هو (p-٥٥)مَضْمُومٌ تَقْدِيرًا، وإنْ كانَتِ الثّاءُ المَحْذُوفَةُ مَشْغُولَةً في الأصْلِ بِحَرَكَةِ الإتْباعِ، وهي الفَتْحَةُ، فَلا تَنافِي بَيْنَ التَّرْخِيمِ، وبَيْنَ ما فُتِحَ إتْباعًا، وقُدِّرَتْ فِيهِ الضَّمَّةُ. وكانَ يَنْبَغِي لِلزَّمَخْشَرِيِّ أنْ يَتَكَلَّمَ عَلى هَذِهِ المَسْألَةِ قَبْلَ هَذا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذْ قالَ اللَّهُ ياعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ﴾ حَيْثُ تَكَلَّمَ النّاسُ عَلَيْها.
﴿قالُوا نُرِيدُ أنْ نَأْكُلَ مِنها وتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ونَعْلَمَ أنْ قَدْ صَدَقْتَنا ونَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشّاهِدِينَ﴾ لَمّا أمَرَهم عِيسى بِتَقْوى اللَّهِ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ ما تَقَدَّمَ مِن كَلامِهِمْ، صَرَّحُوا بِسَبَبِ طَلَبِ المائِدَةِ، وأنَّهم يُرِيدُونَ الأكْلَ مِنها، وذَلِكَ لِلشَّرَفِ لا لِلشِّبَعِ، واطْمِئْنانِ قُلُوبِهِمْ بِسُكُونِ الفِكْرِ، إذا عايَنُوا هَذا المُعْجِزَ العَظِيمَ النّازِلَ مِنَ السَّماءِ، وعُلِمَ الضَّرُورَةُ والمُشاهِدَةُ بِصِدْقِهِ، فَلا تَعْتَرِضُ الشُّبَهُ اللّاحِقَةُ في عِلْمِ الِاسْتِدْلالِ وكَيْنُونَتِهِمْ مِنَ المُشاهِدِينَ بِهَذِهِ الآيَةِ، النّاقِلِينَ لَها إلى غَيْرِهِمْ، القائِمِينَ بِهَذا الشَّرْعِ، أوْ مِنَ الشّاهِدِينَ لِلَّهِ بِالوَحْدانِيَّةِ ولَكَ بِالنُّبُوَّةِ، وقَدْ طَوَّلَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ في تَفْسِيرِ مُتَعَلِّقِ إرادَتِهِمْ بِهَذِهِ الأشْياءِ، ومُلَخَّصُها أنَّهم أرادُوا الأكْلَ لِلْحاجَةِ وشِدَّةِ الجُوعِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: وكانَ إذا خَرَجَ اتَّبَعَهُ خَمْسَةُ آلافٍ أوْ أكْثَرُ مِن صاحِبٍ لَهُ، وذِي عِلَّةٍ يَطْلُبُ البُرْءَ، ومُسْتَهْزِئٍ فَوَقَعُوا يَوْمًا في مَفازَةٍ ولا زادَ، فَجاعُوا وسَألُوا مِنَ الحَوارِيِّينَ أنْ يَسْألُوا عِيسى نُزُولَ مائِدَةٍ مِنَ السَّماءِ، فَذَكَرَ شَمْعُونُ لِعِيسى ذَلِكَ، فَقالَ: قُلْ لَهُمُ اتَّقُوا اللَّهَ، وأرادُوا الأكْلَ لِيَزْدادُوا إيمانًا. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: أوِ التَّشْرِيفَ بِالمائِدَةِ ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ والِاطْمِئْنانُ: إمّا بِأنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَكَ إلَيْنا، أوِ اخْتارَنا أعْوانًا لَكَ، أوْ قَدْ أجابَكَ، أوِ العِلْمُ بِالصِّدْقِ في أنّا إذا صُمْنا لِلَّهِ تَعالى ثَلاثِينَ يَوْمًا. لَمْ نَسْألِ اللَّهَ شَيْئًا إلّا أعْطانا، أوْ في أنَّكَ رَسُولٌ حَقًّا، إذِ المُعْجِزُ دَلِيلُ الصِّدْقِ، وكانُوا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَرَوُا الآياتِ، أوْ يُرادُ بِالعِلْمِ الضَّرُورِيُّ والمُشاهِدَةُ انْتَهى. وأتَتْ هَذِهِ المَعاطِيفُ مُرَتَّبَةً تَرْتِيبًا لَطِيفًا، وذَلِكَ أنَّهم لا يَأْكُلُونَ مِنها إلّا بَعْدَ مُعايَنَةِ نُزُولِها، فَيَجْتَمِعُ عَلى العِلْمِ بِها حاسَّةُ الرُّؤْيَةِ، وحاسَّةُ الذَّوْقِ، فَبِذَلِكَ يَزُولُ عَنِ القَلْبِ قَلَقُ الِاضْطِرابِ، ويَسْكُنُ إلى ما عايَنَهُ الإنْسانُ وذاقَهُ، وبِاطْمِئْنانِ القَلْبِ يَحْصُلُ العِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِصِدْقِ مَن كانَتِ المُعْجِزَةُ عَلى يَدَيْهِ، إذْ جاءَتْ طِبْقَ ما سَألَ، وسَألُوا هَذا المُعْجِزَ العَظِيمَ؛ لِأنَّ تَأْثِيرَهُ في العالَمِ العُلْوِيِّ بِدُعاءِ مَن هو في العالَمِ الأرْضِيِّ، أقْوى وأغْرَبُ مِن تَأْثِيرِ مَن هو في العالَمِ الأرْضِيِّ في عالَمِهِ الأرْضِيِّ، ألا تَرى أنَّ مِن أعْظَمِ مُعْجِزاتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ القُرْآنَ، وانْشِقاقَ القَمَرِ، وهُما مِنَ العالَمِ العُلْوِيِّ. وإذا حَصَلَ عِنْدَهُمُ العِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِصِدْقِ عِيسى، شَهِدُوا شَهادَةَ يَقِينٍ لا يَخْتَلِجُ بِها ظَنٌّ ولا شَكٌّ، ولا وهْمٌ وبِذِكْرِهِمْ هَذِهِ الأسْبابَ الحامِلَةَ عَلى طَلَبِ المائِدَةِ، يَتَرَجَّحُ قَوْلُ مَن قالَ: كانَ سُؤالُهم ذَلِكَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِآياتِ عِيسى ومُعْجِزاتِهِ وإنَّ وحْيَ اللَّهِ إلَيْهِمْ بِالإيمانِ، كانَ في صَدْرِ الأمْرِ، وعِنْدَ ذَلِكَ قالُوا هَذِهِ المَقالَةَ، ثُمَّ آمَنُوا ورَأوُا الآياتِ، واسْتَمَرُّوا، وصَبَرُوا. وقَرَأ ابْنُ جُبَيْرٍ: (ونُعْلَمَ) بِضَمِّ النُّونِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وهَكَذا في كِتابِ التَّحْرِيرِ والتَّحْبِيرِ، وفي كِتابِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ (ويُعْلَمَ) بِالياءِ المَضْمُومَةِ، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى القُلُوبِ، وفي كِتابِ الزَّمَخْشَرِيِّ ويُعْلَمَ بِالياءِ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ. وقَرَأ الأعْمَشُ (وتَعْلَمَ) بِالتّاءِ؛ أيْ وتَعْلَمُهُ قُلُوبُنا. وقَرَأ الجُمْهُورُ (ونَكُونَ) بِالنُّونِ، وفي كِتابِ التَّحْرِيرِ والتَّحْبِيرِ. وقَرَأ سِنانٌ وعِيسى (وتَكُونَ عَلَيْها) بِالتّاءِ، وفي الزَّمَخْشَرِيِّ؛ وكانَتْ دَعْواهم لِإرادَةِ ما ذَكَرُوا، كَدَعْواهم لِلْإيمانِ والإخْلاصِ، وإنَّما سَألَ عِيسى، وأُجِيبَ لِيَلْزَمُوا الحُجَّةَ بِكَمالِها، ويُرْسَلَ عَلَيْهِمُ العَذابُ، إذا خالَفُوا انْتَهى. وإنَّما قالَ ذَلِكَ لِأنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ الحَوارِيُّونَ مُؤْمِنِينَ، وإذا ولِيَ (أنْ) المُخَفِّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ فِعْلٌ مُتَصَرِّفٌ عَنْ دُعاءٍ، فَإنْ كانَ ماضِيًا، فُصِلَ بَيْنَهُما بِـ (قَدْ)، نَحْوَ قَوْلِهِ: ونَعْلَمَ أنْ قَدْ صَدَقْتَنا، وإنْ كانَ مُضارِعًا، فُصِلَ بَيْنَهُما بِحَرْفِ تَنْفِيسٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ مِنكم مَرْضى﴾ [المزمل: ٢٠] ولا (p-٥٦)يَقَعُ بِغَيْرِ فَصْلٍ، قِيلَ: إلّا قَلِيلًا. وقِيلَ: إلّا ضَرُورَةً، وفِيما تَتَعَلَّقُ بِهِ (عَلَيْها) الَّتِي تَقَدَّمَتْ في نَحْوِ ﴿إنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: ٢١] . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عاكِفِينَ عَلَيْها عَلى أنَّ (عَلَيْها) في مَوْضِعِ الحالِ انْتَهى. وهَذا التَّقْدِيرُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأنَّ حَرْفَ الجَرِّ لا يُحْذَفُ عامِلُهُ وُجُوبًا، إلّا إذا كانَ كَوْنًا مُطْلَقًا لا كَوْنًا مُقَيَّدًا، والعُكُوفُ كَوْنٌ مُقَيَّدٌ؛ ولِأنَّ المَجْرُورَ إذا كانَ في مَوْضِعِ الحالِ، كانَ العامِلُ فِيها (عاكِفِينَ) المُقَدَّرَ، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، ثُمَّ إنَّ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ مُضْطَرِبٌ؛ لِأنَّ عَلَيْها إذا كانَ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ هو عاكِفِينَ، كانَتْ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى المَفْعُولِ الَّذِي تَعَدّى إلَيْهِ العامِلُ بِحَرْفِ الجَرِّ، وإذا كانَتْ في مَوْضِعِ الحالِ، كانَ العامِلُ فِيها كَوْنًا مُطْلَقًا واجِبَ الحَذْفِ، فَظَهَرَ التَّنافِي بَيْنَهُما.
﴿قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيدًا لِأوَّلِنا وآخِرِنا وآيَةً مِنكَ وارْزُقْنا وأنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ . رُوِيَ أنَّ عِيسى لَبِسَ جُبَّةَ شَعْرٍ ورِداءَ شَعْرِ، وقامَ يُصَلِّي ويَبْكِي ويَدْعُو. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى لَفْظَةِ (اللَّهُمَّ) في آلِ عِمْرانَ، ونادى رَبَّهُ أوَّلًا بِالعِلْمِ الَّذِي لا شَرِكَةَ فِيهِ، ثُمَّ ثانِيًا بِلَفْظِ (رَبَّنا) مُطابِقًا إلى مُصْلِحِنا ومُرَبِّينا ومالِكِنا. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿تَكُونُ لَنا﴾ عَلى أنَّ الجُمْلَةَ صِفَةٌ لِمائِدَةٍ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ والأعْمَشُ (يَكُنْ) بِالجَزْمِ عَلى جَوابِ الأمْرِ، والمَعْنى يَكُنْ يَوْمُ نُزُولِها عِيدًا، وهو يَوْمُ الأحَدِ، ومِن أجْلِ ذَلِكَ اتَّخَذَهُ النَّصارى عِيدًا. وقِيلَ العِيدُ: السُّرُورُ والفَرَحُ، ولِذَلِكَ يُقالُ يَوْمُ عِيدٍ، فالمَعْنى يَكُونُ لَنا سُرُورًا وفَرَحًا، والعِيدُ المُجْتَمَعُ لِلْيَوْمِ المَشْهُودِ، وعُرْفُهُ أنْ يُقالَ فِيما يَسْتَدِيرُ بِالسَّنَةِ أوْ بِالشَّهْرِ أوْ بِالجُمْعَةِ ونَحْوِهِ. وقِيلَ: العِيدُ لُغَةً ما عادَ إلَيْكَ مِن شَيْءٍ في وقْتٍ مَعْلُومٍ، سَواءٌ كانَ فَرَحًا أوْ تَرَحًا، وغَلَبَتِ الحَقِيقَةُ العُرْفِيَّةُ عَلى الحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ. وقالَ الخَلِيلُ: العِيدُ كُلُّ يَوْمٍ يَجْمَعُ النّاسَ؛ لِأنَّهم عادُوا إلَيْهِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لِأوَّلِنا لِأهْلِ زَمانِنا، وآخِرِنا مَن يَجِيءُ بَعْدَنا. وقِيلَ لِأوَّلِنا المُتَقَدِّمِينَ مِنّا والرُّؤَساءِ، وآخِرِنا يَعْنِي الأتْباعَ. والأوَّلِيَّةُ والآخِرِيَّةُ فاحْتَمَلَتا الأكْلَ والزَّمانَ والرُّتْبَةَ، والظّاهِرُ الزَّمانُ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ وابْنُ مُحَيْصِنٍ والجَحْدَرِيُّ لِأُولانا وأُخْرانا، أنَّثُوا عَلى مَعْنى الأُمَّةِ والجَماعَةِ، والمَجْرُورُ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ لَنا، وكُرِّرَ العامِلُ وهو حَرْفُ الجَرِّ، كَقَوْلِهِ ﴿مِنها مِن غَمٍّ﴾ [الحج: ٢٢] والبَدَلُ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ والمُخاطَبِ، إذا كانَ بَدَلَ بَعْضٍ، أوْ بَدَلَ اشْتِمالٍ، جازَ بِلا خِلافٍ، وإنْ كانَ بَدَلَ شَيْءٍ مِن شَيْءٍ، وهُما لِعَيْنٍ واحِدَةٍ، فَإنْ أفادَ مَعْنى التَّأْكِيدِ جازَ لِهَذا البَدَلِ، إذِ المَعْنى تَكُونُ لَنا عِيدًا كُلِّنا، كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِكم أكابِرِكم وأصاغِرِكُمْ؛ لِأنَّ مَعْنى ذَلِكَ؛ مَرَرْتُ بِكم كُلِّكم، وإنْ لَمْ تُفْدِ تَوْكِيدًا، فَمَسْألَةُ خِلافٍ الأخْفَشُ يُجِيزُ، وغَيْرُهُ مِنَ البَصْرِيِّينَ يَمْنَعُ، ومَعْنى ﴿وآيَةً مِنكَ﴾ عَلامَةٌ شاهِدَةٌ عَلى صِدْقِ عَبْدِكَ. وقِيلَ حُجَّةٌ، ودَلالَةٌ عَلى كَمالِ قُدْرَتِكَ. وقَرَأ اليَمانِيُّ (وأنَّهُ مِنكَ)، والضَّمِيرُ في (وأنَّهُ) إمّا لِلْعِيدِ، أوِ الإنْزالِ. (وارْزُقْنا) قِيلَ: المائِدَةَ، وقِيلَ: الشُّكْرَ لِنِعْمَتِكَ ﴿وأنْتَ خَيرُ الرّازِقِينَ﴾ لِأنَّكَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ تَبْتَدِئُ بِالرِّزْقِ. قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: تَأمَّلْ هَذا التَّرْتِيبَ، فَإنَّ الحَوارِيِّينَ لَمّا سَألُوا المائِدَةَ، ذَكَرُوا في طَلَبِها أغْراضًا، فَقَدَّمُوا ذِكْرَ الأكْلِ، وأخَّرُوا الأغْراضَ الدِّينِيَّةَ الرُّوحانِيَّةَ، وعِيسى طَلَبَ المائِدَةَ، وذَكَرَ أغْراضَهُ، فَقَدَّمَ الدِّينِيَّةَ، وأخَّرَ أغْراضَ الأكْلِ، حَيْثُ قالَ: (وارْزُقْنا) وعِنْدَ هَذا يَلُوحُ لَكَ مَراتِبُ دَرَجاتِ الأرْواحِ في كَوْنِ بَعْضِها رُوحانِيَّةً، وبَعْضِها (p-٥٧)جُسْمانِيَّةً، ثُمَّ إنَّ عِيسى، عَلَيْهِ السَّلامُ، لِشِدَّةِ صَفاءِ وقْتِهِ، وإشْراقِ رُوحِهِ، لَمّا ذَكَرَ الرِّزْقَ بِقَوْلِهِ (وارْزُقْنا) لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ، بَلِ انْتَقَلَ مِنَ الرِّزْقِ إلى الرّازِقِ، فَقالَ: ﴿وأنْتَ خَيرُ الرّازِقِينَ﴾، فَقَوْلُهُ: (رَبَّنا) ابْتِداءٌ مِنهُ بِنِداءِ الحَقِّ سُبْحانَهُ وتَعالى، وقَوْلُهُ: ﴿أنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً﴾ انْتِقالٌ مِنَ الذّاتِ إلى الصِّفاتِ، وقَوْلُهُ: ﴿تَكُونُ لَنا عِيدًا لِأوَّلِنا وآخِرِنا﴾ إشارَةٌ إلى ابْتِهاجِ الرُّوحِ بِالنِّعْمَةِ، لا مِن حَيْثُ إنَّها نِعْمَةٌ، بَلْ مِن حَيْثُ إنَّها صادِرَةٌ عَنِ المُنْعِمِ. وقَوْلُهُ: ﴿وآيَةً مِنكَ﴾ إشارَةٌ إلى حِصَّةِ النَّفْسِ، وكُلُّ ذَلِكَ نَزَلَ مِن حَضْرَةِ الجَلالِ، فانْظُرْ كَيْفَ ابْتَدَأ بِالأشْرَفِ، فالأشْرَفِ، نازِلًا إلى الأدْوَنِ، فالأدْوَنِ.
﴿وأنْتَ خَيرُ الرّازِقِينَ﴾ هو عُرُوجٌ مَرَّةً أُخْرى مِنَ الأخَسِّ إلى الأشْرَفِ، وعِنْدَ هَذا يَلُوحُ هَمُّهُ مِن كَيْفِيَّةِ عُرُوجِ الأرْواحِ المُشْرِقَةِ النُّورانِيَّةِ الإلَهِيَّةِ، ونُزُولِها، اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِن أهْلِهِ، وهو كَلامٌ دائِرٌ بَيْنَ لَفْظٍ فَلْسَفِيٍّ، ولَفْظٍ صُوفِيٍّ، وكِلاهُما بَعِيدٌ عَنْ كَلامِ العَرَبِ ومَناحِيها.
{"ayahs_start":110,"ayahs":["إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ یَـٰعِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِی عَلَیۡكَ وَعَلَىٰ وَ ٰلِدَتِكَ إِذۡ أَیَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِی ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلࣰاۖ وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ بِإِذۡنِی فَتَنفُخُ فِیهَا فَتَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِیۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِیۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِیۖ وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ","وَإِذۡ أَوۡحَیۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِیِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُوا۟ بِی وَبِرَسُولِی قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ","إِذۡ قَالَ ٱلۡحَوَارِیُّونَ یَـٰعِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ هَلۡ یَسۡتَطِیعُ رَبُّكَ أَن یُنَزِّلَ عَلَیۡنَا مَاۤىِٕدَةࣰ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِۖ قَالَ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ","قَالُوا۟ نُرِیدُ أَن نَّأۡكُلَ مِنۡهَا وَتَطۡمَىِٕنَّ قُلُوبُنَا وَنَعۡلَمَ أَن قَدۡ صَدَقۡتَنَا وَنَكُونَ عَلَیۡهَا مِنَ ٱلشَّـٰهِدِینَ","قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَاۤ أَنزِلۡ عَلَیۡنَا مَاۤىِٕدَةࣰ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ تَكُونُ لَنَا عِیدࣰا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَایَةࣰ مِّنكَۖ وَٱرۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلرَّ ٰزِقِینَ"],"ayah":"قَالُوا۟ نُرِیدُ أَن نَّأۡكُلَ مِنۡهَا وَتَطۡمَىِٕنَّ قُلُوبُنَا وَنَعۡلَمَ أَن قَدۡ صَدَقۡتَنَا وَنَكُونَ عَلَیۡهَا مِنَ ٱلشَّـٰهِدِینَ"}