الباحث القرآني

(p-٤٨٩)﴿فَإنْ أعْرَضُوا فَقُلْ أنْذَرْتُكم صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمُودَ﴾ ﴿إذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ ألّا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأنْزَلَ مَلائِكَةً فَإنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ﴾ ﴿فَأمّا عادٌ فاسْتَكْبَرُوا في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وقالُوا مَن أشَدُّ مِنّا قُوَّةً أوَلَمْ يَرَوْا أنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهم هو أشَدُّ مِنهم قُوَّةً وكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ﴾ ﴿فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا في أيّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهم عَذابَ الخِزْيِ في الحَياةِ الدُّنْيا ولَعَذابُ الآخِرَةِ أخْزى وهم لا يُنْصَرُونَ﴾ ﴿وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهم فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى فَأخَذَتْهم صاعِقَةُ العَذابِ الهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ﴿ونَجَّيْنا الَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾ . ﴿فَإنْ أعْرَضُوا﴾: التِفاتٌ خَرَجَ مِن ضَمِيرِ الخِطابِ في قَوْلِهِ: ﴿أئِنَّكم لَتَكْفُرُونَ﴾ [فصلت: ٩] إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ إعْراضًا عَنْ خِطابِهِمْ، إذْ كانُوا قَدْ ذُكِّرُوا بِما يَقْتَضِي إقْبالَهم وإيمانَهم مِنَ الحُجَجِ الدّالَّةِ عَلى الوَحْدانِيَّةِ والقُدْرَةِ الباهِرَةِ، ﴿فَقُلْ أنْذَرْتُكُمْ﴾ أيْ: أعْلَمْتُكم، (صاعِقَةً) أيْ: حُلُولَ صاعِقَةٍ. قالَ قَتادَةُ: عَذابًا مِثْلَ عَذابِ عادٍ وثَمُودَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَذابًا شَدِيدَ الوَقْعِ، كَأنَّهُ صاعِقَةٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ﴾، وابْنُ الزُّبَيْرِ، والسُّلَمِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِغَيْرِ ألِفٍ فِيهِما وسُكُونِ العَيْنِ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُها في أوائِلِ البَقَرَةِ. والصَّعْقَةُ: المَرَّةُ، يُقالُ: صَعَقَتْهُ الصّاعِقَةُ فَصُعِقَ، وهو مِنَ بابِ فَعَلَتْ بِفَتْحِ العَيْنِ، فَفُعِلَ بِكَسْرِها نَحْوُ: خَدَعَتْهُ فَخُدِعَ، (وإذْ) مَعْمُولَةٌ لِـ (صاعِقَةً) لِأنَّ مَعْناها العَذابُ. ﴿مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْ: قَبْلِهِمْ وبَعْدِهِمْ، أيْ: قَبْلِ هُودٍ وصالِحٍ وبَعْدِهِما. وقِيلَ: مَن أُرْسِلَ إلى آبائِهِمْ ومَن أُرْسِلَ إلَيْهِمْ؛ فَيَكُونُ ﴿مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ﴾ مَعْناهُ: مِن قَبْلِهِمْ، ﴿ومِن خَلْفِهِمْ﴾ مَعْناهُ: الرُّسُلُ الَّذِينَ بِحَضْرَتِهِمْ. فالضَّمِيرُ في (مِن خَلْفِهِمْ) عائِدٌ عَلى الرُّسُلِ، قالَهُ الضَّحّاكُ، وتَبِعَهُ الفَرّاءُ، وسَيَأْتِي عَنِ الطَّبَرِيِّ نَحْوٌ مِن هَذا القَوْلِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ﴾ أيْ: تَقَدَّمُوا في الزَّمَنِ واتَّصَلَتْ نِذارَتُهم إلى أعْمارِ عادٍ وثَمُودَ، وبِهَذا الِاتِّصالِ قامَتِ الحُجَّةُ. ﴿ومِن خَلْفِهِمْ﴾ أيْ: جاءَهم رَسُولٌ بَعْدَ تَقَدُّمِ وُجُودِهِمْ في الزَّمَنِ، وجاءَ مِن مَجْمُوعِ العِبارَةِ إقامَةُ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ في أنَّ الرِّسالَةَ والنِّذارَةَ عَمَّتْهم خَبَرًا ومُباشَرَةً. انْتَهى، وهو شَرْحُ كَلامِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ﴾ أيْ: آتَوْهم مِن كُلِّ جانِبٍ، واجْتَهَدُوا بِهِمْ وأعْمَلُوا فِيهِمْ كُلَّ حِيلَةٍ، فَلَمْ يَرَوْا مِنهم إلّا العُتُوَّ والإعْراضَ. كَما حَكى اللَّهُ عَنِ الشَّيْطانِ: ﴿لَآتِيَنَّهم مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ وعَنْ أيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] أيْ: لَآتِيَنَّهم مِن كُلِّ جِهَةٍ، ولَأعْمَلَنَّ فِيهِمْ كُلَّ حِيلَةٍ. وعَنِ الحَسَنِ: أنْذَرُوهم مِن وقائِعِ اللَّهِ فِيمَن قَبْلَهم مِنَ الأُمَمِ وعَذابِ الآخِرَةِ؛ لِأنَّهم إذا حَذَّرُوهم ذَلِكَ فَقَدْ جاءُوهم بِالوَعْظِ مِن جِهَةِ الزَّمَنِ الماضِي وما جَرى فِيهِ عَلى الكُفّارِ، ومِن جِهَةِ المُسْتَقْبَلِ وما سَيَجْرِي عَلَيْهِمْ. انْتَهى. وقالَ الطَّبَرِيُّ: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿ومِن خَلْفِهِمْ﴾ عائِدٌ عَلى الرُّسُلِ، وفي: ﴿مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ﴾ عائِدٌ عَلى الأُمَمِ، وفِيهِ خُرُوجٌ عَنِ الظّاهِرِ في تَفْرِيقِ الضَّمائِرِ وتَعْمِيَةِ المَعْنى، إذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ وجاءَتْهم مِن خَلْفِ الرُّسُلِ، أيْ: مِن خَلْفِ أنْفُسِهِمْ، وهَذا مَعْنًى لا يُتَعَقَّلُ إلّا إنْ كانَ الضَّمِيرُ يَعُودُ في (خَلْفِهِمْ) عَلى (الرُّسُلُ) لَفْظًا، وهو يَعُودُ عَلى رُسُلٍ أُخْرى مَعْنًى، فَكَأنَّهُ قالَ: جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِ رُسُلٍ آخَرِينَ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ، أيْ: ونِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ. وخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنَ الأُمَمِ المُهْلَكَةِ، عادٌ وثَمُودُ لِعِلْمِ قُرَيْشٍ بِحالِهِما، ولِوُقُوعِهِمْ عَلى بِلادِهِمْ في اليَمَنِ وفي الحِجْرِ، وقالَ الأفْوَهُ الأوْدِيُّ: ؎أضْحَوْا كَقِيلِ بْنِ عَنْزٍ في عَشِيرَتِهِ إذْ أُهْلِكَتْ بِالَّذِي سَدى لَها عادُ ؎أوْ بَعْدَهُ كَقُدارٍ حِينَ تابَعَهُ ∗∗∗ عَلى الغَوايَةِ أقْوامٌ فَقَدْ بادُوا (أنْ لا تَعْبُدُوا) يَصِحُّ أنْ تَكُونَ (أنْ) تَفْسِيرِيَّةٌ؛ لِأنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ يَتَضَمَّنُ مَعْنى القَوْلِ، أيْ: جاءَتْهم مُخاطِبَةً؛ وأنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، أيْ: بِأنَّهُ لا تَعْبُدُوا، والنّاصِبَةُ لِلْمُضارِعِ، ووُصِلَتْ بِالنَّهْيِ كَما تُوصَلُ بِإلّا، وفي نَحْوِ: ﴿أنْ طَهِّرا﴾ [البقرة: ١٢٥]، وكَتَبْتُ إلَيْهِ بِأنْ قُمْ، ولا في هَذِهِ إلّا وجْهٌ لِلنَّهْيِ. ويَجُوزُ عَلى بُعْدٍ أنْ تَكُونَ (لا) نافِيَةً، و(أنْ) ناصِبَةً لِلْفِعْلِ، وقالَهُ الحَوْفِيُّ ولَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ. ومَفْعُولُ شاءَ مَحْذُوفٌ، وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْ شاءَ رَبُّنا (p-٤٩٠)إرْسالَ الرُّسُلِ لَأنْزَلَ مَلائِكَةً. انْتَهى. وتَتَبَّعْتُ ما جاءَ في القُرْآنِ وكَلامِ العَرَبِ مِن هَذا التَّرْكِيبِ فَوَجَدْتُهُ لا يَكُونُ مَحْذُوفًا إلّا مِن جِنْسِ الجَوابِ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهم عَلى الهُدى﴾ [الأنعام: ٣٥] أيْ: لَوْ شاءَ جَمْعَهم عَلى الهُدى لَجَمَعَهم عَلَيْهِ، وكَذَلِكَ: ﴿لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطامًا﴾ [الواقعة: ٦٥]، ﴿لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجًا﴾ [الواقعة: ٧٠]، ﴿ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ﴾ [يونس: ٩٩]، ﴿ولَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: ١١٢]، ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ [النحل: ٣٥] . قالَ الشّاعِرُ: ؎فَلَوْ شاءَ رَبِّي كَنْتُ قَيْسَ بْنَ خالِدٍ ؎ولَوْ شاءَ رَبِّي كَنْتُ عُمَرَ بْنَ مَرْثَدِ وقالَ الرّاجِزُ: ؎واللَّذُ لَوْ شاءَ لَكُنْتُ صَخْرًا ∗∗∗ أوْ جَبَلًا أشَمَّ مُشْمَخِرّا فَعَلى هَذا الَّذِي تَقَرَّرَ، لا يَكُونُ تَقْدِيرُ المَحْذُوفِ ما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وإنَّما التَّقْدِيرُ: لَوْ شاءَ رَبُّنا إنْزالَ مَلائِكَةٍ بِالرِّسالَةِ مِنهُ إلى الإنْسِ لَأنْزَلَهم بِها إلَيْهِمْ، وهَذا أبْلَغُ في الِامْتِناعِ مِن إرْسالِ البَشَرِ، إذْ عَلَّقُوا ذَلِكَ بِأقْوالِ المَلائِكَةِ، وهو لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَشاءُ ذَلِكَ في البَشَرِ ؟ ﴿فَإنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ﴾: خِطابٌ لِهُودٍ وصالِحٍ ومَن دَعا مِنَ الأنْبِياءِ إلى الإيمانِ، وغُلِّبَ الخِطابُ عَلى الغَيْبَةِ، نَحْوُ قَوْلِكَ: أنْتَ وزَيْدٌ تَقُومانِ. و(ما) مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ: بِإرْسالِكم، وبِهِ تَوْكِيدٌ لِذَلِكَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (ما) بِمَعْنى الَّذِي، والضَّمِيرُ في بِهِ عائِدٌ عَلَيْهِ، وإذا كَفَرُوا بِما تَضَمَّنَهُ الإرْسالُ، كانَ كُفْرًا بِالإرْسالِ. ولَيْسَ قَوْلُهُ: ﴿بِما أُرْسِلْتُمْ﴾ إقْرارًا بِالإرْسالِ، بَلْ هو عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، أيْ: بِما أُرْسِلْتُمْ عَلى زَعْمِكم، كَما قالَ فِرْعَوْنُ: ﴿إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكم لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: ٢٧] . ولَمّا بَيَّنَ تَعالى كُفْرَ عادٍ وثَمُودَ عَلى الإجْمالِ، فَصَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَذَكَرَ خاصِّيَّةَ كُلِّ واحِدَةٍ مِنَ الطّائِفَتَيْنِ. فَقالَ: ﴿فَأمّا عادٌ فاسْتَكْبَرُوا﴾ أيْ: تَعاظَمُوا عَنِ امْتِثالِ أمْرِ اللَّهِ، وعَنْ ما جاءَتْهم بِهِ الرُّسُلُ، ﴿بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ أيْ: بِغَيْرِ ما يَسْتَحِقُّونَ. ولَمّا ذَكَرَ لَهم هَذا الذَّنْبَ العَظِيمَ، وهو الِاسْتِكْبارُ - وكانَ فِعْلًا قَلْبِيًّا - ذَكَرَ ما ظَهَرَ عَلَيْهِمْ مِنَ الفِعْلِ اللِّسانِيِّ المُعَبِّرِ عَنْ ما في القَلْبِ، ﴿وقالُوا مَن أشَدُّ مِنّا قُوَّةً﴾ أيْ: لا أحَدَ أشَدُّ مِنّا، وذَلِكَ لِما أعْطاهُمُ اللَّهُ مِن عِظَمِ الخَلْقِ وشَدَّةِ البَطْشِ. فَرَدَّ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ بِأنَّ الَّذِي أعْطاهم ذَلِكَ هو أشَدُّ مِنهم قُوَّةً، ومَعَ عِلْمِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ، كانُوا يَجْحَدُونَها ولا يَعْتَرِفُونَ بِها، كَما يَجْحَدُ المُودَعُ الوَدِيعَةَ مِن طالِبِها مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِها. ولَفْظَةُ كانَ في كَثِيرٍ مِنَ الِاسْتِعْمالِ تُشْعِرُ بِالمُداوَمَةِ، وعَبَّرَ بِالقُوَّةِ عَنِ القُدْرَةِ، فَكَما يُقالُ: اللَّهُ أقْدَرُ مِنهم، يُقالُ: اللَّهُ أقْوى مِنهم. فالقُدْرَتانِ بَيْنَهُما قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وإنْ تَبايَنَتِ القُدْرَتانِ بِما لِكُلٍّ مِنهُما مِنَ الخاصَّةِ. كَما يُوصَفُ اللَّهُ تَعالى بِالعِلْمِ، ويُوصَفُ الإنْسانُ بِالعِلْمِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى ما أصابَ بِهِ عادًا فَقالَ: ﴿فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا﴾ في الحَدِيثِ: «أنَّهُ تَعالى أمَرَ خَزَنَةَ الرِّيحِ فَفَتَحُوا عَلَيْهِمْ قَدْرَ حَلْقَةِ الخاتَمِ، ولَوْ فَتَحُوا قَدْرَ مِنخَرِ الثَّوْرِ لَهَلَكَتِ الدُّنْيا» . ورُوِيَ «أنَّها كانَتْ تَحْمِلُ العِيرَ بَأوْقادِها فَتَرْمِيهِمْ في البَحْرِ» . والصَّرْصَرُ، قالَ مُجاهِدٌ: شَدِيدَةُ السَّمُومِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والضِّحاكُ، وقَتادَةُ، والسُّدِّيُّ: مِنَ الصِّرِّ، أيْ: بارِدَةً. وقالَ السُّدِّيُّ أيْضًا، وأبُو عُبَيْدَةَ، وابْنُ قُتَيْبَةَ، والطَّبَرِيُّ، وجَماعَةٌ: مِن صَرْصَرَ إذا صَوَّتَ. وقالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: صَرْصَرَ، يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِنَ الصَّرَّةِ، وهي الصَّيْحَةُ، ومِنهُ: ﴿فَأقْبَلَتِ امْرَأتُهُ في صَرَّةٍ﴾ [الذاريات: ٢٩] . وصَرْصَرٌ: نَهْرٌ بِالعِراقِ. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ، وأبُو عَمْرٍو، والنَّخَعِيُّ، وعِيسى، والأعْرَجُ (نَحْساتٍ)، بِسُكُونِ الحاءِ، فاحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وُصِفَ بِهِ وتارَةً يُضافُ إلَيْهِ، واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ مُخَفَّفًا مِن فَعَّلَ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: نَحُسَ ونَحِسَ: مَقَتَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُخَفَّفُ نَحَّسَ، أوْ صِفَةٌ عَلى فَعَّلَ، أوْ وصْفٌ بِمَصْدَرٍ. انْتَهى. وتَتَبَّعْتُ ما ذَكَرَهُ التَّصْرِيفِيُّونَ مِمّا جاءَ صِفَةً مِن فَعَلَ اللّازِمِ فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ فَعْلًا بِسُكُونِ العَيْنِ، قالُوا: يَأْتِي عَلى فَعِلَ كَفَرِحَ وهو فَرِحٌ، وعَلى أفْعَلُ حَوَرَ فَهو أحْوَرُ، وعَلى فَعْلانِ شَبِعَ فَهو شَبْعانُ، وقَدْ يَجِيءُ عَلى فاعِلٍ سَلِمَ فَهو سالِمٌ، وبَلِيَ فَهو بالٍ. وقَرَأ قَتادَةُ، وأبُو رَجاءٍ، والجَحْدَرِيُّ، (p-٤٩١)وشَيْبَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ، والأعْمَشُ، وباقِي السَّبْعَةِ: بِكَسْرِ الحاءِ وهو القِياسُ، وفِعْلُهُ نَحِسَ عَلى فَعِلَ بِكَسْرِ العَيْنِ، و﴿نَحِساتٍ﴾ صِفَةٌ لِـ (أيّامٍ) جُمِعَ بِألِفٍ وتاءٍ؛ لِأنَّهُ جَمْعُ صِفَةٍ لِما لا يَعْقِلُ. قالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والسُّدِّيُّ: مَشائِيمُ مِنَ النَّحْسِ المَعْرُوفِ. وقالَ الضَّحّاكُ: شَدِيدَةُ البَرْدِ، وحَتّى كانَ البَرْدُ عَذابًا لَهم. وأنْشَدَ الأصْمَعِيُّ في النَّحْسِ بِمَعْنى البَرْدِ: ؎كَأنَّ سُلافَةً عَرَضَتْ بِنَحْسٍ ∗∗∗ يَخِيلُ شَقِيقُها الماءَ الزُّلالا وقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأنَّها ذاتُ غُبارٍ، ومِنهُ قَوْلُ الرّاجِزِ: ؎قَدْ أغْتَدِي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ∗∗∗ لِلصَّيْدِ في يَوْمٍ قَلِيلِ النَّحْسِ يُرِيدُ: قَلِيلِ الغُبارِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: مُتَتابِعاتٍ كانَتْ آخِرَ شَوّالٍ مِن أرْبِعاءَ إلى أرْبِعاءَ. وقالَ السُّدِّيُّ: أوَّلُها غَداةَ يَوْمِ الأحَدِ. وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: يَوْمُ الجُمْعَةِ. وقالَ يَحْيى بْنُ سَلامٍ: يَوْمُ الأحَدِ. ﴿لِنُذِيقَهم عَذابَ الخِزْيِ في الحَياةِ الدُّنْيا﴾: وهو الهَلاكُ. وقُرِئَ: (لِتُذِيقَهم) بِالتّاءِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلى الإذاقَةِ لِلرِّيحِ، أوْ لِلْأيّامِ النَّحِساتِ. وأضافَ العَذابَ إلى الخِزْيِ إضافَةَ المَوْصُوفِ إلى صِفَتِهِ لَمْ يَأْتِ بِلَفْظَةِ أُخْرى الَّتِي تَقْتَضِي المُشارَكَةَ والتَّفْصِيلَ خَبَرًا عَنْ قَوْلِهِ: ﴿ولَعَذابُ الآخِرَةِ﴾، وهو إسْنادٌ مَجازِيٌّ، أوْ وصْفُ العَذابِ بِالخِزْيِ أبْلَغُ مِن وصْفِهِمْ بِهِ. ألا تَرى تَفاوُتَ ما بَيْنَ قَوْلِكِ: هو شاعِرٌ، وقَوْلِهِ: لَهُ شِعْرُ شاعِرٍ ؟ وقابَلَ اسْتِكْبارَهم بِعَذابِ الخِزْيِ، وهو الذُّلُّ والهَوانُ. وبَدَأ بِقِصَّةِ عادٍ؛ لِأنَّها أقْدَمُ زَمانًا، ثُمَّ ذَكَرَ ثَمُودَ فَقالَ: ﴿وأمّا ثَمُودُ﴾ . وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِالرَّفْعِ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ؛ وابْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ، وبَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ: مَصْرُوفًا، وهي قِراءَةُ ابْنِ وثّابٍ، والأعْمَشُ في (ثَمُودٌ) بِالتَّنْوِينِ في جَمِيعِ القُرْآنِ إلّا قَوْلَهُ: ﴿وآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ﴾ [الإسراء: ٥٩]، لِأنَّهُ في المُصْحَفِ بِغَيْرِ ألِفٍ. وقُرِئَ: (ثَمُودَ) بِالنَّصْبِ مَمَنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ، والحَسَنُ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، والأعْمَشُ: (ثَمُودًا) مُنَوَّنَةً مَنصُوبَةً. ورَوى المُفَضَّلُ عَنْ عاصِمٍ الوَجْهَيْنِ. انْتَهى. ﴿فَهَدَيْناهُمْ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، والسُّدِّيُّ، وابْنُ زَيْدٍ: بَيَّنّا لَهم. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَيْسَ الهُدى هُنا بِمَعْنى الإرْشادِ. وقالَ الفَرّاءُ، وتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿فَهَدَيْناهُمْ﴾: فَدَلَلْناهم عَلى طَرِيقِ الضَّلالَةِ والرُّشْدِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: ١٠] . ﴿فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾: فاخْتارُوا الدُّخُولَ في الضَّلالَةِ عَلى الدُّخُولِ في الرُّشْدِ. (فَإنْ قُلْتَ): ألَيْسَ مَعْنى هَدَيْتُهُ: حَصَلَتْ فِيهِ الهُدى، الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُكَ: هَدَيْتُهُ فاهْتَدى بِمَعْنى تَحْصِيلِ البُغْيَةِ وحُصُولِها ؟ كَما تَقُولُ: رَدَعْتُهُ فارْتَدَعَ، فَكَيْفَ ساغَ اسْتِعْمالُهُ في الدَّلالَةِ المُجَرَّدَةِ ؟ . (قُلْتُ): لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ مَكَّنَهم وأزاحَ عِلَلَهم، ولَمْ يَبْقَ لَهم عُذْرٌ ولا عِلَّةٌ، فَكَأنَّهُ حَصَّلَ البُغْيَةَ فِيهِمْ بِتَحْصِيلِ ما يُوجِبُها ويَقْتَضِيها. انْتَهى، وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ. وقالَ سُفْيانُ: دَعَوْناهم. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: أعْلَمْناهُمُ الهُدى مِنَ الضَّلالِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿فاسْتَحَبُّوا﴾ عِبارَةٌ عَنْ تَكَسُّبِهِمْ في العَمى، وإلّا فَهو بِالِاخْتِراعِ لِلَّهِ، ويَدُلُّكُ عَلى أنَّها إشارَةٌ إلى تَكَسُّبِهِمْ قَوْلُهُ: ﴿بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ . انْتَهى. و(الهُونِ): الهَوانُ، وُصِفَ العَذابُ بِالمَصْدَرِ أوْ أُبَدِلَ مِنهُ. وقَرَأ ابْنُ مِقْسَمٍ: (عَذابُ الهَوانِ)، بِفَتْحِ الهاءِ وألْفٍ بَعْدَ الواوِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولَوْ لَمْ يَكُنْ في القُرْآنِ حُجَّةٌ عَلى القَدَرِيَّةِ الَّذِينَ هم مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ بِشَهادَةِ نَبِيِّها وكَفى بِهِ شاهِدًا إلّا هَذِهِ، لَكَفى بِها حُجَّةً. انْتَهى، عَلى عادَتِهِ في سَبِّ أهْلِ السُّنَّةِ. ثُمَّ ذَكَّرَ قُرَيْشًا بِنَجاةِ مَن آمَنَ واتَّقى. قِيلَ: وكانَ مَن نَجا مِنَ المُؤْمِنِينَ مِمَّنِ اسْتَجابَ، هُودٌ وصالِحٌ مِائَةٌ وعَشَرَةُ أنْفُسٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب