الباحث القرآني

﴿ولَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إسْرائِيلَ مِنَ العَذابِ المُهِينِ﴾ ﴿مِن فِرْعَوْنَ إنَّهُ كانَ عالِيًا مِنَ المُسْرِفِينَ﴾ ﴿ولَقَدِ اخْتَرْناهم عَلى عِلْمٍ عَلى العالَمِينَ﴾ ﴿وآتَيْناهم مِنَ الآياتِ ما فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ﴾ ﴿إنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ﴾ ﴿إنْ هي إلّا مَوْتَتُنا الأُولى وما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ﴾ ﴿فَأْتُوا بِآبائِنا إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ ﴿أهم خَيْرٌ أمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أهْلَكْناهم إنَّهم كانُوا مُجْرِمِينَ﴾ ﴿وما خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما لاعِبِينَ﴾ ﴿ما خَلَقْناهُما إلّا بِالحَقِّ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿إنَّ يَوْمَ الفَصْلِ مِيقاتُهم أجْمَعِينَ﴾ ﴿يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا ولا هم يُنْصَرُونَ﴾ ﴿إلّا مَن رَحِمَ اللَّهُ إنَّهُ هو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ﴾ [الدخان: ٤٣] ﴿طَعامُ الأثِيمِ﴾ [الدخان: ٤٤] ﴿كالمُهْلِ يَغْلِي في البُطُونِ﴾ [الدخان: ٤٥] ﴿كَغَلْيِ الحَمِيمِ﴾ [الدخان: ٤٦] ﴿خُذُوهُ فاعْتِلُوهُ إلى سَواءِ الجَحِيمِ﴾ [الدخان: ٤٧] ﴿ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِن عَذابِ الحَمِيمِ﴾ [الدخان: ٤٨] ﴿ذُقْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ﴾ [الدخان: ٤٩] ﴿إنَّ هَذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ﴾ [الدخان: ٥٠] ﴿إنَّ المُتَّقِينَ في مَقامٍ أمِينٍ﴾ [الدخان: ٥١] ﴿فِي جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ [الدخان: ٥٢] ﴿يَلْبَسُونَ مِن سُنْدُسٍ وإسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ﴾ [الدخان: ٥٣] ﴿كَذَلِكَ وزَوَّجْناهم بِحُورٍ عِينٍ﴾ [الدخان: ٥٤] ﴿يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ﴾ [الدخان: ٥٥] ﴿لا يَذُوقُونَ فِيها المَوْتَ إلّا المَوْتَةَ الأُولى ووَقاهم عَذابَ الجَحِيمِ﴾ [الدخان: ٥٦] ﴿فَضْلًا مِن رَبِّكَ ذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [الدخان: ٥٧] ﴿فَإنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الدخان: ٥٨] ﴿فارْتَقِبْ إنَّهم مُرْتَقِبُونَ﴾ [الدخان: ٥٩] . لَمّا ذَكَرَ تَعالى إهْلاكَ فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ، ذَكَرَ إحْسانَهُ لِبَنِي إسْرائِيلَ، فَبَدَأ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهم، وهو نَجاتُهم مِمّا كانُوا فِيهِ مِنَ العَذابِ. ثُمَّ ذَكَرَ اتِّصالَ النَّفْعِ لَهم، مِنِ اخْتِيارِهِمْ عَلى العالَمِينَ، وإيتائِهِمُ الآياتِ. والعَذابُ المُهِينُ: قَتْلُ أبْنائِهِمْ، واسْتِخْدامُهم في الأعْمالِ الشّاقَّةِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: ﴿مِنَ العَذابِ المُهِينِ﴾: وهو مِن إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى صِفَتِهِ، كَبَقْلَةِ الحَمْقاءِ. و﴿مِن فِرْعَوْنَ﴾: بَدَلٌ (مِنَ العَذابِ)، عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ مِن عَذابِ فِرْعَوْنَ. أوَّلًا حُذِفَ، جَعَلَ فِرْعَوْنَ نَفْسَهُ هو العَذابَ مُبالَغَةً. وقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أيْ كائِنًا وصادِرًا مِن فِرْعَوْنَ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: مَن فِرْعَوْنُ. مَن: اسْتِفْهامٌ: مُبْتَدَأٌ، وفِرْعَوْنُ خَبَرُهُ. لَمّا وصَفَ فِرْعَوْنَ بِالشِّدَّةِ والفَظاعَةِ قالَ: مَن فِرْعَوْنُ ؟ عَلى مَعْنى: هَلْ تَعْرِفُونَهُ مَن هو في عُتُوِّهِ وشَيْطَنَتِهِ ؟ ثُمَّ عَرَّفَ حالَهُ في ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ كانَ عالِيًا مِنَ المُسْرِفِينَ﴾: أيْ مُرْتَفِعًا عَلى العالَمِ، أوْ مُتَكَبِّرًا مُسْرِفًا مِنَ المُسْرِفِينَ. ﴿ولَقَدِ اخْتَرْناهُمْ﴾: أيِ اصْطَفَيْناهم وشَرَّفْناهم. (عَلى عِلْمٍ) ”عِلْمٍ“ مَصْدَرٌ لَمْ يُذْكَرْ فاعِلُهُ، فَقِيلَ: عَلى عِلْمٍ مِنهم وفَضْلٍ فِيهِمْ، فاخْتَرْناهم لِلنُّبُوّاتِ والرِّسالاتِ. وقِيلَ: عَلى عِلْمٍ مِنّا، أيْ عالِمِينَ بِمَكانِ الخِيرَةِ، وبِأنَّهم أحِقّاءٌ بِأنْ يُخْتارُوا. وقِيلَ: عَلى عِلْمٍ مِنّا بِما يَصْدُرُ مِنَ العَدْلِ والإحْسانِ والعِلْمِ والإيمانِ، بِأنَّهم يُزَيِّفُونَ وتَفْرُطُ مِنهُمُ الهَناتُ في بَعْضِ الأمْوالِ. (p-٣٨)وقِيلَ: اخْتَرْناهم بِهَذا الإنْجاءِ وهَذِهِ النِّعَمِ عَلى سابِقِ عِلْمٍ لَنا فِيهِمْ، وخَصَصْناهم بِذَلِكَ دُونَ العالَمِ. (عَلى العالَمِينَ): أيْ عالَمِي زَمانِهِمْ، لِأنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ مُفَضَّلَةٌ عَلَيْهِمْ. وقِيلَ: عَلى العالَمِينَ عامٌّ لِكَثْرَةِ الأنْبِياءِ فِيهِمْ، وهَذا خاصٌّ بِهِمْ لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ. وكانَ الِاخْتِيارُ مِن هَذِهِ الجِهَةِ، لِأنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أفْضَلُ. و”عَلى“ في قَوْلِهِ: (عَلى عِلْمٍ) لَيْسَ مَعْناها مَعْنى عَلى في قَوْلِهِ: (عَلى العالَمِينَ)، ولِذَلِكَ تَعَلَّقا بِفِعْلٍ واحِدٍ لَمّا اخْتَلَفَ المَدْلُولُ، كَقَوْلِهِ: ؎ويَوْمًا عَلى ظَهْرِ الكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ عَلَيَّ وآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تُخَلَّلِ فَعَلى عِلْمٍ: حالٌ، إمّا مِنَ الفاعِلِ، أوْ مِنَ المَفْعُولِ. وعَلى ظَهْرِ: حالٌ مِنَ الفاعِلِ في تَعَذَّرَتْ، والعامِلُ في ذِي الحالِ. ﴿وآتَيْناهم مِنَ الآياتِ﴾: أيِ المُعْجِزاتِ الظّاهِرَةِ في قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وما ابْتُلُوا بِهِ، وفي بَنِي إسْرائِيلَ مِمّا أنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِن تَظْلِيلِ الغَمامِ والمَنِّ والسَّلْوى، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لَمْ يُظْهِرْها لِغَيْرِهِمْ. ﴿ما فِيهِ بَلاءٌ﴾: أيِ اخْتِبارٌ بِالنِّعَمِ ظاهِرٌ، أوِ الِابْتِلاءُ بِالنِّعَمِ كَقَوْلِهِ: ﴿ونَبْلُوكم بِالشَّرِّ والخَيْرِ﴾ [الأنبياء: ٣٥] . (إنَّ هَؤُلاءِ): يَعْنِي قُرَيْشًا، وفي اسْمِ الإشارَةِ تَحْقِيرٌ لَهم. ﴿لَيَقُولُونَ﴾ ﴿إنْ هي إلّا مَوْتَتُنا الأُولى﴾: أيْ ما المَوْتَةُ إلّا مَحْصُورَةٌ في مَوْتَتِنا الأُولى. وكانَ قَدْ قالَ تَعالى: ﴿وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكم ثُمَّ يُمِيتُكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨]، فَذَكَرَ مَوْتَتَيْنِ، أُولى وثانِيَةً، فَأنْكَرُوا هم أنْ يَكُونَ لَهم مَوْتَةٌ ثانِيَةٌ. والمَعْنى: ما آخِرُ أمْرِنا ومُنْتَهى وُجُودِنا إلّا عِنْدَ مَوْتَتِنا. فَيَتَضَمَّنُ قَوْلُهم هَذا إنْكارَ البَعْثِ، ثُمَّ صَرَّحُوا بِما تَضَمَّنَهُ قَوْلُهم، فَقالُوا: ﴿وما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ﴾: أيْ بِمَبْعُوثِينَ بِحَياةٍ دائِمَةٍ يَقَعُ فِيها حِسابٌ وثَوابٌ وعِقابٌ، وكانَ قَوْلُهم ذَلِكَ في مَعْنى قَوْلِهِمْ: ﴿إنْ هي إلّا حَياتُنا الدُّنْيا وما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [الأنعام: ٢٩] . ﴿فَأْتُوا بِآبائِنا﴾: خِطابٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كانُوا يَعِدُونَهم بِالبَعْثِ، أيْ إنْ صَدَقْتُمْ فِيما تَقُولُونَ فَأحْيُوا لَنا مَن ماتَ مِن أبْنائِنا، بِسُؤالِكم رَبَّكم، حَتّى يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى البَعْثِ في الآخِرَةِ. قِيلَ: طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ أنْ يَدْعُوَ اللَّهَ فَيُحْيِيَ لَهم قُصَيَّ بْنَ كِلابٍ، لِيُشاوِرُوهُ في صِحَّةِ النُّبُوَّةِ والبَعْثِ، إذْ كانَ كَبِيرُهم ومُشاوِرُهم في النَّوازِلِ. (أهم): أيْ قُرَيْشٌ، ﴿خَيْرٌ أمْ قَوْمُ تُبَّعٍ﴾ ؟ الظّاهِرُ أنَّ تُبَّعًا هو شَخْصٌ مَعْرُوفٌ، وقَعَ التَّفاضُلُ بَيْنَ قَوْمِهِ وقَوْمِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وإنْ كانَ لَفْظُ تُبَّعٍ يُطْلَقُ عَلى كُلِّ مَن مَلَكَ العَرَبَ، كَما يُطْلَقُ كِسْرى عَلى مَن مَلَكَ الفُرْسَ، وقَيْصَرُ عَلى مَن مَلَكَ الرُّومَ، قِيلَ: واسْمُهُ أسْعَدُ الحِمْيَرِيُّ، وكُنِّيَ أبا كَرِبٍ، وذَكَرَ أبُو حاتِمٍ الرِّياشِيُّ أنَّهُ آمَنَ بِالنَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ أنْ يُبْعَثَ بِسَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ. ورُوِيَ أنَّهُ لَمّا آمَنَ بِالمَدِينَةِ، كَتَبَ كِتابًا ونَظَمَ شِعْرًا. أمّا الشِّعْرُ فَهو: ؎شَهِدْتُ عَلى أحْمَدٍ أنَّهُ ∗∗∗ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بارِي النَّسَمْ ؎فَلَوْ مُدَّ عُمْرِي إلى عُمْرِهِ ∗∗∗ لَكُنْتُ وزِيرًا لَهُ وابْنَ عَمْ وأمّا الكِتابُ، فَرَوى ابْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُ أنَّهُ كانَ فِيهِ: أمّا بَعْدُ: فَإنِّي آمَنتُ بِكَ، وبِكِتابِكَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكَ، وأنا عَلى دِينِكَ وسُنَّتِكَ، وآمَنتُ بِرَبِّكَ ورَبِّ كُلِّ شَيْءٍ، وآمَنتُ بِكُلِّ ما جاءَ مِن رَبِّكَ مِن شَرائِعِ الإسْلامِ، فَإنْ أدْرَكْتُكَ فَبِها ونِعْمَتْ، وإنْ لَمْ أُدْرِكْكَ، فاشْفَعْ لِي، ولا تَنْسَنِي يَوْمَ القِيامَةِ، فَإنِّي مِن أُمَّتِكَ الأوَّلِينَ، وتابَعْتُكَ قَبْلَ مَجِيئِكَ، وأنا عَلى مِلَّتِكَ ومِلَّةِ أبِيكَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. ثُمَّ خَتَمَ الكِتابَ ونَقَشَ عَلَيْهِ: لِلَّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ. وكَتَبَ عُنْوانَهُ: إلى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، نَبِيِّ اللَّهِ ورَسُولِهِ، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، ورَسُولِ رَبِّ العالَمِينَ ﷺ، مِن تُبَّعٍ الأوَّلِ. ويُقالُ: كانَ الكِتابُ والشِّعْرُ عِنْدَ أبِي أيُّوبَ خالِدِ بْنِ زَيْدٍ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتّى بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ، وكانُوا يَتَوارَثُونَهُ كابِرًا عَنْ كابِرٍ، حَتّى أدَّوْهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ . وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: كانَ تُبَّعٌ نَبِيًّا، وعَنْهُ لَمّا أقْبَلَ تُبَّعٌ مِنَ الشَّرْقِ، بَعْدَ أنْ حَيَّرَ الحِيرَةَ وسَمَرْقَنْدَ، قَصَدَ المَدِينَةَ، وكانَ قَدْ خَلَّفَ بِها حِينَ سافَرَ، فَقُتِلَ غِيلَةً، فَأجْمَعَ عَلى خَرابِها واسْتِئْصالِ أهْلِها. فَجَمَعُوا لَهُ الأنْصارَ، وخَرَجُوا لِقِتالِهِ، وكانُوا يُقاتِلُونَهُ بِالنَّهارِ ويُقِرُّونَهُ بِاللَّيْلِ. فَأعْجَبَهُ ذَلِكَ وقالَ: إنَّ هَؤُلاءِ (p-٣٩)لَكِرامٌ، إذْ جاءَهُ كَعْبٌ وأسَدٌ، ابْنا عَمٍّ مِن قُرَيْظَةَ جِيرانٌ، وأخْبَراهُ أنَّهُ يُحالُ بَيْنَكَ وبَيْنَ ما تُرِيدُ، فَإنَّها مَهاجِرُ نَبِيٍّ مِن قُرَيْشٍ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، ومَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، فَثَناهُ قَوْلُهُما عَمّا كانَ يُرِيدُ. ثُمَّ دَعَواهُ إلى دِينِهِما، فاتَّبَعَهُما وأكْرَمَهُما. وانْصَرَفُوا عَنِ المَدِينَةِ، ومَعَهم نَفَرٌ مِنَ اليَهُودِ، فَقالَ لَهُ في الطَّرِيقِ نَفَرٌ مِن هُذَيْلٍ يَدُلُّكَ عَلى بَيْتٍ فِيهِ كَنْزٌ مِن لُؤْلُؤٍ وزَبَرْجَدٍ وفِضَّةٍ بِمَكَّةَ، وأرادَتْ هُذَيْلٌ هَلاكَهُ، لِأنَّهم عَرَفُوا أنَّهُ ما أرادَهُ أحَدٌ بِسُوءٍ إلّا هَلَكَ. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلْحَبْرَيْنِ، فَقالُوا: ما نَعْلَمُ لِلَّهِ بَيْتًا في الأرْضِ غَيْرَ هَذا، فاتَّخِذْهُ مَسْجِدًا، وانْسُكْ عِنْدَهُ، واحْلِقْ رَأْسَكَ، وما أرادَ القَوْمُ إلّا هَلاكَكَ. فَأكْرَمَهُ وكَساهُ، وهو أوَّلُ مَن كَسا البَيْتَ، وقَطَعَ أيْدِيَ أُولَئِكَ النَّفَرِ مِن هُذَيْلٍ وأرْجُلَهم، وسَمَّرَ أعْيُنَهم وصَلَبَهم. وقالَ قَوْمٌ: لَيْسَ المُرادُ بِتُبَّعٍ رَجُلًا واحِدًا، إنَّما المُرادُ مُلُوكُ اليَمَنِ، وكانُوا يُسَمَّوْنَ التَّبابِعَةَ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّهُ أرادَ واحِدًا مِن هَؤُلاءِ، تَعْرِفُهُ العَرَبُ بِهَذا الِاسْمِ أكْثَرَ مِن مَعْرِفَةِ غَيْرِهِ بِهِ. وفي الحَدِيثِ: «لا تَسُبُّوا تُبَّعًا فَإنَّهُ كانَ مُؤْمِنًا» . فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ واحِدٌ بِعَيْنِهِ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: التَّبابِعَةُ مُلُوكُ اليَمَنِ، والتُّبُّعُ: الظِّلُّ، والتُّبَّعُ: ضَرْبٌ مِنَ الطَّيْرِ. وقالَ أبُو القاسِمِ السُّهَيْلِيُّ: تُبَّعٌ لِكُلِّ مَلِكِ اليَمَنِ والشِّحْرِ حَضْرَمَوْتَ، ومَلِكُ اليَمَنِ وحْدَهُ لا يُسَمّى تُبَّعًا، قالَهُ المَسْعُودِيُّ. والخَيْرِيَّةُ الواقِعَةُ فِيها التَّفاضُلُ، وكِلا الصِّنْفَيْنِ لا خَيْرَ فِيهِمْ، هي بِالنِّسْبَةِ لِلْقُوَّةِ والمَنعَةِ، كَما قالَ: ﴿أكُفّارُكم خَيْرٌ مِن أُولَئِكُمْ﴾ [القمر: ٤٣] ؟ بَعْدَ ذِكْرِ آلِ فِرْعَوْنَ في تَفْسِيرِ ابْنِ عَبّاسٍ: أهم أشَدُّ أمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ؟ وإضافَةُ قَوْمٍ إلى تُبَّعٍ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَذْهَبُهم. ﴿أهْلَكْناهم إنَّهم كانُوا مُجْرِمِينَ﴾: إخْبارٌ عَمّا فَعَلَ تَعالى بِهِمْ، وتَنْبِيهٌ عَلى أنَّ عِلَّةَ الإهْلاكِ هي الإجْرامُ، وفي ذَلِكَ وعِيدٌ لِقُرَيْشٍ، وتَهْدِيدٌ أنْ يَفْعَلَ بِهِمْ ما فَعَلَ بِقَوْمِ تُبَّعٍ ومَن قَبْلَهم مِن مُكَذِّبِي الرُّسُلِ لِإجْرامِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلِيلَ القاطِعَ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ بِالبَعْثِ، وهو خَلْقُ العالَمِ بِالحَقِّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (وما بَيْنَهُما) مِنَ الجِنْسَيْنِ، وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْسٍ: وما بَيْنَهُنَّ لاعِبِينَ. قالَ مُقاتِلٌ: عابِثِينَ. ﴿ما خَلَقْناهُما إلّا بِالحَقِّ﴾: أيْ بِالعَدْلِ، يُجازِي المُحْسِنَ والمُسِيءَ بِما أرادَ تَعالى مِن ثَوابٍ وعِقابٍ. (ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ) أنَّهُ تَعالى خَلَقَ ذَلِكَ، فَهم لا يَخافُونَ عِقابًا ولا يَرْجُونَ ثَوابًا. وقُرِئَ: مِيقاتَهم، بِالنَّصْبِ، عَلى أنَّهُ اسْمُ إنَّ، والخَبَرُ يَوْمَ الفَصْلِ، أيْ: إنَّ يَوْمَ الفَصْلِ مِيعادَهم وجَزاءَهم، ﴿يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا﴾ يَعُمُّ جَمِيعَ المَوالِي مِنَ القَرابَةِ والعَتاقَةِ والصِّلَةِ شَيْئًا مِن إغْناءٍ، أيْ قَلِيلًا مِنهُ: (ولا هم يُنْصَرُونَ): جَمْعٌ، لِأنَّ عَنْ مَوْلًى في سِياقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ، فَعادَ عَلى المَعْنى، لا عَلى اللَّفْظِ. ﴿إلّا مَن رَحِمَ اللَّهُ﴾، قالَ الكِسائِيُّ: مَن رَحِمَ: مَنصُوبٌ عَلى الِاسْتِثْناءِ المُنْقَطِعِ، أيْ لَكِنْ مَن رَحِمَهُ اللَّهُ لا يَنالُهم ما يَحْتاجُونَ فِيهِ مَن لَعَنَهم مِنَ المَخْلُوقِينَ. قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلًا، أيْ لا يُغْنِي قَرِيبٌ عَنْ قَرِيبٍ إلّا المُؤْمِنِينَ، فَإنَّهُ يُؤْذَنُ لَهم في شَفاعَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وقالَ الحَوْفِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن مَوْلًى المَرْفُوعِ، ويَكُونُ يُغْنِي بِمَعْنى يَنْفَعُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿مَن رَحِمَ اللَّهُ﴾، في مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلى البَدَلِ مِنَ الواوِ في (يُنْصَرُونَ)، أيْ لا يَمْنَعُ مِنَ العَذابِ إلّا مَن رَحِمَ اللَّهُ، وقالَهُ الحَوْفِيُّ قَبْلَهُ. ﴿إنَّهُ هو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾: لا يَنْصُرُ مَن عَصاهُ، الرَّحِيمُ لِمَن أطاعَهُ ومَن عَفا عَنْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب