الباحث القرآني
سُورَةُ فُصِّلَتْ أرْبَعٌ وخَمْسُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ
﷽
﴿حم﴾ ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿بَشِيرًا ونَذِيرًا فَأعْرَضَ أكْثَرُهم فَهم لا يَسْمَعُونَ﴾ ﴿وقالُوا قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ وفي آذانِنا وقْرٌ ومِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ فاعْمَلْ إنَّنا عامِلُونَ﴾ ﴿قُلْ إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكم يُوحى إلَيَّ أنَّما إلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ فاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ واسْتَغْفِرُوهُ ووَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ (p-٤٨٠)﴿الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهم بِالآخِرَةِ هم كافِرُونَ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ ﴿قُلْ أئِنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ وتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدادًا ذَلِكَ رَبُّ العالَمِينَ﴾ ﴿وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِن فَوْقِها وبارَكَ فِيها وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها في أرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ﴾ ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ ﴿فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَيْنِ وأوْحى في كُلِّ سَماءٍ أمْرَها وزَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ ﴿فَإنْ أعْرَضُوا فَقُلْ أنْذَرْتُكم صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمُودَ﴾ [فصلت: ١٣] ﴿إذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ ألّا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأنْزَلَ مَلائِكَةً فَإنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ﴾ [فصلت: ١٤] ﴿فَأمّا عادٌ فاسْتَكْبَرُوا في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وقالُوا مَن أشَدُّ مِنّا قُوَّةً أوَلَمْ يَرَوْا أنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهم هو أشَدُّ مِنهم قُوَّةً وكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ﴾ [فصلت: ١٥] ﴿فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا في أيّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهم عَذابَ الخِزْيِ في الحَياةِ الدُّنْيا ولَعَذابُ الآخِرَةِ أخْزى وهم لا يُنْصَرُونَ﴾ [فصلت: ١٦] ﴿وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهم فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى فَأخَذَتْهم صاعِقَةُ العَذابِ الهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [فصلت: ١٧] ﴿ونَجَّيْنا الَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾ [فصلت: ١٨] ﴿ويَوْمَ يُحْشَرُ أعْداءُ اللَّهِ إلى النّارِ فَهم يُوزَعُونَ﴾ [فصلت: ١٩] ﴿حَتّى إذا ما جاءُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهم وأبْصارُهم وجُلُودُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: ٢٠] ﴿وقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أنْطَقَنا اللَّهُ الَّذِي أنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهو خَلَقَكم أوَّلَ مَرَّةٍ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [فصلت: ٢١] ﴿وما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكم سَمْعُكم ولا أبْصارُكم ولا جُلُودُكم ولَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمّا تَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: ٢٢] ﴿وذَلِكم ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكم أرْداكم فَأصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [فصلت: ٢٣] ﴿فَإنْ يَصْبِرُوا فالنّارُ مَثْوًى لَهم وإنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هم مِنَ المُعْتَبِينَ﴾ [فصلت: ٢٤] ﴿وقَيَّضْنا لَهم قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهم ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم وحَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ إنَّهم كانُوا خاسِرِينَ﴾ [فصلت: ٢٥] ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرْآنِ والغَوْا فِيهِ لَعَلَّكم تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: ٢٦] ﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذابًا شَدِيدًا ولَنَجْزِيَنَّهم أسْوَأ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: ٢٧] ﴿ذَلِكَ جَزاءُ أعْداءِ اللَّهِ النّارُ لَهم فِيها دارُ الخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ﴾ [فصلت: ٢٨] ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أرِنا الَّذَيْنِ أضَلّانا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الأسْفَلِينَ﴾ [فصلت: ٢٩] ﴿إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ ألّا تَخافُوا ولا تَحْزَنُوا وأبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: ٣٠] ﴿نَحْنُ أوْلِياؤُكم في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ ولَكم فِيها ما تَشْتَهِي أنْفُسُكم ولَكم فِيها ما تَدَّعُونَ﴾ [فصلت: ٣١] ﴿نُزُلًا مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ ومَن أحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إلى اللَّهِ وعَمِلَ صالِحًا وقالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ٣٢] ﴿ولا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ ولا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هي أحْسَنُ فَإذا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأنَّهُ ولِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: ٣٤] ﴿وما يُلَقّاها إلّا الَّذِينَ صَبَرُوا وما يُلَقّاها إلّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: ٣٥] ﴿وإمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ [فصلت: ٣٦] ﴿ومِن آياتِهِ اللَّيْلُ والنَّهارُ والشَّمْسُ والقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ ولا لِلْقَمَرِ واسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت: ٣٧] ﴿فَإنِ اسْتَكْبَرُوا فالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ وهم لا يَسْأمُونَ﴾ [فصلت: ٣٨] ﴿ومِن آياتِهِ أنَّكَ تَرى الأرْضَ خاشِعَةً فَإذا أنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ إنَّ الَّذِي أحْياها لَمُحْيِي المَوْتى إنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فصلت: ٣٩] ﴿إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أفَمَن يُلْقى في النّارِ خَيْرٌ أمْ مَن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ القِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [فصلت: ٤٠] ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهم وإنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ﴾ [فصلت: ٤١] ﴿لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِن حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٢] ﴿ما يُقالُ لَكَ إلّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وذُو عِقابٍ ألِيمٍ﴾ [فصلت: ٤٣] ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أأعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ قُلْ هو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفاءٌ والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ في آذانِهِمْ وقْرٌ وهو عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنادَوْنَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٤] (p-٤٨١)﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ فاخْتُلِفَ فِيهِ ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهم وإنَّهم لَفي شَكٍّ مِنهُ مُرِيبٍ﴾ [فصلت: ٤٥] ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ ومَن أساءَ فَعَلَيْها وما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦] ﴿إلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السّاعَةِ وما تَخْرُجُ مِن ثَمَراتٍ مِن أكْمامِها وما تَحْمِلُ مِن أُنْثى ولا تَضَعُ إلّا بِعِلْمِهِ ويَوْمَ يُنادِيهِمْ أيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنّاكَ ما مِنّا مِن شَهِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٧] ﴿وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وظَنُّوا ما لَهم مِن مَحِيصٍ﴾ [فصلت: ٤٨] ﴿لا يَسْأمُ الإنْسانُ مِن دُعاءِ الخَيْرِ وإنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ [فصلت: ٤٩] ﴿ولَئِنْ أذَقْناهُ رَحْمَةً مِنّا مِن بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذا لِي وما أظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً ولَئِنْ رُجِعْتُ إلى رَبِّي إنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا ولَنُذِيقَنَّهم مِن عَذابٍ غَلِيظٍ﴾ [فصلت: ٥٠] ﴿وإذا أنْعَمْنا عَلى الإنْسانِ أعْرَضَ ونَأى بِجانِبِهِ وإذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ﴾ [فصلت: ٥١] ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَن أضَلُّ مِمَّنْ هو في شِقاقٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: ٥٢] ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهم أنَّهُ الحَقُّ أوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: ٥٣] ﴿ألا إنَّهم في مِرْيَةٍ مِن لِقاءِ رَبِّهِمْ ألا إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ [فصلت: ٥٤] .
الصَّرْصَرُ: الرِّيحُ البارِدَةُ المُحْرِقَةُ، كَما تُحْرِقُ النّارُ، قالَهُ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ، ويَأْتِي أقْوالُ المُفَسِّرِينَ فِيهِ.
النَّحْسُ المَشْئُومُ: نَقِيضُ السَّعْدِ، قالَ الشّاعِرُ:
؎سَواءٌ عَلَيْهِ أيَّ حِينٍ أتَيْتَهُ أساعَةَ نَحْسٍ تُتَّقى أمْ بِأسْعُدِ
وأنْشَدَ الفَرّاءُ:
؎أبْلِغْ جُذامًا ولَخْمًا أنَّ إخْوَتَهم ∗∗∗ طَيًّا وبَهْراءَ قَوْمٌ نَصْرُهم نَحِسُ
التَّقْيِيضُ: تَهْيِئَةُ الشَّيْءِ وتَيْسِيرُهُ، وهَذانِ ثَوْبانِ قَيِّضانِ، إذا كانا مُتَكافِئَيْنِ في الثَّمَنِ، وقايِضْنِي بِهَذا الثَّوْبِ أيْ: خُذْهُ وأعْطِنِي بِهِ بَدَلَهُ، والمُقايَضَةُ: المُعارَضَةُ.
الأكْمامُ واحِدُها كُمٌّ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِكَسْرِ الكافِ، وقالَ المُبَرِّدُ: هو ما يُغَطِّي الثَّمَرَةَ لِجَفِّ الطَّلْعَةِ، ومَن قالَ في الجَمْعِ أكِمَّةٌ، فالواحِدُ كِمامٌ. الآفاقُ: النَّواحِي، واحِدُها أُفُقٌ، قالَ الشّاعِرُ:
؎لَوْ نالَ حَيٌّ مِنَ الدُّنْيا بِمَنزِلَةِ ∗∗∗ أُفُقِ السَّماءِ لَنالَتْ كَفُّهُ الأُفُقا
﴿حم﴾ ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿بَشِيرًا ونَذِيرًا فَأعْرَضَ أكْثَرُهم فَهم لا يَسْمَعُونَ﴾ ﴿وقالُوا قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ وفي آذانِنا وقْرٌ ومِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ فاعْمَلْ إنَّنا عامِلُونَ﴾ ﴿قُلْ إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكم يُوحى إلَيَّ أنَّما إلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ فاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ واسْتَغْفِرُوهُ ووَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهم بِالآخِرَةِ هم كافِرُونَ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ ﴿قُلْ أئِنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ وتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدادًا ذَلِكَ رَبُّ العالَمِينَ﴾ ﴿وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِن فَوْقِها وبارَكَ فِيها وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها في أرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ﴾ ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ ﴿فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَيْنِ وأوْحى في كُلِّ سَماءٍ أمْرَها وزَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ .
(p-٤٨٠)هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِلا خِلافٍ، ومُناسَبَتُها لِما قَبْلَها، أنَّهُ قالَ في آخِرِ ما قَبْلَها: ﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ﴾ [غافر: ٨٢] إلى آخِرِها، فَضَمَّنَ وعِيدًا وتَهْدِيدًا وتَقْرِيعًا لِقُرَيْشٍ، فَأتْبَعَ ذَلِكَ التَّقْرِيعَ والتَّوْبِيخَ والتَّهْدِيدَ بِتَوْبِيخٍ آخَرَ، فَذَكَرَ أنَّهُ نَزَّلَ كِتابًا مُفَصَّلًا آياتُهُ، بَشِيرًا لِمَنِ اتَّبَعَهُ، ونَذِيرًا لِمَن أعْرَضَ عَنْهُ، وأنَّ أكْثَرَ قُرَيْشٍ أعْرَضُوا عَنْهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ قُدْرَةَ الإلَهِ عَلى إيجادِ العالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ. ثُمَّ قالَ: ﴿فَإنْ أعْرَضُوا فَقُلْ أنْذَرْتُكم صاعِقَةً﴾ [فصلت: ١٣]، فَكانَ هَذا كُلُّهُ مُناسِبًا لِآخِرِ سُورَةِ المُؤْمِنِ مِن عَدَمِ انْتِفاعِ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ حِينَ التَبَسَ بِهِمُ العَذابُ، وكَذَلِكَ قُرَيْشٌ حَلَّ بِصَنادِيدِها مِنَ القَتْلِ والأسْرِ والنَّهْبِ والسَّبْيِ، واسْتِئْصالِ أعْداءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ما حَلَّ بِعادٍ وثَمُودَ مِنَ اسْتِئْصالِهِمْ.
رُوِيَ أنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ذَهَبَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لِيُعَظِّمَ عَلَيْهِ أمْرَ مُخالَفَتِهِ لِقَوْمِهِ، ولِيُقَبِّحَ عَلَيْهِ فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَهُ، ولِيُبْعِدَ ما جاءَ بِهِ. فَلَمّا تَكَلَّمَ عُتْبَةُ، قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: حم، ومَرَّ في صَدْرِها حَتّى انْتَهى إلى قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ أعْرَضُوا فَقُلْ أنْذَرْتُكم صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمُودَ﴾ [فصلت: ١٣]، فَأرْعَدَ الشَّيْخُ ووَقَفَ شَعْرُهُ، فَأمْسَكَ عَلى فَمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ، وناشَدَهُ بِالرَّحِمِ أنْ يُمْسِكَ، وقالَ حِينَ فارَقَهُ: واللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ شَيْئًا ما هو بِالشِّعْرِ ولا بِالسَّحَرِ ولا بِالكِهانَةِ، ولَقَدْ ظَنَنْتُ (p-٤٨٣)أنَّ صاعِقَةَ العَذابِ عَلى رَأْسِي.
(تَنْزِيلٌ)، رُفِعَ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: هَذا تَنْزِيلٌ عِنْدَ الفَرّاءِ، أوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ﴿كِتابٌ فُصِّلَتْ﴾، عِنْدَ الزَّجّاجِ والحَوْفِيِّ، وخَبَرٌ ﴿حم﴾ إذا كانَتِ اسْمًا لِلسُّورَةِ، و(كِتابٌ) عَلى قَوْلِ الزَّجّاجِ بَدَلٌ مِن (تَنْزِيلٌ) . قِيلَ: أوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ.
﴿فُصِّلَتْ آياتُهُ﴾، قالَ السُّدِّيُّ: بُيِّنَتْ آياتُهُ، أيْ: فُسِّرَتْ مَعانِيهِ، فَفُصِلَ بَيْنَ حَرامِهِ وحَلالِهِ، وزَجْرِهِ وأمْرِهِ، ووَعْدِهِ ووَعِيدِهِ.
وقِيلَ: فُصِّلَتْ في التَّنْزِيلِ أيْ: لَمْ تَنْزِلْ جُمْلَةً واحِدَةً. قالَ الحَسَنُ: بِالوَعْدِ والوَعِيدِ.
وقالَ سُفْيانُ: بِالثَّوابِ والعِقابِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: بَيْنَ مُحَمَّدٍ ﷺ، ومَن خالَفَهُ. وقِيلَ: فُصِّلَتْ بِالمَواقِفِ وأنْواعِ أواخِرِ الآيِ، ولَمْ يَكُنْ يَرْجِعُ إلى قافِيَةٍ ولا نَحْوِها، كالشِّعْرِ والسَّجْعِ.
وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: مُيِّزَتْ آياتُهُ، وجُعِلَ تَفاصِيلَ مَعانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَبَعْضُها في وصْفِ ذاتِ اللَّهِ تَعالى، وشَرْحِ صِفاتِ التَّنْزِيهِ والتَّقْدِيسِ، وشَرْحِ كَمالِ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ ورَحْمَتِهِ وحِكْمَتِهِ، وعَجائِبِ أحْوالِ خَلْقِهِ السَّماواتِ والكَواكِبِ، وتَعاقُبِ اللَّيْلِ والنَّهارِ، وعَجائِبِ أحْوالِ النَّباتِ والحَيَوانِ والإنْسانِ؛ وبَعْضُها في أحْوالِ التَّكالِيفِ المُتَوَجِّهَةِ نَحْوَ القَلْبِ ونَحْوَ الجَوارِحِ، وبَعْضُها في الوَعْدِ والوَعِيدِ، والثَّوابِ والعِقابِ، ودَرَجاتِ أهْلِ الجَنَّةِ ودَرَكاتِ أهْلِ النّارِ؛ وبَعْضُها في المَواعِظِ والنَّصائِحِ؛ وبَعْضُها في تَهْذِيبِ الأخْلاقِ ورِياضَةِ النَّفْسِ؛ وبَعْضُها في قَصَصِ الأوَّلِينَ وتَوارِيخِ الماضِينَ.
وبِالجُمْلَةِ، فَمَن أنْصَفَ، عَلِمَ أنَّهُ لَيْسَ في بَدْءِ الخَلْقِ كِتابٌ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ العُلُومِ والمَباحِثِ المُتَبايِنَةِ مِثْلُ ما في القُرْآنِ. انْتَهى.
وقُرِئَ: (فَصَلَتْ)، بِفَتْحِ الفاءِ والصّادُ مُخَفَّفَةٌ، أيْ: فَرَقَتْ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ؛ أوْ فَصَلَ بَعْضُها مِن بَعْضٍ بِاخْتِلافِ مَعانِيها، مِن قَوْلِهِ: ﴿فَصَلَتِ العِيرُ﴾ [يوسف: ٩٤] أيِ: انْفَصَلَتْ، وفَصَلَ مِنَ البَلَدِ أيِ: انْفَصَلَ مِنهُ، وانْتَصَبَ (قُرْآنًا) عَلى أنَّهُ حالٌ بِنَفْسِهِ، وهي مُؤَكِّدَةٌ؛ لِأنَّها لا تَنْتَقِلُ، أوْ تَوْطِئَةٌ لِلْحالِ بَعْدَهُ، وهي (عَرَبِيًّا)، أوْ عَلى المَصْدَرِ، أيْ: يَقْرَؤُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، أوْ عَلى الِاخْتِصاصِ والمَدْحِ.
ومَن جَعَلَهُ حالًا فَقِيلَ: ذُو الحالِ (آياتُهُ) وقِيلَ: (كِتابٌ) لِأنَّهُ وُصِفَ بِقَوْلِهِ: ﴿فُصِّلَتْ آياتُهُ﴾، أوْ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: فَصَّلْناهُ قُرْآنًا، أوْ مَفْعُولٌ ثانٍ لِفُصِّلَتْ، أقْوالٌ سِتَّةٌ آخِرُها لِلْأخْفَشِ. و(لِقَوْمٍ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (فُصِّلَتْ) أيْ: يَعْلَمُونَ الأشْياءَ، ويَعْقِلُونَ الدَّلائِلَ، فَكَأنَّهُ فُصِّلَ لِهَؤُلاءِ، إذْ هم يَنْتَفِعُونَ بِهِ، فَخُصُّوا بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا، ومَن لَمْ يَنْتَفِعْ بِالتَّفْصِيلِ فَكَأنَّهُ لَمْ يُفَصَّلْ لَهُ، ويَبْعُدُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِـ (تَنْزِيلٌ) لِكَوْنِهِ وُصِفَ في أحَدِ مُتَعَلِّقَيْهِ، إنْ كانَ ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أوْ أُبْدِلَ مِنهُ (كِتابٌ) أوْ كانَ خَبَرَ التَّنْزِيلِ، فَيَكُونُ في ذَلِكَ البَدَلَ مِنَ المَوْصُولِ، والإخْبارُ عَنْهُ قَبْلَ أخْذِهِ مُتَعَلِّقَهُ، وهو لا يَجُوزُ، وقِيلَ: (لِقَوْمٍ) في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: (عَرَبِيًّا)، أيْ: كائِنًا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ألْفاظَهُ ويَتَحَقَّقُونَ أنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ نَمَطِ كَلامِهِمْ، وكَأنَّهُ رَدٌّ عَلى مَن زَعَمَ أنَّ في القُرْآنِ ما لَيْسَ مِن كَلامِ العَرَبِ. وانْتَصَبَ ﴿بَشِيرًا ونَذِيرًا﴾ عَلى النَّعْتِ لِـ ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ وقِيلَ: حالٌ مِن (آياتُهُ) وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ﴿بَشِيرٌ ونَذِيرٌ﴾ [المائدة: ١٩] بِرَفْعِهِما عَلى الصِّفَةِ لِكِتابٍ، أوْ عَلى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وبِشارَتُهُ بِالجَنَّةِ لِمَن آمَنَ، ونِذارَتُهُ بِالنّارِ لِمَن كَفَرَ.
﴿فَأعْرَضَ أكْثَرُهُمْ﴾ أيْ: أكْثَرُ أُولَئِكَ القَوْمِ، أيْ: كانُوا مِن أهْلِ العِلْمِ ولَكِنْ لَمْ يَنْظُرُوا النَّظَرَ التّامَّ، بَلْ أعْرَضُوا، ﴿فَهم لا يَسْمَعُونَ﴾ لِإعْراضِهِمْ عَنْ ما احْتَوى عَلَيْهِ مِنَ الحُجَجِ والبَراهِينِ، أوْ لَمّا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ ولَمْ يَقْبَلْهُ جُعِلَ كَأنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ.
ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عَنْهم بِالمَقالَةِ الدّالَّةِ عَلى امْتِناعِ قُلُوبِهِمْ والنّاسِ مِن رُجُوعِهِمْ إلَيْهِ ومِن سَماعِهِمْ لِما يَتْلُوهُ، وهو قَوْلُهُ تَعالى، حِكايَةً عَنْهم: ﴿وقالُوا قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ وفي آذانِنا وقْرٌ﴾، تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى شَبَهِ ذَلِكَ في الأنْعامِ.
وقَرَأ طَلْحَةُ: (وِقْرٌ) بِكَسْرِ الواوِ، وهَذِهِ تَمْثِيلاتٌ لِامْتِناعِ قَبُولِ الحَقِّ، كَأنَّ قُلُوبَهم في غِلافٍ، كَما قالُوا: ﴿وقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨]، وكَأنَّ أسْماعَهم عِنْدَ ذِكْرِ كَلامِ اللَّهِ بِها صَمَمٌ. والحِجابُ: السِّتْرُ المانِعُ مِنَ الإجابَةِ، وهو خِلافٌ في الدِّينِ؛ لِأنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ وهم يَعْبُدُونَ الأصْنامَ، قالَ مَعْناهُ الفَرّاءُ وغَيْرُهُ.
ويُرْوى أنَّ أبا جَهْلٍ اسْتَغْشى عَلى رَأْسِهِ ثَوْبًا وقالَ: يا مُحَمَّدُ، بَيْنَنا وبَيْنَكَ حِجابٌ، اسْتِهْزاءً (p-٤٨٤)مِنهُ. وقِيلَ: تَمْثِيلٌ بِعَدَمِ الإجابَةِ. وقِيلَ: عِبارَةٌ عَنِ العَداوَةِ. و(مِن) في ﴿مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ﴾ لِابْتِداءِ الغايَةِ، وكَذا في ﴿ومِن بَيْنِنا﴾ . فالمَعْنى أنَّ الحِجابَ ابْتَدَأ مِنّا وابْتَدَأ مِنكَ، فالمَسافَةُ المُتَوَسِّطَةُ لِجِهَتِنا وجِهَتِكَ مُسْتَوْعَبَةٌ بِالحِجابِ، لا فَراغَ فِيها، ولَوْ لَمْ يَأْتِ بِمِن لَكانَ المَعْنى أنَّ حِجابًا حاصِلٌ وسَطَ الجِهَتَيْنِ، والمَقْصُودُ المُبالَغَةُ بِالتَّبايُنِ المُفْرِطِ، فَلِذَلِكَ جِيءَ بِمِن.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): هَلّا قِيلَ: عَلى قُلُوبِنا أكِنَّةٌ، كَما قِيلَ: ﴿وفِي آذانِنا وقْرٌ﴾، لِيَكُونَ الكَلامُ عَلى نَمَطٍ واحِدٍ ؟ (قُلْتُ): هو عَلى نَمَطٍ واحِدٍ؛ لِأنَّهُ لا فَرْقَ في المَعْنى بَيْنَ قَوْلِكِ: ﴿قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ﴾، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ [الكهف: ٥٧] . ولَوْ قِيلَ: إنّا جَعَلْنا قُلُوبَهم في أكِنَّةٍ، لَمْ يَخْتَلِفِ المَعْنى، وتَرى المَطابِيعَ مِنهم لا يُراعُونَ الطِّباقَ والمُلاحَظَةَ إلّا في المَعانِي، وتَقُولُ: إنَّ (في) أبْلَغُ في هَذا المَوْضِعِ مِن عَلى؛ لِأنَّهم قَصَدُوا إفْراطَ عَدَمِ القَبُولِ، لِحُصُولِ قُلُوبِهِمْ في أكِنَّةٍ احْتَوَتْ عَلَيْها احْتِواءَ الظَّرْفِ عَلى المَظْرُوفِ، فَلا يُمْكِنُ أنْ يَصِلَ إلَيْها شَيْءٌ. كَما تَقُولُ: المالُ في الكِيسِ، بِخِلافِ قَوْلِكَ: عَلى المالِ كِيسٌ، فَإنَّهُ لا يَدُلُّ عَلى الحَصْرِ وعَدَمِ الحُصُولِ دَلالَةَ الوِعاءِ. وأمّا في قَوْلِهِ: (إنّا جَعَلْنا)، فَهو مِن إخْبارِ اللَّهِ تَعالى، لا يَحْتاجُ إلى مُبالَغَةٍ، بِخِلافِ قَوْلِهِمْ.
وقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وتَرى المَطابِيعَ، يَعْنِي مِنَ العَرَبِ وشُعَرائِهِمْ، ولِذَلِكَ تَكَلَّمَ النّاسُ في شِعْرِ حَبِيبٍ، ولَمْ يَسْتَحْسِنْ بَعْضُهم كَثْرَةَ صَنْعَةِ البَدِيعِ فِيهِ؛ قالُوا: وأحْسَنُهُ ما جاءَ مِن غَيْرِ تَكَلُّفٍ.
﴿فاعْمَلْ إنَّنا عامِلُونَ﴾، قالَ الكَلْبِيُّ: في هَلاكِنا إنّا عامِلُونَ في هَلاكِكَ.
وقالَ مُقاتِلٌ: اعْمَلْ لِإلَهِكَ الَّذِي أرْسَلَكَ، فَإنَّنا عامِلُونَ لِآلِهَتِنا الَّتِي نَعْبُدُها. وقالَ الفَرّاءُ: اعْمَلْ عَلى مُقْتَضى دِينِكَ، ونَحْنُ نَعْمَلُ عَلى مُقْتَضى دِينِنا، وذَكَرَ الماوَرْدِيُّ: اعْمَلْ لِآخِرَتِكَ، فَإنّا نَعْمَلُ لِدُنْيانا. ولَمّا كانَ القَلْبُ مَحَلَّ المَعْرِفَةِ، والسَّمْعُ والبَصَرُ مُعِينانِ عَلى تَحْصِيلِ المَعارِفِ، ذَكَرُوا أنَّ هَذِهِ الثَّلاثَةَ مَحْجُوبَةٌ عَنْ أنْ يَصِلَ إلَيْها مِمّا يُلْقِيهِ الرَّسُولُ شَيْءٌ. واحْتَمَلَ قَوْلُهم: ﴿فاعْمَلْ إنَّنا عامِلُونَ﴾، أيْ: تَكُونُ مُتارَكَةً مَحْضَةً، وأنْ يَكُونَ اسْتِخْفافًا.
(قُلْ إنَّما يُوحى إلَيَّ)، وقَرَأ الجُمْهُورُ (قُلْ) عَلى الأمْرِ، وابْنُ وثّابٍ والأعْمَشُ (قالَ) فِعْلًا ماضِيًا، وهَذا صَدْعٌ بِالتَّوْحِيدِ والرِّسالَةِ. وقَرَأ النَّخَعِيُّ والأعْمَشُ: (يُوحِي) بِكَسْرِ الحاءِ؛ والجُمْهُورُ: بِفَتْحِها، وأخْبَرَ أنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهم لا مَلَكٌ، لَكِنَّهُ أُوحِيَ إلَيْهِ دُونَهم.
وقالَ الحَسَنُ: عَلَّمَهُ تَعالى التَّواضُعَ، وأنَّهُ ما أُوحِيَ إلَيْهِ تَوْحِيدُ اللَّهِ ورَفْضُ آلِهَتِكم.
﴿فاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ﴾ أيْ: لَهُ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هو رَأْسُ الدِّينِ والعَمَلِ، ﴿واسْتَغْفِرُوهُ﴾: واسْألُوهُ المَغْفِرَةَ، إذْ هي رَأسُ العَمَلِ الَّذِي بِحُصُولِهِ تَزُولُ التَّبِعاتُ.
وضَمَّنَ (اسْتَقِيمُوا) مَعْنى التَّوَجُّهِ، فَلِذَلِكَ تَعَدّى بِإلى، أيْ: وجِّهُوا اسْتِقامَتَكم إلَيْهِ، ولَمّا كانَ العَقْلُ ناطِقًا بِأنَّ السَّعادَةَ مَرْبُوطَةٌ بِأمْرَيْنِ: التَّعْظِيمِ لِلَّهِ والشَّفَقَةِ عَلى خَلْقِهِ، ذَكَرَ أنَّ الوَيْلَ والثُّبُورَ والحُزْنَ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يُعَظِّمُوا اللَّهَ في تَوْحِيدِهِ، ونَفْيِ الشَّرِيكِ، ولَمْ يُشْفِقُوا عَلى خَلْقِهِ بِإيصالِ الخَيْرِ إلَيْهِمْ، وأضافُوا إلى ذَلِكَ إنْكارَ البَعْثِ.
والظّاهِرُ أنَّ الزَّكاةَ عَلى ظاهِرِها مِن زَكاةِ الأمْوالِ، قالَهُ ابْنُ السّائِبِ، قالَ: كانُوا يَحُجُّونَ ويَعْتَمِرُونَ ولا يُزَكُّونَ. وقالَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ: وقِيلَ: كانَتْ قُرَيْشٌ تُطْعِمُ الحاجَّ وتَحْرِمُ مَن آمَن مِنهم.
وقالَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ أيْضًا: المَعْنى لا يُؤْمِنُونَ بِالزَّكاةِ، ولا يُقِرُّونَ بِها.
وقالَ مُجاهِدٌ والرَّبِيعُ: لا يُزَكُّونَ أعْمالَهم. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والجُمْهُورُ: الزَّكاةُ هُنا: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، التَّوْحِيدُ، كَما قالَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِفِرْعَوْنَ: ﴿هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزَكّى﴾ [النازعات: ١٨]، ويُرَجِّحُ هَذا التَّأْوِيلَ أنَّ الآيَةَ مِن أوَّلِ المَكِّيِّ، وزَكاةُ المالِ إنَّما نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، قالَ: وإنَّما هَذِهِ زَكاةُ القَلْبِ والبَدَنِ، أيْ: تَطْهِيرٌ مِنَ الشِّرْكِ والمَعاصِي، وقالَهُ مُجاهِدٌ والرَّبِيعُ.
وقالَ الضَّحّاكُ ومُقاتِلٌ: الزَّكاةُ هُنا النَّفَقَةُ في الطّاعَةِ. انْتَهى.
وإذا كانَتِ الزَّكاةُ المُرادُ بِها إخْراجُ المالِ، فَإنَّما قُرِنَ بِالكُفْرِ؛ لِكَوْنِها شاقَّةً بِإخْراجِ المالِ الَّذِي هو مَحْبُوبُ الطِّباعِ وشَقِيقُ الأرْواحِ حَثًّا عَلَيْها. قالَ بَعْضُ الأُدَباءِ:(p-٤٨٥)
؎وقالُوا شَقِيقُ الرُّوحِ مالُكُ فاحْتَفِظْ ∗∗∗ بِهِ، فَأجَبْتُ: المالُ خَيْرٌ مِنَ الرُّوحِ
؎أرى حِفْظَهُ يُفْضِي بِتَحْسِينِ حالَتِي ∗∗∗ وتَضْيِيعَهُ يُفْضِي لِتَسْآلٍ مَقْبُوحٍ
﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، قالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ في المَرْضى والزَّمْنى إذا عَجَزُوا عَنْ إكْمالِ الطّاعاتِ، كُتِبَ لَهم مِنَ الأجْرِ كَأصَحِّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. والمَمْنُونُ: المَنقُوصُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - . قالَ ذُو الأصْبَغِ العَدْوانِيُّ:
؎إنِّي لَعَمْرُكَ ما بابِي بِذِي غَلَقٍ ∗∗∗ عَلى الصَّدِيقِ ولا خَيْرِي بِمَمْنُونِ
وقالَ مُجاهِدٌ: غَيْرُ مَحْسُوبٍ، وقِيلَ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ، قالَ الشّاعِرُ:
؎فَضْلُ الجَوادِ عَلى الخَيْلِ البِطاءِ ∗∗∗ فَلا يُعْطِي بِذَلِكَ مَمْنُونًا ولا نَزِقا
وقِيلَ: لا يُمَنُّ بِهِ؛ لِأنَّ أُعْطِياتِ اللَّهِ تَشْرِيفٌ، والمَنُّ إنَّما يَدْخُلُ أُعْطِياتِ البَشَرِ.
وقِيلَ: لا يُمَنُّ بِهِ؛ لِأنَّهُ إنَّما بِمَنِّ التَّفْضِيلِ، فَأمّا الآخَرُ فَحَقٌّ أداؤُهُ، نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزالِ.
﴿قُلْ أئِنَّكم لَتَكْفُرُونَ﴾: اسْتِفْهامُ تَوْبِيخٍ وتَشْنِيعٍ عَلَيْهِمْ، بِكُفْرِ مَن أوْجَدَ العالَمَ سُفْلِيَّهُ وعُلْوِيَّهُ، ووَصَفَ صُورَةَ خَلْقِ ذَلِكَ ومُدَّتَهُ، والحِكْمَةُ في الخَلْقِ في مُدَّةٍ هو قادِرٌ عَلى أنْ يُوجِدَ ذَلِكَ دُفْعَةً واحِدَةً.
فَذَكَرَ تَعالى إيجادَ ذَلِكَ مُرَتَّبًا، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في أوَّلِ ما ابْتُدِئَ فِيهِ الخَلْقُ، وما خُلِقَ مَرَتَّبًا.
ومَعْنى ﴿فِي يَوْمَيْنِ﴾: في مِقْدارِ يَوْمَيْنِ.
﴿وتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدادًا﴾ أيْ: أشْباهًا وأمْثالًا مِنَ المَلائِكَةِ والجِنِّ والأصْنامِ يَعْبُدُونَها دُونَهُ. وقالَ السُّدِّيُّ: أكْفاءٌ مِنَ الرِّجالِ يُطِيعُونَهم.
(وتَجْعَلُونَ) مَعْطُوفٌ عَلى ﴿لَتَكْفُرُونَ﴾، فَهو داخِلٌ في حَيِّزِ الِاسْتِفْهامِ المُقْتَضِي الإنْكارَ والتَّوْبِيخَ، (ذَلِكَ) أيْ: مُوجِدُ الأرْضِ ومُخْتَرِعُها، ﴿رَبُّ العالَمِينَ﴾ مِنَ الأنْدادِ الَّتِي جَعَلْتُمْ لَهُ وغَيْرِهِمْ.
﴿وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ﴾: إخْبارٌ مُسْتَأْنَفٌ، ولَيْسَ مِنَ الصِّلَةِ في شَيْءٍ، بَلْ هو مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿لَتَكْفُرُونَ﴾ .
﴿وبارَكَ فِيها﴾: أكْثَرَ فِيها خَيْرَها.
﴿وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها﴾ أيْ: أرْزاقَ ساكِنِيها ومَعايِشَهم، وأضافَهُما إلى الأرْضِ مِن حَيْثُ هي فِيها وعَنْها بَرَزَتْ، قالَهُ السُّدِّيُّ.
وقالَ قَتادَةُ: ﴿أقْواتَها﴾ مِنَ الجِبالِ والأنْهارِ والأشْجارِ والصُّخُورِ والمَعادِنِ، والأشْياءِ الَّتِي بِها قِوامُ الأرْضِ ومَصالِحُها.
وقالَ مُجاهِدٌ: ﴿أقْواتَها﴾ مِنَ المَطَرِ والمِياهِ. وقالَ عِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ، ومُجاهِدٌ أيْضًا: خَصائِصُها الَّتِي قَسَّمَها في البِلادِ مِمّا خَصَّ بِهِ كُلَّ إقْلِيمٍ، فَيَحْتاجُ بَعْضُها إلى بَعْضٍ في التَّقَوُّتِ مِنَ المَلابِسِ والمَطاعِمِ والنَّباتِ.
﴿فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ﴾ أيْ: في تَمامِ أرْبَعَةِ أيّامٍ بِاليَوْمَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ﴿فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ﴾، فَذَلِكَ لِمُدَّةِ خَلْقِ اللَّهِ وما فِيها، كَأنَّهُ قالَ: كُلُّ ذَلِكَ في أرْبَعَةِ أيّامٍ كامِلَةٍ مُسْتَوِيَةٍ بِلا زِيادَةٍ ولا نُقْصانٍ.
وقالَ الزَّجّاجُ: في تَتِمَّةِ أرْبَعَةِ أيّامٍ، يُرِيدُ بِالتَّتِمَّةِ اليَوْمَيْنِ. انْتَهى. وهَذا كَما تَقُولُ: بَنَيْتُ جِدارَ بَيْتِي في يَوْمٍ، وأكْمَلْتُ جَمِيعَهُ في يَوْمَيْنِ، أيْ: بِالأوَّلِ.
وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: ويُفْقَهُ مِن كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ ﴿فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ﴾ فائِدَةٌ زائِدَةٌ عَلى قَوْلِهِ في يَوْمَيْنِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ في يَوْمَيْنِ لا يَقْتَضِي الِاسْتِغْراقَ لِذَلِكَ العَمَلِ. أمّا لَمّا ذَكَرَ خَلْقَ الأرْضِ وخَلْقَ هَذِهِ الأشْياءِ، ثُمَّ قالَ ﴿فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً﴾، دَلَّ عَلى أنَّ هَذِهِ الأيّامَ مُسْتَغْرَقَةٌ في تِلْكَ الأعْمالِ مِن غَيْرِ زِيادَةٍ ونُقْصانٍ. انْتَهى.
ولا فَرْقَ بَيْنَ يَوْمَيْنِ وأرْبَعَةِ أيّامٍ بِالنِّسْبَةِ إلى الِاسْتِغْراقِ، فَإنْ كانَتْ (أرْبَعَةٌ) تَقْتَضِي الِاسْتِغْراقَ، وكَذَلِكَ اليَوْمانِ يَقْتَضِيانِهِ، ومَتى كانَ الظَّرْفُ مَعْدُودًا، كانَ العَمَلُ في جَمِيعِهِ، إمّا عَلى سَبِيلِ التَّعْمِيمِ، نَحْوَ: سِرْتُ يَوْمَيْنِ، وقَدْ يَكُونُ في بَعْضِ كُلِّ يَوْمٍ مِنها، نَحْوَ: تَهَجَّدْتُ لَيْلَتَيْنِ، فاحْتُمِلَ الِاسْتِغْراقُ، واحْتُمِلَ في بَعْضِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ اللَّيْلَتَيْنِ؛ وإذا كانَ كَذَلِكَ احْتُمِلَ أنْ يَكُونَ وقَعَ الخَلْقُ لِلْأرْضِ في بَعْضِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ اليَوْمَيْنِ، واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ اليَوْمانِ مُسْتَغْرِقَيْنِ لِخَلْقِها، فَكَذَلِكَ ﴿فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ﴾ يَحْتِمَلُ الِاسْتِغْراقَ، وأنْ يَكُونَ خَلْقُ الأرْضِ والجِبالِ والبَرَكَةِ وتَقْدِيرُ الأقْواتِ وقَعَ في بَعْضِ كُلِّ يَوْمٍ مِنَ (p-٤٨٦)الأرْبَعَةِ، فَما قالَهُ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ لَمْ تَظْهَرْ بِهِ فائِدَةٌ زائِدَةٌ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: (سَواءً) بِالنَّصْبِ عَلى الحالِ؛ وأبُو جَعْفَرٍ بِالرَّفْعِ أيْ: هو سَواءٌ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، والحَسَنُ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وعِيسى، ويَعْقُوبُ: بِالخَفْضِ نَعْتًا لِأرْبَعَةِ أيّامٍ.
قالَ قَتادَةُ، والسُّدِّيُّ: مَعْناهُ (سَواءً) لِمَن سَألَ عَنِ الأمْرِ، واسْتَفْهَمَ عَنْ حَقِيقَةِ وُقُوعِهِ وأرادَ العِبْرَةَ مِنهُ، فَإنَّهُ يَجِدُهُ كَما قالَ تَعالى.
وقالَ ابْنُ زَيْدٍ وجَماعَةٌ: مَعْناهُ مُسْتَوٍ مُهَيَّأٌ أمْرُ هَذِهِ المَخْلُوقاتِ ونَفْعُها لِلْمُحْتاجِينَ إلَيْها مِنَ البَشَرِ، فَعَبَّرَ بِالسّائِلِينَ عَنِ الطّالِبِينَ؛ لِأنَّهم مِن شَأْنِهِمْ، ولا بُدَّ طَلَبُ ما يَنْتَفِعُونَ بِهِ، إذْ هم بِحالِ حاجَةٍ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: (لِلسّائِلِينَ) ؟ (قُلْتُ): بِمَحْذُوفٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: هَذا الحَصْرُ لِأجْلِ مَن سَألَ في كَمْ خُلِقَتِ الأرْضُ وما فِيها ؟ أوْ يُقَدِّرُ، أوْ قَدَّرَ فِيها أقْواتَها لِأجْلِ الطّالِبِينَ لَها المُحْتاجِينَ المُقْتاتِينَ. انْتَهى، وهو راجِعٌ لِقَوْلِ المُفَسِّرِينَ المُتَقَدِّمِينَ.
ولَمّا شَرَحَ تَخْلِيقَ الأرْضِ وما فِيها، أتْبَعَهُ بِتَخْلِيقِ السَّماءِ فَقالَ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ أيْ: قَصَدَ إلَيْها وتَوَجَّهَ دُونَ إرادَةِ تَأْثِيرٍ في غَيْرِها، والمَعْنى: إلى خَلْقِ السَّماءِ. والظّاهِرُ أنَّ المادَّةَ الَّتِي خُلِقَتْ مِنها السَّماءُ كانَتْ دُخانًا.
وفِي أوَّلِ الكِتابِ الَّذِي يَزْعُمُ اليَهُودُ أنَّهُ التَّوْراةُ: إنَّ عَرْشَهُ تَعالى كانَ عَلى الماءِ قَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ، فَأحْدَثَ اللَّهُ في ذَلِكَ سُخُونَةً، فارْتَفَعَ زَبَدٌ ودُخانٌ، أمّا الزَّبَدُ فَبَقِيَ عَلى وجْهِ الماءِ، فَخَلَقَ اللَّهُ مِنهُ اليُبُوسَةَ وأحْدَثَ مِنهُ الأرْضَ؛ وأمّا الدُّخانُ فارْتَفَعَ وعادَ فَخَلَقَ اللَّهُ مِنهُ السَّماواتِ. وفِيهِ أيْضًا: أنَّهُ خَلَقَ السَّماءَ مِن أجْزاءٍ مُظْلِمَةٍ. انْتَهى.
ورُوِيَ أنَّها كانَتْ جِسْمًا رِخْوًا كالدُّخانِ أوِ البُخارِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُنا لَفْظٌ مَتْرُوكٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظّاهِرُ، وتَقْدِيرُهُ: فَأوْجَدَها وأتْقَنَها وأكْمَلَ أُمُورَها، وحِينَئِذٍ ﴿فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ ائْتِيا﴾ . ورُجِّحَ قَوْلُ مَن ذَهَبَ إلى أنَّهُما نَطَقَتا نُطْقًا حَقِيقِيًّا، وجَعَلَ اللَّهُ لَهُما حَياةً وإدْراكًا يَقْتَضِي نُطْقَهُما، بَعْدَ أنْ ذَكَرَ أنَّ المُفَسِّرِينَ مِنهم مَن ذَهَبَ إلى أنَّ ذَلِكَ مَجازٌ، وأنَّهُ ظَهَرَ مِنهُما عَنِ اخْتِيارِ الطّاعَةِ والتَّذَلُّلِ والخُضُوعِ ما هو بِمَنزِلَةِ القَوْلِ، قالَ: والقَوْلُ الأوَّلُ أحْسَنُ؛ لِأنَّهُ لا شَيْءَ يَدْفَعُهُ، وأنَّ العِبْرَةَ فِيهِ أتَمُّ، والقُدْرَةَ فِيهِ أظْهَرُ. انْتَهى.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَعْنِي أمَرَ السَّماءَ والأرْضَ بِالإتْيانِ، وامْتِثالُهُما أنَّهُ أرادَ تَكْوِينَهُما، فَلَمْ يَمْتَنِعا عَلَيْهِ، ووُجِدَتا كَما أرادَهُما، وجاءَتا في ذَلِكَ كالمَأْمُورِ المُطِيعِ؛ إذا ورَدَ عَلَيْهِ فِعْلُ الآمِرِ فِيهِ.
عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى كَلَّمَ السَّماءَ والأرْضَ وقالَ لَهُما: ﴿ائْتِيا﴾، شِئْتُما ذَلِكَ أوْ أبَيْتُما، فَقالَتا: آتَيْنا عَلى الطَّوْعِ لا عَلى الكُرْهِ. والغَرَضُ تَصْوِيرُ أثَرِ قُدْرَتِهِ في المَقْدُوراتِ لا غَيْرُهُ، مِن غَيْرِ أنْ يُحَقَّقَ شَيْءٌ مِنَ الخِطابِ والجَوابِ، ونَحْوُهُ قَوْلُ القائِلِ: قالَ الجِدارُ لِلْوَتِدِ: لِمَ تَشُقُّنِي ؟ قالَ الوَتِدُ: سَلْ مَن يَدُقُّنِي، فَلَمْ يَتْرُكْنِي وراءَ الحَجَرِ الَّذِي ورائِي.
(فَإنْ قُلْتَ): لِمَ ذَكَرَ السَّماءَ مَعَ الأرْضِ وانْتَظَمَهُما في الأمْرِ بِالإتْيانِ، والأرْضُ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ السَّماءِ بِيَوْمَيْنِ ؟ (قُلْتُ): قَدْ خَلَقَ جَرْمَ الأرْضِ أوَّلًا غَيْرَ مَدْحُوَّةٍ، ثُمَّ دَحاها بَعْدَ خَلْقِ السَّماءِ، كَما قالَ: ﴿والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها﴾ [النازعات: ٣٠]، فالمَعْنى: ائْتِيا عَلى ما يَنْبَغِي أنْ تَأْتِيا عَلَيْهِ مِنَ الشَّكْلِ والوَصْفِ؛ ائْتِ يا أرْضُ مَدْحُوَّةً قَرارًا ومِهادًا لِأهْلِكِ، وائْتِ يا سَماءُ مُقَبَّبَةً سَقْفًا لَهم. ومَعْنى الإتْيانِ: الحُصُولُ والوُقُوعُ، كَما يَقُولُ: أتى عَمَلُهُ مَرْضِيًّا مَقْبُولًا. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: لِتَأْتِ كُلُّ واحِدَةٍ صاحِبَتَها الإتْيانَ الَّذِي أُرِيدُهُ وتَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ، والتَّدْبِيرُ مِن كَوْنِ الأرْضِ قَرارًا لِلسَّماءِ، وكَوْنِ السَّماءِ سَقْفًا لِلْأرْضِ، ويَنْصُرُهُ قِراءَةُ مَن قَرَأ: (أتَيا) و(أتَيْنا) مِنَ المُواتاةِ، وهي المُوافَقَةُ، أيْ: لِتُواتِ كُلُّ واحِدَةٍ أُخْتَها ولْتُوافِقْها، قالَتا: وافَقْنا وساعَدْنا. ويَحْتَمِلُ وافِقا أمْرِي ومَشِيئَتِي ولا تَمْتَنِعا.
(فَإنْ قُلْتَ): ما مَعْنى طَوْعًا أوْ كَرْهًا ؟ (قُلْتُ): هو مَثَلٌ لِلُزُومِ تَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ فِيهِما، وأنَّ امْتِناعَهُما مِن تَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ مُحالٌ، كَما يَقُولُ الجَبّارُ لِمَن يُحِبُّ بَلْوَهُ: لَتَفْعَلَنَّ هَذا شِئْتَ أوْ أبَيْتَ، ولَتَفْعَلَنَّهُ طَوْعًا أوْ كَرْهًا.
(p-٤٨٧)وانْتِصابُهُما عَلى الحالِ بِمَعْنى طائِعَتَيْنِ أوْ مُكْرَهَتَيْنِ. (فَإنْ قُلْتَ): هَلّا قِيلَ طائِعَتَيْنِ عَلى اللَّفْظِ أوْ طائِعَتانِ عَلى المَعْنى؛ لِأنَّهُما سَماواتٌ وأرَضُونَ ؟ (قُلْتُ): لَمّا جُعِلَتْ مُخاطَباتٍ ومُجِيباتٍ، ووُصِفَتْ بِالطَّوْعِ والكَرْهِ، قِيلَ: طائِعِينَ في مَوْضِعِ طائِعاتٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: ساجِدِينَ. انْتَهى.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ائْتِيا﴾ مِنَ الإتْيانِ، أيِ: ائْتِيا أمْرِي وإرادَتِي. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ: (أتَيا) عَلى وزْنِ فَعَلا، ﴿قالَتا أتَيْنا﴾ عَلى وزْنِ فَعَلْنا، مِن آتى يُؤْتِي، كَذا قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، قالَ: وذَلِكَ بِمَعْنى أعْطِيا مِن أنْفُسِكُما مِنَ الطّاعَةِ ما أرَدْتُهُ مِنكُما، والإشارَةُ بِهَذا كُلِّهِ إلى تَسْخِيرِها وما قَدَّرَهُ اللَّهُ مِن أعْمالِها. انْتَهى.
وتَقَدَّمَ في كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ القِراءَةَ مِنَ المُواتاةِ، وهي المُوافَقَةُ، فَيَكُونُ وزْنُ آتِيا فاعِلا، وآتَيْنا: فاعَلْنا، وتَقَدَّمَهُ إلى ذَلِكَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ قالَ: آتَيْنا بِالمَدِّ عَلى فاعَلْنا مِنَ المُواتاةِ، ومَعْناهُ: سارَعْنا عَلى حَذْفِ المَفْعُولِ مِنهُ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِنَ الإيتاءِ الَّذِي هو الإعْطاءُ لِبُعْدِ حَذْفِ مَفْعُولِهِ. انْتَهى.
وقَرَأ الأعْمَشُ: أوْ (كُرْهًا) بِضَمِّ الكافِ، والأصَحُّ أنَّهُ لُغَةٌ في الإكْراهِ عَلى الشَّيْءِ المَوْقُوعِ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الطَّواعِيَةِ، والأكْثَرُ أنَّ الكُرْهَ بِالضَّمِّ مَعْناهُ المَشَقَّةُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَوْلُهُ: (قالَتا) أرادَ الفِرْقَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ: جَعَلَ السَّماواتِ سَماءً، والأرَضِينَ أرْضًا، وهَذا نَحْوُ قَوْلِ الشّاعِرِ:
؎ألَمْ يُحْزِنْكَ أنَّ حِبالَ قَوْمِي ∗∗∗ وقَوْمِكَ قَدْ تَبايَنَتا انْقِطاعا
وعَبَّرَ عَنْها بِتَبايَنَتا. انْتَهى.
هَذا ولَيْسَ كَما ذُكِرَ؛ لِأنَّهُ إنَّما تَقَدَّمَ ذِكْرُ الأرْضِ مُفْرَدَةً، والسَّماءُ مُفْرَدٌ لِحُسْنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُما بِالتَّثْنِيَةِ، والبَيْتُ هو مِن وضْعِ الجَمْعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ، كَأنَّهُ قالَ: ألَمْ يُحْزِنْكَ أنَّ حَبْلِي قَوْمِي وقَوْمُكَ ؟ ولِذَلِكَ ثَنّى في قَوْلِهِ: تَبايَنَتا، وأنَّثَ عَلى مَعْنى الحَبْلِ؛ لِأنَّهُ لا يُرِيدُ بِهِ الحَبْلَ حَقِيقَةً، إنَّما عَنى بِهِ الذِّمَّةَ والمَوَدَّةَ الَّتِي كانَتْ بَيْنَ قَوْمِهِما.
والظّاهِرُ مِن هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ خَلَقَ الأرْضَ وجَعَلَ فِيها الرَّواسِيَ وبارَكَ فِيها، ثُمَّ أوْجَدَ السَّماءَ مِنَ الدُّخانِ فَسَوّاها سَبْعَ سَماواتٍ، فَيَكُونُ خَلْقُ الأرْضِ مُتَقَدِّمًا عَلى خَلْقِ السَّماءِ، ودَحْوُ الأرْضِ غَيْرُ خَلْقِها، وقَدْ تَأخَّرَ عَنْ خَلْقِ السَّماءِ، وقَدْ أوْرَدَ عَلى هَذا أنْ جَعْلَ الرَّواسِيَ فِيها والبَرَكَةَ.
وتَقْدِيرُ الأقْواتِ لا يُمْكِنُ إدْخالُها في الوُجُودِ إلّا بَعْدَ أنْ صارَتِ الأرْضُ مَوْجُودَةً. وقَوْلُهُ: ﴿وبارَكَ فِيها وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها﴾ مُفَسَّرٌ بِخَلْقِ الأشْجارِ والنَّباتِ والحَيَوانِ فِيها، ولا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلّا بَعْدَ صَيْرُورَتِها مُنْبَسِطَةً. ثُمَّ قالَ بَعْدُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾، فاقْتَضى خَلْقَ السَّماءِ بَعْدَ خَلْقِ الأرْضِ ودَحْوِها.
وأوْرَدَ أيْضًا أنَّ قَوْلَهُ تَعالى لِلسَّماءِ ولِلْأرْضِ: ﴿ائْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا﴾، كِنايَةٌ عَنْ إيجادِهِما، فَلَوْ سَبَقَ إيجادُ الأرْضِ عَلى إيجادِ السَّماءِ لاقْتَضى إيجادَ المَوْجُودِ بِأمْرِهِ لِلْأرْضِ بِالإيجادِ، وهو مُحالٌ، وقَدِ انْتَهى هَذا الإيرادُ.
ونَقَلَ الواحِدِيُّ في البَسِيطِ عَنْ مُقاتِلٍ أنَّهُ قالَ: خَلَقَ اللَّهُ السَّماءَ قَبْلَ الأرْضِ، وتَأوَّلَ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ﴾ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الأرْضَ، فَأضْمَرَ فِيهِ كانَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ٧٧] مَعْناهُ: إنْ يَكُنْ سَرَقَ. انْتَهى.
وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: فَقُدِّرَ: ثُمَّ كانَ قَدِ اسْتَوى جَمْعٌ بَيْنَ ضِدَّيْنِ؛ لِأنَّ ثُمَّ تَقْتَضِي التَّأخُّرَ، وكانَ تَقْتَضِي التَّقَدُّمَ، فالجَمْعُ بَيْنَهُما يُفِيدُ التَّناقُضَ، ونَظِيرُهُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا اليَوْمَ، ثُمَّ ضَرَبْتُ عَمْرًا أمْسَ. فَكَما أنَّ هَذا باطِلٌ، فَكَذَلِكَ ما ذُكِرَ يَعْنِي مِن تَأْوِيلِ ثُمَّ كانَ قَدِ اسْتَوى، قالَ: والمُخْتارُ عِنْدِي أنْ يُقالَ: خَلْقُ السَّماءِ مُقَدَّمٌ عَلى خَلْقِ الأرْضِ. وتَأْوِيلُ الآيَةِ أنَّ الخَلْقَ لَيْسَ عِبارَةً عَنِ التَّكْوِينِ والإيجادِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٥٩]، وهَذا مُحالٌ، لا يُقالُ لِلشَّيْءِ الَّذِي وُجِدَ كُنْ، بَلِ الخَلْقُ عِبارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ، وهو في حَقِّهِ تَعالى حُكْمُهُ أنْ سَيُوجَدَ، وقَضاؤُهُ بِذَلِكَ بِمَعْنى خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ، وقَضاؤُهُ بِأنْ سَيَحْدُثَ كَذا، أيْ: مُدَّةَ كَذا، لا يَقْتَضِي حُدُوثُهُ ذَلِكَ في الحالِ، فَلا يَلْزَمُ تَقْدِيمُ إحْداثِ (p-٤٨٨)الأرْضِ عَلى إحْداثِ السَّماءِ. انْتَهى.
والَّذِي نَقُولُهُ: أنَّ الكُفّارَ وبَّخُوا وقَرَّعُوا بِكُفْرِهِمْ بِمَن صَدَرَتْ عَنْهُ هَذِهِ الأشْياءُ جَمِيعُها مِن غَيْرِ تَرْتِيبٍ زَمانِيٍّ، وأنَّ (ثُمَّ) لِتَرْتِيبِ الأخْبارِ لا لِتَرْتِيبِ الزَّمانِ والمُهْلَةِ، كَأنَّهُ قالَ: فالَّذِي أخْبَرَكم أنَّهُ خَلَقَ الأرْضَ وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِن فَوْقِها وبارَكَ فِيها وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها، ثُمَّ أخْبَرَكم أنَّهُ اسْتَوى إلى السَّماءِ، فَلا تَعَرُّضَ في الآيَةِ لِتَرْتِيبٍ، أيْ: ذَلِكَ وقَعَ التَّرْتِيبُ الزَّمانِيُّ لَهُ.
ولَمّا كانَ خَلْقُ السَّماءِ أبْدَعَ في القُدْرَةِ مِن خَلْقِ الأرْضِ، ألَّفَ الأخْبارَ فِيهِ بِـ (ثُمَّ)، فَصارَ كَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: ١٧] بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ [البلد: ١١] .
ومِن تَرْتِيبِ الأخْبارِ ﴿ثُمَّ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾ [الأنعام: ١٥٤] بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ تَعالَوْا أتْلُ﴾ [الأنعام: ١٥١] . ويَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ﴾، بَعْدَ إخْبارِهِ بِما أخْبَرَ بِهِ، تَصْوِيرًا لِخَلْقِهِما عَلى وفْقِ إرادَتِهِ تَعالى، كَقَوْلِكَ: أرَأيْتَ الَّذِي أثْنَيْتَ عَلَيْهِ فَقُلْتَ: إنَّكَ عالِمٌ صالِحٌ ؟ فَهَذا تَصْوِيرٌ لِما أثْنَيْتَ بِهِ وتَفْسِيرٌ لَهُ.
فَكَذَلِكَ أخْبَرَ بِأنَّهُ خَلَقَ كَيْتَ وكَيْتَ، فَحَدَّ ذَلِكَ إيجادًا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ إرادَتِهِ. ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ المَقْصُودُ الإخْبارُ بِوُقُوعِ هَذِهِ الأشْياءِ مِن غَيْرِ تَرْتِيبٍ زَمانِيٍّ قَوْلُهُ في الرَّعْدِ: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها﴾ [الرعد: ٢] الآيَةَ، ثُمَّ قالَ بَعْدُ: ﴿وهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وأنْهارًا﴾ [الرعد: ٣] الآيَةَ. وظاهِرُ الآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيها جَعْلُ الرَّواسِي، وتَقْدِيرُ الأقْواتِ قَبْلَ الِاسْتِواءِ إلى السَّماءِ وخَلْقِها، ولَكِنَّ المَقْصُودَ في الآيَتَيْنِ الإخْبارُ بِصُدُورِ ذَلِكَ مِنهُ تَعالى مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِتَرْتِيبٍ زَمانِيٍّ، وما جاءَ مِن ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلى يَوْمَيْنِ أوْ أرْبَعَةٍ أوْ سِتَّةٍ إنَّما المَعْنى في مِقْدارِ ذَلِكَ عِنْدَكم، لا أنَّهُ كانَ وقْتَ إيجادِ ذَلِكَ زَمانٌ.
﴿فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ﴾ أيْ: صَنَعَهُنَّ وأوْجَدَهُنَّ، كَقَوْلِ ابْنِ أبِي ذُؤَيْبٍ:
؎وعَلَيْهِما مَسْرُودَتانِ قَضاهُما ∗∗∗ داوُدُ أوْ صَنَعَ السَّوابِغَ تَبَعَ
وعَلى هَذا انْتَصَبَ (سَبْعَ) عَلى الحالِ. وقالَ الحَوْفِيُّ: مَفْعُولٌ ثانٍ، كَأنَّهُ ضَمَّنَ قَضّاهُنَّ مَعْنى صَيَّرَهُنَّ فَعَدّاهُ إلى مَفْعُولَيْنِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مُبْهَمًا ﴿سَبْعَ سَماواتٍ﴾ عَلى التَّمْيِيزِ. ويَعْنِي بِقَوْلِهِ مُبْهَمًا، لَيْسَ عائِدًا عَلى السَّماءِ، لا مِن حَيْثُ اللَّفْظِ ولا مِن حَيْثُ المَعْنى، بِخِلافِ الحالِ أوِ المَفْعُولِ الثّانِي، فَإنَّهُ عائِدٌ عَلى السَّماءِ عَلى المَعْنى.
﴿وأوْحى في كُلِّ سَماءٍ أمْرَها﴾، قالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: وأوْحى إلى سُكّانِها وعَمَرَتِها مِنَ المَلائِكَةِ وإلَيْها هي في نَفْسِها ما شاءَ تَعالى مِنَ الأُمُورِ الَّتِي هي قِوامُها وصَلاحُها، وقالَهُ السُّدِّيُّ، وقَتادَةُ: ومِنَ الأُمُورِ الَّتِي هي بِغَيْرِها مِثْلَ ما فِيها مِن جِبالِ البَرْدِ ونَحْوِها، وأضافَ الأمْرَ إلَيْها مِن حَيْثُ هو فِيها. وقالالزَّمَخْشَرِيُّ: أمَرَها ما أمَرَ بِهِ فِيها ودَبَّرَهُ مِن خَلْقِ المَلائِكَةِ والنَّيِّراتِ وغَيْرِ ذَلِكَ.
(وحِفْظًا) أيْ: وحَفَّظْناها حِفْظًا مِن المُسْتَرِقَةِ بِالثَّواقِبِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ عَلى المَعْنى، كَأنَّهُ قالَ: وخَلَقْنا المَصابِيحَ زِينَةً وحِفْظًا انْتَهى.
ولا حاجَةَ إلى هَذا التَّقْدِيرِ الثّانِي، وتَكَلُّفِهِ مَعَ ظُهُورِ الأوَّلِ وسُهُولَتِهِ، ذَلِكَ إشارَةٌ إلى جَمِيعِ ما ذُكِرَ، أيْ: أوْجَدَهُ بِقُدْرَتِهِ وعِزِّهِ وعِلْمِهِ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["حمۤ","تَنزِیلࣱ مِّنَ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ","كِتَـٰبࣱ فُصِّلَتۡ ءَایَـٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِیࣰّا لِّقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ","بَشِیرࣰا وَنَذِیرࣰا فَأَعۡرَضَ أَكۡثَرُهُمۡ فَهُمۡ لَا یَسۡمَعُونَ","وَقَالُوا۟ قُلُوبُنَا فِیۤ أَكِنَّةࣲ مِّمَّا تَدۡعُونَاۤ إِلَیۡهِ وَفِیۤ ءَاذَانِنَا وَقۡرࣱ وَمِنۢ بَیۡنِنَا وَبَیۡنِكَ حِجَابࣱ فَٱعۡمَلۡ إِنَّنَا عَـٰمِلُونَ","قُلۡ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡ یُوحَىٰۤ إِلَیَّ أَنَّمَاۤ إِلَـٰهُكُمۡ إِلَـٰهࣱ وَ ٰحِدࣱ فَٱسۡتَقِیمُوۤا۟ إِلَیۡهِ وَٱسۡتَغۡفِرُوهُۗ وَوَیۡلࣱ لِّلۡمُشۡرِكِینَ","ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ كَـٰفِرُونَ","إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُمۡ أَجۡرٌ غَیۡرُ مَمۡنُونࣲ","۞ قُلۡ أَىِٕنَّكُمۡ لَتَكۡفُرُونَ بِٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ فِی یَوۡمَیۡنِ وَتَجۡعَلُونَ لَهُۥۤ أَندَادࣰاۚ ذَ ٰلِكَ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","وَجَعَلَ فِیهَا رَوَ ٰسِیَ مِن فَوۡقِهَا وَبَـٰرَكَ فِیهَا وَقَدَّرَ فِیهَاۤ أَقۡوَ ٰتَهَا فِیۤ أَرۡبَعَةِ أَیَّامࣲ سَوَاۤءࣰ لِّلسَّاۤىِٕلِینَ","ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰۤ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ وَهِیَ دُخَانࣱ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِیَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهࣰا قَالَتَاۤ أَتَیۡنَا طَاۤىِٕعِینَ","فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَـٰوَاتࣲ فِی یَوۡمَیۡنِ وَأَوۡحَىٰ فِی كُلِّ سَمَاۤءٍ أَمۡرَهَاۚ وَزَیَّنَّا ٱلسَّمَاۤءَ ٱلدُّنۡیَا بِمَصَـٰبِیحَ وَحِفۡظࣰاۚ ذَ ٰلِكَ تَقۡدِیرُ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡعَلِیمِ"],"ayah":"قُلۡ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡ یُوحَىٰۤ إِلَیَّ أَنَّمَاۤ إِلَـٰهُكُمۡ إِلَـٰهࣱ وَ ٰحِدࣱ فَٱسۡتَقِیمُوۤا۟ إِلَیۡهِ وَٱسۡتَغۡفِرُوهُۗ وَوَیۡلࣱ لِّلۡمُشۡرِكِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق