الباحث القرآني

(p-٧٧)﴿إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ ويَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الأنْعامُ والنّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ ﴿وكَأيِّنْ مِن قَرْيَةٍ هي أشَدُّ قُوَّةً مِن قَرْيَتِكَ الَّتِي أخْرَجَتْكَ أهْلَكْناهم فَلا ناصِرَ لَهُمْ﴾ ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ واتَّبَعُوا أهْواءَهُمْ﴾ ﴿مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيها أنْهارٌ مِن ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وأنْهارٌ مِن لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وأنْهارٌ مِن خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ وأنْهارٌ مِن عَسَلٍ مُصَفًّى ولَهم فِيها مِن كُلِّ الثَّمَراتِ ومَغْفِرَةٌ مِن رَبِّهِمْ كَمَن هو خالِدٌ في النّارِ وسُقُوا ماءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أمْعاءَهُمْ﴾ ﴿ومِنهم مَن يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتّى إذا خَرَجُوا مِن عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ ماذا قالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ واتَّبَعُوا أهْواءَهُمْ﴾ ﴿والَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهم هُدًى وآتاهم تَقْواهُمْ﴾ ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلّا السّاعَةَ أنْ تَأْتِيَهم بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أشْراطُها﴾ ﴿فَأنّى لَهم إذا جاءَتْهم ذِكْراهُمْ﴾ ﴿فاعْلَمْ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ واللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكم ومَثْواكُمْ﴾ . ﴿يَتَمَتَّعُونَ﴾: أيْ يَنْتَفِعُونَ بِمَتاعِ الدُّنْيا أيّامًا قَلائِلَ، ﴿ويَأْكُلُونَ﴾، غافِلِينَ غَيْرَ مُفَكِّرِينَ في العاقِبَةِ، ﴿كَما تَأْكُلُ الأنْعامُ﴾ في مَسارِحِها ومَعالِفِها، غافِلَةً عَمّا هي بِصَدَدِهِ مِنَ النَّحْرِ والذَّبْحِ. والكافُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، إمّا عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ المَصْدَرِ، كَما يَقُولُ سِيبَوَيْهِ، أيْ يَأْكُلُونَهُ، أيِ الأكْلُ مُشْبِهًا أكْلَ الأنْعامِ. والمَعْنى: أنَّ أكْلَهم مُجَرَّدٌ مِنَ الفِكْرِ والنَّظَرِ، كَما يُقالُ لِلْجاهِلِ: يَعِيشُ كَما تَعِيشُ البَهِيمَةُ، لا يُرِيدُ التَّشْبِيهَ في مُطْلَقِ العَيْشِ، ولَكِنْ في لازِمِهِ. ﴿والنّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾: أيْ مَوْضِعُ إقامَةٍ. ثُمَّ ضَرَبَ تَعالى مَثَلًا لِمَكَّةَ والقُرى المُهْلَكَةِ عَلى عِظَمِها، كَقَرْيَةِ عادٍ وغَيْرِهِمْ، والمُرادُ أهْلُها، وأسْنَدَ الإخْراجَ إلَيْها مَجازًا. والمَعْنى: كانُوا سَبَبَ خُرُوجِكَ، وذَلِكَ وقْتَ هِجْرَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى المَدِينَةِ. وكَما جاءَ في «حَدِيثِ ورَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ: يا لَيْتَنِي فِيها جَذَعًا إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، قالَ: أوَمُخْرِجِيَّ هم» . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ونُسِبَ الإخْراجُ إلى القَرْيَةِ حَمْلًا عَلى اللَّفْظِ، وقالَ: (أهْلَكْناهم) (p-٧٨)حَمْلًا عَلى المَعْنى. انْتَهى. وظاهِرُ هَذا الكَلامِ لا يَصِحُّ، لِأنَّ الضَّمِيرَ في أهْلَكْناهم لَيْسَ عائِدًا عَلى المُضافِ إلى القَرْيَةِ الَّتِي أُسْنِدَ إلَيْها الإخْراجُ، بَلْ إلى أهْلِ القَرْيَةِ في قَوْلِهِ: (وكَأيِّنْ مِن قَرْيَةٍ)، وهو صَحِيحٌ، لَكِنَّ ظاهِرَ قَوْلِهِ حَمْلًا عَلى اللَّفْظِ وحَمْلًا عَلى المَعْنى: أيْ أنْ يَكُونَ في مَدْلُولٍ واحِدٍ، وكانَ يَبْقى كَأيِّنْ مُفْلَتًا غَيْرَ مُحَدَّثٍ عَنْهُ بِشَيْءٍ، إلّا أنَّ وقْتَ إهْلاكِهِمْ كَأنَّهُ قالَ: فَهم لا يُنْصَرُونَ إذْ ذاكَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمّا أُخْرِجَ مِن مَكَّةَ إلى الغارِ، التَفَتَ إلى مَكَّةَ وقالَ: أنْتِ أحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، وأنْتِ أحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إلَيَّ، فَلَوْ أنَّ المُشْرِكِينَ لَمْ يُخْرِجُونِي، لَمْ أخْرُجْ مِنكِ، فَأعْدى الأعْداءِ مَن عَدا عَلى اللَّهِ في حَرَمِهِ، أوْ قَتَلَ غَيْرَ قاتِلِهِ. وقِيلَ: بِدُخُولِ الجاهِلِيَّةِ قالَ: فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى، (وكَأيِّنْ مِن قَرْيَةٍ) الآيَةَ، وقَدْ تَقَدَّمَ أوَّلَ السُّورَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ خِلافُ هَذا القَوْلِ. (أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ): اسْتِفْهامُ تَوْقِيفٍ وتَقْرِيرٍ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، وهي مُعادَلَةٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الفَرِيقَيْنِ. قالَ قَتادَةُ: والإشارَةُ إلى الرَّسُولِ وإلى كُفّارِ قُرَيْشٍ. انْتَهى. واللَّفْظُ عامٌّ لِأهْلِ الصِّنْفَيْنِ. ومَعْنى عَلى بَيِّنَةٍ: واضِحَةٍ، وهو القُرْآنُ المُعْجِزُ وسائِرُ المُعْجِزاتِ. ﴿كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ﴾: وهو الشِّرْكُ والكُفْرُ بِاللَّهِ وعِبادَةُ غَيْرِهِ. (واتَّبَعُوا أهْواءَهم): أيْ شَهَواتِ أنْفُسِهِمْ مِمَّنْ لا يَكُونُ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَعَبَدُوا غَيْرَ خالِقِهِمْ. والضَّمِيرُ في واتَّبَعُوا عائِدٌ عَلى مَعْنى مَن، وقُرِئَ أمَن كانَ بِغَيْرِ فاءٍ. (مَثَلُ الجَنَّةِ): أيْ صِفَةُ الجَنَّةِ، وهو مَرْفُوعٌ بِالِابْتِداءِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: كَأنَّهُ قالَ: صِفَةُ الجَنَّةِ، وهو ما تَسْمَعُونَ. انْتَهى. فَما تَسْمَعُونَ الخَبَرَ، وفِيها أنَّها تَفْسِيرٌ لِتِلْكَ الصِّفَةِ، فَهو اسْتِئْنافُ إخْبارٍ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ. وقالَ سِيبَوَيْهِ: فِيما يُتْلى عَلَيْكم مَثَلُ الجَنَّةِ، وقُدِّرَ الخَبَرُ المَحْذُوفُ مُتَقَدِّمًا، ثُمَّ فُسِّرَ ذَلِكَ الَّذِي يُتْلى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وفي الكَلامِ حَذْفٌ يَقْتَضِيهِ الظّاهِرُ، كَأنَّهُ قِيلَ: مَثَلُ الجَنَّةِ ظاهِرٌ في نَفْسِ مَن وعى هَذِهِ الأوْصافَ. وكانَ ابْنَ عَطِيَّةَ قَدْ قالَ قَبْلَ هَذا: ويَظْهَرُ أنَّ القَصْدَ بِالتَّمْثِيلِ هو إلى الشَّيْءِ الَّذِي يَتَخَيَّلُهُ المَرْءُ عِنْدَ سَماعِهِ. فَهَهُنا كَذا، فَكَأنَّهُ يَتَصَوَّرُ عِنْدَ ذَلِكَ اتِّباعًا عَلى هَذِهِ الصُّورَةِ، وذَلِكَ هو مَثَلُ الجَنَّةِ. قالَ: وعَلى هَذِهِ التَّأْوِيلاتِ، يَعْنِي قَوْلَ النَّضْرِ وقَوْلَ سِيبَوَيْهِ، وما قالَهُ هو يَكُونُ قَبْلَ قَوْلِهِ: ﴿كَمَن هو خالِدٌ في النّارِ﴾ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: أساكِنٌ ؟ أوْ أهَؤُلاءِ ؟ إشارَةٌ إلى المُتَّقِينَ. قِيلَ: ويُحْتَمَلُ عِنْدِي أنْ يَكُونَ الحَذْفُ في صَدْرِ هَذِهِ الآيَةِ، كَأنَّهُ قالَ: مَثَلُ أهْلِ الجَنَّةِ، وهي بِهَذِهِ الأوْصافِ، ﴿كَمَن هو خالِدٌ في النّارِ﴾ . ويَجِيءُ قَوْلُهُ: ﴿فِيها أنْهارٌ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ. انْتَهى. ولَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ هَذا الوَجْهِ. قالَ: ومَثَلُ الجَنَّةِ: صِفَةُ الجَنَّةِ العَجِيبَةِ الشَّأْنِ، وهو مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُ مَن هو خالِدٌ في النّارِ. وقَوْلُهُ: ﴿فِيها أنْهارٌ﴾، في حُكْمِ الصِّلَةِ، كالتَّكْرِيرِ لَها. ألا تَرى إلى سِرِّ قَوْلِهِ: الَّتِي فِيها أنْهارٌ ؟ ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هي: فِيها أنْهارٌ، كَأنَّ قائِلًا قالَ: وما مِثْلُها ؟ فَقِيلَ: فِيها أنْهارٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أيْضًا: فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيها أنْهارٌ﴾ ؟ قالَ: ﴿كَمَن هو خالِدٌ في النّارِ﴾ . قُلْتُ: هو كَلامٌ في صُورَةِ الإثْباتِ، ومَعْناهُ النَّفْيُ والإنْكارُ، لِانْطِوائِهِمْ تَحْتَ كَلامٍ مُصَدَّرٍ بِحَرْفِ الإنْكارِ، ودُخُولِهِ في حَيِّزِهِ، وانْخِراطِهِ في مَسْلَكِهِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ﴾، فَكَأنَّهُ قِيلَ: مَثَلُ الجَنَّةِ كَمَن هو خالِدٌ في النّارِ، أيْ كَمَثَلِ جَزاءِ مَن هو خالِدٌ في النّارِ. فَإنْ قُلْتَ: لِمَ عَرِيَ مِن حَرْفِ الإنْكارِ ؟ وما فائِدَةُ التَّعْرِيَةِ ؟ قُلْتُ: تَعْرِيَتُهُ مِن حَرْفِ الإنْكارِ فِيها زِيادَةُ تَصْوِيرٍ لِمُكابَرَةِ مَن سَوّى بَيْنَ المُسْتَمْسِكِ بِالبَيِّنَةِ والتّابِعِ لِهَواهُ، وأنَّهُ بِمَنزِلَةِ مَن يُثْبِتُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الجَنَّةِ الَّتِي تَجْرِي فِيها تِلْكَ الأنْهارُ، وبَيْنَ النّارِ الَّتِي يُسْقى أهْلُها الحَمِيمَ، ونَظِيرُهُ قَوْلُ القائِلِ: ؎أفْرَحُ أنْ أُرْزَأ الكِرامَ وإنْ أوْرِثْ ذَوْدًا شَصائِصًا نَبْلا هُوَ كَلامٌ مُنْكِرٌ لِلْفَرَحِ بِرَزِيَّةِ الكِرامِ ووِراثَةِ الذَّوْدِ، مَعَ تَعْرِيَتِهِ مِن حَرْفِ الإنْكارِ، لِانْطِوائِهِ تَحْتَ حُكْمِ (p-٧٩)مَن قالَ: أتَفْرَحُ بِمَوْتِ أخِيكَ، وبِوِراثَةِ إبِلِهِ ؟ والَّذِي طُرِحَ لِأجْلِهِ حَرْفُ الإنْكارِ إرادَةُ أنْ يُصَوِّرَ قُبْحَ ما أزَّنَ بِهِ، فَكَأنَّهُ قالَ: نَعَمْ مِثْلِي يَفْرَحُ بِمَرْزَأةِ الكِرامِ، وبِأنْ يَسْتَبْدِلَ مِنهم ذَوْدًا يَقِلُّ طائِلُهُ، وهو مِنَ التَّسْلِيمِ الَّذِي تَحْتَهُ كُلُّ إنْكارٍ. انْتَهى. وتَلَخَّصَ مِن هَذا الِاتِّفاقُ عَلى إعْرابِ: (مَثَلُ الجَنَّةِ) مُبْتَدَأٌ، واخْتَلَفُوا في الخَبَرِ، فَقِيلَ: هو مَذْكُورٌ، وهو: ﴿كَمَن هو خالِدٌ في النّارِ﴾ . وقِيلَ: مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: مُقَدَّرٌ قَبْلَهُ، وهو قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وقِيلَ: بَعْدَهُ، وهو قَوْلُ النَّضْرِ وابْنِ عَطِيَّةَ عَلى اخْتِلافِ التَّقْدِيرِ. ولَمّا بَيَّنَ الفَرْقَ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ في الِاهْتِداءِ والضَّلالِ، بَيَّنَ الفَرْقَ بَيْنَهُما فِيما يَئُولانِ إلَيْهِ. وكَما قَدَّمَ مَن عَلى بَيِّنَةٍ عَلى مَنِ اتَّبَعَ هَواهُ، قَدَّمَ حالَهُ عَلى حالِهِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأهْلُ مَكَّةَ: آسِنٌ، عَلى وزْنِ فاعِلٍ، مِن أسَنَ، بِفَتْحِ السِّينِ، وقُرِئَ: غَيْرِ ياسِنٍ بِالياءِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: وذَلِكَ عَلى تَخْفِيفِ الهَمْزِ. ﴿لَمْ يَتَغَيَّرْ﴾، وغَيْرُهُ. و(لَذَّةٍ): تَأْنِيثَ لَذَّ، وهو اللَّذِيذُ، ومَصْدَرٌ نُعِتَ بِهِ، فالجُمْهُورُ بِالجَرِّ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِخَمْرٍ، وقُرِئَ بِالرَّفْعِ صِفَةً لِـ ”أنْهارٌ“، وبِالنَّصْبِ: أيْ لِأجْلِ لَذَّةٍ، فَهو مَفْعُولٌ لَهُ. ﴿مِن عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمْ يَخْرُجْ مِن بُطُونِ النَّحْلِ. قِيلَ: فَيُخالِطَهُ الشَّمْعُ وغَيْرُهُ، ووَصَفَهُ بِمُصَفًّى لِأنَّ الغالِبَ عَلى العَسَلِ التَّذْكِيرُ، وهو مِمّا يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ. وعَنْ كَعْبٍ: أنَّ النِّيلَ ودِجْلَةَ والفُراتَ وجَيْحانَ تَكُونُ هَذِهِ الأنْهارُ في الجَنَّةِ. واخْتُلِفَ في تَعْيِينِ كُلٍّ، فَهو مِنها لِماذا يَكُونُ يَنْزِلُ، وبُدِئَ مِن هَذِهِ الأنْهارِ بِالماءِ، وهو الَّذِي لا يُسْتَغْنى عَنْهُ في المَشْرُوباتِ، ثُمَّ بِاللَّبَنِ، إذْ كانَ يَجْرِي مَجْرى الطُّعُومِ في كَثِيرٍ مِن أقْواتِ العَرَبِ وغَيْرِهِمْ، ثُمَّ بِالخَمْرِ، لِأنَّهُ إذا حَصَلَ الرِّيُّ والمَطْعُومُ تَشَوَّقَتِ النَّفْسُ إلى ما تَلْتَذُّ بِهِ، ثُمَّ بِالعَسَلِ، لِأنَّ فِيهِ الشِّفاءَ في الدُّنْيا مِمّا يَعْرِضُ مِنَ المَشْرُوبِ والمَطْعُومِ، فَهو مُتَأخِّرٌ في الهَيْئَةِ. ﴿ولَهم فِيها مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾، وقِيلَ: المُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ، أيْ أنْواعٌ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ، وقَدَّرَهُ بَعْضُهم بِقَوْلِهِ: زَوْجانِ. ﴿ومَغْفِرَةٌ مِن رَبِّهِمْ﴾: لِأنَّ المَغْفِرَةَ قَبْلَ دُخُولِ الجَنَّةِ، أوْ عَلى حَذْفٍ، أيْ بِنَعِيمِ مَغْفِرَةٍ، إذِ المَغْفِرَةُ سَبَبُ التَّنْعِيمِ. ﴿وسُقُوا﴾: عائِدٌ عَلى مَعْنى مَن، وهو خالِدٌ عَلى اللَّفْظِ، وكَذا: (خَرَجُوا): عَلى مَعْنى مَن يَسْتَمِعُ. كانَ المُنافِقُونَ يَحْضُرُونَ عِنْدَ الرَّسُولِ ويَسْتَمِعُونَ كَلامَهُ وتِلاوَتَهُ، فَإذا خَرَجُوا، ﴿قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ﴾، وهُمُ السّامِعُونَ كَلامَ الرَّسُولِ حَقِيقَةً الواعُونَ لَهُ: ﴿ماذا قالَ آنِفًا﴾ ؟ أيِ السّاعَةَ، وذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الهُزْءِ والِاسْتِخْفافِ، أيْ لَمْ نَفْهَمْ ما يَقُولُ، ولَمْ نَدْرِ ما نَفْعُ ذَلِكَ. ومِمَّنْ سَألُوهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ. وآنِفًا: حالٌ، أيْ مُبْتَدَأٌ، أيْ: ما القَوْلُ الَّذِي ائْتَنَفَهُ قَبْلَ انْفِصالِهِ عَنْهُ ؟ وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿آنِفًا﴾، عَلى وزْنِ فاعِلٍ، وابْنُ كَثِيرٍ: عَلى وزْنِ فَعِلٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وآنِفًا نُصِبَ عَلى الظَّرْفِ. انْتَهى. وقالَ ذَلِكَ لِأنَّهُ فَسَّرَهُ بِالسّاعَةِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، والمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: آنِفًا، مَعْناهُ: السّاعَةُ الماضِيَةُ القَرِيبَةُ مِنّا، وهَذا تَفْسِيرٌ بِالمَعْنى. انْتَهى. والصَّحِيحُ أنَّهُ لَيْسَ بِظَرْفٍ، ولا نَعْلَمُ أحَدًا مِنَ النُّحاةِ عَدَّهُ في الظُّرُوفِ. والضَّمِيرُ في (زادَهم) عائِدٌ عَلى اللَّهِ، كَما أظْهَرَهُ قَوْلُهُ: (طَبَعَ اللَّهُ)، إذْ هو مُقابِلُهم، وكَما هو في: ﴿وآتاهُمْ﴾، والزِّيادَةُ في هَذا المَعْنى تَكُونُ بِزِيادَةِ التَّفْهِيمِ والأدِلَّةِ، أوْ بِوُرُودِ الشَّرْعِ بِالأمْرِ والنَّهْيِ والإخْبارِ، فَيَزِيدُ المَهْدِيُّ لِزِيادَةِ عِلْمِ ذَلِكَ والإيمانِ بِهِ. قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى قَوْلِ المُنافِقِينَ واضْطِرابِهِمْ، لِأنَّ ذَلِكَ مِمّا يَعْجَبُ بِهِ المُؤْمِنُ ويَحْمَدُ اللَّهَ عَلى إيمانِهِ ويَزِيدُ نُصْرَةً في دِينِهِ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى قَوْلِ الرَّسُولِ ﴿وآتاهم تَقْواهُمْ﴾: أيْ أعْطاهم، أيْ جَعَلَهم مُتَّقِينَ لَهُ، فَتَقْواهم مَصْدَرٌ مُضافٌ لِلْفاعِلِ. (أنْ تَأْتِيَهم): بَدَلُ اشْتِمالٍ مِنَ السّاعَةِ، والضَّمِيرُ لِلْمُنافِقِينَ، أيِ الأمْرُ الواقِعُ في نَفْسِهِ انْتِظارَ السّاعَةِ، وإنْ كانُوا هم في أنْفُسِهِمْ يَنْتَظِرُونَ غَيْرَ ذَلِكَ، لِأنَّ ما في أنْفُسِهِمْ غَيْرُ مُراعًى، لِأنَّهُ باطِلٌ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ الرَّوّاسِيُّ عَنْ أهْلِ مَكَّةَ: أنْ تَأْتِهِمْ. عَلى الشَّرْطِ، وجَوابُهُ: ﴿فَقَدْ جاءَ أشْراطُها﴾، وهَذا غَيْرُ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لِأنَّها آتِيَةٌ لا مَحالَةَ. لَكِنْ خُوطِبُوا بِما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشَّكِّ، ومَعْناهُ: إنْ شَكَكْتُمْ في إثْباتِها فَقَدْ جاءَ أعْلامُها، فالشَّكُّ راجِعٌ إلى المُخاطَبِينَ الشّاكِّينَ. وقالَ (p-٨٠)الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: فَما جَزاءُ الشَّرْطِ ؟ قُلْتُ: قَوْلُهم: ﴿فَأنّى لَهُمْ﴾ ومَعْناهُ: أنْ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ، فَكَيْفَ لَهم ذِكْراهم، أيْ تَذَكُّرُهم واتِّعاظُهم ؟ إذا جاءَتْهُمُ السّاعَةُ يَعْنِي لا تَنْفَعُهُمُ الذِّكْرى حِينَئِذٍ لِقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ وأنّى لَهُ الذِّكْرى﴾ [الفجر: ٢٣] . فَإنْ قُلْتَ: بِمَ يَتَّصِلُ قَوْلُهُ: وقَدْ جاءَ أشْراطُها. عَلى القِراءَتَيْنِ ؟ قُلْتُ: بِإتْيانِ السّاعَةِ اتِّصالَ العِلَّةِ بِالمَعْلُولِ كَقَوْلِكَ: إنْ أكْرَمَنِي زَيْدٌ فَأنا حَقِيقٌ بِالإكْرامِ أُكْرِمْهُ. وقَرَأ الجَعْفِيُّ، وهارُونُ، عَنْ أبِي عَمْرٍو: (بَغْتَةً)، بِفَتْحِ الغَيْنِ وشَدِّ التّاءِ. قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: وهي صِفَةٌ، وانْتِصابُها عَلى الحالِ لا نَظِيرَ لَها في المَصادِرِ ولا في الصِّفاتِ، بَلْ في الأسْماءِ، نَحْوُ الحُرِّيَّةِ، وهو اسْمُ جَماعَةٍ، والسَّرِيَّةُ اسْمُ مَكانٍ. انْتَهى. وكَذا قالَ أبُو العَبّاسِ بْنُ الحاجِّ، مِن أصْحابِ الأُسْتاذِ أبِي عَلِيٍّ الشَّلَوْبِينِيِّ، في (كِتابِ المَصادِرِ) عَلى أبِي عَمْرٍو: أنْ يَكُونَ الصَّوابُ بَغَتَةً، بِفَتْحِ الغَيْنِ مِن غَيْرِ تَشْدِيدٍ، كَقِراءَةِ الحَسَنِ فِيما تَقَدَّمَ. انْتَهى. وهَذا عَلى عادَتِهِ في تَغْلِيظِ الرِّوايَةِ. ﴿فَقَدْ جاءَ أشْراطُها﴾: أيْ عَلاماتُها، فَيَنْبَغِي الِاسْتِعْدادُ لَها. ومِن أشْراطِ السّاعَةِ مَبْعَثُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إذْ هو خاتَمُ الأنْبِياءِ. ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: «أنا مِن أشْراطِ السّاعَةِ» . وقالَ: «بُعِثْتُ أنا والسّاعَةُ كَهاتَيْنِ وكَفَرَسَيْ رِهانٍ» . وقِيلَ: مِنها الدُّخانُ وانْشِقاقُ القَمَرِ. وعَنِ الكَلْبِيِّ: كَثْرَةُ المالِ، والتِّجارَةِ، وشَهادَةِ الزُّورِ، وقَطْعِ الأرْحامِ، وقِلَّةِ الكِرامِ، وكَثْرَةِ اللِّئامِ. ﴿فَأنّى لَهم إذا جاءَتْهم ذِكْراهُمْ﴾: الظّاهِرُ أنَّ المَعْنى: فَكَيْفَ لَهُمُ الذِّكْرى والعَمَلُ بِها إذا جاءَتْهُمُ السّاعَةُ ؟ أيْ قَدْ فاتَها ذَلِكَ. قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُبْتَدَأُ مَحْذُوفًا، أيْ: فَأنّى لَهُمُ الخَلاصُ إذا جاءَتْهُمُ الذِّكْرى بِما كانُوا يُخْبَرُونَ بِهِ فَيُكَذِّبُونَ بِهِ بِتَواصُلِهِ بِالعَذابِ ؟ ثُمَّ أضْرَبَ عَنْ ذِكْرِ المُنافِقِينَ وقالَ: ﴿فاعْلَمْ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ﴾، والمَعْنى: دُمْ عَلى عَمَلِكَ بِتَوْحِيدٍ. واحْتُجَّ بِهَذا عَلى قَوْلِ مَن قالَ: أوَّلُ الواجِباتِ العِلْمُ والنَّظَرُ قَبْلَ القَوْلِ والإقْرارِ. وفي الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى التَّواضُعِ وهَضْمِ النَّفْسِ، إذْ أمَرَهُ بِالِاسْتِغْفارِ، ومَعَ غَيْرِهِ بِالِاسْتِغْفارِ لَهم. ﴿مُتَقَلَّبَكُمْ﴾: مُتَصَرَّفَكم في حَياتِكُمُ الدُّنْيا. ﴿ومَثْواكُمْ﴾: إقامَتَكم في قُبُورِكم وفي آخِرَتِكم. وقالَ عِكْرِمَةُ: مُتَقَلَّبَكم في أصْلابِ الآباءِ إلى أرْحامِ الأُمَّهاتِ، ومَثْواكم: إقامَتَكم في الأرْضِ. وقالَ الطَّبَرِيُّ وغَيْرُهُ: مُتَقَلَّبَكم: تَصَرُّفَكم في يَقَظَتِكم، ومَثْواكم: مَنامَكم. وقِيلَ: مُتَقَلَّبَكم في مَعائِشِكم ومَتاجِرِكم، ومَثْواكم حَيْثُ تُسْتَفَزُّونَ مِن مَنازِلِكم. وقِيلَ: مُتَقَلَّبَكم بِالتّاءِ، وابْنُ عَبّاسٍ بِالنُّونِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب