الباحث القرآني

(p-١٤)﴿ولَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِن فَضَّةٍ ومَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ﴾ ﴿ولِبُيُوتِهِمْ أبْوابًا وسُرُرًا عَلَيْها يَتَّكِئُونَ﴾ ﴿وزُخْرُفًا وإنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمّا مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا والآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ﴿ومَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهو لَهُ قَرِينٌ﴾ ﴿وإنَّهم لَيَصُدُّونَهم عَنِ السَّبِيلِ ويَحْسَبُونَ أنَّهم مُهْتَدُونَ﴾ ﴿حَتّى إذا جاءَنا قالَ يالَيْتَ بَيْنِي وبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ القَرِينُ﴾ ﴿ولَنْ يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أنَّكم في العَذابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ ﴿أفَأنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أوْ تَهْدِي العُمْيَ ومَن كانَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿فَإمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإنّا مِنهم مُنْتَقِمُونَ﴾ ﴿أوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وعَدْناهم فَإنّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ﴾ ﴿فاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ إنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ﴿وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ وسَوْفَ تُسْألُونَ﴾ ﴿واسْألْ مَن أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنا أجَعَلْنا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ . بَيَّنَ تَعالى أنَّ مَنافِعَ الدُّنْيا وطَيِّباتِها حَقِيرَةٌ خَسِيسَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، أيْ ولَوْلا أنْ يَرْغَبَ النّاسُ في الكُفْرِ، إذا رَأوُا الكافِرَ في سَعَةٍ، ويَصِيرُوا أُمَّةً واحِدَةً في الكُفْرِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، والسُّدِّيُّ: لَأعْطَيْناهم مِن زِينَةِ الدُّنْيا كَذا وكَذا، ولَكِنْ تَعالى اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أنْ يُغْنِيَ ويُفْقِرَ الكافِرَ والمُؤْمِنَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: واللّامُ في: ﴿لِمَن يَكْفُرُ﴾، لامُ المِلْكِ، وفي: ﴿لِبُيُوتِهِمْ﴾، لامُ تَخْصِيصٍ، كَما تَقُولُ: هَذا الكِساءُ لِزَيْدٍ (p-١٥)لِدابَّتِهِ، أيْ هو لِدابَّتِهِ حِلْسٌ ولِزَيْدٍ مِلْكٌ، انْتَهى. ولا يَصِحُّ ما قالَهُ، لِأنَّ ﴿لِبُيُوتِهِمْ﴾ بَدَلُ اشْتِمالٍ أُعِيدَ مَعَهُ العامِلُ، فَلا يُمْكِنُ مِن حَيْثُ هو بَدَلٌ أنْ تَكُونَ اللّامُ الثّانِيَةُ إلّا بِمَعْنى اللّامِ الأُولى. أمّا أنْ يَخْتَلِفَ المَدْلُولُ فَلا واللّامُ في كِلَيْهِما لِلتَّخْصِيصِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِبُيُوتِهِمْ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن قَوْلِهِ: ﴿لِمَن يَكْفُرُ﴾، ويَجُوزُ أنْ تَكُونا بِمَنزِلَةِ اللّامَيْنِ في قَوْلِكَ: وهَبْتُ لَهُ ثُوبًا لِقَمِيصِهِ. انْتَهى، ولا أدْرِي ما أرادَ بِقَوْلِهِ: ويَجُوزُ إلى آخِرِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: سُقُفًا، بِضَمَّتَيْنِ، وأبُو رَجاءٍ: بِضَمٍّ وسُكُونٍ، وهُما جَمْعُ سَقْفٍ، لُغَةُ تَمِيمٍ، كَرَهْنٍ ورُهُنٍ، وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ السِّينِ والسُّكُونِ عَلى الإفْرادِ. وقالَ الفَرّاءُ: جَمْعُ سَقِيفَةٍ، وقُرِئَ بِفَتْحَتَيْنِ، كَأنَّهُ لُغَةٌ في سَقْفٍ، وقُرِئَ: سُقُوفًا، جَمْعًا عَلى فُعُولٍ نَحْوَ كَعْبٍ وكُعُوبٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ومَعارِجَ. جَمْعَ مَعْرَجٍ، وطَلْحَةُ: ومَعارِيجَ. جَمْعَ مِعْراجٍ، وهي المَصاعِدُ إلى العَلالِي عَلَيْها، أيْ يَعْلُونَ السُّطُوحَ، كَما قالَ: ﴿فَما اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ﴾ [الكهف: ٩٧] . وقَرَأ الجُمْهُورُ: وسُرُرًا، بِضَمِّ السِّينِ، وقُرِئَ بِفَتْحِها، وهي لُغَةٌ لِبَعْضِ تَمِيمٍ وبَعْضِ كَلْبٍ، وذَلِكَ في جَمْعِ فَعِيلٍ المُضَعَّفِ إذا كانَ اسْمًا - بِاتِّفاقٍ - وصِفَةً نَحْوَ: ثَوْبٌ جَدِيدٌ، وثِيابٌ جُدُدٌ، بِاخْتِلافٍ بَيْنَ النُّحاةِ. وهَذِهِ الأسْماءُ مَعاطِيفُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿سُقُفًا مِن فَضَّةٍ﴾، فَلا يَتَعَيَّنُ أنْ تُوصَفَ المَعاطِيفُ بِكَوْنِها مِن فِضَّةٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُقُوفًا ومَصاعِدَ وأبْوابًا وسُرُرًا كُلَّها مِن فِضَّةٍ. انْتَهى، كَأنَّهُ يَرى اشْتِراكَ المَعاطِيفِ في وصْفِ ما عُطِفَتْ عَلَيْهِ وزُخْرُفًا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وجَعَلْنا لَهم زُخْرُفًا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الأصْلُ: سُقُفًا مِن فِضَّةٍ وزُخْرُفٍ، يَعْنِي بَعْضَها مِن فِضَّةٍ وبَعْضَها مِن ذَهَبٍ، فَنَصَبَ عَطْفًا عَلى مَحَلِّ مِن فِضَّةٍ. انْتَهى. والزُّخْرُفُ: الذَّهَبُ هُنا، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ. وفي الحَدِيثِ: «إيّاكم والحُمْرَةَ فَإنَّها مِن أحَبِّ الزِّينَةِ إلى الشَّيْطانِ» . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الحَسَنُ أحْمَرُ، والشَّهَواتُ تَتْبَعُهُ. انْتَهى. قالَ بَعْضُ شُعَرائِنا: ؎وصَبَغْتَ دِرْعَكَ مِن دِماءِ كُماتِهِمْ لَمّا رَأيْتَ الحَسَنَ يَلْبَسُ أحْمَرًا وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الزُّخْرُفُ: أثاثُ البَيْتِ، وما يُتَّخَذُ لَهُ مِنَ السُّرُرِ والنَّمارِقِ. وقالَ الحَسَنُ: النُّقُوشُ، وقِيلَ: التَّزاوِيقُ كالنَّقْشِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: لَما، بِفَتْحِ اللّامِ وتَخْفِيفِ المِيمِ: هي مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، واللّامُ الفارِقَةُ بَيْنَ الإيجابِ والنَّفْيِ، وما: زائِدَةٌ، ومَتاعُ خَبَرُ ”كُلُّ“ . وقَرَأ الحَسَنُ، وطَلْحَةُ، والأعْمَشُ، وعِيسى، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ: لَمّا، بِتَشْدِيدِ المِيمِ، وإنْ نافِيَةٌ، ولَمّا: بِمَعْنى إلّا. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ، وأبُو حَيْوَةَ: لَمّا بِكَسْرِ اللّامِ، وخَرَّجُوهُ عَلى أنَّ ما مَوْصُولَةٌ والعائِدَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لِلَّذِي هو مَتاعٌ كَقَوْلِهِ ﴿تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ﴾ [الأنعام: ١٥٤] . وإنْ في هَذا التَّخْرِيجِ هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وكُلُّ: مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ في المَجْرُورِ، أيْ: وإنْ كُلُّ ذَلِكَ لَكائِنٌ أوْ لَمُسْتَقِرٌّ الَّذِي هو مَتاعٌ، ومِن حَيْثُ هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ كانَ الإتْيانُ بِاللّامِ هو الوَجْهُ، فَكانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ لَكُما مَتاعٌ، لَكِنَّهُ قَدْ تُحْذَفُ هَذِهِ اللّامُ إذا دَلَّ المَعْنى عَلى أنَّ إنْ هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، فَلا يَجُرُّ إلى ذِكْرِ اللّامِ الفارِقَةِ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ: ونَحْنُ أُباةُ الضَّيْمِ مِن آلِ مالِكٍ وإنْ مالِكٌ كانَتْ كِرامَ المَعادِنِ يُرِيدُ: لَكانَتْ، ولَكِنَّهُ حُذِفَ لِأنَّهُ لا يُتَوَهَّمُ في إنْ أنْ تَكُونَ نافِيَةً، لِأنَّ صَدْرَ البَيْتِ يَدُلُّ عَلى المَدْحِ، وتُعَيَّنُ إنْ لِكَوْنِها المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ. ﴿والآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾: أيْ ونَعِيمُ الآخِرَةِ، وفِيهِ تَحْرِيضٌ عَلى التَّقْوى. وقَرَأ: ﴿ومَن يَعْشُ﴾، بِضَمِّ الشِّينِ، أيْ يَتَعامَ ويَتَجاهَلْ عَنْ ذِكْرِهِ، وهو يَعْرِفُ الحَقَّ. وقِيلَ: يُقِلَّ نَظَرَهُ في شَرْعِ اللَّهِ، ويُغْمِضْ جُفُونَهُ عَنِ النَّظَرِ في: ﴿ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ . والذِّكْرُ هُنا، يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ القُرْآنُ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أُضِيفَ إلى المَفْعُولِ، أيْ يَعْشُ عَنْ أنْ يَذْكُرَ الرَّحْمَنَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أيْ فِيما ذَكَّرَ عِبادَهُ، فالمَصْدَرُ مُضافٌ إلى الفاعِلِ. انْتَهى، كَأنَّهُ يُرِيدُ بِالذِّكْرِ التَّذْكِيرَ. وقَرَأ يَحْيى بْنُ سَلّامٍ (p-١٦)البَصْرِيُّ: ومَن يَعْشَ، بِفَتْحِ الشِّينِ، أيْ يَعْمَ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وهو القُرْآنُ، كَقَوْلِهِ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] . وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَعْشُو بِالواوِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلى أنَّ مِن مَوْصُولَةٌ غَيْرُ مُضَمَّنَةٍ مَعْنى الشَّرْطِ، وحَقُّ هَذا القارِئِ أنْ يَرْفَعَ نُقَيِّضُ. انْتَهى. ولا يَتَعَيَّنُ ما قالَهُ، إذْ تَتَخَرَّجُ هَذِهِ القِراءَةُ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ مَن شُرْطِيَّةً، ويَعْشُو مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الحَرَكَةِ تَقْدِيرًا. وقَدْ ذَكَرَ الأخْفَشُ أنَّ ذَلِكَ لُغَةُ بَعْضِ العَرَبِ، ويَحْذِفُونَ حُرُوفَ العِلَّةِ لِلْجازِمِ. والمَشْهُورُ عِنْدَ النُّحاةِ أنَّ ذَلِكَ يَكُونُ في الشِّعْرِ، لا في الكَلامِ. والوَجْهُ الثّانِي: أنْ تَكُونَ مَن مَوْصُولَةً والجَزْمُ بِسَبَبِها لِلْمَوْصُولِ بِاسْمِ الشَّرْطِ، وإذا كانَ ذَلِكَ مَسْمُوعًا في الَّذِي، وهو لَمْ يَكُنِ اسْمَ شَرْطٍ قَطُّ، فالأوْلى أنْ يَكُونَ فِيما اسْتُعْمِلَ مَوْصُولًا وشَرْطًا. قالَ الشّاعِرُ: ولا تَحْفِرَنَّ بِئْرًا تُرِيدُ أخًا بِها فَإنَّكَ فِيها أنْتَ مِن دُونِهِ تَقَعْ كَذاكَ الَّذِي يَبْغِي عَلى النّاسِ ظالِمًا تُصِبْهُ عَلى رَغْمٍ عَواقِبُ ما صَنَعْ أنْشَدَهُما ابْنُ الأعْرابِيِّ، وهو مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ، ولَهُ وجْهٌ مِنَ القِياسِ، وهو: أنَّهُ كَما شَبَّهَ المَوْصُولَ بِاسْمِ الشَّرْطِ فَدَخَلَتِ الفاءُ في خَبَرِهِ، فَكَذَلِكَ يُشَبَّهُ بِهِ فَيَنْجَزِمُ الخَبَرُ، إلّا أنَّ دُخُولَ الفاءِ مُنْقاسٌ إذا كانَ الخَبَرُ مُسَبَّبًا عَنِ الصِّلَةِ بِشُرُوطِهِ المَذْكُورَةِ في عِلْمِ النَّحْوِ، وهَذا لا يَنْفِيهِ البَصْرِيُّونَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: نُقَيِّضْ، بِالنُّونِ، وعَلِيٌّ، والسُّلَمِيُّ، والأعْمَشُ، ويَعْقُوبُ، وأبُو عَمْرٍو: بِخِلافٍ عَنْهُ، وحَمّادٌ عَنْ عاصِمٍ، وعِصْمَةُ عَنِ الأعْمَشِ، وعَنْ عاصِمٍ، والعَلِيمِيُّ عَنْ أبِي بَكْرٍ: بِالياءِ، أيْ: يُقَيِّضِ الرَّحْمَنُ، وابْنُ عَبّاسٍ: ”يُقَيَّضْ“ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. لَهُ شَيْطانٌ: بِالرَّفْعِ، أيْ: يُيَسَّرْ لَهُ شَيْطانٌ ويُعْدَلْهُ، وهَذا عِقابٌ عَلى الكُفْرِ بِالخَتْمِ وعَدَمِ الفَلاحِ. كَما يُقالُ: إنَّ اللَّهَ يُعاقِبُ عَلى المَعْصِيَةِ بِالتَّزايُدِ مِنَ السَّيِّئاتِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَخْذُلُهُ، ويَحِلُّ بَيْنَهُ وبَيْنَ الشَّياطِينِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وقَيَّضْنا لَهم قُرَناءَ﴾ [فصلت: ٢٥] ﴿ألَمْ تَرَ أنّا أرْسَلْنا الشَّياطِينَ﴾ [مريم: ٨٣] . انْتَهى، وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ. والظّاهِرُ أنَّ ضَمِيرَ النَّصْبِ في ﴿وإنَّهم لَيَصُدُّونَهُمْ﴾ عائِدٌ عَلى مَن عَلى المَعْنى أعادَ أوَّلًا عَلى اللَّفْظِ في إفْرادِ الضَّمِيرِ، ثُمَّ أعادَ عَلى المَعْنى. والضَّمِيرُ في يَصُدُّونَهم عائِدٌ عَلى ”شَيْطانٌ“ وإنْ كانَ مُفْرَدًا، لِأنَّهُ مُبْهَمٌ في جِنْسِهِ، ولِكُلِّ عاشٍ شَيْطانٌ قَرِينٌ، فَجازَ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: وإنَّهم، عائِدٌ عَلى الشَّيْطانِ، وفي: ﴿لَيَصُدُّونَهُمْ﴾، عائِدٌ عَلى الكُفّارِ. انْتَهى. والأوْلى ما ذَكَرْناهُ لِتَناسُقِ الضَّمائِرِ في وإنَّهم، وفي ﴿لَيَصُدُّونَهُمْ﴾، وفي ويَحْسَبُونَ، لِمَدْلُولٍ واحِدٍ، كَأنَّ الكَلامَ: وإنَّ العُشاةَ لَيَصُدُّونَهُمُ الشَّياطِينُ عَنِ السَّبِيلِ، أيْ سَبِيلِ الهُدى والفَوْزِ، ويَحْسَبُونَ: أيِ الكُفّارُ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، وقَتادَةُ، والزُّهْرِيُّ، والجَحْدَرِيُّ، وأبُو بَكْرٍ، والحَرَمِيّانِ: حَتّى إذا جاءانا، عَلى التَّثْنِيَةِ، أيِ العاشِي والقَرِينُ إعادَةً عَلى لَفْظِ ”مَن“ والشَّيْطانِ القَرِينِ، وإنْ كانَ مِن حَيْثُ المَعْنى صالِحًا لِلْجَمْعِ. وقَرَأ الأعْمَشُ، والأعْرَجُ، وعِيسى، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، والأخَوانِ: جاءَنا عَلى الإفْرادِ، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى لَفْظِ مَن أعادَ أوَّلًا عَلى اللَّفْظِ، ثُمَّ جَمَعَ عَلى المَعْنى، ثُمَّ أفْرَدَ عَلى اللَّفْظِ، ونَظِيرُ ذَلِكَ: ﴿ومَن يُؤْمِن بِاللَّهِ ويَعْمَلْ صالِحًا يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا قَدْ أحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾ [الطلاق: ١١]: أفْرَدَ أوَّلًا ثُمَّ جَمَعَ في قَوْلِهِ: (خالِدِينَ)، ثُمَّ أفْرَدَ في قَوْلِهِ: (لَهُ رِزْقًا) . رُوِيَ أنَّهُما يُجْعَلانِ يَوْمَ البَعْثِ في سِلْسِلَةٍ، فَلا يَفْتَرِقانِ حَتّى يُصَيِّرَهُما اللَّهُ إلى النّارِ قالَ، أيِ الكافِرُ لِلشَّيْطانِ: ﴿يالَيْتَ بَيْنِي وبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ﴾ . تَمَنّى لَوْ كانَ ذَلِكَ في الدُّنْيا حَتّى لا يَصُدَّهُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أوْ تَمَنّى ذَلِكَ في الآخِرَةِ، وهو الظّاهِرُ، لِأنَّهُ جَوابُ إذا الَّتِي لِلِاسْتِقْبالِ، أيْ مَشْرِقَيِ الشَّمْسِ مَشْرِقِها في أقْصَرِ يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ، ومَشْرِقِها في أطْوَلِ يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ، قالَهُ ابْنُ السّائِبِ، أوْ بُعْدَ المَشْرِقِ أوِ المَغْرِبِ غَلَبَ المَشْرِقُ فَثَنّاهُما، كَما قالُوا: العُمَرانِ في أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ، والقَمَرانِ في الشَّمْسِ والقَمَرِ، (p-١٧)والمَوْصِلانِ في الجَزِيرَةِ والمَوْصِلِ، والزَّهْدَمانِ في زَهْدَمَ وكَرْدَمَ، والعَجّاجانِ في رُؤْبَةَ والعَجّاجِ، والأبَوانِ في الأبِ والأُمِّ، وهَذا اخْتِيارُ الفَرّاءِ والزَّجّاجِ، ولَمْ يَذْكُرْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قالَ: فَإنْ قُلْتَ: فَما بُعْدُ المَشْرِقَيْنِ ؟ قُلْتُ: تَباعُدُهُما، والأصْلُ بُعْدُ المَشْرِقِ مِنَ المَغْرِبِ، والمَغْرِبِ مِنَ المَشْرِقِ، فَلَمّا غَلَبَ جَمَعَ المُفْتَرِقَيْنِ بِالتَّثْنِيَةِ، أضافَ البُعْدَ إلَيْهِما. انْتَهى. وقِيلَ: بُعْدُ المَشْرِقَيْنِ مِنَ المَغْرِبَيْنِ، واكْتَفى بِذِكْرِ المَشْرِقَيْنِ. وكَأنَّهُ في هَذا القَوْلِ يُرِيدُ مَشْرِقَيِ الشَّمْسِ والقَمَرِ ومَغْرِبَيْهِما. ﴿فَبِئْسَ القَرِينُ﴾: مُبالَغَةٌ مِنهُ في ذَمِّ قَرِينِهِ، إذا كانَ سَبَبَ إيرادِهِ النّارَ. والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أيْ فَبِئْسَ القَرِينُ أنْتَ. ﴿ولَنْ يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ﴾: حِكايَةُ حالٍ يُقالُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ، وهي مَقالَةٌ مُوحِشَةٌ حَرَمَتْهم رُوحَ التَّأسِّي، لِأنَّهُ وقَّفَهم بِها عَلى أنَّهُ لا يَنْفَعُهُمُ التَّأسِّي لِعِظَمِ المُصِيبَةِ وطُولِ العَذابِ واسْتِمْرارِ مُدَّتِهِ، إذِ التَّأسِّي راحَةُ كُلِّ مُصابٍ في الدُّنْيا في الأغْلَبِ. ألا تَرى إلى قَوْلِ الخَنْساءِ: ولَوْلا كَثْرَةُ الباكِينَ حَوْلِي عَلى إخْوانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي وما يَبْكُونَ مِثْلَ أخِي ولَكِنْ أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأسِّي فَهَذا التَّأسِّي قَدْ كَفاها مُؤْنَةَ قَتْلِ النَّفْسِ، فَنَفى اللَّهُ عَنْهُمُ الِانْتِفاعَ بِالتَّأسِّي، وفي ذَلِكَ تَعْذِيبٌ لَهم ويَأْسٌ مِن كُلِّ خَيْرٍ، وهَذا لا يَكُونُ إلّا عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ يَنْفَعَكم أنَّكم ومَعْمُولاها، أيْ ولَنْ يَنْفَعَكُمُ اشْتِراكُكم في العَذابِ أنْ لَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمُ اشْتِراكَكم في العَذابِ. وإذا كانَ الفاعِلُ غَيْرَ أنَّ، وهو ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى ما يُفْهَمُ مِنَ الكَلامِ قَبْلَهُ، أيْ يَتَمَنّى مُباعَدَةَ القَرِينِ والتَّبَرُّؤَ مِنهُ، ويَكُونُ أنَّكم تَعْلِيلًا، أيْ لِاشْتِراكِكم في العَذابِ كَما كُنْتُمْ مُشْتَرِكِينَ في سَبَبِهِ، وهو الكُفْرُ. وقالَ مُقاتِلٌ المَعْنى: ولَنْ يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ الِاعْتِذارُ والنَّدَمُ، لِأنَّكم وقُرَناءَكم مُشْتَرِكُونَ في العَذابِ، كَما اشْتَرَكْتُمْ في الكُفْرانِ في الدُّنْيا. وعَلى كَوْنِ الفاعِلِ غَيْرَ أنَّ، وهي قِراءَةُ الجُمْهُورِ، لا يَتَضَمَّنُ الكَلامُ نَفْيَ التَّأسِّي. وقُرِئَ: إنَّكم بِالكَسْرِ، فَدَلَّ عَلى إضْمارِ الفاعِلِ، ويُقَوِّيهِ حَمْلُ أنَّكم بِالفَتْحِ عَلى التَّعْلِيلِ. واليَوْمَ وإذْ ظَرْفانِ، فاليَوْمَ ظَرْفُ حالٍ، وإذْ ظَرْفُ ماضٍ. أمّا ظَرْفُ الحالِ فَقَدْ يَعْمَلُ فِيهِ المُسْتَقْبَلُ لِقُرْبِهِ مِنهُ أوْ لِتَجَوُّزٍ في المُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ﴾ [الجن: ٩]، وقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎سَأشْقى الآنَ إذْ بَلَغْتُ مُناها وأمّا إذْ فَماضٍ لا يَعْمَلُ فِيهِ المُسْتَقْبَلُ، فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإذْ بَدَلٌ مِنَ اليَوْمِ. انْتَهى. وحُمِلَ إذْ ظَلَمْتُمْ عَلى مَعْنى إذْ تَبَيَّنَ ووَضَحَ ظُلْمُكم، ولَمْ يَبْقَ لِأحَدٍ ولا لَكم شُبْهَةٌ في أنَّكم كُنْتُمْ ظالِمِينَ، ونَظِيرُهُ: ؎إذا ما انْتَسَبْنا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ أيْ تَبَيَّنْ أنِّي ولَدُ كَرِيمَةٍ. انْتَهى. ولا يَجُوزُ فِيهِ البَدَلُ عَلى بَقاءِ إذْ عَلى مَوْضُوعِها مِن كَوْنِها ظَرْفًا لِما مَضى مِنَ الزَّمانِ. فَإنْ جُعِلَتْ لِمُطْلَقِ الوَقْتِ جازَ، وتَخْرِيجُها عَلى البَدَلِ، أخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنِ ابْنِ جِنِّي. قالَ في مُساءَلَتِهِ أبا عَلِيٍّ: راجَعْتُهُ فِيها مِرارًا، وآخِرُ ما حَصَلَ مِنهُ أنَّ الدُّنْيا والآخِرَةَ مُتَّصِلَتانِ، وهُما سَواءٌ في حُكْمِ اللَّهِ وعِلْمِهِ، فَيَكُونُ إذْ بَدَلًا مِنَ اليَوْمِ، حَتّى كَأنَّها مُسْتَقْبَلَةٌ، أوْ كَأنَّ اليَوْمَ ماضٍ. وقِيلَ: التَّقْدِيرُ بَعْدَ إذْ ظَلَمْتُمْ، فَحَذَفَ المُضافَ لِلْعِلْمِ بِهِ. وقِيلَ: إذْ لِلتَّعْلِيلِ حَرْفًا بِمَعْنى إنْ. وقالَ الحَوْفِيُّ: اليَوْمَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِيَنْفَعَكم، ولا يَجُوزُ تَعَلُّقُ إذْ بِهِ، لِأنَّهُما ظَرْفا زَمانٍ، يَعْنِي مُتَغايِرَيْنِ في المَعْنى تَغايُرًا لا يُمْكِنُ أنْ يَجْتَمِعا، قالَ: فَلا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الأخِيرِ، يَعْنِي لِذَلِكَ التَّغايُرِ مِن كَوْنِ هَذا ظَرْفَ حالٍ وهَذا ظَرْفَ مُضِيٍّ. قالَ: ولَكِنْ تَكُونُ إذْ مُتَعَلِّقَةً بِما دَلَّ عَلَيْهِ المَعْنى، كَأنَّهُ قالَ: ولَنْ يَنْفَعَكُمُ اجْتِماعُكم، ثُمَّ قالَ: وفاعِلُ يَنْفَعَكُمُ الِاشْتِراكُ. وقِيلَ: الفاعِلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ظُلْمُكم، أوْ جَحْدُكم، وهو العامِلُ في إذْ، لا ضَمِيرُ الفاعِلِ. لَمّا ذَكَرَ تَعالى حالَ الكُفّارِ وما يُقالُ لَهم. وكانَتْ قُرَيْشٌ تَسْمَعُ ذَلِكَ، فَلا تَزْدادُ إلّا عُتُوًّا واعْتِراضًا، وكانَ هو ﷺ يَجْتَهِدُ في تَحْصِيلِ (p-١٨)الإيمانِ لَهم خاطَبَهُ تَعالى تَسْلِيَةً لَهُ بِاسْتِفْهامِ تَعْجِيبٍ، أيْ: إنَّ هَؤُلاءِ صُمٌّ، فَلا يُمْكِنُكَ إسْماعُهم، عُمْيٌ حَيارى، فَلا يُمْكِنُكَ أنْ تَهْدِيَهم، وإنَّما ذَلِكَ راجِعٌ إلَيْهِ تَعالى. ولَمّا كانَتْ حَواسُّهم لَنْ يَنْتَفِعُوا بِها الِانْتِفاعَ الَّذِي يُجْرِي خَلاصَهم مِن عَذابِ اللَّهِ، جُعِلُوا صُمًّا عُمْيًا حَيارى، ويُرِيدُ بِهِمْ قُرَيْشًا، فَهم جامِعُو الأوْصافِ الثَّلاثَةِ، ولِذَلِكَ عادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿فَإمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإنّا مِنهم مُنْتَقِمُونَ﴾، ولَمْ يَجْرِ لَهم ذِكْرٌ إلّا في قَوْلِهِ: ﴿أفَأنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾ الآيَةَ. والمَعْنى: إنْ قَبَضْناكَ قَبْلَ نَصْرِكَ عَلَيْهِمْ، فَإنّا مِنهم مُنْتَقِمُونَ في الآخِرَةِ كَقَوْلِهِ: ﴿أوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإلَيْنا يُرْجَعُونَ﴾ [غافر: ٧٧]، ﴿أوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وعَدْناهُمْ﴾ مِنَ العَذابِ النّازِلِ بِهِمْ كَيَوْمِ بَدْرٍ، ﴿فَإنّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ﴾: أيْ هم في قَبْضَتِنا، لا يَفُوتُونَنا، وهَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ. وقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: المُتَوَعَّدُ هُمُ الأُمَّةُ، أكْرَمَ اللَّهُ تَعالى نَبِيَّهُ عَنْ أنْ يَنْتَقِمَ مِنهم في حَياتِهِ، كَما انْتَقَمَ مِن أُمَمِ الأنْبِياءِ في حَياتِهِمْ، فَوَقَعَتِ النِّقْمَةُ مِنهم بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ في العَيْنِ الحادِثَةِ في صَدْرِ الإسْلامِ، مَعَ الخَوارِجِ وغَيْرِهِمْ. وقُرِئَ: نُرِينَكَ بِالنُّونِ الخَفِيفَةِ. ولَمّا رَدَّدَ تَعالى بَيْنَ حَياتِهِ ومَوْتِهِ ﷺ، أمَرَهُ بِأنْ يَسْتَمْسِكَ بِما أوْحاهُ إلَيْهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: أُوحِيَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وبَعْضُ قُرّاءِ الشّامِ: بِإسْكانِ الياءِ، والضَّحّاكُ: مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، وأنَّهُ أيْ وإنَّ ما أوْحَيْنا إلَيْكَ، ﴿لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ﴾: أيْ شَرَفٌ، حَيْثُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ وبِلِسانِهِمْ، جُعِلَ تَبَعًا لَهم. والقَوْمُ عَلى هَذا قُرَيْشٌ ثُمَّ العَرَبُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ وابْنُ زَيْدٍ. كانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلى القَبائِلِ، فَإذا قالُوا لَهُ: لِمَن يَكُونُ الأمْرُ بَعْدَكَ ؟ سَكَتَ، حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. فَكانَ إذا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قالَ: ”لِقُرَيْشٍ“، فَكانَتِ العَرَبُ لا تَقْبَلُ حَتّى قَبِلَتْهُ الأنْصارُ. وقالَ الحَسَنُ: القَوْمُ هُنا أُمَّتُهُ، والمَعْنى: وإنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ ومَوْعِظَةٌ. قِيلَ: وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ الإنْسانَ يَرْغَبُ في الثَّناءِ الحَسَنِ الجَمِيلِ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَرْغُوبًا فِيهِ، ما امْتَنَّ بِهِ تَعالى عَلى رَسُولِهِ فَقالَ: ﴿وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ﴾ . وقالَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ﴾ [الشعراء: ٨٤] . والذِّكْرُ الجَمِيلُ قائِمٌ مَقامَ الحَياةِ، بَلْ هو أفْضَلُ مِنَ الحَياةِ، لِأنَّ أثَرَ الحَياةِ لا يَحْصُلُ إلّا في الحَيِّ وأثَرَ الذِّكْرِ الجَمِيلِ يَحْصُلُ في كُلِّ مَكانٍ، وفي كُلِّ زَمانٍ. انْتَهى. وقالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: وإنَّما المَرْءُ حَدِيثٌ بَعْدَهُ فَكُنْ حَدِيثًا حَسَنًا لِمَن وعى وقالَ الآخَرُ: إنَّما الدُّنْيا مَحاسِنُها طَيِّبُ ما يَبْقى مِنَ الخَبَرِ وذُكِرَ أنَّ هَلاوُنَ مَلِكَ التَّتَرِ، سَألَ أصْحابَهُ: مَنِ المَلِكُ ؟ فَقالُوا: أنْتَ الَّذِي دَوَّخْتَ البِلادَ ومَلَكْتَ الأرْضَ وطاعَتْ لَكَ المُلُوكُ. فَقالَ: لا المَلِكُ هَذا، وكانَ المُؤَذِّنُ إذْ ذاكَ يُؤَذِّنُ، هَذا الَّذِي لَهُ أزْيَدُ مِن سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ، قَدْ ماتَ وهو يُذْكَرُ عَلى المَآذِنِ في كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرّاتٍ ؟ يُرِيدُ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ . ﴿وسَوْفَ تُسْألُونَ﴾، قالَ الحَسَنُ: عَنْ شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ. وقالَ مُقاتِلٌ: المُرادُ مَن كَذَّبَ بِهِ، يُسْألُ سُؤالَ تَوْبِيخٍ. ﴿واسْألْ مَن أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنا﴾، قِيلَ: هو عَلى ظاهِرِهِ، وإنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ لَهُ لَيْلَةَ الإسْراءِ، حِينَ أمَّ بِالأنْبِياءِ: ﴿واسْألْ مَن أرْسَلْنا﴾، فَلَمْ يَسْألْهم، إذْ كانَ أثْبَتَ يَقِينًا، ولَمْ يَكُنْ في شَكٍّ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ جُبَيْرٍ، والزُّهْرِيِّ، وابْنِ زَيْدٍ، وفي الأثَرِ أنَّ مِيكالَ قالَ لِجِبْرِيلَ: هَلْ سَألَ مُحَمَّدٌ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقالَ: هو أعْظَمُ يَقِينًا وأوْثَقُ إيمانًا مِن أنْ يَسْألَهُ ذَلِكَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والسُّدِّيُّ، وعَطاءٌ: أرادَ واسْألْ أتْباعَ مَن أرْسَلْنا وحَمَلَةَ شَرائِعِهِمْ، إذْ يَسْتَحِيلُ سُؤالُ الرُّسُلِ أنْفُسِهِمْ، ولَيْسُوا مُجْتَمِعِينَ في الدُّنْيا. قالَ الفَرّاءُ: هم إنَّما يُخْبِرُونَهُ عَنْ كُتُبِ الرُّسُلِ، فَإذا سَألَهم، فَكَأنَّهُ سَألَ الرُّسُلَ، والسُّؤالُ الواقِعُ مَجازٌ عَنِ النَّظَرِ، حَيْثُ لا يَصْلُحُ لِحَقِيقَتِهِ كَثِيرٌ مِنهُ مُساءَلَةَ الشُّعَراءِ الدِّيارَ (p-١٩)والأطْلالَ، ومِنهُ: سَيِّدُ الأرْضِ مَن شَقَّ أنْهارَكَ، وغَرَسَ أشْجارَكَ، وجَنى ثِمارَكَ، فَإنَّها إنْ لَمْ تُجِبْكَ حِوارًا أجابَتْكَ اعْتِبارًا. فالسُّؤالُ هُنا مَجازٌ عَنِ النَّظَرِ في أدْيانِهِمْ: هَلْ جاءَتْ عِبادَةُ الأوْثانِ قَطُّ في مِلَّةٍ مِن مِلَلِ الأنْبِياءِ ؟ والَّذِي يَظْهَرُ أنَّهُ خِطابٌ لِلسّامِعِ الَّذِي يُرِيدُ أنْ يَفْحَصَ عَنِ الدِّياناتِ، فَقِيلَ لَهُ: اسْألْ أيُّها النّاظِرُ أتْباعَ الرُّسُلِ، أجاءَتْ رُسُلُهم بِعِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ ؟ فَإنَّهم يُخْبِرُونَكَ أنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ، ولا يُمْكِنُ أنْ يَأْتُوا بِهِ. وأبْعَدُ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ المَعْنى: واسْألْنِي، واسْألْنا عَنْ مَن أرْسَلَنا، وعَلَّقَ واسْألْ، فارْتَفَعَ مَن، وهو اسْمُ اسْتِفْهامٍ عَلى الِابْتِداءِ، وأرْسَلْنا خَبَرُهُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِاسْألْ بَعْدَ إسْقاطِ الخافِضِ، كانَ سُؤالُهُ: مَن أرْسَلْتَ يا رَبِّ قَبْلِي مِن رُسُلِكَ ؟ أجَعَلْتَ في رِسالَتِهِ آلِهَةً تُعْبَدُ ؟ ثُمَّ ساقَ السُّؤالَ فَحَكى المَعْنى، فَرَدَّ الخِطابَ إلى مُحَمَّدٍ في قَوْلِهِ: (مِن قَبْلِكَ) .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب