الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرابِ شَغَلَتْنا أمْوالُنا وأهْلُونا فاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِألْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكم مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إنْ أرادَ بِكم ضَرًّا أوْ أرادَ بِكم نَفْعًا بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ والمُؤْمِنُونَ إلى أهْلِيهِمْ أبَدًا وزُيِّنَ ذَلِكَ في قُلُوبِكم وظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ ﴿ومَن لَمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ ورَسُولِهِ فَإنّا أعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيرًا﴾ ﴿ولِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ﴿سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إذا انْطَلَقْتُمْ إلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكم يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذَلِكم قالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إلّا قَلِيلًا﴾ ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهم أوْ يُسْلِمُونَ فَإنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أجْرًا حَسَنًا وإنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِن قَبْلُ يُعَذِّبْكم عَذابًا ألِيمًا﴾ . قالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: ودَخَلَ كَلامُ بَعْضِهِمْ في بَعْضٍ. ﴿المُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرابِ﴾: هم جُهَيْنَةُ، ومُزَيْنَةُ، وغِفارٌ، وأشْجَعُ، والدِّيلُ، وأسْلَمُ. اسْتَنْفَرَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ أرادَ المَسِيرَ إلى مَكَّةَ عامَ الحُدَيْبِيَةِ مُعْتَمِرًا، لِيَخْرُجُوا مَعَهُ حَذَرًا مِن قُرَيْشٍ أنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِحَرْبٍ، أوْ يَصُدُّوهُ عَنِ البَيْتِ، وأحْرَمَ هو ﷺ، وساقَ مَعَهُ الهَدْيَ لِيُعْلَمَ أنَّهُ لا يُرِيدُ حَرْبًا، ورَأى أُولَئِكَ الأعْرابُ أنَّهُ يَسْتَقْبِلُ عَدُوًّا عَظِيمًا مِن قُرَيْشٍ وثَقِيفٍ وكِنانَةَ والقَبائِلِ والمُجاوِرِينَ بِمَكَّةَ، وهُمُ الأحابِيشُ، ولَمْ يَكُنِ الإيمانُ تَمَكَّنَ مِن قُلُوبِهِمْ، فَقَعَدُوا عَنِ (p-٩٣)النَّبِيِّ ﷺ، وتَخَلَّفُوا وقالُوا: لَنْ يَرْجِعَ مُحَمَّدٌ ولا أصْحابُهُ مِن هَذِهِ السَّفْرَةِ، فَفَضَحَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ في هَذِهِ الآيَةِ، وأعْلَمَ رَسُولَهُ بِقَوْلِهِمْ واعْتِذارِهِمْ قَبْلَ أنْ يَصِلَ إلَيْهِمْ، فَكانَ كَذَلِكَ. ﴿شَغَلَتْنا أمْوالُنا وأهْلُونا فاسْتَغْفِرْ لَنا﴾: وهَذا اعْتِلالٌ مِنهم عَنْ تَخَلُّفِهِمْ، أيْ لَمْ يَكُنْ لَهم مَن يَقُومُ بِحِفْظِ أمْوالِهِمْ وأهْلِيهِمْ غَيْرُهم، وبَدَءُوا بِذِكْرِ الأمْوالِ، لِأنَّ بِها قَوامَ العَيْشِ، وعَطَفُوا الأهْلَ، لِأنَّهم كانُوا يُحافِظُونَ عَلى حِفْظِ الأهْلِ أكْثَرَ مِن حِفْظِ المالِ. وقُرِئَ: شَغَلَتْنا، بِتَشْدِيدِ الغَيْنِ، حَكاهُ الكِسائِيُّ، وهي قِراءَةُ إبْراهِيمَ بْنِ نُوحِ بْنِ باذانَ، عَنْ قُتَيْبَةَ. ولَمّا عَلِمُوا أنَّ ذَلِكَ التَّخَلُّفَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ كانَ مَعْصِيَةً، سَألُوا أنْ يَسْتَغْفِرَ لَهم. ﴿يَقُولُونَ بِألْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ﴾: الظّاهِرُ أنَّهُ راجِعٌ إلى الجُمْلَتَيْنِ المَقُولَتَيْنِ مِنَ الشُّغْلِ وطَلَبِ الِاسْتِغْفارِ، لِأنَّ قَوْلَهم: شَغَلَتْنا، كَذِبٌ، وطَلَبُ الِاسْتِغْفارِ: خُبْثٌ مِنهم وإظْهارٌ أنَّهم مُؤْمِنُونَ عاصُونَ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: هو راجِعٌ إلى قَوْلِهِمْ: فاسْتَغْفِرْ لَنا، يُرِيدُ أنَّهم قالُوا ذَلِكَ مُصانَعَةً مِن غَيْرِ تَوْبَةٍ ولا نَدَمٍ. ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ﴾: أيْ مَن يَمْنَعُكم مِن قَضاءِ اللَّهِ ؟ ﴿إنْ أرادَ بِكم ضَرًّا﴾: مِن قَتْلٍ أوْ هَزِيمَةٍ، ﴿أوْ أرادَ بِكم نَفْعًا﴾، مِن ظَفَرٍ وغَنِيمَةٍ ؟ أيْ هو تَعالى المُتَصَرِّفُ فِيكم، ولَيْسَ حِفْظُكم أمْوالَكم وأهْلِيكم بِمانِعٍ مِن ضَياعِها إذا أرادَهُ اللَّهُ تَعالى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ضَرًّا، بِفَتْحِ الضّادِ، والأخَوانِ: بِضَمِّها، وهُما لُغَتانِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى لَهُمُ العِلَّةَ في تَخَلُّفِهِمْ، وهي ظَنُّهم أنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وأصْحابَهُ لا يَرْجِعُونَ إلى أهْلِيهِمْ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ”أهْلِ“، وكَيْفَ جُمِعَ بِالواوِ والنُّونِ في قَوْلِهِ: ﴿ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] . وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: إلى أهْلِهِمْ، بِغَيْرِ ياءٍ، (وزُيِّنَ) قِراءَةُ الجُمْهُورِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، والفاعِلُ هو اللَّهُ تَعالى. وقِيلَ غَيْرُهُ مِمَّنْ نُسِبَ إلَيْهِ التَّزْيِينُ مَجازًا. وقُرِئَ: وزَيَّنَ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. ﴿وظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ﴾: احْتُمِلَ أنْ يَكُونَ هو الظَّنَّ السّابِقَ، وهو ظَنُّهم أنْ لا يَنْقَلِبُوا ويَكُونَ قَدْ ساءَهم ذَلِكَ الظَّنُّ وأحْزَنَهم حَيْثُ أخْلَفَ ظَنَّهم. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ غَيْرُهُ لِأجْلِ العَطْفِ، أيْ ظَنَنْتُمْ أنَّهُ تَعالى يُخْلِفُ وعْدَهُ في نَصْرِ دِينِهِ وإعْزازِ رَسُولِهِ ﷺ . ﴿بُورًا﴾: هَلْكى، والظّاهِرُ أنَّهُ مَصْدَرٌ كالهُلْكِ، ولِذَلِكَ وُصِفَ بِهِ المُفْرَدُ المُذَكَّرُ، كَقَوْلِ ابْنِ الزِّبَعْرى: ؎يا رَسُولَ المَلِيكِ إنَّ لِسانِيَ راتِقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ والمُؤَنَّثُ، حَكى أبُو عُبَيْدَةَ: امْرَأةٌ بُورٌ، والمُثَنّى والمَجْمُوعُ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ جَمْعَ بائِرٍ، كَحائِلٍ وحُولٍ هَذا في المُعْتَلِّ، وبازِلٍ وبُزْلٍ في الصَّحِيحِ، وفُسِّرَ بُورًا: بِفاسِدِينَ هَلْكى. وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: أشْرارٌ. واحْتَمَلَ وكُنْتُمْ، أيْ يَكُونُ المَعْنى: وصِرْتُمْ بِذَلِكَ الظَّنِّ، وأنْ يَكُونَ وكُنْتُمْ عَلى بابِها، أيْ وكُنْتُمْ في الأصْلِ قَوْمًا فاسِدِينَ، أيِ الهَلاكُ سابِقٌ لَكم عَلى ذَلِكَ الظَّنِّ. ولَمّا أخْبَرَ تَعالى أنَّهم قَوْمٌ بُورٌ، ذَكَرَ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهم لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ فَقالَ: ﴿ومَن لَمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ ورَسُولِهِ﴾، فَهو كافِرٌ جَزاؤُهُ السَّعِيرُ. ولَمّا كانُوا لَيْسُوا مُجاهِدِينَ بِالكُفْرِ، ولِذَلِكَ اعْتَذَرُوا وطَلَبُوا الِاسْتِغْفارَ، مَزَجَ وعِيدَهم وتَوْبِيخَهم بِبَعْضِ الإمْهالِ والتَّرْجِئَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿ولِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾، يُدَبِّرُهُ تَدْبِيرَ قادِرٍ حَكِيمٍ، فَيَغْفِرُ ويُعَذِّبُ بِمَشِيئَتِهِ، ومَشِيئَتُهُ تابِعَةٌ لِحِكْمَتِهِ، وحِكْمَتُهُ المَغْفِرَةُ لِلتّائِبِ وتَعْذِيبُ المُصِرِّ. ﴿وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، رَحْمَتُهُ سابِقَةٌ لِرَحْمَتِهِ، حَيْثُ يُكَفِّرُ السَّيِّئاتِ بِاجْتِنابِ الكَبائِرِ بِالتَّوْبَةِ. انْتَهى. وهو عَلى مَذْهَبِ الِاعْتِزالِ. ﴿سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ﴾: رُوِيَ أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ نَبِيَّهُ بِغَزْوِ خَيْبَرَ، ووَعَدَهُ بِفَتْحِها، وأعْلَمَهُ أنَّ المُخَلَّفِينَ إذا رَأوْا مَسِيرَهُ إلى خَيْبَرَ، وهم عَدُوٌّ مُسْتَضْعَفٌ، طَلَبُوا الكَوْنَ مَعَهُ رَغْبَةً في عَرَضِ الدُّنْيا مِنَ الغَنِيمَةِ، وكانَ كَذَلِكَ. ﴿يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ﴾: مَعْناهُ أنْ يُغَيِّرُوا وعْدَهُ لِأهْلِ الحُدَيْبِيَةِ بِغَنِيمَةِ خَيْبَرَ، وذَلِكَ أنَّهُ وعَدَهم أنْ يُعَوِّضَهم مِن مَغانِمِ مَكَّةَ خَيْبَرَ، إذا قَفَلُوا مُوادِعِينَ لا يُصِيبُونَ مِنها شَيْئًا، قالَهُ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ، وعَلَيْهِ عامَّةُ أهْلِ التَّأْوِيلِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: ﴿كَلامَ اللَّهِ﴾: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدًا ولَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا﴾ [التوبة: ٨٣]، (p-٩٤)وهَذا لا يَصِحُّ، لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في مَرْجِعِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن تَبُوكَ في آخِرِ عُمُرِهِ. وهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ عامَ الحُدَيْبِيَةِ، وأيْضًا فَقَدْ غَزَتْ مُزَيْنَةُ وجُهَيْنَةُ بَعْدَ هَذِهِ المُدَّةِ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفَضَّلَهم بَعْدُ عَلى تَمِيمٍ وغَطَفانَ وغَيْرِهِمْ مِنَ العَرَبِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿كَلامَ اللَّهِ﴾، بِألِفٍ، والأخَوانِ: كَلِمَ اللَّهِ، جَمْعَ كَلِمَةٍ، وأمَرَهُ تَعالى أنْ يَقُولَ لَهم: ﴿لَنْ تَتَّبِعُونا﴾، وأتى بِصِيغَةِ لَنْ، وهي لِلْمُبالَغَةِ في النَّفْيِ، أيْ لا يَتِمُّ لَكم ذَلِكَ، إذْ قَدْ وعَدَ تَعالى أنَّ ذَلِكَ لا يَحْضُرُها إلّا أهْلُ الحُدَيْبِيَةِ فَقَطْ. ﴿كَذَلِكم قالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ﴾: يُرِيدُ وعْدَهُ قَبْلَ اخْتِصاصِهِمْ بِها. ﴿بَلْ تَحْسُدُونَنا﴾: أيْ يَعِزُّ عَلَيْكم أنْ نُصِيبَ مَغْنَمًا مَعَكم، وذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الحَسَدِ أنْ نُقاسِمَكم فِيما تَغْنَمُونَ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: بِكَسْرِ السِّينِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ تَعالى كَلامَهم هَذا فَقالَ: ﴿بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إلّا قَلِيلًا﴾ مِن أُمُورِ الدُّنْيا، وظاهِرُهُ لَيْسَ لَهم فِكْرٌ إلّا فِيها، كَقَوْلِهِ: ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [الروم: ٧] . والإضْرابُ الأوَّلُ: رَدُّ أنْ يَكُونَ حُكْمُ اللَّهِ أنْ لا يَتَّبِعُوهم وإثْباتَ الحَسَدِ. والثّانِي إضْرابٌ عَنْ وصْفِهِمْ بِإضافَةِ الحَسَدِ إلى المُؤْمِنِينَ إلى ما هو أطَمُّ مِنهُ، وهو الجَهْلُ وقِلَّةُ الفِقْهِ. ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرابِ﴾: أمَرَ تَعالى نَبِيَّهُ أنْ يَقُولَ لَهم ذَلِكَ، ودَلَّ عَلى أنَّهم كانُوا يُظْهِرُونَ الإسْلامَ، ولَوْ لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُونُوا أهْلًا لِذَلِكَ الأمْرِ. وأبْهَمَ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿إلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ . فَقالَ عِكْرِمَةُ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ: هم هَوازِنُ ومَن حارَبَ الرَّسُولَ ﷺ في حُنَيْنٍ. وقالَ كَعْبٌ: الرُّومُ الَّذِينَ خَرَجَ إلَيْهِمْ عامَ تَبُوكَ، والَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ في غَزْوَةِ مُؤْتَةَ. وقالَ الزُّهْرِيُّ، والكَلْبِيُّ: أهْلُ الرِّدَّةِ، وبَنُو حَنِيفَةَ بِاليَمامَةِ. وعَنْ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: إنّا كُنّا نَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ فِيما مَضى، ولا نَعْلَمُ مَن هم حَتّى دَعا أبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، إلى قِتالِ بَنِي حَنِيفَةَ، فَعَلِمْنا أنَّهم أُرِيدُوا بِها. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ، ومُجاهِدٌ، وعَطاءٌ الخُراسانِيُّ، وابْنُ أبِي لَيْلى: هُمُ الفُرْسُ. وقالَ الحَسَنُ: فارِسُ والرُّومُ. وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ: قَوْمٌ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ. وظاهِرُ الآيَةِ يَرُدُّ هَذا القَوْلَ. والَّذِي أقُولُهُ: إنَّ هَذِهِ الأقْوالَ تَمْثِيلاتٌ مِن قائِلِيها، لا أنَّ المَعْنى بِذَلِكَ ما ذَكَرُوا، بَلْ أخْبَرَ بِذَلِكَ مُبْهَمًا دَلالَةً عَلى قُوَّةِ الإسْلامِ وانْتِشارِ دَعْوَتِهِ، وكَذا وقَعَ حُسْنُ إسْلامِ تِلْكَ الطَّوائِفِ، وقاتَلُوا أهْلَ الرِّدَّةِ زَمانَ أبِي بَكْرٍ، وكانُوا في فُتُوحِ البِلادِ أيّامَ عُمَرَ وأيّامَ غَيْرِهِ مِنَ الخُلَفاءِ. والظّاهِرُ أنَّ هَؤُلاءِ المُقاتِلِينَ لَيْسُوا مِمَّنْ تُؤْخَذُ مِنهُمُ الجِزْيَةَ إذْ لَمْ يَذْكُرْ هُنا إلّا القِتالَ أوِ الإسْلامَ. ومَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى ورَضِيَ عَنْهُ: أنَّ الجِزْيَةَ لا تُقْبَلُ مِن مُشْرِكِي العَرَبِ، ولا مِنَ المُرْتَدِّينَ، ولَيْسَ إلّا الإسْلامُ أوِ القَتْلُ، وتُقْبَلُ مِمَّنْ عَداهم مِن مُشْرِكِي العَجَمِ وأهْلِ الكِتابِ والمَجُوسِ. ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: لا تُقْبَلُ إلّا مِن أهْلِ الكِتابِ والمَجُوسِ، دُونَ مُشْرِكِي العَجَمِ والعَرَبِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهَذا دَلِيلٌ عَلى إمامَةِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، فَإنَّهم لَمْ يُدْعَوْا إلى حَرْبٍ في أيّامِ الرَّسُولِ ﷺ، ولَكِنْ بَعْدَ وفاتِهِ. انْتَهى. وهَذا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَقَدْ حَضَرَ كَثِيرٌ مِنهم مَعَ جَعْفَرٍ في مُوتَةَ، وحَضَرُوا حَرْبَ هَوازِنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وحَضَرُوا مَعَهُ في سَفْرَةِ تَبُوكَ. ولا يَتِمُّ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إلّا عَلى قَوْلِ مَن عَيَّنَ أنَّهم أهْلُ الرِّدَّةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿أوْ يُسْلِمُونَ﴾، مَرْفُوعًا، وأُبَيٌّ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِحَذْفِ النُّونِ مَنصُوبًا بِإضْمارِ أنْ في قَوْلِ الجُمْهُورِ مِنَ البَصْرِيِّينَ غَيْرِ الجَرْمِيِّ، وبِها في قَوْلِ الجَرْمِيِّ والكِسائِيِّ، وبِالخِلافِ في قَوْلِ الفَرّاءِ وبَعْضِ الكُوفِيِّينَ. فَعَلى قَوْلِ النَّصْبِ بِإضْمارِ أنْ هو عَطْفُ مَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ عَلى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، أيْ يَكُونُ قِتالٌ أوْ إسْلامٌ، أيْ أحَدُ هَذَيْنِ، ومِثْلُهُ في النَّصْبِ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎فَقُلْتُ لَهُ لا تَبْكِ عَيْنًا إنَّما ∗∗∗ نُحاوِلُ مُلْكًا أوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرا (p-٩٥)والرَّفْعُ عَلى العَطْفِ عَلى تُقاتِلُونَهم، أوْ عَلى القَطْعِ، أيْ أوْ هم يُسْلِمُونَ دُونَ قِتالٍ. ﴿فَإنْ تُطِيعُوا﴾: أيْ فِيما تُدْعَوْنَ إلَيْهِ. ﴿كَما تَوَلَّيْتُمْ مِن قَبْلُ﴾: أيْ في زَمانِ الخُرُوجِ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ، في زَمانِ الحُدَيْبِيَةِ. ﴿يُعَذِّبْكُمْ﴾: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في الدُّنْيا، وأنْ يَكُونَ في الآخِرَةِ. ﴿لَيْسَ عَلى الأعْمى حَرَجٌ﴾: نَفْيُ الحَرَجِ عَنْ هَؤُلاءِ مِن ذَوِي العاهاتِ في التَّخَلُّفِ عَنِ الغَزْوِ، ومَعَ ارْتِفاعِ الحَرَجِ، فَجائِزٌ لَهُمُ الغَزْوُ، وأجْرُهم فِيهِ مُضاعَفٌ، والأعْرَجُ أحْرى بِالصَّبْرِ وأنْ لا يَفِرَّ. وقَدْ غَزا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وكانَ أعْمى، في بَعْضِ حُرُوبِ القادِسِيَّةِ، وكانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُمْسِكُ الرّايَةَ، فَلَوْ حَضَرَ المُسْلِمُونَ، فالغَرَضُ مُتَوَجَّهٌ بِحَسَبِ الوِسْعِ في الغَزْوِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: يُدْخِلْهُ ويُعَذِّبْهُ، بِالياءِ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ، والأعْرَجُ، وشَيْبَةُ، وابْنُ عامِرٍ، ونافِعٌ: بِالنُّونِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب