الباحث القرآني

سُورَةُ الشُّورى ثَلاثٌ وخَمْسُونَ آيَةً، مَكِّيَّةٌ ﷽ ﴿حم﴾ ﴿عسق﴾ ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وهو العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ والمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرْضِ ألا إنَّ اللَّهَ هو الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أولِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ القُرى ومَن حَوْلَها وتُنْذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ في الجَنَّةِ وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ﴾ ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهم أُمَّةً واحِدَةً ولَكِنْ يُدْخِلُ مَن يَشاءُ في رَحْمَتِهِ والظّالِمُونَ ما لَهم مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ ﴿أمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ فاللَّهُ هو الوَلِيُّ وهو يُحْيِي المَوْتى وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿وما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ﴾ ﴿فاطِرُ السَّماواتِ والأرْضِ جَعَلَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا ومِنَ الأنْعامِ أزْواجًا يَذْرَؤُكم فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ﴿لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ والأرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ﴿شَرَعَ لَكم مِنَ الدِّينِ ما وصّى بِهِ نُوحًا والَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ وما وصَّيْنا بِهِ إبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلى المُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهم إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ [الشورى: ١٣] ﴿وما تَفَرَّقُوا إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهم ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ إلى أجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهم وإنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الكِتابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفي شَكٍّ مِنهُ مُرِيبٍ﴾ [الشورى: ١٤] ﴿فَلِذَلِكَ فادْعُ واسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ولا تَتَّبِعْ أهْواءَهم وقُلْ آمَنتُ بِما أنْزَلَ اللَّهُ مِن كِتابٍ وأُمِرْتُ لِأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا ورَبُّكم لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم لا حُجَّةَ بَيْنَنا وبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وإلَيْهِ المَصِيرُ﴾ [الشورى: ١٥] ﴿والَّذِينَ يُحاجُّونَ في اللَّهِ مِن بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهم داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ولَهم عَذابٌ شَدِيدٌ﴾ [الشورى: ١٦] ﴿اللَّهُ الَّذِي أنْزَلَ الكِتابَ بِالحَقِّ والمِيزانَ وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: ١٧] ﴿يَسْتَعْجِلُ بِها الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها والَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنها ويَعْلَمُونَ أنَّها الحَقُّ ألا إنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ في السّاعَةِ لَفي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ [الشورى: ١٨] ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ وهو القَوِيُّ العَزِيزُ﴾ [الشورى: ١٩] ﴿مَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ ومَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنها وما لَهُ في الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ﴾ [الشورى: ٢٠] ﴿أمْ لَهم شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهم مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ولَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهم وإنَّ الظّالِمِينَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [الشورى: ٢١] ﴿تَرى الظّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا كَسَبُوا وهو واقِعٌ بِهِمْ والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ في رَوْضاتِ الجَنّاتِ لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هو الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ [الشورى: ٢٢] ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى ومَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنًا إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [الشورى: ٢٣] ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا فَإنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ ويَمْحُ اللَّهُ الباطِلَ ويُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ [الشورى: ٢٤] ﴿وهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ ويَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: ٢٥] (p-٥٠٧)﴿ويَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ويَزِيدُهم مِن فَضْلِهِ والكافِرُونَ لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ﴾ [الشورى: ٢٦] ﴿ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ ولَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: ٢٧] ﴿وهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِن بَعْدِ ما قَنَطُوا ويَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وهو الوَلِيُّ الحَمِيدُ﴾ [الشورى: ٢٨] ﴿ومِن آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَثَّ فِيهِما مِن دابَّةٍ وهو عَلى جَمْعِهِمْ إذا يَشاءُ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: ٢٩] ﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكم ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: ٣٠] ﴿وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ في الأرْضِ وما لَكم مِن دُونِ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ [الشورى: ٣١] ﴿ومِن آياتِهِ الجَوارِي في البَحْرِ كالأعْلامِ﴾ [الشورى: ٣٢] ﴿إنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ﴾ [الشورى: ٣٣] . رَكَدَ الشَّيْءُ، ثَبَتَ في مَكانِهِ، وقَدْ قالَ الشّاعِرُ: ؎رُكُودًا يُوارِي الرَّبْرَبَ المُتَفَرِّقَ وقَدْ رَكَدَتْ وسَطَ السَّماءِ نُجُومُها ﴿حم﴾ ﴿عسق﴾ ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وهو العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ والمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرْضِ ألا إنَّ اللَّهَ هو الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أولِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ القُرى ومَن حَوْلَها وتُنْذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ في الجَنَّةِ وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ﴾ ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهم أُمَّةً واحِدَةً ولَكِنْ يُدْخِلُ مَن يَشاءُ في رَحْمَتِهِ والظّالِمُونَ ما لَهم مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ ﴿أمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ فاللَّهُ هو الوَلِيُّ وهو يُحْيِي المَوْتى وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿وما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ﴾ ﴿فاطِرُ السَّماواتِ والأرْضِ جَعَلَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا ومِنَ الأنْعامِ أزْواجًا يَذْرَؤُكم فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ﴿لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ والأرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ الحَسَنِ وعَطاءٍ وعِكْرِمَةَ وجابِرٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَكِّيَّةٌ إلّا أرْبَعَ آياتٍ مِن قَوْلِهِ: ﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ [الشورى: ٢٣] إلى آخِرِ الأرْبَعِ آياتٍ، فَإنَّها نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ. وقالَ مُقاتِلٌ: فِيها مَدَنِيٌّ قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ﴾ [الشورى: ٢٣] إلى (الصُّدُورِ) . ومُناسَبَةُ أوَّلِ السُّورَةِ لِآخِرِ ما قَبْلَها أنَّهُ قالَ: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ [فصلت: ٥٢] الآيَةَ، وكانَ في ذَلِكَ الحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِالضَّلالِ. لَمّا كَفَرُوا بِهِ قالَ هُنا: (كَذَلِكَ)، أيْ: مِثْلُ الإيحاءِ السّابِقِ في القُرْآنِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ هَؤُلاءِ، ﴿يُوحِي إلَيْكَ﴾: أيْ: إنَّ وحْيَهُ تَعالى إلَيْكَ مُتَّصِلٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ، يَتَعَهَّدُكَ وقْتًا بَعْدَ وقْتٍ. وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ في ﴿حم﴾ ﴿عسق﴾ أقْوالًا مُضْطَرِبَةً لا يَصِحُّ مِنها شَيْءٌ كَعادَتِهِمْ في هَذِهِ الفَواتِحِ، ضَرَبْنا عَنْ ذِكْرِها صَفْحًا. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (يُوحِي) مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ؛ وأبُو حَيْوَةَ، والأعْشى عَنْ أبِي بَكْرٍ، وأبانَ (نُوحِي) (p-٥٠٨)بِنُونِ العَظَمَةِ. ومُجاهِدٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وعَبّاسٌ، ومَحْبُوبٌ، كِلاهُما عَنْ أبِي عَمْرٍو: (يُوحى) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ؛ و(اللَّهُ) مَرْفُوعٌ بِمُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ أوْحى، أوْ بِالِابْتِداءِ، التَّقْدِيرُ: اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ المُوحِي. وعَلى قِراءَةِ (نُوحِي) بِالنُّونِ، يَكُونُ ﴿اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ مُبْتَدَأً وخَبَرًا. و(يُوحِي) إمّا في مَعْنى أوْجَبَ حَتّى يَنْتَظِمَ قَوْلُهُ: ﴿وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ﴾، أوْ يُقْرَأُ عَلى مَوْضُوعِهِ، ويُضْمِرُ عامِلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ (إلى الَّذِينَ) تَقْدِيرُهُ: وأوْحى إلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ﴿تَكادُ السَّماواتُ﴾ في سُورَةِ مَرْيَمَ قِراءَةً وتَفْسِيرًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ورَوى يُونُسُ عَنْ أبِي عُمَرَ وقِراءَةٌ عَرَبِيَّةٌ (تَتَفَطَّرْنَ) بِتاءَيْنِ مَعَ النُّونِ، ونَظِيرُها حَرْفٌ نادِرٌ رُوِيَ في نَوادِرِ ابْنِ الأعْرابِيِّ: الإبِلُ تَتَشَمَّمْنَ. انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ هَذا وهْمٌ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ في النَّقْلِ؛ لِأنَّ ابْنَ خالَوَيْهِ ذَكَرَ في شَواذِّ القِراءاتِ لَهُ ما نَصَبَ (تَفَطَّرْنَ) بِالتّاءِ والنُّونِ، يُونُسُ عَنْ أبِي عَمْرٍو. وقالَ ابْنُ خالَوَيْهِ: هَذا حَرْفٌ نادِرٌ؛ لِأنَّ العَرَبَ لا تَجْمَعُ بَيْنَ عَلامَتَيِ التَّأْنِيثِ. لا يُقالُ: النِّساءُ تَقُمْنَ، ولَكِنْ يَقُمْنَ، والوالِداتُ يُرْضِعْنَ. قَدْ كانَ أبُو عُمَرَ الزّاهِدُ رَوى في نَوادِرِ ابْنِ الأعْرابِيِّ: الإبِلُ تَتَشَمَّمْنَ، فَأنْكَرْناهُ، فَقَدْ قَوّاهُ؛ لِأنَّ هَذا كَلامُ ابْنِ خالَوَيْهِ. فَإنْ كانَتْ نُسَخُ الزَّمَخْشَرِيِّ مُتَّفِقَةً عَلى قَوْلِهِ بِتاءَيْنِ مَعَ النُّونِ فَهو وهْمٌ، وإنْ كانَ في بَعْضِها بِتاءٍ مَعَ النُّونِ، كانَ مُوافِقًا لِقَوْلِ ابْنِ خالَوَيْهِ، وكانَ بِتاءَيْنِ تَحْرِيفًا مِنَ النُّسّاخِ. وكَذَلِكَ كَتْبُهم تَتَفَطَّرْنَ وتَتَشَمَّمْنَ بِتاءَيْنِ. والظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ في (مِن فَوْقِهِنَّ) عَلى (السَّماواتُ) . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِن أعْلاهُنَّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَنْفَطِرْنَ مِن عُلُوِّ شَأْنِ اللَّهِ تَعالى وعَظَمَتِهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ مَجِيئُهُ بَعْدَ ﴿العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ . وقِيلَ: مِن دُعائِهِمْ لَهُ ولَدًا، كَقَوْلِهِ: ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ﴾ [مريم: ٩٠] . فَإنْ قُلْتَ: لِمَ قالَ (مِن فَوْقِهِنَّ) ؟ قُلْتُ: لِأنَّ أعْظَمَ الآياتِ وأدَلَّها عَلى الجَلالِ والعَظَمَةِ فَوْقَ السَّماواتِ، وهي العَرَضُ والكُرْسِيُّ وصُفُوفُ المَلائِكَةِ المُرْتَجَّةِ بِالتَّسْبِيحِ والتَّقْدِيسِ حَوْلَ العَرْشِ، وما لا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إلّا اللَّهُ مِن آثارِ مَلَكُوتِهِ العُظْمى، فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ﴾ أيْ: يَبْتَدِئُ الِانْفِطارُ مِن جِهَتَيْنِ الفَوْقانِيَّةِ. وقالَ جَماعَةٌ، مِنهُمُ الحَوْفِيُّ، قالَ: (مِن فَوْقِهِنَّ)، والهاءُ والنُّونُ كِنايَةٌ عَنِ الأرَضِينَ. انْتَهى. (مِن فَوْقِهِنَّ) مُتَعَلِّقٌ بِـ(يَتَفَطَّرْنَ) ويَدُلُّ عَلى هَذا القَوْلِ ذِكْرُ الأرْضِ قَبْلُ. وقالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمانَ الأخْفَشُ: الضَّمِيرُ لِلْكُفّارِ، والمَعْنى: مِن فَوْقِ الفِرَقِ والجَماعاتِ المُلْحِدَةِ، أيْ مِن أجْلِ أقْوالِها. انْتَهى. فَهَذِهِ الآيَةُ كالَّذِي في سُورَةِ مَرْيَمَ، واسْتَبْعَدَ مَكِّيٌّ هَذا القَوْلَ، قالَ: لا يَجُوزُ في الذُّكُورِ مِن بَنِي آدَمَ، يَعْنِي ضَمِيرَ المُؤَنَّثِ والِاسْتِشْعارُ ما ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ. قالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمانَ: مِن فَوْقِ الفِرَقِ والجَماعاتِ، وظاهِرُ المَلائِكَةِ العُمُومُ. وقالَ مُقاتِلٌ: حَمَلَةُ العَرْشِ والتَّسْبِيحِ، قِيلَ: قَوْلُهم سُبْحانَ اللَّهَ، وقِيلَ: يُهَلِّلُونَ؛ والظّاهِرُ في (يَسْتَغْفِرُونَ) طَلَبُ الغُفْرانِ، ولِأهْلِ الأرْضِ عامٌّ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ: ﴿ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر: ٧]، قالَهُ السُّدِّيُّ. وقِيلَ: عامٌّ. ومَعْنى الِاسْتِغْفارِ: طَلَبُ الهِدايَةِ المُؤَدِّيَةِ إلى المَغْفِرَةِ، كَأنَّهم يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ اهْدِ أهْلَ الأرْضِ، فاغْفِرْ لَهم. ويَدُلُّ عَلَيْهِ وصْفُهُ بِالغُفْرانِ والرَّحْمَةِ والِاسْتِفْتاحِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَقْصِدُوا بِالِاسْتِغْفارِ لَهم: طَلَبَ الحِلْمِ والغُفْرانِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ والأرْضَ أنْ تَزُولا﴾ [فاطر: ٤١]، إلى أنْ قالَ: ﴿إنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر: ٤١]، وقَوْلِهِ: ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ﴾ [الرعد: ٦]، والمُرادُ: الحِلْمُ عَنْهم، وأنْ لا يُعاجِلَهم بِالِانْتِقامِ فَيَكُونُ عامًّا. انْتَهى. وتَكَلَّمَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ في قَوْلِهِ: ﴿تَكادُ السَّماواتُ﴾ كَلامًا خارِجًا عَنْ مَناحِي مَفْهُوماتِ العَرَبِ، مُنْتَزَعًا مِن كَلامِ الفَلاسِفَةِ ومَن جَرى مَجْراهم، يُوقَفُ عَلى ذَلِكَ في كِتابِهِ. ﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ﴾: أيْ أصْنامًا وأوْثانًا، ﴿اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾: أيْ عَلى أعْمالِهِمْ ومُجازِيهِمْ عَلَيْها، ﴿وما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ أيْ: بِمُفَوَّضٍ إلَيْكَ أمْرُهم ولا قائِمٍ. وما في هَذا مِنَ المُوادَعَةِ مَنسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. (وكَذَلِكَ) أيْ: ومِثْلُ هَذا الإيحاءِ والقَضاءِ، إنَّكَ لَسْتَ بِوَكِيلٍ عَلَيْهِمْ، ﴿أوْحَيْنا إلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ . (p-٥٠٩)والظّاهِرُ أنَّ (قُرْءانًا) مَفْعُولُ (أوْحَيْنا) . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الكافُ مَفْعُولٌ بِهِ، أيْ أوْحَيْناهُ إلَيْكَ، وهو قُرْآنٌ عَرَبِيٌّ لا لَبْسَ فِيهِ عَلَيْكَ، إذْ نَزَلَ بِلِسانِكَ. انْتَهى. فاسْتَعْمَلَ الكافَ اسْمًا في الكَلامِ، وهو مَذْهَبُ الأخْفَشِ. ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ القُرى﴾: مَكَّةَ، أيْ أهْلَ أُمِّ القُرى، وكَذَلِكَ المَفْعُولُ الأوَّلُ مَحْذُوفٌ، والثّانِي هو: ﴿يَوْمَ الجَمْعِ﴾ أيِ: اجْتِماعِ الخَلائِقِ، والمُنْذَرُ بِهِ هو ما يَقَعُ في يَوْمِ الجَمْعِ مِنَ الجَزاءِ وانْقِسامِ الجَمْعِ إلى الفَرِيقَيْنِ، أوِ اجْتِماعِ الأرْواحِ بِالأجْسادِ، أوْ أهْلِ الأرْضِ بِأهْلِ السَّماءِ، أوِ النّاسِ بِأعْمالِهِمْ، أقْوالٌ أرْبَعَةٌ. (لِيُنْذِرَ) بِياءِ الغَيْبَةِ، أيْ: لِيُنْذِرَ القُرْآنُ. ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ أيْ: لا شَكَّ في وُقُوعِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾: اعْتِراضٌ لا مَحالَةَ. انْتَهى. ولا يَظْهَرُ أنَّهُ اعْتِراضٌ، أعْنِي صِناعِيًّا؛ لِأنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَيْنَ طالِبٍ ومَطْلُوبٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (فَرِيقٌ) بِالرَّفْعِ فِيهِما، أيْ: هم فَرِيقٌ أوْ مِنهم فَرِيقٌ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِنَصْبِهِما، أيِ: افْتَرَقُوا، فَرِيقًا في كَذا، وفَرِيقًا في كَذا؛ ويَدُلُّ عَلى الِافْتِراقِ: الِاجْتِماعُ المَفْهُومُ مِن يَوْمِ الجَمْعِ. ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهم أُمَّةً واحِدَةً﴾: يَعْنِي مِن إيمانٍ أوْ كُفْرٍ، قالَ مَعْناهُ الضَّحّاكُ، وهو قَوْلُ أهْلِ السُّنَّةِ، وذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ. كَما كانَ يُقاسِيهِ مَن كُفْرِ قَوْمِهِ، وتَوْقِيفٌ عَلى أنَّ ذَلِكَ راجِعٌ إلى مَشِيئَتِهِ، ولَكِنَّ مَن سَبَقَتْ لَهُ السَّعادَةُ أدْخَلَهُ في رَحْمَتِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿لَجَعَلَهم أُمَّةً واحِدَةً﴾ أيْ: مُؤْمِنِينَ كُلَّهم عَلى القَسْرِ والإكْراهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿ولَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها﴾ [السجدة: ١٣]، وقَوْلِهِ: ﴿ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن في الأرْضِ كُلُّهم جَمِيعًا﴾ [يونس: ٩٩] . والدَّلِيلُ عَلى أنَّ المَعْنى هو الإيحاءُ إلى الإيمانِ قَوْلُهُ: ﴿أفَأنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٩٩]، وذَكَرَ ما ظَنَّهُ اسْتِدْلالًا عَلى ذَلِكَ، وهو عَلى طَرِيقِ الِاعْتِزالِ. وقالَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ: ﴿فِي رَحْمَتِهِ﴾: في دِينِ الإسْلامِ. ﴿أمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ﴾، أمْ: بِمَعْنى بَلْ، لِلِانْتِقالِ مِن كَلامٍ إلى كَلامٍ، والهَمْزَةُ لِلْإنْكارِ عَلَيْهِمُ اتِّخاذَ أوْلِياءَ مِن دُونِ اللَّهِ. وقِيلَ: أمْ بِمَعْنى الهَمْزَةِ فَقَطْ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مِثْلِ هَذا، حَيْثُ جاءَتْ أمِ المُنْقَطِعَةُ، والمَعْنى: اتَّخَذُوا أوْلِياءَ دُونَ اللَّهِ، ولَيْسُوا بِأوْلِياءَ حَقِيقَةً، فاللَّهُ هو الوَلِيُّ، والَّذِي يَجِبُ أنْ يَتَوَلّى وحْدَهُ، لا ما لا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ مِن أوْلِيائِهِمْ. ولَمّا أخْبَرَ أنَّهُ هو الوَلِيُّ، عَطَفَ عَلَيْهِ هَذا الفِعْلَ الغَرِيبَ الَّذِي لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وهو إحْياءُ المَوْتى. ولَمّا ذَكَرَ هَذا الوَصْفَ، ذَكَرَ قُدْرَتَهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ إرادَتُهُ بِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: في قَوْلِهِ: ﴿فاللَّهُ هو الوَلِيُّ﴾، والفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فاللَّهُ هو الوَلِيُّ﴾ جَوابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: بَعْدَ إنْكارِ كُلِّ ولِيٍّ سِواهُ، وإنْ أرادُوا ولَيًّا بِحَقٍّ، فاللَّهُ هو الوَلِيُّ بِالحَقِّ، لا ولِيَّ سِواهُ. انْتَهى. ولا حاجَةَ إلى تَقْدِيرِ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، والكَلامُ يَتِمُّ بِدُونِهِ. ﴿وما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ﴾: هَذا حِكايَةٌ لِقَوْلِ الرَّسُولِ، أيْ: ما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ أيُّها النّاسُ مِن تَكْذِيبٍ أوْ تَصْدِيقٍ وإيمانٍ وكُفْرٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، فالحُكْمُ فِيهِ والمُجازاةُ عَلَيْهِ لَيْسَ ذَلِكَ إلّا إلى اللَّهِ، لا إلَيَّ، ولَفْظَةُ مِن شَيْءٍ تَدُلُّ عَلى العُمُومِ. وقِيلَ: مِن شَيْءٍ مِنَ الخُصُوماتِ، فَتَحاكَمُوا فِيهِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولا تُؤْثِرُوا عَلى حُكُومَتِهِ حُكُومَةَ غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ﴾ [النساء: ٥٩] . وقِيلَ: (مِن شَيْءٍ): مِن تَأْوِيلِ آيَةٍ واشْتَبَهَ عَلَيْكم، فارْجِعُوا في بَيانِهِ إلى آيِ المُحْكَمِ مِن كِتابِ اللَّهِ، والظّاهِرِ مِن سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وقِيلَ: ما وقَعَ مِنكُمُ الخِلافُ فِيهِ مِنَ العُلُومِ الَّتِي لا تَتَّصِلُ بِتَكْلِيفِكم، ولا طَرِيقَ لَكم إلى عِلْمِهِ، فَقُولُوا: اللَّهُ أعْلَمُ، كَمَعْرِفَةِ الرُّوحِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ ما خالَفَكم فِيهِ الكُفّارُ مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ فاخْتَلَفْتُمْ أنْتُمْ وهم فِيهِ مِن أُمُورِ الدِّينِ، فَحُكْمُ ذَلِكَ المُخْتَلَفِ فِيهِ مُفَوَّضٌ إلى اللَّهِ، وهو إثابَةُ المُحِقِّينَ فِيهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ ومُعاتِبَةُ المُبْطِلِينَ. (ذَلِكم): الحَكَمُ بَيْنَكم هو ﴿رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ في رَدِّ كَيْدِ أعْداءِ الدِّينِ، وإلَيْهِ أرْجِعُ في كِفايَةِ شَرِّهِمْ. انْتَهى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (فاطِرُ) بِالرَّفْعِ، أيْ: هو فاطِرُ، أوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ كَقَوْلِهِ: (ذَلِكم) . وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (فاطِرِ) بِالجَرِّ، صِفَةً لِقَوْلِهِ: (إلى اللَّهِ)، والجُمْلَةُ بَعْدَها اعْتِراضٌ بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ. ﴿جَعَلَ لَكم مِن أنْفُسِكُمْ﴾ أيْ: مِن جِنْسِ أنْفُسِكم، أيْ: (p-٥١٠)آدَمَيّاتٍ، (أزْواجًا): إناثًا، أوْ جَعَلَ الخَلْقَ لِأبِينا آدَمَ مِن ضِلْعِهِ حَوّاءَ زَوْجًا لَهُ خَلْقًا لَنا، ﴿ومِنَ الأنْعامِ أزْواجًا﴾ أيْ: أنْواعًا كَثِيرَةً، ذُكُورًا وإناثًا، أوْ أزْواجًا إناثًا. ﴿يَذْرَؤُكم فِيهِ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أيْ يَجْعَلُ لَكم فِيهِ مَعِيشَةً تَعِيشُونَ بِها. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَرْزُقُكم فِيهِ، وهو قَرِيبٌ مِنَ القَوْلِ قَبْلَهُ. وقالَ مُجاهِدٌ: يَخْلُقُكم في بُطُونِ الإناثِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ أيْضًا: يَذْرَؤُكم فِيما خَلَقَ مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ. وقالَ الزَّجّاجُ: يُكَثِّرُكم بِهِ، أيْ: فِيهِ، أيْ: يُكَثِّرُكم في خَلْقِكم أزْواجًا. وقالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمانَ: يَنْقُلُكم مِن حالٍ إلى حالٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الضَّمِيرُ في فِيهِ لِلْجَعْلِ، أيْ: يَخْلُقُكم ويُكَثِّرُكم في الجَعْلِ، كَما تَقُولُ: كَلَّمْتُ زَيْدًا كَلامًا أكْرَمْتُهُ فِيهِ، قالَ: ولَفْظَةُ ذَرَأ تُزِيدُ عَلى لَفْظَةِ خَلَقَ مَعْنًى آخَرَ لَيْسَ في خَلَقَ، وهو تَوالِي الطَّبَقاتِ عَلى مَرِّ الزَّمانِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (يَذْرَؤُكم): يُكَثِّرُكم، يُقالُ ذَرَأ اللَّهُ الخَلْقَ: بَثَّهم وكَثَّرَهم، والذَّرْءُ والذَّرُوءُ والذَّرْواءُ أخَواتٌ في هَذا التَّدْبِيرِ، وهو أنْ جَعَلَ لِلنّاسِ والأنْعامِ أزْواجًا حَتّى كانَ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وإناثِهِمُ التَّوالُدُ والتَّناسُلُ. والضَّمِيرُ في يَذْرَؤُكم يَرْجِعُ إلى المُخاطَبِينَ، و(الأنْعامِ) مُغَلَّبًا فِيهِ المُخاطَبُونَ العُقَلاءُ عَلى الغَيْرِ مِمّا لا يَعْقِلُ، وهي مِنَ الأحْكامِ ذاتِ العِلَّتَيْنِ. انْتَهى. وقَوْلُهُ: وهي مِنَ الأحْكامِ ذاتِ العِلَّتَيْنِ اصْطِلاحٌ غَرِيبٌ، ويَعْنِي أنَّ الخِطابَ يُغَلَّبُ عَلى الغَيْبَةِ إذا اجْتَمَعا فَتَقُولُ: أنْتَ وزَيْدٌ تَقُومانِ؛ والعاقِلُ يُغَلَّبُ عَلى غَيْرِ العاقِلِ إذا اجْتَمَعا، فَتَقُولُ: الحَيَوانُ وغَيْرُهم يُسَبِّحُونَ خالِقَهم. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ؛ فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى (يَذْرَؤُكم) في هَذا التَّدْبِيرِ ؟ وهَلّا قِيلَ: يَذْرَؤُكم بِهِ ؟ قُلْتُ: جَعَلَ هَذا التَّدْبِيرَ كالمَنبَعِ والمَعْدِنِ لِلْبَثِّ والتَّكْثِيرِ. ألا تَراكَ تَقُولُ لِلْحَيَوانِ في خَلْقِ الأزْواجِ تَكْثِيرٌ ؟ كَما قالَ تَعالى: ﴿ولَكم في القِصاصِ حَياةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩] انْتَهى. ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، تَقُولُ العَرَبُ: مِثْلُكَ لا يَفْعَلُ كَذا، يُرِيدُونَ بِهِ المُخاطَبَ، كَأنَّهم إذا نَفَوُا الوَصْفَ عَنْ مِثْلِ الشَّخْصِ كانَ نَفْيًا عَنِ الشَّخْصِ، وهو مِن بابِ المُبالَغَةِ، ومِثْلُ الآيَةِ قَوْلُ أوْسِ بْنِ حَجَرٍ: ؎لَيْسَ كَمِثْلِ الفَتى زُهَيْرِ ∗∗∗ خُلُقٌ يُوازِيهِ في الفَضائِلِ وقالَ آخَرُ: ؎وقَتْلى كَمِثْلِ جُذُوعِ النَّخِيلِ ∗∗∗ تَغْشاهم مَسْبَلٌ مُنْهَمِرْ وقالَ آخَرُ: ؎سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ إذا أبْصَرْتَ فَضْلَهم ∗∗∗ ما إنَّ مِثْلَهُمُ في النّاسِ مِن أحَدِ فَجَرَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ عَلى نَهْجِ كَلامِ العَرَبِ مِن إطْلاقِ المِثْلِ عَلى نَفْسِ الشَّيْءِ. وما ذَهَبَ إلَيْهِ الطَّبَرِيُّ وغَيْرُهُ مِن أنَّ مِثْلًا زائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ كالكافِّ في قَوْلِهِ: ؎فَأصْبَحَتْ مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ وقَوْلِهِ: وصالِياتٍ كَكُما يُؤْثَفِينَ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأنَّ مِثْلًا اسْمٌ، والأسْماءُ لا تُزادُ، بِخِلافِ الكافِ، فَإنَّها حَرْفٌ، فَتَصْلُحُ لِلزِّيادَةِ. ونَظِيرُ نِسْبَةِ المِثْلِ إلى مَن لا مِثْلَ لَهُ قَوْلُكَ: فُلانٌ يَدُهُ مَبْسُوطَةٌ، يُرِيدُ أنَّهُ جَوادٌ، ولا نَظِيرَ لَهُ في الحَقِيقَةِ إلى اليَدِ حَتّى تَقُولَ ذَلِكَ لِمَن لا يَدَ لَهُ، كَقَوْلِهِ: ﴿بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ﴾ [المائدة: ٦٤] . فَكَما جَعَلْتَ ذَلِكَ كِنايَةً عَنِ الجَوادِ فِيمَن لا يَدَ لَهُ، فَكَذَلِكَ جَعَلْتَ المِثْلَ كِنايَةً عَنِ الذَّواتِ في مَن لا مِثْلَ لَهُ. ويُحْتَمَلُ أيْضًا أنْ يُرادَ بِالمِثْلِ الصِّفَةُ، وذَلِكَ سائِغٌ، يُطْلَقُ المِثْلُ بِمَعْنى المِثْلِ وهو الصِّفَةُ، فَيَكُونُ المَعْنى: لَيْسَ مِثْلَ صِفَتِهِ تَعالى شَيْءٌ مِنَ الصِّفاتِ الَّتِي لِغَيْرِهِ، وهَذا مَحْمَلٌ سَهْلٌ، والوَجْهُ الأوَّلُ أغْوَصُ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: العَرَبُ تُقِيمُ المِثالَ مَقامَ النَّفْسِ، فَيَقُولُ: مِثْلِي لا يُقالُ لَهُ هَذا، أيْ: أنا لا يُقالُ لِي هَذا. انْتَهى. فَقَدْ صارَ ذَلِكَ كِنايَةً عَنِ الذّاتِ، فَلا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِكِ: لَيْسَ كاللَّهِ شَيْءٌ، أوْ لَيْسَ كَمِثْلِ اللَّهِ شَيْءٌ. وقَدْ أجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ الكافَ والمِثْلَ يُرادُ بِهِما مَوْضُوعُهُما الحَقِيقِيُّ مِن أنَّ كُلًّا مِنهُما يُرادُ بِهِ التَّشْبِيهُ، وذَلِكَ مُحالٌ؛ لِأنَّ فِيهِ إثْباتُ مِثْلٍ لِلَّهِ (p-٥١١)تَعالى، وهو مُحالٌ. ﴿وهُوَ السَّمِيعُ﴾ لِأقْوالِ الخَلْقِ، (البَصِيرُ) لِأعْمالِهِمْ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: ﴿لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ في سُورَةِ الزُّمَرِ؛ وقُرِئَ: (ويَقْدِرُ) أيْ: يُضَيِّقُ. ﴿إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أيْ: يُوَسِّعُ لِمَن يَشاءُ، ويُضَيِّقُ عَلى مَن يَشاءُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإذا عَلِمَ أنَّ الغِنى خَيْرٌ لِلْعَبْدِ أغْناهُ لا أفْقَرَهُ. انْتَهى، وفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب