الباحث القرآني
سُورَةُ الدُّخانِ تِسْعٌ وخَمْسُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
(p-٣١)﴿حم﴾ ﴿والكِتابِ المُبِينِ﴾ ﴿إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إنّا كُنّا مُنْذِرِينَ﴾ ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ﴾ ﴿أمْرًا مِن عِنْدِنا إنّا كُنّا مُرْسِلِينَ﴾ ﴿رَحْمَةً مِن رَبِّكَ إنَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ ﴿رَبِّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ ﴿لا إلَهَ إلّا هو يُحْيِي ويُمِيتُ رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿بَلْ هم في شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾ ﴿فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ﴾ [الدخان: ١٠] ﴿يَغْشى النّاسَ هَذا عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [الدخان: ١١] ﴿رَبَّنا اكْشِفْ عَنّا العَذابَ إنّا مُؤْمِنُونَ﴾ [الدخان: ١٢] ﴿أنّى لَهُمُ الذِّكْرى وقَدْ جاءَهم رَسُولٌ مُبِينٌ﴾ [الدخان: ١٣] ﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾ [الدخان: ١٤] ﴿إنّا كاشِفُوا العَذابِ قَلِيلًا إنَّكم عائِدُونَ﴾ [الدخان: ١٥] ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرى إنّا مُنْتَقِمُونَ﴾ [الدخان: ١٦] ﴿ولَقَدْ فَتَنّا قَبْلَهم قَوْمَ فِرْعَوْنَ وجاءَهم رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ [الدخان: ١٧] ﴿أنْ أدُّوا إلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إنِّي لَكم رَسُولٌ أمِينٌ﴾ [الدخان: ١٨] ﴿وأنْ لا تَعْلُوا عَلى اللَّهِ إنِّي آتِيكم بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ [الدخان: ١٩] ﴿وإنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكم أنْ تَرْجُمُونِ﴾ [الدخان: ٢٠] ﴿وإنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فاعْتَزِلُونِ﴾ [الدخان: ٢١] ﴿فَدَعا رَبَّهُ أنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ﴾ [الدخان: ٢٢] ﴿فَأسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إنَّكم مُتَّبَعُونَ﴾ [الدخان: ٢٣] ﴿واتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا إنَّهم جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾ [الدخان: ٢٤] ﴿كَمْ تَرَكُوا مِن جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ [الدخان: ٢٥] ﴿وزُرُوعٍ ومَقامٍ كَرِيمٍ﴾ [الدخان: ٢٦] ﴿ونَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ﴾ [الدخان: ٢٧] ﴿كَذَلِكَ وأوْرَثْناها قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الدخان: ٢٨] ﴿فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ والأرْضُ وما كانُوا مُنْظَرِينَ﴾ [الدخان: ٢٩] ﴿ولَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إسْرائِيلَ مِنَ العَذابِ المُهِينِ﴾ [الدخان: ٣٠] ﴿مِن فِرْعَوْنَ إنَّهُ كانَ عالِيًا مِنَ المُسْرِفِينَ﴾ [الدخان: ٣١] ﴿ولَقَدِ اخْتَرْناهم عَلى عِلْمٍ عَلى العالَمِينَ﴾ [الدخان: ٣٢] ﴿وآتَيْناهم مِنَ الآياتِ ما فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ﴾ [الدخان: ٣٣] ﴿إنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ﴾ [الدخان: ٣٤] ﴿إنْ هي إلّا مَوْتَتُنا الأُولى وما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ﴾ [الدخان: ٣٥] ﴿فَأْتُوا بِآبائِنا إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [الدخان: ٣٦] ﴿أهم خَيْرٌ أمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أهْلَكْناهم إنَّهم كانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [الدخان: ٣٧] ﴿وما خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما لاعِبِينَ﴾ [الدخان: ٣٨] ﴿ما خَلَقْناهُما إلّا بِالحَقِّ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ [الدخان: ٣٩] ﴿إنَّ يَوْمَ الفَصْلِ مِيقاتُهم أجْمَعِينَ﴾ [الدخان: ٤٠] ﴿يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا ولا هم يُنْصَرُونَ﴾ [الدخان: ٤١] ﴿إلّا مَن رَحِمَ اللَّهُ إنَّهُ هو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الدخان: ٤٢] ﴿إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ﴾ [الدخان: ٤٣] ﴿طَعامُ الأثِيمِ﴾ [الدخان: ٤٤] ﴿كالمُهْلِ يَغْلِي في البُطُونِ﴾ [الدخان: ٤٥] ﴿كَغَلْيِ الحَمِيمِ﴾ [الدخان: ٤٦] ﴿خُذُوهُ فاعْتِلُوهُ إلى سَواءِ الجَحِيمِ﴾ [الدخان: ٤٧] ﴿ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِن عَذابِ الحَمِيمِ﴾ [الدخان: ٤٨] ﴿ذُقْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ﴾ [الدخان: ٤٩] ﴿إنَّ هَذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ﴾ [الدخان: ٥٠] ﴿إنَّ المُتَّقِينَ في مَقامٍ أمِينٍ﴾ [الدخان: ٥١] ﴿فِي جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ [الدخان: ٥٢] ﴿يَلْبَسُونَ مِن سُنْدُسٍ وإسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ﴾ [الدخان: ٥٣] ﴿كَذَلِكَ وزَوَّجْناهم بِحُورٍ عِينٍ﴾ [الدخان: ٥٤] ﴿يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ﴾ [الدخان: ٥٥] ﴿لا يَذُوقُونَ فِيها المَوْتَ إلّا المَوْتَةَ الأُولى ووَقاهم عَذابَ الجَحِيمِ﴾ [الدخان: ٥٦] ﴿فَضْلًا مِن رَبِّكَ ذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [الدخان: ٥٧] ﴿فَإنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الدخان: ٥٨] ﴿فارْتَقِبْ إنَّهم مُرْتَقِبُونَ﴾ [الدخان: ٥٩]
الدُّخانُ: مَعْرُوفٌ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: والدُّخانُ: الجَدْبُ. قالَ القُتَبِيُّ: سُمِّيَ دُخانًا لِيُبْسِ الأرْضِ مِنهُ، حَتّى يَرْتَفِعَ مِنها كالدُّخانِ، وقِياسُ جَمْعِهِ في القِلَّةِ: أدْخِنَةٌ، وفي الكَثْرَةِ: دِخْنانٌ، نَحْوُ غُرابٍ وأغْرِبَةٍ وغِرْبانٍ. وشَذُّوا في جَمْعِهِ عَلى فَواعِلَ فَقالُوا: دَواخِنُ، كَأنَّهُ جَمْعُ داخِنَةَ، تَقْدِيرًا، كَما شَذُّوا في عُثانٍ قالُوا: عَواثِنُ. رَها البَحْرُ، يَرْهُو رَهْوًا: سَكَنَ. يُقالُ جاءَتِ الخَيْلُ رَهْوًا: أيْ ساكِنَةً. قالَ الشّاعِرُ:
؎والخَيْلُ تَمْزَعُ رَهْوًا في أعِنَّتِها كالطَّيْرِ يَنْجُو مِنَ الشَّرْنُوبِ ذِي البَرَدِ
ويُقالُ: افْعَلْ ذَلِكَ رَهْوًا: أيْ ساكِنًا عَلى هَيْنَتِكَ. وقالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: رَها في السَّيْرِ. قالَ القَطامِيُّ في نَعْتِ الرِّكابِ:
؎يَمْشِينَ رَهْوًا فَلا الأعْجازُ خاذِلَةٌ ∗∗∗ ولا الصُّدُورُ عَلى الأعْجازِ تَتَّكِلُ
وقالَ اللَّيْثُ: عَيْشٌ راهٍ: وارِعٌ خافِضٌ. وقالَ غَيْرُهُ: الرَّهْوُ والرَّهْوَةُ: المَكانُ المُرْتَفِعُ والمُنْخَفِضُ يَجْتَمِعُ فِيهِ الماءُ، وهو مِنَ الأضْدادِ، والجَمْعُ: رُهًا. والرَّهْوُ: المَرْأةُ الواسِعَةُ الهَنِّ، حَكاهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. والرَّهْوُ: ضَرْبٌ مِنَ الطَّيْرِ، يُقالُ هو الكُرْكِيُّ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: رَها الرَّجُلُ يَرْهُو رَهْوًا: فَتَحَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ. المُهْلُ: دُرْدِيُّ الزَّيْتِ وعَكَرُهُ. عَتَلَهُ: ساقَهُ بِعُنْفٍ ودَفْعٍ وإهانَةٍ. والمُعْتَلُ: الجافِي الغَلِيظُ.
(p-٣٢)﴿حم﴾ ﴿والكِتابِ المُبِينِ﴾ ﴿إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إنّا كُنّا مُنْذِرِينَ﴾ ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ﴾ ﴿أمْرًا مِن عِنْدِنا إنّا كُنّا مُرْسِلِينَ﴾ ﴿رَحْمَةً مِن رَبِّكَ إنَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ ﴿رَبِّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ ﴿لا إلَهَ إلّا هو يُحْيِي ويُمِيتُ رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿بَلْ هم في شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾ ﴿فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ﴾ [الدخان: ١٠] ﴿يَغْشى النّاسَ هَذا عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [الدخان: ١١] ﴿رَبَّنا اكْشِفْ عَنّا العَذابَ إنّا مُؤْمِنُونَ﴾ [الدخان: ١٢] ﴿أنّى لَهُمُ الذِّكْرى وقَدْ جاءَهم رَسُولٌ مُبِينٌ﴾ [الدخان: ١٣] ﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾ [الدخان: ١٤] ﴿إنّا كاشِفُوا العَذابِ قَلِيلًا إنَّكم عائِدُونَ﴾ [الدخان: ١٥] ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرى إنّا مُنْتَقِمُونَ﴾ [الدخان: ١٦] ﴿ولَقَدْ فَتَنّا قَبْلَهم قَوْمَ فِرْعَوْنَ وجاءَهم رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ [الدخان: ١٧] ﴿أنْ أدُّوا إلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إنِّي لَكم رَسُولٌ أمِينٌ﴾ [الدخان: ١٨] ﴿وأنْ لا تَعْلُوا عَلى اللَّهِ إنِّي آتِيكم بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ [الدخان: ١٩] ﴿وإنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكم أنْ تَرْجُمُونِ﴾ [الدخان: ٢٠] ﴿وإنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فاعْتَزِلُونِ﴾ [الدخان: ٢١] ﴿فَدَعا رَبَّهُ أنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ﴾ [الدخان: ٢٢] ﴿فَأسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إنَّكم مُتَّبَعُونَ﴾ [الدخان: ٢٣] ﴿واتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا إنَّهم جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾ [الدخان: ٢٤] ﴿كَمْ تَرَكُوا مِن جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ [الدخان: ٢٥] ﴿وزُرُوعٍ ومَقامٍ كَرِيمٍ﴾ [الدخان: ٢٦] ﴿ونَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ﴾ [الدخان: ٢٧] ﴿كَذَلِكَ وأوْرَثْناها قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الدخان: ٢٨] ﴿فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ والأرْضُ وما كانُوا مُنْظَرِينَ﴾ [الدخان: ٢٩] .
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قِيلَ: إلّا قَوْلَهُ: ﴿إنّا كاشِفُوا العَذابِ قَلِيلًا إنَّكم عائِدُونَ﴾ [الدخان: ١٥] . ومُناسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ أنَّهُ ذَكَرَ في أواخِرِ ما قَبْلَها: ﴿فَذَرْهم يَخُوضُوا ويَلْعَبُوا حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ [الزخرف: ٨٣]، فَذَكَرَ يَوْمًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، ولا مَوْصُوفًا. فَبَيَّنَ في أوائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ ذَلِكَ اليَوْمَ، بِوَصْفٍ وصَفَهُ فَقالَ: ﴿فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ﴾ [الدخان: ١٠]، وأنَّ العَذابَ يَأْتِيهِمْ مِن قِبَلِكَ، ويَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الجَدْبِ والقَحْطِ، ويَكُونُ العَذابُ في الدُّنْيا، وإنْ كانَ العَذابُ في الآخِرَةِ، فَيَكُونُ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يَوْمَ القِيامَةِ. والظّاهِرُ أنَّ الكِتابَ المُبِينَ هو القُرْآنُ، أقْسَمَ بِهِ تَعالى. ويَكُونُ الضَّمِيرُ في أنْزَلْناهُ عائِدًا عَلَيْهِ. قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ الكُتُبُ الإلَهِيَّةُ المُنَزَّلَةُ، وأنْ يُرادَ بِهِ اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، وجَوابُ القَسَمِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ: قَوْلُهُ: ﴿إنّا أنْزَلْناهُ﴾، عَلى أنَّ الكِتابَ هو القُرْآنُ، ويَكُونُ قَدْ عَظَّمَهُ تَعالى بِالإقْسامِ بِهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لا يَحْسُنُ وُقُوعُ القَسَمِ عَلَيْهِ، أيْ عَلى إنّا أنْزَلْناهُ، وهو اعْتِراضٌ يَتَضَمَّنُ تَفْخِيمَ الكِتابِ، ويَكُونُ الَّذِي وقَعَ عَلَيْهِ القَسَمُ ﴿إنّا كُنّا مُنْذِرِينَ﴾ . انْتَهى. قالَ قَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ، والحَسَنُ: اللَّيْلَةُ المُبارَكَةُ: لَيْلَةُ القَدْرِ. وقالُوا: كُتُبُ اللَّهِ كُلُّها إنَّما نَزَلَتْ في رَمَضانَ، التَّوْراةُ في أوَّلِهِ، والإنْجِيلُ في وسَطِهِ، والزَّبُورُ في نَحْوِ ذَلِكَ، والقُرْآنُ في آخِرِهِ، في لَيْلَةِ القَدْرِ، ويَعْنِي ابْتِداءَ نُزُولِهِ كانَ في لَيْلَةِ القَدْرِ. وقِيلَ: أُنْزِلُ جُمْلَةً لَيْلَةَ القَدْرِ إلى البَيْتِ (p-٣٣)المَعْمُورِ، ومِن هُناكَ كانَ جِبْرِيلُ يَتَلَقّاهُ. وقالَ عِكْرِمَةُ وغَيْرُهُ: هي لَيْلَةُ النِّصْفِ مِن شَعْبانَ، وقَدْ أوْرَدُوا فِيها أحادِيثَ. وقالَ الحافِظُ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ: لا يَصِحُّ فِيها شَيْءٌ، ولا في نَسْخِ الآجالِ فِيها.
إنّا كُنّا مُنْذِرِينَ: أيْ مُخَوِّفِينَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ﴿إنّا كُنّا مُنْذِرِينَ﴾ ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ﴾، ما مَوْقِعُ هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ ؟ قُلْتُ: هُما جُمْلَتانِ مُسْتَأْنَفَتانِ مَلْفُوفَتانِ، فُسِّرَ بِهِما جَوابُ القَسَمِ الَّذِي هو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ﴾، كَأنَّهُ قِيلَ: أنْزَلْناهُ، لِأنَّ مِن شَأْنِنا الإنْذارَ والتَّحْذِيرَ مِنَ العِقابِ. وكانَ إنْزالُنا إيّاهُ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ خُصُوصًا، لِأنَّ إنْزالَ القُرْآنِ مِنَ الأُمُورِ المُحْكَمَةِ، وهَذِهِ اللَّيْلَةُ مَفْرِقُ كُلِّ أمْرٍ حَكِيمٍ، والمُبارَكَةُ: الكَثِيرَةُ الخَيْرِ، لِما يُنْتَجُ اللَّهُ فِيها مِنَ الأُمُورِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِها مَنافِعُ العِبادِ في دِينِهِمْ ودُنْياهم، ولَوْ لَمْ يُوجِدْ فِيها إلّا إنْزالَ القُرْآنِ وحْدَهُ، لَكَفى بِهِ بَرَكَةً. انْتَهى. وقَرَأ الحَسَنُ، والأعْرَجُ، والأعْمَشُ: يَفْرُقُ، بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الرّاءِ، كُلَّ: بِالنَّصْبِ، أيْ يَفْرُقُ اللَّهُ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، فِيما ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُفْرِقُ بِالنُّونِ، كُلَّ بِالنَّصْبِ، وفِيما ذَكَرَ أبُو عَلِيٍّ الأهْوازِيُّ: عَيْنُهُ بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ الرّاءِ ونَصْبِ ”كُلِّ“، ورَفْعِ حَكِيمٍ، عَلى أنَّهُ الفاعِلُ بِـ يَفْرِقُ. وقَرَأ الحَسَنُ وزائِدَةٌ عَنِ الأعْمَشِ بِالتَّشْدِيدِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أوْ مَعْنى يَفْرِقُ: يَفْصِلُ مِن غَيْرِهِ ويُخَلِّصُ. ووَصْفُ أمْرٍ بِحَكِيمٍ، أيْ أمْرٍ ذِي حِكْمَةٍ، وقَدْ أبْهَمَ تَعالى هَذا الأمْرَ.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، ومُجاهِدٌ: في لَيْلَةِ القَدْرِ يَفْصِلُ كُلَّ ما في العامِ المُقْبِلِ مِنَ الأقْدارِ والأرْزاقِ والآجالِ وغَيْرِ ذَلِكَ، ويَكْتُبُ ذَلِكَ إلى مِثْلِها مِنَ العامِ المُقْبِلِ. وقالَ هِلالُ بْنُ أسافٍ: كانَ يُقالُ: انْتَظِرْ والقَضاءُ في رَمَضانَ. وقالَ عِكْرِمَةُ: لِفَضْلِ المَلائِكَةِ في لَيْلَةِ النِّصْفِ مِن شَعْبانَ. وجَوَّزُوا في أمْرًا أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ بِمُنْذِرِينَ لِقَوْلِهِ: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا﴾ [الكهف: ٢] . أوْ عَلى الِاخْتِصاصِ، جَعَلَ كُلَّ أمْرٍ حَكِيمٍ جَزْلًا فَخْمًا، بِأنْ وصَفَهُ بِالحَكِيمِ، ثُمَّ زادَهُ جَزالَةً وفَخامَةً نَفْسَهُ بِأنْ قالَ: أعْنِي بِهَذا الأمْرِ أمْرًا حاصِلًا مِن عِنْدِنا، كائِنًا مِن لَدُنّا، وكَما اقْتَضاهُ عِلْمُنا وتَدْبِيرُنا، كَذا قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقالَ: وفي قِراءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ: ﴿أمْرًا مِن عِنْدِنا﴾، عَلى هو أمْرًا، وهي نَصْبٌ عَلى الِاخْتِصاصِ ومَقْبُولًا لَهُ، والعامِلُ أنْزَلْنا، أوْ مُنْذِرِينَ، أوْ يُفْرَقُ، ومَصْدَرًا مِن مَعْنى يُفْرَقُ، أيْ فَرْقًا مِن عِنْدِنا، أوْ مِن أمْرِنا مَحْذُوفًا وحالًا، قِيلَ: مِن كُلٍّ، والَّذِي تَلَقَّيْناهُ مِن أشْياخِنا أنَّهُ حالُ مَن أمَرَ، لِأنَّهُ وصْفٌ بِحَكِيمٍ، فَحَسُنَتِ الحالُ مِنهُ، إلّا أنَّ فِيهِ الحالَ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ، وهو لَيْسَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ ولا نَصْبٍ، ولا يَجُوزُ. وقِيلَ: مِن ضَمِيرِ الفاعِلِ في أنْزَلْناهُ، أيْ أمَرَنِي. وقِيلَ: مِن ضَمِيرِ المَفْعُولِ في أنْزَلْناهُ، أيْ في حالِ كَوْنِهِ أمْرًا مِن عِنْدِنا بِما يَجِبُ أنْ يُفْعَلَ. والظّاهِرُ أنَّ مِن عِنْدِنا صِفَةٌ لِأمْرًا، وقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِـ يُفْرَقُ.
﴿إنّا كُنّا مُرْسِلِينَ﴾: لَمّا ذَكَرَ إنْزالَ القُرْآنِ، ذَكَرَ المُرْسَلَ، أيْ مُرْسِلِينَ الأنْبِياءَ بِالكُتُبِ لِلْعِبادِ. فالجُمْلَةُ المُؤَكَّدَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن ﴿إنّا كُنّا مُنْذِرِينَ﴾ . وجَوَّزُوا في ”رَحْمَةً“ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أيْ رَحِمْنا رَحْمَةً، وأنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ بِـ أنْزَلْناهُ، أوْ لِـ يُفْرَقُ، أوْ لِـ أمْرًا مِن عِنْدِنا. وأنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِـ مُرْسِلِينَ، والرَّحْمَةُ تُوصَفُ بِالإرْسالِ، كَما وُصِفَتْ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿وما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ﴾ [فاطر: ٢] . والمَعْنى عَلى هَذا: أنّا نَفْصِلُ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ كُلَّ أمْرٍ، أوْ تَصْدُرُ الأوامِرُ مِن عِنْدِنا، لِأنَّ مِن عادَتِنا أنْ نُرْسِلَ رَحْمَتَنا. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، والحَسَنُ: رَحْمَةٌ، بِالرَّفْعِ: أيْ تِلْكَ رَحْمَةٌ مِن رَبِّكَ، التِفاتًا مِن مُضْمَرٍ إلى ظاهِرٍ، إذْ لَوْ رُوعِيَ ما قَبْلَهُ، لَكانَ رَحْمَةً مِنّا، لَكِنَّهُ وضَعَ الظّاهِرَ مَوْضِعَ المُضْمَرِ، إيذانًا بِأنَّ الرُّبُوبِيَّةَ تَقْتَضِي الرَّحْمَةَ عَلى المَرْبُوبِينَ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، والأعْمَشُ، وأبُو حَيْوَةَ، والكُوفِيُّونَ: (رَبِّ السَّماواتِ)، بِالخَفْضِ بَدَلًا مِن رَبِّكَ، وباقِي السَّبْعَةِ، والأعْرَجُ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ: بِالرَّفْعِ عَلى القَطْعِ، أيْ هو رَبُّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (رَبُّكم ورَبُّ)، بِرَفْعِهِما، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وأبُو حَيْوَةَ، والزَّعْفَرانِيُّ، وابْنُ مِقْسَمٍ، والحَسَنُ، وأبُو مُوسى عِيسى بْنُ سُلَيْمانَ وصالِحٌ النّاقِطُ، (p-٣٤)كِلاهُما عَنِ الكِسائِيِّ: بِالجَرِّ، وأحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الأنْطاكِيُّ: رَبَّكم ورَبَّ، بِالنَّصْبِ عَلى المَدْحِ، وهم يُخالِفُونَ بَيْنَ الإعْرابِ الرَّفْعِ والنَّصْبِ إذا طالَتِ النُّعُوتُ. وقَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾، تَحْرِيكٌ لَهم بِأنَّكم تُقِرُّونَ بِأنَّهُ تَعالى خالِقُ العالَمِ، وأنَّهُ أنْزَلَ الكُتُبَ، وأرْسَلَ الرُّسُلَ رَحْمَةً مِنهُ، وأنَّ ذَلِكَ مِنكم مِن غَيْرِ عِلْمٍ وإيقانٍ. ولِذَلِكَ جاءَ: ﴿بَلْ هم في شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾، أيْ في شَكٍّ لا يَزالُونَ فِيهِ يَلْعَبُونَ. فَإقْرارُهم لَيْسَ عَنْ حَدٍّ ولا تَيَقُّنٍ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["حمۤ","وَٱلۡكِتَـٰبِ ٱلۡمُبِینِ","إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ فِی لَیۡلَةࣲ مُّبَـٰرَكَةٍۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِینَ","فِیهَا یُفۡرَقُ كُلُّ أَمۡرٍ حَكِیمٍ","أَمۡرࣰا مِّنۡ عِندِنَاۤۚ إِنَّا كُنَّا مُرۡسِلِینَ","رَحۡمَةࣰ مِّن رَّبِّكَۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ","رَبِّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِینَ","لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ یُحۡیِۦ وَیُمِیتُۖ رَبُّكُمۡ وَرَبُّ ءَابَاۤىِٕكُمُ ٱلۡأَوَّلِینَ","بَلۡ هُمۡ فِی شَكࣲّ یَلۡعَبُونَ"],"ayah":"حمۤ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق