الباحث القرآني

﴿إلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السّاعَةِ وما تَخْرُجُ مِن ثَمَراتٍ مِن أكْمامِها وما تَحْمِلُ مِن أُنْثى ولا تَضَعُ إلّا بِعِلْمِهِ ويَوْمَ يُنادِيهِمْ أيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنّاكَ ما مِنّا مِن شَهِيدٍ﴾ ﴿وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وظَنُّوا ما لَهم مِن مَحِيصٍ﴾ ﴿لا يَسْأمُ الإنْسانُ مِن دُعاءِ الخَيْرِ وإنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ ﴿ولَئِنْ أذَقْناهُ رَحْمَةً مِنّا مِن بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذا لِي وما أظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً ولَئِنْ رُجِعْتُ إلى رَبِّي إنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا ولَنُذِيقَنَّهم مِن عَذابٍ غَلِيظٍ﴾ ﴿وإذا أنْعَمْنا عَلى الإنْسانِ أعْرَضَ ونَأى بِجانِبِهِ وإذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ﴾ ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَن أضَلُّ مِمَّنْ هو في شِقاقٍ بَعِيدٍ﴾ ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهم أنَّهُ الحَقُّ أوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ ﴿ألا إنَّهم في مِرْيَةٍ مِن لِقاءِ رَبِّهِمْ ألا إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ . لَمّا ذَكَرَ تَعالى ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا﴾ [فصلت: ٤٦] الآيَةَ، كانَ في ذَلِكَ (p-٥٠٤)دَلالَةٌ عَلى الجَزاءِ يَوْمَ القِيامَةِ، وكَأنَّ سائِلًا قالَ: ومَتى ذَلِكَ ؟ فَقِيلَ: لا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ، ومَن سُئِلَ عَنْها فَلَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِتَعَيُّنِ وقْتِها، وإنَّما يُرَدُّ ذَلِكَ إلى اللَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سِعَةَ عِلْمِهِ وتَعَلُّقَهُ بِما لا يَعْلَمُهُ إلّا هو تَعالى. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، والأعْرَجُ، وشَيْبَةُ، وقَتادَةُ، والحَسَنُ بِخِلافٍ عَنْهُ؛ ونافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، في غَيْرِ رِوايَةٍ أيْ: جَلِيَّةٍ؛ والمُفَضَّلُ، وحَفْصٌ، وابْنُ مِقْسَمٍ: ﴿مِن ثَمَراتٍ﴾ عَلى الجَمْعِ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ، والحَسَنُ في رِوايَةِ طَلْحَةَ والأعْمَشُ: بِالإفْرادِ. ولَمّا كانَ ما يَخْرُجُ مِن أكْمامِ الشَّجَرَةِ وما تَحْمِلُ الإناثُ وتَضَعُهُ هو إيجادُ أشْياءٍ بَعْدَ العَدَمِ، ناسَبَ أنْ يُذْكَرَ مَعَ عِلْمِ السّاعَةِ، إذْ في ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى البَعْثِ، إذْ هو إعادَةٌ بَعْدَ إعْدامٍ، وناسَبَ ذِكْرَ أحْوالِ المُشْرِكِينَ في ذَلِكَ اليَوْمِ، وسُؤالِهِمْ سُؤالَ التَّوْبِيخِ فَقالَ: ﴿ويَوْمَ يُنادِيهِمْ أيْنَ شُرَكائِي﴾ أيْ: الَّذِينَ نَسَبْتُمُوهم إلَيَّ وزَعَمْتُمْ أنَّهم شُرَكاءٌ لِي، وفي ذَلِكَ تَهَكُّمٌ بِهِمْ وتَقْرِيعٌ. والضَّمِيرُ في (يُنادِيهِمْ) عامٌّ في كُلِّ مَن عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ عُبّادُ الأوْثانِ. ﴿قالُوا آذَنّاكَ﴾ أيْ: أعْلَمْناكَ، قالَ الشّاعِرُ: ؎آذَنَتْنا بِبَيْنِها أسْماءُ رُبَّ ثاوٍ يَمَلُّ مِنهُ الثَّواءُ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أسْمَعْناكَ، كَأنَّهُ اسْتَبْعَدَ الإعْلامَ لِلَّهِ؛ لِأنَّ أهْلَ القِيامَةِ يَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الأشْياءَ عِلْمًا واجِبًا، فالإعْلامُ في حَقِّهِ مُحالٌ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (قالُوا) عائِدٌ عَلى المُنادَيْنِ؛ لِأنَّهُمُ المُحَدَّثُ مَعَهم. (ما مِنّا) أحَدٌ اليَوْمَ، وقَدْ أبْصَرْنا وسَمِعْنا. يَشْهَدُ أنَّ لَكَ شَرِيكًا، بَلْ نَحْنُ مُوَحِّدُونَ لَكَ، وما مِنّا أحَدٌ يُشاهِدُهم؛ لِأنَّهم ضَلُّوا عَنْهم وضَلَّتْ عَنْهم آلِهَتُهم، لا يُبْصِرُونَها في ساعَةِ التَّوْبِيخِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في (قالُوا) عائِدٌ عَلى الشُّرَكاءِ، أيْ: قالَتِ الشُّرَكاءُ: ما مِنّا مِن شَهِيدٍ بِما أضافُوا إلَيْنا مِنَ الشِّرْكِ، و(آذَنّاكَ) مُعَلَّقٌ؛ لِأنَّهُ بِمَعْنى الإعْلامِ. والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ما مِنّا مِن شَهِيدٍ﴾ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ. وفي تَعْلِيقِ بابِ أعْلَمُ رَأيْنا خِلافَهُ، والصَّحِيحُ أنَّهُ مَسْمُوعٌ مِن كَلامِ العَرَبِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهم: (آذَنّاكَ) إنْشاءٌ، كَقَوْلِكَ: أقْسَمْتُ لَأضْرِبَنَّ زَيْدًا، وإنْ كانَ إخْبارًا سابِقًا، فَتَكُونُ إعادَةُ السُّؤالِ تَوْبِيخًا لَهم. ﴿وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ﴾ أيْ: نَسُوا ما كانُوا يَقُولُونَ في الدُّنْيا ويَدْعُونَ مِنَ الآلِهَةِ، أوْ ﴿وضَلَّ عَنْهُمْ﴾ أيْ: تَلَفَتْ أصْنامُهم وتَلاشَتْ، فَلَمْ يَجِدُوا مِنها نَصْرًا ولا شَفاعَةً، (وظَنُّوا) أيْ: أيْقَنُوا. قالَ السُّدِّيُّ: ﴿ما لَهم مِن مَحِيصٍ﴾ أيْ: مِن حَيْدَةٍ ورِواغٍ مِنَ العَذابِ. والظّاهِرُ أنَّ (ظَنُّوا) مُعَلَّقَةٌ، والجُمْلَةُ المَنفِيَّةُ في مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ (ظَنُّوا) . وقِيلَ: تَمَّ الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: (وظَنُّوا)، أيْ: وتَرَجَّحَ عِنْدَهم أنَّ قَوْلَهم: ﴿ما مِنّا مِن شَهِيدٍ﴾ مَنجاةٌ لَهم، أوْ أمْرٌ يُمَوِّهُونَ بِهِ. والجُمْلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَأْنَفَةٌ، أيْ: يَكُونُ لَهم مَنجًا، أوْ مَوْضِعَ رَوَغانٍ. ﴿لا يَسْأمُ الإنْسانُ مِن دُعاءِ الخَيْرِ﴾: هَذِهِ الآياتُ نَزَلَتْ في كُفّارٍ قِيلَ: في الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ؛ وقِيلَ: في عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وكَثِيرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ يَتَّصِفُونَ بِوَصْفِ أوَّلِها مِن دُعاءِ الخَيْرِ، أيْ: مِن طَلَبِ السِّعَةِ والنِّعْمَةِ و(دُعاءِ) مَصْدَرٌ مُضافٌ لِلْمَفْعُولِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: (مِن دُعاءٍ بِالخَيْرِ)، بِباءٍ داخِلَةٍ عَلى الخَيْرِ، وفاعِلُ المَصْدَرِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مِن دُعاءٍ لِلْخَيْرِ، وهو وإنْ مَسَّهُ الشَّرُّ، أيْ: الفَقْرُ والضِّيقُ، (فَيَئُوسٌ) أيْ: فَهو يَئُوسٌ قَنُوطٌ، وأتى بِهِما صِيغَتَيْ مُبالَغَةٍ. واليَأْسُ مِن صِفَةِ القَلْبِ، وهو أنْ يَقْطَعَ رَجاءَهُ مِنَ الخَيْرِ؛ والقُنُوطُ: أنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ آثارُ اليَأْسِ فَيَتَضاءَلُ ويَنْكَسِرُ. وبَدَأ بِصِيغَةِ القَلْبِ؛ لِأنَّها هي المُؤَثِّرَةُ فِيما يَظْهَرُ عَلى الصُّورَةِ مِنَ الِانْكِسارِ. ﴿ولَئِنْ أذَقْناهُ رَحْمَةً مِنّا﴾: سَمّى النِّعْمَةَ رَحْمَةً، إذْ هي مِن آثارِ رَحْمَةِ اللَّهِ. ﴿مِن بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذا لِي﴾ أيْ: بِسَعْيِي واجْتِهادِي، ولا يَراها أنَّها مِنَ اللَّهِ، أوْ هَذا لِي لا يَزُولُ عَنِّي. ﴿وما أظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً﴾ أيْ: ظَنَنّا أنَّنا لا نُبْعَثُ، وأنَّ ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِن ذَلِكَ لَيْسَ بِواقِعٍ، كَما قالَ تَعالى حِكايَةً عَنْهم: ﴿إنْ نَظُنُّ إلّا ظَنًّا وما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجاثية: ٣٢] . ﴿ولَئِنْ رُجِعْتُ إلى رَبِّي﴾: ولَئِنْ كانَ كَما أخْبَرَتِ الرُّسُلُ، ﴿إنَّ لِي عِنْدَهُ﴾ أيْ: عِنْدَ اللَّهِ، (لَلْحُسْنى): أيِ الحالَةُ الحُسْنى مِنَ الكَرامَةِ والنِّعْمَةِ، كَما أنْعَمَ عَلَيَّ في الدُّنْيا، وأكَّدُوا ذَلِكَ بِاليَمِينِ وبِتَقْدِيمِ ﴿لِي عِنْدَهُ﴾ عَلى اسْمِ إنَّ، وتَدْخُلُ لامُ التَّأْكِيدِ (p-٥٠٥)عَلَيْهِ أيْضًا، وبِصِيغَةِ الحُسْنى يُؤَنَّثُ الأحْسَنُ الَّذِي هو أفْعَلُ التَّفْضِيلِ. ولَمْ يَقُولُوا: (لَلْحَسَنَةَ) أيِ الحالَةَ الحَسَنَةَ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: لِلْكافِرِ أُمْنِيَتانِ، أمّا في الدُّنْيا فَهَذِهِ ﴿إنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى﴾، وأمّا في الآخِرَةِ فَـ ﴿يالَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا﴾ [النبإ: ٤٠] . ﴿فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا﴾ مِنَ الأفْعالِ السَّيِّئَةِ، وذَلِكَ كِنايَةٌ عَنْ جَزائِهِمْ بِأعْمالِهِمُ السَّيِّئَةِ. ﴿ولَنُذِيقَنَّهم مِن عَذابٍ غَلِيظٍ﴾ في مُقابَلَةِ ﴿إنَّ لِي عِنْدَهُ﴾ . وكَنّى بِغَلِيظِ العَذابِ عَنْ شِدَّتِهِ. ﴿وإذا أنْعَمْنا﴾: تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَظِيرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ في (سُبْحانَ)، إلّا أنَّ في أواخِرِ تِلْكَ ﴿كانَ يَئُوسًا﴾ [الإسراء: ٨٣] وآخِرِ هَذِهِ ﴿فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ﴾: أيْ فَهو ذُو دُعاءٍ بِإزالَةِ الشَّرِّ عَنْهُ وكَشْفِ ضُرِّهِ. والعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الطُّولَ والعَرْضَ في الكَثْرَةِ. يُقالُ: أطالَ فُلانٌ في الظُّلْمِ، وأعْرَضَ في الدُّعاءِ إذا كَثَّرَ، أيْ فَذُو تَضَرُّعٍ واسْتِغاثَةٍ. وذَكَرَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ نَوْعًا مِن طُغْيانِ الإنْسانِ، إذا أصابَهُ اللَّهُ بِنِعْمَةٍ أبْطَرَتْهُ النِّعْمَةُ، وإذا مَسَّهُ الشَّرُّ ابْتَهَلَ إلى اللَّهِ وتَضَرَّعَ. ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ كانَ﴾ أيْ: القُرْآنُ، (مِن عِنْدِ اللَّهِ): أبْرَزَهُ في صُورَةِ الِاحْتِمالِ، وهو مِن عِنْدِ اللَّهِ بِلا شَكٍّ، ولَكِنَّهُ تَنَزَّلَ مَعَهم في الخِطابِ. والضَّمِيرُ في (أرَأيْتُمْ) لِكُفّارِ قُرَيْشٍ. وتَقَدَّمَ أنَّ مَعْنى أرَأيْتُمْ: أخْبِرُونِي عَنْ حالِكم (إنْ كانَ) هَذا القُرْآنُ (مِن عِنْدِ اللَّهِ)، وكَفَرْتُمْ بِهِ وشاقَقْتُمْ في اتِّباعِهِ. مَن أضَلُّ مِنكم، إذْ أنْتُمُ المُشاقُّونَ فِيهِ والمُعْرِضُونَ عَنْهُ والمُسْتَهْزِئُونَ بِآياتِ اللَّهِ. وتَقَدَّمَ أنَّ (أرَأيْتُمْ) هَذِهِ تَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ مَذْكُورٍ، أوْ مَحْذُوفٍ، وإلى ثانٍ الغالِبُ فِيهِ أنْ يَكُونَ جُمْلَةً اسْتِفْهامِيَّةً. فالمَفْعُولُ الأوَّلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أرَأيْتُمْ أنْفُسَكم، والثّانِي هو جُمْلَةُ الِاسْتِفْهامِ، إذْ مَعْناهُ: مَن أضَلُّ مِنكم أيُّها الكُفّارُ، إذْ مَآلُكم إلى الهَلاكِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. ثُمَّ تَوَعَّدَهم بِما هو كائِنٌ لا مَحالَةَ فَقالَ: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ﴾ . قالَ أبُو المِنهالِ، والسُّدِّيُّ، وجَماعَةٌ: هو وعِيدٌ لِلْكَفّارِ بِما يَفْتَحُهُ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنَ الأقْطارِ حَوْلَ مَكَّةَ، وفي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأرْضِ كَخَيْبَرَ. ﴿وفِي أنْفُسِهِمْ﴾: أرادَ بِهِ فَتْحَ مَكَّةَ، وتَضَمَّنَ ذَلِكَ الإخْبارَ بِالغَيْبِ، ووَقَعَ كَما أخْبَرَ. وقالَ الضَّحّاكُ، وقَتادَةُ: ﴿فِي الآفاقِ﴾: ما أصابَ الأُمَمَ المُكَذِّبَةَ في أقْطارِ الأرْضِ قَدِيمًا، ﴿وفِي أنْفُسِهِمْ﴾: يَوْمَ بَدْرٍ. وقالَ عَطاءٌ، وابْنُ زَيْدٍ: في آفاقِ السَّماءِ، وأرادَ الآياتِ في الشَّمْسِ والقَمَرِ والرِّياحِ وغَيْرِ ذَلِكَ، ﴿وفِي أنْفُسِهِمْ﴾ عِبْرَةُ الإنْسانِ بِجِسْمِهِ وحَواسِّهِ وغَرِيبِ خِلْقَتِهِ وتَدْرِيجِهِ في البَطْنِ ونَحْوِ ذَلِكَ. ونُبِّهُوا بِهَذَيْنِ القَوْلَيْنِ عَنْ لَفْظِ سَنُرِيهِمْ؛ لِأنَّ هَلاكَ الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ قَدِيمًا، وآياتِ الشَّمْسِ والقَمَرِ وغَيْرَ ذَلِكَ، قَدْ كانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُرِيبًا لَهم، فالقَوْلُ الأوَّلُ أرْجَحُ. وأخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذا القَوْلَ وذَيَّلَهُ فَقالَ: يَعْنِي ما يَسَّرَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ولِلْخُلَفاءِ مِن بَعْدِهِ، وأنْصارِ دِينِهِ في آفاقِ الدُّنْيا، وبِلادِ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ عُمُومًا، وفي ناحِيَةِ العَرَبِ خُصُوصًا مِنَ الفُتُوحِ الَّتِي لَمْ يَتَيَسَّرْ أمْثالُها لِأحَدٍ مِنَ خَلْقِ الأرْضِ قَبْلَهم، ومِنَ الإظْهارِ عَلى الجَبابِرَةِ والأكاسِرَةِ، وتَغْلِيبِ قَلِيلِهِمْ عَلى كَثِيرِهِمْ، وتَسْلِيطِ ضِعافِهِمْ عَلى أقْوِيائِهِمْ، وإجْرائِهِ عَلى أيْدِيهِمْ أُمُورًا خارِجَةً عَنِ المَعْهُودِ خارِقَةً لِلْعادَةِ، ونَشْرِ دَعْوَةِ الإسْلامِ في الأقْطارِ المَعْمُورَةِ، وبَسْطِ دَوْلَتِهِ في أقاصِيها. والِاسْتِقْراءُ يُطْلِعُكُ في التَّوارِيخِ والكُتُبِ المُدَوَّنَةِ في مَشاهِدِ أهْلِهِ وأيّامِهِمْ عَلى عَجائِبَ، لا تَرى وقْعَةً مِن وقائِعِهِمْ إلّا عَلَمًا مِن أعْلامِ اللَّهِ، وآيَةً مِن آياتِهِ تَقْوى مَعَها النَّفْسُ، ويَزْدادُ بِها الإيمانُ، ويَتَبَيَّنُ أنَّ دِينَ الإسْلامِ هو دِينُ الحَقِّ الَّذِي لا يَحِيدُ عَنْهُ إلّا مُكابِرٌ خَبِيثٌ مُغالِطٌ نَفْسَهُ. انْتَهى ما كَتَبْناهُ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ. ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهم أنَّهُ﴾ أيِ: القُرْآنُ، وما تَضَمَّنَهُ مِنَ الشَّرْعِ هو الحَقُّ، إذْ وقَعَ وفْقَ ما أخْبَرَ بِهِ مِنَ الغَيْبِ، و(بِرَبِّكَ): الباءُ زائِدَةٌ، التَّقْدِيرُ: أوَلَمْ يَكْفِكَ أوْ يَكْفِهِمْ رَبُّكَ، و﴿أنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ بَدَلٌ مِن (رَبِّكَ) . أمّا حالَةُ كَوْنِهِ مَجْرُورًا بِالباءِ، فَيَكُونُ بَدَلًا عَلى اللَّفْظِ. وأمّا حالَةُ مُراعاةِ المَوْضِعِ، فَيَكُونُ بَدَلًا عَلى المَوْضِعِ، وقِيلَ: إنَّهُ عَلى إضْمارِ الحَرْفِ أيْ: أوَلَمْ يَكْفِ رَبُّكَ بِشَهادَتِهِ، فَحُذِفَ الحَرْفُ، ومَوْضِعُ (p-٥٠٦)أنَّ عَلى الخِلافِ، أهْوَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ أوْ في مَوْضِعِ جَرٍّ ؟ ويَبْعُدُ قَوْلُ مَن جَعَلَ (بِرَبِّكَ) في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وفاعِلُ كَفى إنَّ وما بَعْدَها، والتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: أوَلَمْ يَكْفِ رَبُّكَ بِشَهادَتِهِ ؟ وقُرِئَ: إنَّ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ عَلى إضْمارِ القَوْلِ، و(ألا) اسْتِفْتاحٌ تُنَبِّهُ السّامِعَ عَلى ما يُقالُ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ والحَسَنُ: في (مُرْيَةٍ) بِضَمِّ المِيمِ، وإحاطَتُهُ تَعالى بِالأشْياءِ عِلْمُهُ بِها جُمْلَةً وتَفْصِيلًا، فَهو يُجازِيهِمْ عَلى كُفْرِهِمْ ومِرْيَتِهِمْ في لِقاءِ رَبِّهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب