الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ إنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكم ومُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ ﴿هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهم تَراهم رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ورِضْوانًا سِيماهم في وُجُوهِهِمْ مِن أثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهم في التَّوْراةِ ومَثَلُهم في الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ فَآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنهم مَغْفِرَةً وأجْرًا عَظِيمًا﴾ . (p-١٠١)رَأى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ خُرُوجِهِ إلى الحُدَيْبِيَةِ. وقالَ مُجاهِدٌ: كانَتِ الرُّؤْيا بِالحُدَيْبِيَةِ أنَّهُ وأصْحابَهُ دَخَلُوا مَكَّةَ آمِنِينَ، وقَدْ حَلَقُوا وقَصَّرُوا. فَقَصَّ الرُّؤْيا عَلى أصْحابِهِ، فَفَرِحُوا واسْتَبْشَرُوا وحَسِبُوا أنَّهم داخِلُوها في عامِهِمْ، وقالُوا: إنَّ رُؤْيا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَقٌّ. فَلَمّا تَأخَّرَ ذَلِكَ، قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُفَيْلٍ، ورِفاعَةُ بْنُ الحارِثِ: واللَّهِ ما حَلَقْنا ولا قَصَّرْنا ولا رَأيْنا المَسْجِدَ الحَرامَ. فَنَزَلَتْ. ورُوِيَ أنَّ رُؤْياهُ كانَتْ: أنَّ مَلَكًا جاءَهُ فَقالَ لَهُ: ﴿لَتَدْخُلُنَّ﴾ الآيَةَ. ومَعْنى ﴿صَدَقَ اللَّهُ﴾: لَمْ يَكْذِبْهُ، واللَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ الكَذِبِ وعَنْ كُلِّ قَبِيحٍ. وصَدَقَ يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، الثّانِي بِنَفْسِهِ وبِحَرْفِ الجَرِّ. تَقُولُ: صَدَقْتُ زَيْدًا الحَدِيثَ، وصَدَقْتُهُ في الحَدِيثِ، وقَدْ عَدَّها بَعْضُهم في أخَواتِ اسْتَغْفَرَ وأمَرَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَحَذَفَ الجارَّ وأوْصَلَ الفِعْلَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٢٣] . انْتَهى. فَدَلَّ كَلامُهُ عَلى أنَّ أصْلَهُ حَرْفُ الجَرِّ. وبِالحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أيْ صِدْقًا مُلْتَبِسًا بِالحَقِّ. ﴿لَتَدْخُلُنَّ﴾: اللّامُ جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، ويَبْعُدُ قَوْلُ مَن جَعَلَهُ جَوابَ بِالحَقِّ، وبِالحَقِّ قَسَمٌ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِصِدْقٍ، وتَعْلِيقُهُ عَلى المَشِيئَةِ، قِيلَ: لِأنَّهُ حِكايَةُ قَوْلِ المَلَكِ لِلرَّسُولِ ﷺ، قالَهُ ابْنُ كَيْسانَ. وقِيلَ: هَذا التَّعْلِيقُ تَأدُّبٌ بِآدابِ اللَّهِ تَعالى، وإنْ كانَ المَوْعُودُ بِهِ مُتَحَقِّقَ الوُقُوعِ، حَيْثُ قالَ تَعالى: ﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ [الكهف: ٢٣] ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: ٢٤] . وقالَ ثَعْلَبٌ: اسْتَثْنى فِيما يَعْلَمُ لِيَسْتَثْنِيَ الخَلْقُ فِيما لا يَعْلَمُونَ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ الفَضْلِ: كانَ اللَّهُ عَلِمَ أنَّ بَعْضَ الَّذِينَ كانُوا بِالحُدَيْبِيَةِ يَمُوتُ، فَوَقَعَ الِاسْتِثْناءُ لِهَذا المَعْنى. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ وقَوْمٌ: إنْ بِمَعْنى إذْ، كَما قِيلَ في قَوْلِهِ: وإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ بِكم لاحِقُونَ. وقِيلَ: هو تَعْلِيقٌ في قَوْلِهِ: (آمِنِينَ)، لا لِأجْلِ إعْلامِهِ بِالدُّخُولِ، فالتَّعْلِيقُ مُقَدَّمٌ عَلى مَوْضِعِهِ. وهَذا القَوْلُ لا يُخْرِجُ التَّعْلِيقَ عَنْ كَوْنِهِ مُعَلَّقًا عَلى واجِبٍ، لِأنَّ الدُّخُولَ والأمْنَ أخْبَرَ بِهِما تَعالى، ووَقَعَتِ الثِّقَةُ بِالأمْرَيْنِ وهُما الدُّخُولُ والأمْنُ الَّذِي هو قَيْدٌ في الدُّخُولِ. و(آمِنِينَ): حالٌ مُقارِنَةٌ لِلدُّخُولِ. ومُحَلِّقِينَ ومُقَصِّرِينَ: حالٌ مُقَدَّرَةٌ، ولا تَخافُونَ: بَيانٌ لِكَمالِ الأمْنِ بَعْدَ تَمامِ الحَجِّ. ولَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلِمَ المُسْلِمُونَ أنَّهم يَدْخُلُونَها فِيما يُسْتَأْنَفُ، واطْمَأنَّتْ قُلُوبُهم ودَخَلُوها مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في ذِي القَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وذَلِكَ ثَلاثَةُ أيّامٍ هو وأصْحابُهُ، وصَدَقَتْ رُؤْياهُ ﷺ . (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا): أيْ ما قَدَّرَهُ مِن ظُهُورِ الإسْلامِ في تِلْكَ المُدَّةِ، ودُخُولِ النّاسِ فِيهِ، وما كانَ أيْضًا بِمَكَّةَ مِنَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ دَفَعَ اللَّهُ بِهِمْ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا مِنَ الحِكْمَةِ والصَّوابِ في تَأْخِيرِ فَتْحِ مَكَّةَ إلى العامِ القابِلِ. انْتَهى. ولَمْ يَكُنْ فَتْحُ مَكَّةَ في العامِ القابِلِ، إنَّما كانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأكْثَرَ مِن عامٍ، لِأنَّ الفَتْحَ إنَّما كانَ ثَمانٍ مِنَ الهِجْرَةِ. ﴿فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ﴾: أيْ مِن قَبْلِ ذَلِكَ، أيْ مِن زَمانٍ دُونَ ذَلِكَ الزَّمانِ الَّذِي وُعِدُوا فِيهِ بِالدُّخُولِ. فَتْحًا قَرِيبًا، قالَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحابَةِ: هَذا الفَتْحُ القَرِيبُ هو بَيْعَةُ الرِّضْوانِ. وقالَ مُجاهِدٌ وابْنُ إسْحاقَ: هو فَتْحُ الحُدَيْبِيَةِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: خَيْبَرَ، وضَعُفَ قَوْلُ مَن قالَ إنَّهُ فَتْحُ مَكَّةَ، لِأنَّ فَتْحَ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ دُونَ دُخُولِ الرَّسُولِ ﷺ وأصْحابِهِ مَكَّةَ، بَلْ كانَ بَعْدَ ذَلِكَ. ﴿هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ﴾: فِيهِ تَأْكِيدٌ لِصِدْقِ رُؤْياهُ ﷺ، وتَبْشِيرٌ بِفَتْحِ مَكَّةَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ﴾، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مُعْظَمِ هَذِهِ الآيَةِ. ﴿وكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ عَلى أنَّ ما وعَدَهُ كائِنٌ. وعَنِ الحَسَنِ: شَهِيدًا عَلى نَفْسِهِ أنَّهُ سَيُظْهِرُ دِينَكَ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ. وقِيلَ: رَسُولُ اللَّهِ صِفَةٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفُ بَيانٍ، (والَّذِينَ) مَعْطُوفٌ، والخَبَرُ عَنْهُ وعَنْهم أشِدّاءُ. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ هو مُحَمَّدٌ، لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ . وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ في رِوايَةٍ: رَسُولَ اللَّهِ بِالنَّصْبِ عَلى المَدْحِ، والَّذِينَ (p-١٠٢)مَعَهُ هم مَن شَهِدَ الحُدَيْبِيَةَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقالَ الجُمْهُورُ: جَمِيعُ أصْحابِهِ أشِدّاءُ، جَمْعُ شَدِيدٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤] . ﴿رُحَماءُ بَيْنَهُمْ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: ٥٤]، وكَقَوْلِهِ: ﴿واغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ٧٣]، وقَوْلِهِ: ﴿بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨] . وقَرَأ الحَسَنُ: أشِدّاءَ، رُحَماءَ. بِنَصْبِهِما. قِيلَ: عَلى المَدْحِ، وقِيلَ: عَلى الحالِ، والعامِلُ فِيهِما العامِلُ في مَعَهُ، ويَكُونُ الخَبَرُ عَنِ المُبَتَدَأِ المُتَقَدِّمِ: تَراهم. وقَرَأ يَحْيى بْنُ يَعْمَرَ: أشَدّا، بِالقَصْرِ، وهي شاذَّةٌ، لِأنَّ قَصْرَ المَمْدُودِ إنَّما يَكُونُ في الشِّعْرِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: ؎لا بُدَّ مِن صَنْعا وإنْ طالَ السَّفَرُ وفِي قَوْلِهِ: ﴿تَراهم رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ دَلِيلٌ عَلى كَثْرَةِ ذَلِكَ مِنهم. وقَرَأ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: ورُضْوانًا، بِضَمِّ الرّاءِ. وقُرِئَ: سِيمِياهم، بِزِيادَةِ ياءٍ والمَدِّ، وهي لُغَةٌ فَصِيحَةٌ كَثِيرَةٌ في الشِّعْرِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎غُلامٌ رَماهُ اللَّهُ بِالحُسْنِ يافِعًا ∗∗∗ لَهُ سِيمِياءٌ لا تَشُقُّ عَلى البَصَرِ وهَذِهِ السِّيما، قالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ: كانَتْ جِباهُهم مُنِيرَةً مِن كَثْرَةِ السُّجُودِ في التُّرابِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وخالِدٌ الحَنَفِيُّ، وعَطِيَّةُ: وعْدٌ لَهم بِأنْ يَجْعَلَ لَهم نُورًا يَوْمَ القِيامَةِ مِن أثَرِ السُّجُودِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: السَّمْتُ: الحُسْنُ وخُشُوعٌ يَبْدُو عَلى الوَجْهِ. وقالَ الحَسَنُ، ومَعْمَرُ بْنُ عَطِيَّةَ: بَياضٌ وصُفْرَةٌ وبَهِيجٌ يَعْتَرِي الوَجْهَ مِنَ السَّهَرِ. وقالَ عَطاءٌ، والرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: حُسْنٌ يَعْتَرِي وُجُوهَ المُصَلِّينَ. وقالَ مَنصُورٌ: سَألْتُ مُجاهِدًا: هَذِهِ السِّيما هي الأثَرُ يَكُونُ بَيْنَ عَيْنَيِ الرَّجُلِ ؟ قالَ: لا، وقَدْ تَكُونُ مِثْلَ رُكْبَةِ البَعِيرِ، وهي أقْسى قَلْبًا مِنَ الحِجارَةِ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ذَلِكَ مِمّا يَتَعَلَّقُ بِجِباهِهِمْ مِنَ الأرْضِ عِنْدَ السُّجُودِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المُرادُ بِها السِّمَةُ الَّتِي تَحْدُثُ في جَبْهَةِ السُّجّادِ مِن كَثْرَةِ السُّجُودِ. وقَوْلُهُ: ﴿مِن أثَرِ السُّجُودِ﴾ يُفَسِّرُها: أيْ مِنَ التَّأْثِيرِ الَّذِي يُؤَثِّرُهُ السُّجُودُ. وكانَ كُلٌّ مِنَ العَلِيَّيْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ زَيْنِ العابِدِينَ، وعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العَبّاسِ أبِي المُلُوكِ، يُقالُ لَهُ ذُو الثَّفِناتِ، لِأنَّ كَثْرَةَ سُجُودِهِما أحْدَثَتْ في مَواقِعِهِ مِنهُما أشْباهَ ثَفِناتِ البَعِيرِ. انْتَهى. وقَرَأ ابْنُ هُرْمُزَ: إثْرِ، بِكَسْرِ الهَمْزَةِ وسُكُونِ الثّاءِ، والجُمْهُورُ بِفَتْحِهِما. وقَرَأ قَتادَةُ: مِن آثارِ السُّجُودِ، بِالجَمْعِ. (ذَلِكَ): أيْ ذَلِكَ الوَصْفُ مِن كَوْنِهِمْ أشِدّاءَ رُحَماءَ مُبْتَغِينَ سِيماهم في وُجُوهِهِمْ: صِفَتُهم في التَّوْراةِ. قالَ مُجاهِدٌ والفَرّاءُ: هو مَثَلٌ واحِدٌ، أيْ ذَلِكَ صِفَتُهم في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، فَيُوقَفُ عَلى الإنْجِيلِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هُما مَثَلانِ، فَيُوقَفُ عَلى ذَلِكَ في التَّوْراةِ، وكَزَرْعٍ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ مَثَلُهم كَزَرْعٍ، أوْ هم كَزَرْعٍ. وقالَ الضَّحّاكُ: المَعْنى ذَلِكَ الوَصْفُ هو مَثَلُهم في التَّوْراةِ وتَمَّ الكَلامُ، ثُمَّ ابْتَدَأ ومَثَلُهم في الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ، فَعَلى هَذا يَكُونُ كَزَرْعٍ خَبَرَ ومَثَلُهم. وقالَ قَتادَةُ: مَثَلُ أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ في الإنْجِيلِ مَكْتُوبٌ أنَّهُ سَيَخْرُجُ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ قَوْمٌ يَنْبُتُونَ نَباتًا كالزَّرْعِ، يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ إشارَةٌ مُبْهَمَةٌ أُوضِحَتْ بِقَوْلِهِ: ﴿كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿وقَضَيْنا إلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أنَّ دابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ﴾ [الحجر: ٦٦] . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَوْلُهُ: كَزَرْعٍ، هو عَلى كُلِّ الأقْوالِ، وفي أيِّ كِتابٍ أُنْزِلَ فُرِضَ مَثَلٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ في أنَّ النَّبِيَّ ﷺ بُعِثَ وحْدَهُ، فَكانَ كالزَّرْعِ حَبَّةً واحِدَةً، ثُمَّ كَثُرَ المُسْلِمُونَ فَهم كالشَّطْءِ، وهو فَراخُ السُّنْبُلَةِ الَّتِي تَنْبُتُ حَوْلَ الأصْلِ. انْتَهى. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: شَطْأهُ: فَراخَهُ وأوْلادَهُ. وقالَ الزَّجّاجُ: نَباتَهُ. وقالَ قُطْرُبٌ: شُتُولَ السُّنْبُلِ يَخْرُجُ مِنَ الحَبَّةِ عَشْرُ سُنْبُلاتٍ وتِسْعٌ وثَمانٍ، قالَهُ الفَرّاءُ. وقالَ الكِسائِيُّ والأخْفَشُ: طَرَفَهُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎أخْرَجَ الشَّطْءَ عَلى وجْهِ الثَّرى ∗∗∗ ومِنَ الأشْجارِ أفْنانَ الثَّمَرِ وقَرَأ الجُمْهُورُ: شَطْأهُ، بِإسْكانِ الطّاءِ والهَمْزَةِ، وابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ ذَكْوانَ: بِفَتْحِهِما، وكَذَلِكَ: وبِالمَدِّ، أبُو حَيْوَةَ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ وعِيسى الكُوفِيُّ، وبِألِفٍ بَدَلَ الهَمْزَةِ، زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مَقْصُورًا، وأنْ (p-١٠٣)يَكُونَ أصْلُهُ الهَمْزَ، فَنَقَلَ الحَرَكَةَ وأبْدَلَ الهَمْزَةَ ألِفًا. كَما قالُوا في المَرْأةِ والكَمْأةِ المَراةَ والكَماةَ، وهو تَخْفِيفٌ مَقِيسٌ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ، وهو عِنْدَ البَصْرِيِّينَ شاذٌّ لا يُقاسُ عَلَيْهِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ: شَطَّهُ، بِحَذْفِ الهَمْزَةِ وإلْقاءِ حَرَكَتِها عَلى الطّاءِ. ورُوِيَتْ عَنْ شَيْبَةَ، ونافِعٍ، والجَحْدَرِيِّ، وعَنِ الجَحْدَرِيِّ أيْضًا: شَطْوَهُ بِإسْكانِ الطّاءِ وواوٍ بَعْدَها. وقالَ أبُو الفَتْحِ: هي لُغَةٌ أوْ بَدَلٌ مِنَ الهَمْزَةِ، ولا يَكُونُ الشَّطُّ إلّا في البُرِّ والشَّعِيرِ، وهَذِهِ كُلُّها لُغاتٌ. وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: شَطَأ الزَّرْعُ وأشْطَأ، إذا أخْرَجَ فَراخَهُ، وهو في الحِنْطَةِ والشَّعِيرِ وغَيْرِهِما. وقَرَأ ابْنُ ذَكْوانَ: فَأزَرَهُ ثُلاثِيًّا، وباقِي السَّبْعَةِ: فَآزَرَهُ، عَلى وزْنِ أفْعَلَهُ. وقُرِئَ: فازَّرَهُ، بِتَشْدِيدِ الزّايِ. وقَوْلُ مُجاهِدٍ وغَيْرِهِ: آزِرُهُ فاعِلُهُ خَطَأٌ، لِأنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ في مُضارِعِهِ إلّا يُؤْزِرُ، عَلى وزْنِ يُكْرِمُ، والضَّمِيرُ المَنصُوبُ في آزَرَهُ عائِدٌ عَلى الزَّرْعِ، لِأنَّ الزَّرْعَ أوَّلُ ما يَطْلَعُ رَقِيقَ الأصْلِ، فَإذا خَرَجَتْ فَراخُهُ غَلُظَ أصْلُهُ وتَقَوّى، وكَذَلِكَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كانُوا أقِلَّةً ضُعَفاءَ، فَلَمّا كَثُرُوا وتَقَوَّوْا قاتَلُوا المُشْرِكِينَ. وقالَ الحَسَنُ: آزَرَهُ: قَوّاهُ وشَدَّ أزْرَهُ. وقالَ السُّدِّيُّ: صارَ مِثْلَ الأصْلِ في الطُّولِ. ﴿فاسْتَغْلَظَ﴾: صارَ مِنَ الرِّقَّةِ إلى الغِلْظِ. ﴿فاسْتَوى﴾: أيْ تَمَّ نَباتُهُ. ﴿عَلى سُوقِهِ﴾: جَمْعُ ساقٍ، كِنايَةٌ عَنْ أُصُولِهِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: عَلى سُؤْقِهِ بِالهَمْزِ. قِيلَ: وهي لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ يَهْمِزُونَ الواوَ الَّتِي قَبْلَها ضَمَّةٌ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎أحَبُّ المُؤْقِدِينَ إلَيَّ مُؤْسى ﴿يُعْجِبُ الزُّرّاعَ﴾: جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الحالِ، وإذا أعْجَبَ الزُّرّاعَ، فَهو أحْرى أنْ يُعْجِبَ غَيْرَهم؛ لِأنَّهُ لا عَيْبَ فِيهِ، إذْ قَدْ أعْجَبَ العارِفِينَ بِعُيُوبِ الزَّرْعِ، ولَوْ كانَ مَعِيبًا لَمْ يُعْجِبْهم، وهُنا تَمَّ المَثَلُ. و﴿لِيَغِيظَ﴾: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الكَلامُ قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ: جَعَلَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ﴾ . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ تَعْلِيلٌ لِماذا ؟ قُلْتُ: لِما دَلَّ عَلَيْهِ تَشْبِيهُهم بِالزَّرْعِ مِن نَمائِهِمْ وتَرَقِّيهِمْ في الزِّيادَةِ والقُوَّةِ، ويَجُوزُ أنْ يُعَلَّلَ بِهِ. ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾: لِأنَّ الكُفّارَ إذا سَمِعُوا بِما أعَدَّ لَهم في الآخِرَةِ مَعَ ما يُعِزُّهم بِهِ في الدُّنْيا غاظَهم ذَلِكَ. ومَعْنى: (مِنهم): لِلْبَيانِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثانِ﴾ [الحج: ٣٠] . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَوْلُهُ مِنهم، لِبَيانِ الجِنْسِ ولَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأنَّهُ وعْدُ مَدْحِ الجَمِيعِ. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مِنهم يَعْنِي: مِنَ الشَّطْءِ الَّذِي أخْرَجَهُ الزَّرْعُ، وهُمُ الدّاخِلُونَ في الإسْلامِ بَعْدَ الزَّرْعِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، فَأعادَ الضَّمِيرَ عَلى مَعْنى الشَّطْءِ لا عَلى لَفْظِهِ. والأجْرُ العَظِيمُ: الجَنَّةُ. وذُكِرَ عِنْدَ مالِكِ بْنِ أنَسٍ رَجُلٌ يَنْتَقِصُ الصَّحابَةَ، فَقَرَأ مالِكٌ هَذِهِ الآيَةَ وقالَ: مَن أصْبَحَ بَيْنَ النّاسِ في قَلْبِهِ غَيْظٌ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَدْ أصابَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ، واللَّهُ المُوَفِّقُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب