الباحث القرآني

﴿ويَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيها القِتالُ رَأيْتَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَأوْلى لَهُمْ﴾ ﴿طاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإذا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وتُقَطِّعُوا أرْحامَكُمْ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأصَمَّهم وأعْمى أبْصارَهُمْ﴾ ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أدْبارِهِمْ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهم وأمْلى لَهُمْ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكم في بَعْضِ الأمْرِ واللَّهُ يَعْلَمُ إسْرارَهُمْ﴾ ﴿فَكَيْفَ إذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهُمْ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أسْخَطَ اللَّهَ وكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأحْبَطَ أعْمالَهُمْ﴾ . (p-٨١)كانَ المُؤْمِنُونَ حَرِيصِينَ عَلى ظُهُورِ الإسْلامِ وعُلُوِّ كَلِمَتِهِ وتَمَنِّي قَتْلِ العَدُوِّ، وكانُوا يَسْتَأْنِسُونَ بِالوَحْيِ، ويَسْتَوْحِشُونَ إذا أبْطَأ. واللَّهُ تَعالى قَدْ جَعَلَ ذَلِكَ بابًا ومَضْرُوبَةً لا يُتَعَدّى. فَمَدَحَ تَعالى المُؤْمِنِينَ بِطَلَبِهِمْ إنْزالَ سُورَةٍ، والمَعْنى تَتَضَمَّنُ أمْرَنا بِمُجاهَدَةِ العَدُوِّ، وفَضْحِ أمْرِ المُنافِقِينَ. والظّاهِرُ أنَّ ظانِّي ذَلِكَ هم خُلَّصٌ في إيمانِهِمْ، ولِذَلِكَ قالَ بَعْدُ ﴿رَأيْتَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كانُوا يَدَّعُونَ الحِرْصَ عَلى الجِهادِ، ويَتَمَنَّوْنَهُ بِألْسِنَتِهِمْ، ويَقُولُونَ: ﴿لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ﴾ في مَعْنى الجِهادِ. ﴿فَإذا أُنْزِلَتْ﴾، وأُمِرُوا فِيها بِما تَمَنَّوْا وحَرَصُوا عَلَيْهِ، كاعُوا وشَقَّ عَلَيْهِمْ وسَقَطُوا في أيْدِيهِمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذا فَرِيقٌ مِنهم يَخْشَوْنَ النّاسَ﴾ [النساء: ٧٧] . انْتَهى، وفِيهِ تَخْوِيفٌ لِما يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ القُرْآنِ و(لَوْلا): بِمَعْنى هَلّا، وعَنْ أبِي مالِكٍ: لا زائِدَةٌ، والتَّقْدِيرُ: لَوْ نُزِّلَتْ، وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ. وقُرِئَ: فَإذا نَزَلَتْ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: سُورَةً مُحْكَمَةً، بِنَصْبِهِما، ومَرْفُوعُ نَزَّلْتُ يُضَمُّ، وسُورَةً نُصِبَ عَلى الحالِ. وقَرَأ هو وابْنُ عُمَرَ: وذُكِرَ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، أيِ اللَّهُ. ﴿فِيها القِتالُ﴾ ونَصَبَ الجُمْهُورُ: بِرَفْعِ ﴿سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ﴾ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، وبِناءُ وذُكِرَ لِلْمَفْعُولِ، والقِتالُ رُفِعَ بِهِ، وإحْكامُها كَوْنُها لا تُنْسَخُ. قالَ قَتادَةُ: كُلُّ سُورَةٍ فِيها القِتالُ، فَهي مَحْكَمَةٌ مِنَ القُرْآنِ، لا بِخُصُوصِيَّةِ هَذِهِ الآيَةِ، وذَلِكَ أنَّ القِتالَ نَسَخَ ما كانَ مِنَ المُهادَنَةِ والصُّلْحِ، وهو غَيْرُ مَنسُوخٍ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وقِيلَ: مُحْكَمَةٌ بِالحَلالِ والحَرامِ. وقِيلَ: مُحْكَمَةٌ أُرِيدَتْ مَدْلُولاتُ ألْفاظِها عَلى الحَقِيقَةِ دُونَ المُتَشابِهِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ المَجازُ، نَحْوُ قَوْلِهِ: ﴿عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥]، ﴿فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٥٦]، ﴿فَضَرْبَ الرِّقابِ﴾ [محمد: ٤] . ﴿رَأيْتَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ﴾: أيْ تَشْخَصُ أبْصارُهم جُبْنًا وهَلَعًا. ﴿نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ﴾: أيْ نَظَرًا كَما يَنْظُرُ مَن أصابَتْهُ الغَشْيَةُ مِن أجْلِ حُلُولِ المَوْتِ. وقِيلَ: يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وهو شُخُوصُ البَصَرِ إلى الرَّسُولِ مِن شِدَّةِ العَداوَةِ. وقِيلَ: مِن خَشْيَةِ الفَضِيحَةِ، فَإنَّهم إنْ يُخالِفُوا عَنِ القِتالِ افْتَضَحُوا وبانَ نِفاقُهم. وأوْلى لَهم: تَقَدَّمَ شَرْحُهُ في المُفْرَداتِ. وقالَ قَتادَةُ: كَأنَّهُ قالَ: العِقابُ أوْلى لَهم. وقِيلَ: وهُمُ المَكْرُوهُ، وأوْلى وزْنُها أفْعَلُ أوْ أفْلَعُ عَلى الِاخْتِلافِ، لِأنَّ الِاسْتِفْعالَ الَّذِي ذَكَرْناهُ في المُفْرَداتِ. فَعَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ: إنَّهُ اسْمٌ يَكُونُ مُبْتَدَأً، والخَبَرُ لَهم. وقِيلَ: أوْلى مُبْتَدَأٌ، ولَهم مِن صِلَتِهِ، وطاعَةٌ خَبَرٌ، وكَأنَّ اللّامَ بِمَعْنى الباءِ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَأوْلى بِهِمْ طاعَةٌ. ولَمْ يَتَعَرَّضِ الزَّمَخْشَرِيُّ لِإعْرابِهِ، وإنَّما قالَ: ومَعْناهُ الدُّعاءُ عَلَيْهِمْ بِأنْ يَلِيَهُ المَكْرُوهُ. وعَلى قَوْلِ الأصْمَعِيِّ: أنَّهُ فِعْلٌ يَكُونُ فاعِلُهُ مُضْمَرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ المَعْنى. وأُضْمِرَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ كَأنَّهُ قالَ: قارَبَ لَهم هو، أيِ الهَلاكِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والمَشْهُورُ مِنِ اسْتِعْمالِ العَرَبِ أوْلى لَكَ فَقَطْ عَلى جِهَةِ الحَذْفِ والِاخْتِصارِ، لِما مَعَها مِنَ القُوَّةِ، فَيَقُولُ، عَلى جِهَةِ الزَّجْرِ والتَّوَعُّدِ: أوْلى لَكَ يا فُلانُ. وهَذِهِ الآيَةُ مِن هَذا البابِ. ومِنهُ قَوْلُهُ: (أوْلى لَكَ فَأوْلى) . وقَوْلُ الصِّدِّيقِ لِلْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أوْلى لَكَ انْتَهى. والأكْثَرُونَ عَلى أنَّ: ﴿طاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ كَلامٌ مُسْتَقِلٌّ مَحْذُوفٌ مِنهُ أحَدُ الجُزْأيْنِ، إمّا الخَبَرُ وتَقْدِيرُهُ: أمْثَلُ، وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ والخَلِيلِ، وإمّا المُبْتَدَأُ وتَقْدِيرُهُ: الأمْرُ أوْ أمَرْنا طاعَةً، أيِ الأمْرُ المُرْضِيِّ لِلَّهِ طاعَةً. وقِيلَ: هي حِكايَةُ قَوْلِهِمْ، أيْ قالُوا طاعَةً، ويَشْهَدُ لَهُ قِراءَةُ أُبَيٍّ يَقُولُونَ: ﴿طاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾، وقَوْلُهم هَذا عَلى سَبِيلِ الهَزْءِ والخَدِيعَةِ. وقالَ قَتادَةُ: الواقِفُ عَلى: ﴿فَأوْلى لَهم طاعَةٌ﴾ ابْتِداءٌ وخَبَرٌ، والمَعْنى: (p-٨٢)أنَّ ذَلِكَ مِنهم عَلى جِهَةِ الخَدِيعَةِ. وقِيلَ: طاعَةٌ صِفَةٌ لِـ ”سُورَةٌ“، أيْ فَهي طاعَةٌ، أيْ مُطاعَةٌ. وهَذا القَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِحَيْلُولَةِ الفَصْلِ لِكَثِيرٍ بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ. ﴿فَإذا عَزَمَ الأمْرُ﴾: أيْ جَدَّ، والعَزْمُ: الجِدُّ، وهو لِأصْحابِ الأمْرِ. واسْتُعِيرَ لِلْأمْرِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [الشورى: ٤٣] . وقالَ الشّاعِرُ: ؎قَدْ جَدَّتْ بِهِمُ الحَرْبُ فَجَدُّوا والظّاهِرُ أنَّ جَوابَ إذا قَوْلُهُ: ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ﴾، كَما تَقُولُ: إذا كانَ الشِّتاءُ، فَلَوْ جِئْتَنِي لَكَسَوْتُكَ. وقِيلَ: الجَوابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَإذا عَزَمَ الأمْرُ هو أوْ نَحْوُهُ، قالَهُ قَتادَةُ. ومَن حَمَلَ ﴿طاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾، عَلى أنَّهم يَقُولُونَ ذَلِكَ خَدِيعَةً قَدَّرْناهُ عَزَمَ الأمْرَ، فاقْفَوْا وتَقاضَوْا، وقَدَّرَهُ أبُو البَقاءِ فَأُصَدِّقُ، ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ﴾ فِيما زَعَمُوا مِن حِرْصِهِمْ عَلى الجِهادِ، أوْ في إيمانِهِمْ، وواطَأتْ قُلُوبُهم فِيهِ ألْسِنَتَهم، أوْ في قُلُوبِهِمْ ﴿طاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ . ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ﴾: التِفاتٌ لِلَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، أقْبَلَ بِالخِطابِ عَلَيْهِمْ عَلى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ وتَوْقِيفِهِمْ عَلى سُوءِ مُرْتَكَبِهِمْ، وعَسى تَقَدَّمَ الخِلافُ في لُغَتِها. وفي القِراءَةِ فِيها، إذا اتَّصَلَ بِها ضَمِيرُ الخِطابِ في سُورَةِ البَقَرَةِ، واتِّصالُ الضَّمِيرِ بِها لُغَةُ الحِجازِ، وبَنُو تَمِيمٍ لا يُلْحِقُونَ بِها الضَّمِيرَ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: وقَدْ ذَكَرُوا أنَّ عَسى يَتَّصِلُ بِها ضَمِيرُ الرَّفْعِ وضَمِيرُ النَّصْبِ، وأنَّها لا يَتَّصِلُ بِها ضَمِيرُ قالَ: وأمّا قَوْلُ مَن قالَ: عَسى أنْتَ تَقُومُ، وعَسى أنا أقُومُ، فَدُونَ ما ذُكِرَ تَطْوِيلُ الَّذِي فِيهِ. انْتَهى. ولا أعْلَمُ أحَدًا مِن نَقَلَةِ العَرَبِ ذَكَرَ انْفِصالَ الضَّمِيرِ بَعْدَ عَسى، وفَصَلَ بَيْنَ عَسى وخَبَرِها بِالشَّرْطِ، وهو إنْ تَوَلَّيْتُمْ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿إنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾، ومَعْناهُ إنْ أعْرَضْتُمْ عَنِ الإسْلامِ. وقالَ قَتادَةُ: كَيْفَ رَأيْتُمُ القَوْمَ حِينَ تَوَلَّوْا عَنْ كِتابِ اللَّهِ ؟ ألَمْ يَسْفِكُوا الدَّمَ الحَرامَ، وقَطَّعُوا الأرْحامَ، وعَصَوُا الرَّحْمَنَ ؟ يُشِيرُ إلى ما جَرى مِنَ الفَتْرَةِ بَعْدَ زَمانِ الرَّسُولِ. وقالَ كَعْبٌ، ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وأبُو العالِيَةِ، والكَلْبِيُّ: إنْ تَوَلَّيْتُمْ، أيْ أُمُورَ النّاسِ مِنَ الوِلايَةِ، ويَشْهَدُ لَها قِراءَةُ وُلِّيتُمْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وعَلى هَذا قِيلَ: نَزَلَتْ فِيبَنِي هاشِمٍ وبَنِي أُمَيَّةَ. وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ”إنْ تَوَلَّيْتُمْ“، بِضَمِّ التّاءِ والواوِ وكَسْرِ اللّامِ، وبِها قَرَأ عَلِيٌّ وأُوَيْسٌ، أيْ إنْ ولَّيْتُكم وِلايَةَ جَوْرٍ دَخَلْتُمْ إلى دُنْياهم دُونَ إمامِ العَدْلِ. وعَلى مَعْنى إنْ تَوَلَّيْتُمْ بِالتَّعْذِيبِ والتَّنْكِيلِ وإقْفالِ العَرَبِ في جاهِلِيَّتِها وسِيرَتِها مِنَ الغاراتِ والثَّباتِ، فَإنْ كانَتْ ثَمَرَتُها الإفْسادُ في الأرْضِ وقَطِيعَةُ الرَّحِمِ. وقِيلَ مَعْناهُ: إنْ تَوَلّاكُمُ النّاسُ: وكَلَكُمُ اللَّهُ إلَيْهِمْ، والأظْهَرُ أنَّ ذَلِكَ خِطابٌ لِلْمُنافِقِينَ في أمْرِ القِتالِ، وهو الَّذِي سَبَقَتِ الآياتُ فِيهِ، أيْ إنْ أعْرَضْتُمْ عَنِ امْتِثالِ أمْرِ اللَّهِ في القِتالِ. و﴿أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ﴾ بِعَدَمِ مَعُونَةِ أهْلِ الإسْلامِ، فَإذا لَمْ تُعِينُوهم قَطَعْتُمْ ما بَيْنَكم وبَيْنَهم مِن صِلَةِ الرَّحِمِ. ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) . فالآياتُ كُلُّها في المُنافِقِينَ. وهَذا التَّوَقُّعُ الَّذِي في عَسى لَيْسَ مَنسُوبًا إلَيْهِ تَعالى، لِأنَّهُ عالِمٌ بِما كانَ وما يَكُونُ، وإنَّما هو بِالنِّسْبَةِ لِمَن عَرَفَ المُنافِقِينَ، كَأنَّهُ يَقُولُ لَهم: لَنا عِلْمٌ مِن حَيْثُ ضَياعُهم. هَلْ يَتَوَقَّعُ مِنكم إذا أعْرَضْتُمْ عَنِ القِتالِ أنْ يَكُونَ كَذا وكَذا ؟ وقَرَأ الجُمْهُورُ: (تُقَطِّعُوا)، بِالتَّشْدِيدِ عَلى التَّكْثِيرِ، وأبُو عَمْرٍو، في رِوايَةٍ، وسَلّامٌ، ويَعْقُوبُ، وأبانٌ، وعِصْمَةُ: بِالتَّخْفِيفِ، مُضارِعُ قَطَعَ، والحَسَنُ: وتَقَطَّعُوا، بِفَتْحِ التّاءِ والقافِ عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، أيْ أرْحامُكم، لِأنَّ تَقَطَّعَ لازِمٌ. (أُولَئِكَ) إشارَةٌ إلى المَرْضى القُلُوبِ، ﴿فَأصَمَّهُمْ﴾ عَنْ سَماعِ المَوْعِظَةِ، ﴿وأعْمى أبْصارَهُمْ﴾ عَنْ طَرِيقِ الهُدى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَعَنَهُمُ اللَّهُ لِإفْسادِهِمْ وقَطْعِهِمُ الأرْحامَ، فَمَنَعَهم ألْطافَهُ، وخَذَلَهم حَتّى عَمُوا. انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقِ الِاعْتِزالِ. وجاءَ التَّرْكِيبُ: فَأصَمَّهم، ولَمْ يَأْتِ فَأصَمَّ آذانَهم، وجاءَ: وأعْمى أبْصارَهم، ولَمْ يَأْتِ وأعْماهم. قِيلَ: لِأنَّ الأُذُنَ لَوْ أصَمَّتْ لا تَسْمَعُ الإبْصارَ، فالعَيْنُ لَها مَدْخَلٌ في الرُّؤْيَةِ، والأُذُنُ لَها مَدْخَلٌ في السَّمْعِ. انْتَهى. ولِهَذا جاءَ: ﴿وعَلى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٧]، (وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ)، ولَمْ يَأْتِ: وعَلى آذانِهِمْ، ولا يَأْتِي: وجَعَلَ لَكُمُ الآذانَ. (p-٨٣)وحِينَ ذُكِرَ الأُذُنُ، نُسِبَتْ إلَيْهِ الوَقْرُ، وهو دُونُ الصَّمَمِ، كَما قالَ: ﴿وفِي آذانِنا وقْرٌ﴾ [فصلت: ٥] . (أفَلا يَتَدَبَّرُونَ): أيْ يَتَصَفَّحُونَهُ وما فِيهِ مِنَ المَواعِظِ والزَّواجِرِ ووَعِيدِ العُصاةِ، وهو اسْتِفْهامٌ تَوْبِيخِيٌّ وتَوْقِيفِيٌّ عَلى مُحارِبِهِمْ. ﴿أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها﴾: اسْتِعارَةٌ لِلَّذِينَ مِنهُمُ الإيمانُ، وأمْ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنى بَلْ، والهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ، ولا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ بِأنَّ قُلُوبَهم مُقْفَلَةٌ لا يَصِلُ إلَيْها ذِكْرٌ، ولَمْ يَحْتَجْ إلى تَعْرِيفِ القُلُوبِ، لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّها قُلُوبُ مَن ذُكِرَ. ولا حاجَةَ إلى تَقْدِيرِ صِفَةِ مَحْذُوفٍ، أيْ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها قاسِيَةٌ. وأضافَ الأقْفالَ إلَيْها، أيِ الأقْفالُ المُخْتَصَّةُ، أوْ هي أقْفالُ الكُفْرِ الَّتِي اسْتُغْلِقَتْ، فَلا تُفْتَحُ. وقُرِئَ: إقْفالُها، بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وهو مَصْدَرٌ، وأقْفُلُها بِالجَمْعِ عَلى أفْعُلٍ. ﴿إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أدْبارِهِمْ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى﴾ قالَ قَتادَةُ: نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِنَ اليَهُودِ، وكانُوا عَرَفُوا أمْرَ الرَّسُولِ مِنَ التَّوْراةِ، وتَبَيَّنَ لَهم بِهَذا الوَجْهِ، فَلَمّا باشَرُوا أمْرَهُ حَسَدُوهُ، فارْتَدُّوا عَنْ ذَلِكَ القَدْرِ مِنَ الهُدى. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ: نَزَلَتْ في مُنافِقِينَ كانُوا أسْلَمُوا، ثُمَّ ماتَتْ قُلُوبُهم. والآيَةُ تَتَناوَلُ كُلَّ مَن دَخَلَ في ضِمْنِ لَفْظِها. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى (سَوَّلَ) في سُورَةِ يُوسُفَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَوَّلَ لَهم رُكُوبَ العَظائِمِ، مِنَ السَّوْلِ، وهو الِاسْتِرْخاءُ، وقَدِ اشْتَقَّهُ مِنَ السُّؤْلِ مَن لا عِلْمَ لَهُ بِالتَّصْرِيفِ والِاشْتِقاقِ جَمِيعًا. انْتَهى. وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: بِمَعْنى ولا هم مِنَ السَّوْلِ، وهو الِاسْتِرْخاءُ والتَّدَلِّي. وقالَ غَيْرُهُ: سَوَّلَهم: رَجّاهم. وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: أعْطاهم سُؤْلَهم. وقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وقَدِ اشْتَقَّهُ إلى آخِرِهِ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأنَّهُ تَوَهَّمَ أنَّ السُّولَ أصْلُهُ الهَمْزَةُ. واخْتَلَفَتِ المادَّتانِ، أوْ عَيْنُ سَوَّلَ واوٌ، وعَيْنُ السُّؤْلِ هَمْزَةٌ، والسُّولُ لَهُ مادَّتانِ: إحْداهُما الهَمْزُ، مِن سَألَ يَسْألُ، والثّانِيَةُ الواوُ، مِن سالَ يُسالُ. فَإذا كانَ هَكَذا، فَسَوَّلَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن ذَواتِ الهَمْزِ. وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: والتَّسْوِيلُ أصْلُهُ مِنَ الإرْخاءِ، ومِنهُ: ﴿فَدَلّاهُما بِغُرُورٍ﴾ [الأعراف: ٢٢] . والسَّوْلُ: اسْتِرْخاءُ البَطْنِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ﴿سَوَّلَ لَهُمْ﴾: أيْ كَيْدَهُ عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضافٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿وأمْلى لَهُمْ﴾ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، والظّاهِرُ أنَّهُ يَعُودُ عَلى الشَّيْطانِ، وقالَهُ الحَسَنُ، وجَعَلَ وعْدَهُ الكاذِبَ بِالبَقاءِ، كالإبْقاءِ. والإبْقاءُ هو البَقاءُ مَلاوَةً مِنَ الدَّهْرِ يَمُدُّ لَهم في الآمالِ والأمانِيِّ. قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ فاعِلُ أمْلى ضَمِيرًا يَعُودُ عَلى اللَّهِ، وهو الأرْجَحُ، لِأنَّ حَقِيقَةَ الإمْلاءِ إنَّما هو مِنَ اللَّهِ. وقَرَأ ابْنُ سِيرِينَ، والجَحْدَرِيُّ، وشَيْبَةُ، وأبُو عَمْرٍو، وعِيسى: وأُمْلِيَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أيْ أُمْهِلُوا ومُدُّوا في عُمْرِهِمْ. وقَرَأ مُجاهِدٌ، وابْنُ هُرْمُزَ، والأعْمَشُ، وسَلّامٌ، ويَعْقُوبُ: وأُمْلِي بِهَمْزَةِ المُتَكَلِّمِ مُضارِعَ أمْلى، أيْ وأنا أنْظِرُهم، كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّما نُمْلِي لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٨]، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ماضِيًا سَكَنَتْ مِنهُ الياءُ، كَما تَقُولُ في يَعِي بِسُكُونِ الياءِ. ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ﴾ . ورُوِيَ أنَّ قَوْمًا مِن قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ كانُوا يُعِينُونَ المُنافِقِينَ في أمْرِ الرَّسُولِ والخِلافِ عَلَيْهِ بِنَصْرِهِ ومُؤازَرَتِهِ، وذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿سَنُطِيعُكم في بَعْضِ الأمْرِ﴾ . وقِيلَ: الضَّمِيرُ في قالُوا لِلْمُنافِقِينَ، والَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ: هم قُرَيْظَةُ والنَّضِيرُ، وبَعْضُ الأمْرِ: قَوْلُ المُنافِقِينَ لَهم: ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ﴾ [الحشر: ١١]، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقِيلَ: بَعْضُ الأمْرِ: التَّكْذِيبُ بِالرَّسُولِ، أوْ بِلا إلَهَ إلّا اللَّهُ، أوْ تَرْكُ القِتالِ مَعَهُ. وقِيلَ: هو قَوْلُ الفَرِيقَيْنِ، اليَهُودِ والمُنافِقِينَ لِلْمُشْرِكِينَ: سَنُطِيعُكم في التَّكافُؤِ عَلى عَداوَةِ الرَّسُولِ والقُعُودِ عَنِ الجِهادِ مَعَهُ، وتَعَيَّنَ في بَعْضِ الأمْرِ في بَعْضِ ما يَأْسِرُونَ بِهِ، أوْ في بَعْضِ الأمْرِ الَّذِي يُهِمُّكم. وقَرَأ الجُمْهُورُ: أسْرارَهم. بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وكانَتْ أسْرارُهم كَثِيرَةً. وابْنُ وثّابٍ، وطَلْحَةُ، والأعْمَشُ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ: بِكَسْرِها: وهو مَصْدَرٌ، قالُوا: ذَلِكَ سِرًّا فِيما بَيْنَهم، وأفْشاهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: الأظْهَرُ أنْ يُقالَ: واللَّهُ يَعْلَمُ أسْرارَهم، ما في قُلُوبِهِمْ مِنَ العِلْمِ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإنَّهم كانُوا مُعانِدِينَ مُكابِرِينَ، وكانُوا يَعْرِفُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهم. انْتَهى. ﴿فَكَيْفَ إذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ﴾: تَقَدَّمَ (p-٨٤)شَرْحُ: (الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، ومَبْلَغُهم لِأجْلِ القِتالِ. وتَقَدَّمَ قَوْلُ المُرْتَدِّينَ، وما يَلْحَقُهم في ذَلِكَ مِن جَزائِهِمْ عَلى طَواعِيَةِ الكاذِبِينَ ما أنْزَلَ اللَّهُ. وتَقَدَّمَ: ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ إسْرارَهُمْ﴾، فَجاءَ هَذا الِاسْتِفْهامُ الَّذِي مَعْناهُ التَّوْقِيفُ عَقِبَ هَذِهِ الأشْياءِ. فَقالَ الطَّبَرِيُّ: فَكَيْفَ عِلْمُهُ بِها، أيْ بِإسْرارِهِمْ إذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ ؟ وقِيلَ: فَكَيْفَ يَكُونُ حالُهم مَعَ اللَّهِ فِيما ارْتَكَبُوهُ مِن ذَلِكَ القَوْلِ ؟ وقَرَأ الأعْمَشُ: تَوَفّاهم، بِألِفٍ بَدَلَ التّاءِ، فاحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ ماضِيًا ومُضارِعًا حُذِفَتْ مِنهُ التّاءُ، والظّاهِرُ أنَّ وقْتَ التَّوَفِّي هو عِنْدَ المَوْتِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لا يُتَوَفّى أحَدٌ عَلى مَعْصِيَتِهِ إلّا تَضْرِبُ المَلائِكَةُ في وجْهِهِ وفي دُبُرِهِ. والمَلائِكَةُ: مَلَكُ المَوْتِ والمَصْرُفُونَ مَعَهُ. وقِيلَ: هو وقْتُ القِتالِ نُصْرَةً لِلرَّسُولِ، يَضْرِبُ وُجُوهَهم أنْ يَثْبُتُوا، وأدْبارَهم: انْهَزِمُوا. والمَلائِكَةُ: النَّصْرُ. والظّاهِرُ أنَّ يَضْرِبُونَ حالٌ مِنَ المَلائِكَةِ، وقِيلَ: حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في تَوَفّاهم، وهو ضَعِيفٌ. (ذَلِكَ): أيْ ذَلِكَ الضَّرْبُ لِلْوُجُوهِ والأدْبارِ، ﴿بِأنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أسْخَطَ اللَّهَ﴾: وهو الكُفْرُ، أوْ كِتْمانُ بَعْثِ الرَّسُولِ، أوْ تَسْوِيلُ الشَّيْطانِ، أقْوالٌ. والمُتَّبِعُ الشَّيْءَ هو مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَيْهِ، فَناسَبَ ضَرْبَ المَلائِكَةِ وجْهَهُ. ﴿وكَرِهُوا رِضْوانَهُ﴾: وهو الإيمانُ بِاللَّهِ واتِّباعُ دِينِهِ. والكافِرُ لِلشَّيْءِ مُتَوَلٍّ عَنْهُ، فَناسَبَ ضَرْبَ المَلائِكَةِ دُبُرَهُ، فَفي ذَلِكَ مُقابَلَةُ أمْرَيْنِ بِأمْرَيْنِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب