الباحث القرآني

﴿فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ﴾ . قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وابْنُ عُمَرَ، وابْنُ عَبّاسٍ، وسَعِيدٌ الخُدْرِيُّ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، والحَسَنُ: هو دُخانٌ يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ، يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِنهُ مِثْلُ الزُّكامِ، ويُنْضِجُ رُءُوسَ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ، حَتّى تَكُونَ مِصْلَقَةٌ حَنِيذَةٌ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو العالِيَةِ، والنَّخَعِيُّ: هو الدُّخانُ الَّذِي رَأتْهُ قُرَيْشٌ. قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ: إنَّ قاصًّا عِنْدَ أبْوابِ كِنْدَةَ يَقُولُ إنَّهُ دُخانٌ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ، فَيَأْخُذُ أنْفاسَ النّاسِ، فَقالَ: مَن عَلِمَ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ، ومَن لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أعْلَمُ. ألا وسَأُحَدِّثُكم أنَّ قُرَيْشًا لَمّا اسْتَعْصَتْ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، دَعا عَلَيْهِمْ فَقالَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وطْأتَكَ عَلى مُضَرَ واجْعَلْها عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ»، فَأصابَهُمُ الجَهْدُ حَتّى أكَلُوا الجِيَفَ، والعِلْهِزُ. والعِلْهِزُ: الصُّوفُ يَقَعُ فِيهِ القُرادُ فَيُشْوى الصُّوفُ بِدَمِ القُرادِ ويُؤْكَلُ. وفِيهِ أيْضًا: حَتّى أكَلُوا العِظامَ. وكانَ الرَّجُلُ يَرى بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ الدُّخانَ، وكانَ يُحَدَّثُ الرَّجُلُ فَيَسْمَعُ الكَلامَ ولا يَرى المُحَدِّثَ مِنَ الدُّخانِ. فَمَشى إلَيْهِ أبُو سُفْيانَ ونَفَرٌ مَعَهُ، وناشَدَهُ اللَّهَ والرَّحِمَ، وواعَدُوهُ، إنْ دَعا لَهم وكَشَفَ عَنْهم، أنْ يُؤْمِنُوا. فَلَمّا كَشَفَ عَنْهم، رَجَعُوا إلى شِرْكِهِمْ. وفِيهِ: فَرَحِمَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ، وبَعَثَ إلَيْهِمْ بِصَدَقَةٍ ومالٍ. وفِيهِ: فَلَمّا أصابَتْهُمُ الرَّفاهِيَةُ عادُوا إلى حالِهِمْ، فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرى إنّا مُنْتَقِمُونَ﴾، قالَ: يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ. وقالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخانُ، واللِّزامُ، والبَطْشَةُ، والقَمَرُ، والرُّومُ. وقالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأعْرَجُ: ﴿يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ﴾، هو يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، لَمّا حَجَبَتِ السَّماءَ الغَبَرَةُ. وفي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: أوَّلُ الآياتِ خُرُوجُ الدَّجّالِ، والدُّخانُ، ونُزُولُ عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ، ونارٌ تَخْرُجُ مِن قَعْرِ عَدَنَ، وفِيهِ قُلْتُ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، وما الدُّخانُ عَلى هَذِهِ الآيَةِ: ﴿فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ﴾ ؟ وذَكَرَ بَقِيَّةَ الحَدِيثِ، واخْتَصَرْناهُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، أيْ ظاهِرٍ. لا شَكَّ أنَّهُ دُخانٌ ﴿يَغْشى النّاسَ﴾: يَشْمَلُهم. فَإنْ كانَ هو الَّذِي رَأتْهُ قُرَيْشٌ، فالنّاسُ خاصٌّ بِالكُفّارِ مِن أهْلِ مَكَّةَ، وقَدْ مَضى كَما قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وإنْ كانَ مِن أشْراطِ السّاعَةِ، أوْ يَوْمَ القِيامَةِ، فالنّاسُ عامٌّ فِيمَن أدْرَكَهُ وقْتُ الأشْراطِ، وعامٌّ بِالنّاسِ يَوْمَ القِيامَةِ. (هَذا عَذابٌ) إلى (مُؤْمِنُونَ) في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلِ القَوْلِ مَحْذُوفًا، وهو في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ يَقُولُونَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ إخْبارًا مِنَ اللَّهِ، كَأنَّهُ تَعَجُّبٌ مِنهُ، كَما قالَ في قِصَّةِ الذَّبِيحِ: ﴿إنَّ هَذا لَهو البَلاءُ المُبِينُ﴾ [الصافات: ١٠٦] . ﴿إنّا مُؤْمِنُونَ﴾: وعْدٌ بِالإيمانِ إنْ كَشَفَ عَنْهُمُ العَذابَ، والإيمانُ واجِبٌ كُشِفَ العَذابُ أوْ لَمْ يُكْشَفْ. ﴿أنّى لَهُمُ الذِّكْرى﴾: أيْ كَيْفَ يَذَّكَّرُونَ ويَتَّعِظُونَ ويَقُولُونَ بِما وعَدُوهُ مِنَ الإيمانِ عِنْدَ كَشْفِ العَذابِ، وقَدْ جاءَهم ما هو أعْظَمُ ؟ وأُدْخِلَ في بابِ ”الِادِّكارِ مِن كَشْفِ الدُّخانِ“ ؟ وهو ما ظَهَرَ عَلى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الآياتِ والبَيِّناتِ، مِنَ الكِتابِ المُعْجِزِ وغَيْرِهِ مِنَ المُعْجِزاتِ، فَلَمْ يَذَّكَّرُوا، وتَوَلَّوْا عَنْهُ وبَهَتُوهُ بِأنَّ عَدّاسًا غُلامًا أعْجَمِيًّا لِبَعْضِ ثَقِيفٍ هو الَّذِي عَلَّمَهُ، ونَسَبُوهُ إلى الجُنُونِ. وقَرَأ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ: مُعَلِّمٌ، بِكَسْرِ اللّامِ. ﴿إنّا كاشِفُوا العَذابِ قَلِيلًا﴾: إخْبارٌ عَنْ إقامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، ومُبالَغَةٌ في الإمْلاءِ لَهم. ثُمَّ أخْبَرَ أنَّهم عائِدُونَ إلى الكُفْرِ. وقالَ قَتادَةُ: هو تَوَعُّدٌ بِمَعادِ الآخِرَةِ: وإنْ كانَ الخِطابُ لِقُرَيْشٍ حِينَ حَلَّ بِهِمُ الجَدْبُ، كانَ ظاهِرًا، وإنْ كانَ الدُّخانُ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ، فَإذا أتَتِ السَّماءُ بِالعَذابِ، تَضَرَّعَ مُنافِقُوهم وكافِرُوهم وقالُوا: رَبَّنا اكْشِفْ عَنّا العَذابَ، إنّا مُؤْمِنُونَ. فَيَكْشِفُ عَنْهم، قِيلَ: بَعْدَ أرْبَعِينَ يَوْمًا، فَحِينَ (p-٣٥)يَكْشِفُهُ عَنْهم يَرْتَدُّونَ. ويَوْمُ البَطْشَةِ الكُبْرى عَلى هَذا هو يَوْمُ القِيامَةِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَإذا جاءَتِ الطّامَّةُ الكُبْرى﴾ [النازعات: ٣٤] . وكَوْنُهُ يَوْمَ القِيامَةِ، هو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ وقَتادَةَ. وكَوْنُهُ يَوْمَ بَدْرٍ، هو قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ وأُبَيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ. وانْتَصَبَ يَوْمَ نَبْطِشُ، قِيلَ: بِذِكْراهم، وقِيلَ: بِـ نَنْتَقِمُ الدّالِّ عَلَيْهِ ”مُنْتَقِمُونَ“، وضَعُفَ بِأنَّهُ لا نَصْبَ إلّا بِالفِعْلِ، وقِيلَ: بِـ ”مُنْتَقِمُونَ“ . ورُدَّ بِأنَّ ما بَعْدَ إنَّ لا يَعْمَلُ فِيما قَبْلَها. وقَرَأ الجُمْهُورُ: نَبْطِشُ، بِفَتْحِ النُّونِ وكَسْرِ الطّاءِ، والحَسَنُ، وأبُو جَعْفَرٍ: بِضَمِّها، والحَسَنُ أيْضًا، وأبُو رَجاءٍ، وطَلْحَةُ: بِضَمِّ النُّونِ وكَسْرِ الطّاءِ، بِمَعْنى: نُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ مَن يَبْطِشُ بِهِمْ. و”البَطْشَةَ“ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ لَيْسَ مَنصُوبًا بِـ نَبْطِشُ، بَلْ بِمُقَدَّرٍ، أيْ نَبْطِشُ ذَلِكَ المُسَلِّطَ البَطْشَةَ، أوْ يَكُونُ ”البَطْشَةَ“ في مَعْنى الإبْطاشَةِ، فَيَنْتَصِبُ بِـ نَبْطِشُ. ﴿ولَقَدْ فَتَنّا قَبْلَهم قَوْمَ فِرْعَوْنَ﴾: هَذا كالمِثالِ لِقُرَيْشٍ، ذُكِرَتْ قِصَّةُ مَن أُرْسِلَ إلَيْهِمْ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَكَذَّبُوهُ، فَأهْلَكَهُمُ اللَّهُ. وقُرِئَ: فَتَّنّا، بِتَشْدِيدِ التّاءِ، لِلْمُبالَغَةِ في الفِعْلِ، أوِ التَّكْثِيرِ مُتَعَلِّقَةً ﴿وجاءَهم رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾: أيْ كِرِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ وعِنْدَ المُؤْمِنِينَ، قالَهُ الفَرّاءُ، أوْ كَرِيمٌ في نَفْسِهِ، لِأنَّ الأنْبِياءَ إنَّما يُبْعَثُونَ مِن سَرَواتِ النّاسِ، قالَهُ أبُو سُلَيْمانَ، أوْ كِرِيمٌ حَسَنُ الخُلُقِ، قالَهُ مُقاتِلٌ. ﴿أنْ أدُّوا إلَيَّ عِبادَ اللَّهِ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ أنْ تَفْسِيرِيَّةً، لِأنَّهُ تَقَدَّمَ ما يَدُلُّ عَلى مَعْنى القَوْلِ، وهو رَسُولٌ كَرِيمٌ، وأنْ تَكُونَ أنْ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ أوِ النّاصِبَةِ لِلْمُضارِعِ، فَإنَّها تُوصَلُ بِالأمْرِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أنْ أدُّوا إلَيَّ الطّاعَةَ يا عِبادَ اللَّهِ: أيِ اتَّبِعُونِي عَلى ما أدْعُوكم إلَيْهِ مِنَ الإيمانِ. وقالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ: طَلَبَ مِنهم أنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِ بَنِي إسْرائِيلَ، كَما قالَ: ﴿فَأرْسِلْ مَعَنا بَنِي إسْرائِيلَ ولا تُعَذِّبْهُمْ﴾ [طه: ٤٧] . فَعَلى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ: عِبادَ اللَّهِ: مُنادًى، ومَفْعُولُ أدُّوا مَحْذُوفٌ، وعَلى قَوْلِ مُجاهِدٍ ومَن ذُكِرَ مَعَهُ: عِبادَ اللَّهِ: مَفْعُولُ أدُّوا. ﴿إنِّي لَكم رَسُولٌ أمِينٌ﴾: أيْ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، قَدِ ائْتَمَنَنِي اللَّهُ عَلى وحْيِهِ ورِسالَتِهِ. ﴿وأنْ لا تَعْلُوا عَلى اللَّهِ﴾: أيْ لا تَسْتَكْبِرُوا عَلى عِبادَةِ اللَّهِ، قالَهُ يَحْيى بْنُ سَلامٍ. قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لا تَعْظُمُوا عَلى اللَّهِ. قِيلَ: والفَرْقُ بَيْنَهُما أنَّ التَّعْظِيمَ تَطاوُلُ المُقْتَدِرِ والِاسْتِكْبارَ تَرَفُّعُ المُحْتَقَرِ، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ، وأنْ هُنا كانَ السّابِقُ في أوْجُهِها الثَّلاثَةَ. ﴿إنِّي آتِيكم بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾: أيْ بِحُجَّةٍ واضِحَةٍ في نَفْسِها ومُوَضِّحَةٍ صِدْقَ دَعْوايَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: إنِّي، بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، عَلى سَبِيلِ الإخْبارِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: بِفَتْحِ الهَمْزَةِ. والمَعْنى: لا تَعْلُوا عَلى اللَّهِ مِن أجْلِ أنِّي آتِيكم، فَهَذا تَوْبِيخٌ لَهم، كَما تَقُولُ: أتَغْضَبُ إنْ قالَ لَكَ الحَقَّ ؟ ﴿وإنِّي عُذْتُ﴾: أيِ اسْتَجَرْتُ ﴿بِرَبِّي ورَبِّكم أنْ تَرْجُمُونِ﴾: كانُوا قَدْ تَوَعَّدُوهُ بِالقَتْلِ، فاسْتَعاذَ مِن ذَلِكَ. وقُرِئَ: عُدْتُ، بِالإدْغامِ. قالَ قَتادَةُ وغَيْرُهُ: الرَّجْمُ هُنا بِالحِجارَةِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو صالِحٍ: بِالشَّتْمِ، وقَوْلُ قَتادَةَ أظْهَرُ، لِأنَّهُ قَدْ وقَعَ مِنهم في حَقِّهِ ألْفاظٌ لا تُناسِبُ، وهَذِهِ المَعاذَةُ كانَتْ قَبْلَ أنْ يُخْبِرَهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿فَلا يَصِلُونَ إلَيْكُما﴾ [القصص: ٣٥] . ﴿وإنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي﴾ أيْ تُصَدِّقُوا ﴿فاعْتَزِلُونِ﴾ أيْ كُونُوا بِمَعْزَلٍ وهَذِهِ مُشارَكَةٌ حَسَنَةٌ، ﴿فَدَعا رَبَّهُ أنِّي مَغْلُوبٌ فانْتَصِرْ﴾ [القمر: ١٠]، ﴿أنَّ هَؤُلاءِ﴾: لَفْظُ تَحْقِيرٍ لَهم. وقَرَأ الجُمْهُورُ: أنَّ هَؤُلاءِ، بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، أيْ بِأنَّ هَؤُلاءِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ، وعِيسى، والحَسَنُ في رِوايَةٍ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِكَسْرِها. ﴿فَأسْرِ بِعِبادِي﴾: في الكَلامِ حَذْفٌ، أيْ فانْتَقِمْ مِنهم، فَقالَ لَهُ اللَّهُ: أسْرِ بِعِبادِي، وهم بَنُو إسْرائِيلَ ومَن آمَنَ بِهِ مِنَ القِبْطِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وجْهانِ: إضْمارُ القَوْلِ بَعْدَ الفاءِ، فَقالَ: أسْرِ بِعِبادِي، وأنْ يَكُونَ جَوابًا لِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: قالَ إنْ كانَ الأمْرُ كَما تَقُولُ، فَأسْرِ بِعِبادِي. انْتَهى. وكَثِيرًا ما يُجِيزُ هَذا الرَّجُلُ حَذْفَ الشَّرْطِ وإبْقاءَ جَوابِهِ، وهو لا يَجُوزُ إلّا لِدَلِيلٍ واضِحٍ، كَأنْ يَتَقَدَّمُهُ الأمْرُ وما أشْبَهَهُ مِمّا ذُكِرَ في النَّحْوِ، عَلى خِلافٍ في ذَلِكَ. ﴿إنَّكم مُتَّبَعُونَ﴾: أيْ يَتَّبِعُكم فِرْعَوْنُ وجُنُودُهُ، فَتَنْجُونَ ويَغْرَقُ المُتَّبَعُونَ. ﴿واتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا﴾: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ساكِنًا كَما أجْراهُ. وقالَ مُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ: يَبَسًا مِن قَوْلِهِ: ﴿فاضْرِبْ لَهم طَرِيقًا في البَحْرِ يَبَسًا﴾ [طه: ٧٧] . وقالَ الضَّحّاكُ: دَمِثًا لَيِّنًا. (p-٣٦)وقالَ عِكْرِمَةُ: جُدُدًا. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: سَهْلًا. وقالَ مُجاهِدٌ أيْضًا: مُنْفَرِدًا. قالَ قَتادَةُ: أرادَ مُوسى أنْ يَضْرِبَ البَحْرَ بِعَصاهُ، لَمّا قَطَعَهُ، حَتّى يَلْتَئِمَ، وخافَ أنْ يَتْبَعَهُ فِرْعَوْنُ، فَقِيلَ: لِمَهْ هَذا ؟ ﴿إنَّهم جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾: أيْ فِيهِ، لِأنَّهم إذا رَأوْهُ ساكِنًا عَلى حالَتِهِ حِينَ دَخَلَ فِيهِ مُوسى وبَنُو إسْرائِيلَ، أوْ مَفْتُوحًا طَرِيقًا يَبَسًا، دَخَلُوا فِيهِ، فَيُطْبِقُهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. ﴿كَمْ تَرَكُوا﴾: أيْ كَثِيرًا تَرَكُوا. ﴿مِن جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُما في الشُّعَراءِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (ومَقامٍ)، بِفَتْحِ المِيمِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ: أرادَ المَقامَ. وقَرَأ ابْنُ هُرْمُزَ، وقَتادَةُ، وابْنُ السَّمَيْفَعِ، ونافِعٌ: في رِوايَةٍ خارِجَةٍ بِضَمِّها. قالَ قَتادَةُ: أرادَ المَواضِعَ الحِسانَ مِنَ المَجالِسِ والمَساكِنِ وغَيْرِها. (ونَعْمَةٍ)، بِفَتْحِ النُّونِ: نَضارَةُ العَيْشِ ولَذاذَةُ الحَياةِ. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ: (ونَعْمَةٍ)، بِالنَّصْبِ، عَطْفًا عَلى كَمْ ﴿كانُوا فِيها فاكِهِينَ﴾ . قَرَأ الجُمْهُورُ: بِألِفٍ، أيْ طَيِّبِيِ الأنْفُسِ وأصْحابِ فاكِهَةٍ، كَلابِنٍ، وتامِرٍ، وأبُو رَجاءٍ، والحَسَنُ: بِغَيْرِ ألِفٍ. والفَكِهُ يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا في المُسْتَخِفِّ المُسْتَهْزِئِ، فَكَأنَّهم كانُوا مُسْتَخِفِّينَ بِشَكْلِ النِّعْمَةِ الَّتِي كانُوا فِيها. وقالَ الجَوْهَرِيُّ: فَكِهَ الرَّجُلُ، بِالكَسْرِ، فَهو فَكِهٌ إذا كانَ مَزّاحًا، والفَكِهُ أيْضًا الأشِرُ. وقالَ القُشَيْرِيُّ: فاكِهِينَ: لاهِينَ كَذَلِكَ. وقالَ الزَّجّاجُ: والمَعْنى: الأمْرُ كَذَلِكَ، فَيُوقَفُ عَلى كَذَلِكَ، والكافُ في مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وقِيلَ: الكافُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، أيْ يَفْعَلُ فِعْلًا كَذَلِكَ، لِمَن يُرِيدُ إهْلاكَهُ. وقالَ الكَلْبِيُّ: كَذَلِكَ أفْعَلُ بِمَن عَصانِي. وقالَ الحَوْفِيُّ: أهْلَكْنا إهْلاكًا، وانْتَقَمْنا انْتِقامًا كَذَلِكَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الكافُ مَنصُوبَةٌ عَلى مَعْنى: مِثْلَ ذَلِكَ الإخْراجِ أخْرَجْناهم مِنها، ﴿وأوْرَثْناها قَوْمًا آخَرِينَ﴾ لَيْسُوا مِنهم، وهم بَنُو إسْرائِيلَ. كانُوا مُسْتَعْبَدِينَ في يَدِ القِبْطِ، فَأهْلَكَ اللَّهُ تَعالى القِبْطَ عَلى أيْدِيهِمْ وأوْرَثَهم مُلْكَهم. وقالَ قَتادَةُ، وقالَ الحَسَنُ: إنَّ بَنِي إسْرائِيلَ رَجَعُوا إلى مِصْرَ بَعْدَ هَلاكِ فِرْعَوْنَ، وضُعِّفَ قَوْلُ قَتادَةَ بِأنَّهُ لَمْ يُرْوَ في مَشْهُورِ التَّوارِيخِ أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ رَجَعُوا إلى مِصْرَ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ الزَّمانِ، ولا مَلَكُوها قَطُّ، إلّا أنْ يُرِيدَ قَتادَةُ أنَّهم ورِثُوا نَوْعَها في بِلادِ الشَّأْمِ. انْتَهى. ولا اعْتِبارَ بِالتَّوارِيخِ، فالكَذِبُ فِيها كَثِيرٌ، وكَلامُ اللَّهِ صِدْقٌ. قالَ تَعالى في سُورَةِ الشُّعَراءِ: ﴿كَذَلِكَ وأوْرَثْناها بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [الشعراء: ٥٩] وقِيلَ: قَوْمًا آخَرِينَ مِمَّنْ مَلَكَ مِصْرَ بَعْدَ القِبْطِ مِن غَيْرِ بَنِي إسْرائِيلَ. ﴿فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ والأرْضُ﴾: اسْتِعارَةٌ لِتَحْقِيرِ أمْرِهِمْ، وأنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ هَلاكِهِمْ شَيْءٌ. ويُقالُ في التَّعْظِيمِ: بَكَتْ عَلَيْهِ السَّماءُ والأرْضُ، وبَكَتْهُ الرِّيحُ، وأظْلَمَتْ لَهُ الشَّمْسُ. وقالَ زَيْدُ بْنُ مُفَرِّغٍ: ؎الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهُ والبَرْقُ يَلْمَعُ في غَمامِهِ وقالَ جَرِيرٌ: ؎فالشَّمْسُ طالِعَةٌ لَيْسَتْ بِكاسِفَةٍ ∗∗∗ تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومُ اللَّيْلِ والقَمَرُ وقالَ النّابِغَةُ: ؎بَكى حارِثُ الجَوْلانِ مِن فَقْدِ رَبِّهِ ∗∗∗ وحَوْرانُ مِنهُ خاشِعٌ مُتَضائِلُ وقالَ جَرِيرٌ: ؎لَمّا أتى الزَّهْوُ تَواضَعَتْ ∗∗∗ سُورُ المَدِينَةِ والجِبالُ الخُشَّعُ ويَقُولُ في التَّحْقِيرِ: ماتَ فُلانٌ، فَما خَشَعَتِ الجِبالُ. ونِسْبَةُ هَذِهِ الأشْياءِ لِما لا يَعْقِلُ ولا يَصِيرُ ذَلِكَ مِنهُ حَقِيقَةً، عِبارَةٌ عَنْ تَأثُّرِ النّاسِ لَهُ، أوْ عَنْ عَدَمِهِ. وقِيلَ: هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: فَما بَكى عَلَيْهِمْ أهْلُ السَّماءِ وأهْلُ المَلائِكَةِ وأهْلُ الأرْضِ، وهُمُ المُؤْمِنُونَ، بَلْ كانُوا بِهَلاكِهِمْ مَسْرُورِينَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الحَسَنِ. وما رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ، وابْنِ جُبَيْرٍ: إنَّ المُؤْمِنَ إذا ماتَ، بَكى عَلَيْهِ مِنَ (p-٣٧)الأرْضِ مَوْضِعُ عِبادَتِهِ أرْبَعِينَ صَباحًا، وبَكى عَلَيْهِ في السَّماءِ مَوْضِعُ صُعُودِ عَمَلِهِ. قالُوا: فَلَمْ يَكُنْ في قَوْمِ فِرْعَوْنَ مَن هَذِهِ حالُهُ تَمْثِيلٌ. ﴿وما كانُوا مُنْظَرِينَ﴾: أيْ مُؤَخَّرِينَ عَنِ العَذابِ لَمّا حانَ وقْتُ هَلاكِهِمْ، بَلْ عَجَّلَ اللَّهُ لَهم ذَلِكَ في الدُّنْيا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب