الباحث القرآني

(p-٤٧١)﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الهُدى وأوْرَثْنا بَنِي إسْرائِيلَ الكِتابَ﴾ ﴿هُدًى وذِكْرى لِأُولِي الألْبابِ﴾ ﴿فاصْبِرْ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ والإبْكارِ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ في آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أتاهم إنْ في صُدُورِهِمْ إلّا كِبْرٌ ما هم بِبالِغِيهِ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ﴿لَخَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ أكْبَرُ مِن خَلْقِ النّاسِ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وما يَسْتَوِي الأعْمى والبَصِيرُ والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ولا المُسِيءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ﴾ ﴿إنَّ السّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكم إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ﴾ ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ والنَّهارَ مُبْصِرًا إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلى النّاسِ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾ ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إلَهَ إلّا هو فَأنّى تُؤْفَكُونَ﴾ ﴿كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرارًا والسَّماءَ بِناءً وصَوَّرَكم فَأحْسَنَ صُوَرَكم ورَزَقَكم مِنَ الطَّيِّباتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ ﴿هُوَ الحَيُّ لا إلَهَ إلّا هو فادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ . ولَمّا ذَكَرَ ما حَلَّ بِآلِ فِرْعَوْنَ، واسْتَطْرَدَ مِن ذَلِكَ إلى ذِكْرِ شَيْءٍ مِن أحْوالِ الكُفّارِ في الآخِرَةِ، عادَ إلى ذِكْرِ ما مَنَحَ رَسُولَهُ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَقالَ: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الهُدى﴾ تَأْنِيسًا لِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، وتَذْكِيرًا لِما كانَتِ العَرَبُ تَعْرِفُهُ مِن قِصَّةِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - . والهُدى، يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الدَّلائِلَ الَّتِي أوْرَدَها عَلى فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ، وأنْ يَكُونَ النُّبُوَّةَ، وأنْ يَكُونَ التَّوْراةَ. ﴿وأوْرَثْنا بَنِي إسْرائِيلَ الكِتابَ﴾: الظّاهِرُ أنَّهُ التَّوْراةُ، تَوارَثُوها خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الكِتابُ أُرِيدَ بِهِ ما أُنْزِلَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ مِن كُتُبِ أنْبِيائِهِمْ، كالتَّوْراةِ والزَّبُورِ والإنْجِيلِ، (هُدًى) ودَلالَةً عَلى الشَّيْءِ المَطْلُوبِ، (وذِكْرى) لِما كانَ مَنسِيًّا فَذَكَّرَ بِهِ تَعالى في كُتُبِهِ. وانْتَصَبَ ﴿هُدًى وذِكْرى﴾ عَلى أنَّهُما مَفْعُولانِ لَهُ، أوْ عَلى أنَّهُما مَصْدَرانِ في مَوْضِعِ الحالِ. ثُمَّ أمَرَ تَعالى نَبِيَّهُ بِالصَّبْرِ فَقالَ: ﴿فاصْبِرْ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾، مِن قَوْلِهِ: ﴿إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا﴾ [غافر: ٥١]، فَلا بُدَّ مِن نَصْرِكَ عَلى أعْدائِكَ. وقالَ الكَلْبِيُّ: نُسِخَ هَذا بِآيَةِ السَّيْفِ. ﴿واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَبْلَ إعْلامِ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ أنَّهُ غَفَرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأخَّرَ؛ لِأنَّ آيَةَ هَذِهِ السُّورَةِ مَكِّيَّةٌ، وآيَةَ سُورَةِ الفَتْحِ مَدَنِيَّةٌ مُتَأخِّرَةٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لَهُ في هَذِهِ الآيَةِ، والمُرادُ أنَّهُ إذا أمَرَ هو بِهَذا فَغَيْرُهُ أحْرى بِامْتِثالِهِ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: مَحْمُولٌ عَلى التَّوْبَةِ مِن تَرْكِ الأفْضَلِ والأوْلى. وقِيلَ: المَقْصُودُ مِنهُ مَحْضُ تَعَبُّدٍ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿رَبَّنا وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ﴾ [آل عمران: ١٩٤]، فَإنَّ إيتاءَ ذَلِكَ الشَّيْءِ واجِبٌ، ثُمَّ إنَّهُ أمَرَنا بِطَلَبِهِ. وقِيلَ: ﴿لِذَنْبِكَ﴾: لِذَنْبِ أُمَّتِكَ في حَقِّكَ. قِيلَ: فَأضافَ المَصْدَرَ لِلْمَفْعُولِ، ثُمَّ أمَرَهُ بِتَنْزِيهِهِ تَعالى في هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ اللَّذَيْنِ النّاسُ مُشْتَغِلُونَ فِيهِما بِمَصالِحِهِمُ المُهِمَّةِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ سائِرُ الأوْقاتِ، وعَبَّرَ بِالظَّرْفَيْنِ عَنْ ذَلِكَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أرادَ بِذَلِكَ الصَّلَواتِ الخَمْسَ. وقالَ قَتادَةُ: صَلاةُ الغَداةِ، وصَلاةُ العَصْرِ. وقالَ الحَسَنُ: رَكْعَتانِ قَبْلَ أنْ تُفْرَضَ الصَّلاةُ. وعَنْهُ أيْضًا: صَلاةُ العَصْرِ، وصَلاةُ الصُّبْحِ. والظّاهِرُ أنَّ المُجادِلِينَ في آياتِ اللَّهِ، وهي دَلائِلُهُ الَّتِي نَصَبَها عَلى تَوْحِيدِهِ وكُتُبُهُ المُنَزَّلَةُ، وما أظْهَرَ عَلى يَدِ أنْبِيائِهِ مِنَ الخَوارِقِ، هم كُفّارُ قُرَيْشٍ والعَرَبِ. ﴿بِغَيْرِ سُلْطانٍ﴾ أيْ: حُجَّةٍ وبُرْهانٍ. ﴿إنْ في صُدُورِهِمْ إلّا كِبْرٌ﴾ أيْ: تَكَبُّرٌ وتَعاظُمٌ، وهو إرادَةُ التَّقَدُّمِ والرِّياسَةِ، وذَلِكَ هو الحامِلُ عَلى جِدالِهِمْ بِالباطِلِ، ودَفْعِهِمْ ما يَجِبُ لَكَ مِن تَقَدُّمِكَ عَلَيْهِمْ، لِما مَنَحَكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وكَلَّفَكَ مِن أعْباءِ الرِّسالَةِ. ﴿ما هم بِبالِغِيهِ﴾ أيْ: بِبالِغِي مُوجِبِ الكِبْرِ ومُقْتَضِيهِ مِن رِياسَتِهِمْ وتَقَدُّمِهِمْ، وفي ذَلِكَ إشارَةٌ إلى أنَّهم لا يَرْأسُونَ، ولا يَحْصُلُ لَهم ما يُؤَمِّلُونَهُ. وقالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى عَلى تَكْذِيبِكَ إلّا ما في صُدُورِهِمْ مِنَ الكِبْرِ عَلَيْكَ، وما هم بِبالِغِي مُقْتَضِي ذَلِكَ الكِبْرِ، لِأنَّ اللَّهَ أذَلَّهم (p-٤٧٢)وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْدِيرُهُ مُبالِغِي إرادَتِهِمْ فِيهِ. وقالَ مُقاتِلٌ: هي في اليَهُودِ. قالَ مُقاتِلٌ: عَظَّمَتِ اليَهُودُ الدَّجّالَ، وقالُوا: إنَّ صاحِبَنا يُبْعَثُ في آخِرِ الزَّمانِ ولَهُ سُلْطانٌ، فَقالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ في آياتِ اللَّهِ﴾؛ لِأنَّ الدَّجّالَ مِن آياتِهِ، ﴿بِغَيْرِ سُلْطانٍ﴾ أيْ: حُجَّةٍ، ﴿فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ مِن فِتْنَةِ الدَّجّالِ. والمُرادُ بِـ ﴿خَلْقِ النّاسِ﴾ الدَّجّالُ، وإلى هَذا ذَهَبَ أبُو العالِيَةِ، وهَذا القَوْلُ أصَحُّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقِيلَ المُجادِلُونَ هُمُ اليَهُودُ، وكانُوا يَقُولُونَ: يَخْرُجُ صاحِبُنا المَسِيحُ بْنُ داوُدَ، يُرِيدُونَ الدَّجّالَ، ويَبْلُغُ سُلْطانُهُ البَرَّ والبَحْرَ، وتَسِيرُ مَعَهُ الأنْهارُ، وهو آيَةٌ مِن آياتِ اللَّهِ، فَيَرْجِعُ إلَيْنا المُلْكُ، فَسَمّى اللَّهَ تَمَنِّيَهم ذَلِكَ كِبْرًا، ونَفى أنْ يَبْلُغُوا مُتَمَنّاهم. انْتَهى. وكانَ رَئِيسُ اليَهُودِ في زَمانِهِ في مِصْرَ مُوسى بْنُ مَيْمُونٍ الأنْدَلُسِيُّ القُرْطُبِيُّ قَدْ كَتَبَ رِسالَتَهُ إلى يَهُودِ اليَمَنِ أنَّ صاحِبَهم يَظْهَرُ في سَنَةِ كَذا وخَمْسِمِائَةٍ، وكَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ. جاءَتْ تِلْكَ السَّنَةُ وسُنُونَ بَعْدَها كَثِيرَةٌ ولَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِمّا قالَهُ، لَعَنَهُ اللَّهُ. وكانَ هَذا اليَهُودِيُّ قَدْ أظْهَرَ الإسْلامَ، حَتّى اسْتَسْلَمَ اليَهُودُ بَعْضُ مُلُوكِ المَغْرِبِ، ورَجُلٌ مِنَ الأنْدَلُسِ. فَيُذْكَرُ أنَّهُ صَلّى بِالنّاسِ التَّراوِيحَ وهم عَلى ظَهْرِ السَّفِينَةِ في رَمَضانَ، إذْ كانَ يَحْفَظُ القُرْآنَ. فَلَمّا قَدِمَ مِصْرَ، وكانَ ذَلِكَ في دَوْلَةِ العُبَيْدِيِّينَ، وهم لا يَتَقَيَّدُونَ بِشَرِيعَةٍ، رَجَعَ إلى اليَهُودِيَّةِ وأخْبَرَ أنَّهُ كانَ مُكْرَهًا عَلى الإسْلامِ، فَقُبِلَ مِنهُ ذَلِكَ، وصَنَّفَ لَهم تَصانِيفَ، ومِنها: (كِتابُ دَلالَةِ الحائِرِينَ)، وإنَّما اسْتَفادَ ما اسْتَفادَ مِن مُخالَطَةِ عُلَماءِ الأنْدَلُسِ وتَوَدُّدِهِ لَهم، والرِّياسَةُ إلى الآنَ بِمِصْرَ لِلْيَهُودِ في كُلِّ مَن كانَ مِن ذُرِّيَّتِهِ. ﴿فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ أيِ: التَجِئْ إلَيْهِ مِن كَيْدِ مَن يَحْسُدُكَ. ﴿إنَّهُ هو السَّمِيعُ﴾ لِما تَقُولُ ويَقُولُونَ، ﴿البَصِيرُ﴾ بِما تَعْمَلُ ويَعْمَلُونَ، فَهو ناصِرُكَ عَلَيْهِمْ وعاصِمُكَ مِن شَرِّهِمْ. ثُمَّ نَبَّهَ تَعالى أنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يُجادَلَ في آياتِ اللَّهِ، ولا يَتَكَبَّرَ الإنْسانُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَخَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ أكْبَرُ مِن خَلْقِ النّاسِ﴾ أيْ: إنَّ المَخْلُوقاتِ أكْبَرُ وأجَلُّ مِن خَلْقِ البَشَرِ فَما لِأحَدٍ يُجادِلُ ويَتَكَبَّرُ عَلى خالِقِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مُجادَلَتُهم في آيَةِ اللَّهِ كانَ مُشْتَمِلًا عَلى إنْكارِ البَعْثِ وهو أصْلُ المُجادَلَةِ ومَدارُها فَحُجُّوا بِخَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ؛ لِأنَّهم كانُوا مُقِرِّينَ بِأنَّ اللَّهَ خَلَقَها وبِأنَّها خَلْقٌ عَظِيمٌ لا يُقادَرُ قَدْرُهُ، وخَلْقُ النّاسِ بِالقِياسِ إلَيْهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ مَهِينٌ مِمَّنْ قَدَرَ عَلى خَلْقِها مَعَ عِظَمِها كانَ عَلى خَلْقِ الإنْسانِ مَعَ مَهانَتِهِ أقْدَرُ وهو أبْلَغُ مِنَ الِاسْتِشْهادِ بِخَلْقِ مِثْلِهِ انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الكَلامُ في مَعْنى البَعْثِ والإعادَةِ، فَأعْلَمَ تَعالى أنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ قَوِيٌّ قادِرٌ عَلى خَلْقِ النّاسِ تارَةً أُخْرى، فالخَلْقُ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إلى المَفْعُولِ. وقالَ النَّقّاشُ: المَعْنى مِمّا يَخْلُقُ النّاسُ إذْ هم في الحَقِيقَةِ لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، فالخَلْقُ مُضافٌ لِلْفاعِلِ. ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾، أيْ لا يَتَأمَّلُونَ لِغَلَبَةِ الغَفْلَةِ عَلَيْهِمْ، ونَفْيُ العِلْمِ عَنِ الأكْثَرِ وتَخْصِيصُهُ بِهِ يَدُلُّ عَلى أنَّ القَلِيلَ يَعْلَمُ، ولِذَلِكَ ضَرَبَ مَثَلًا لِلْجاهِلِ بِالأعْمى، ولِلْعالِمِ بِالبَصِيرِ، وانْتِفاءُ الِاسْتِواءِ بَيْنَهُما هو مِنَ الجِهَةِ الدّالَّةِ عَلى العَمى وعَلى البَصَرِ وإلّا فَهُما مُسْتَوِيانِ في غَيْرِ ما شَيْءٍ، ولَمّا بَعُدَ، قَسَّمَ الَّذِينَ آمَنُوا بِطُولِ صِلَةِ المَوْصُولِ، كَرَّرَ لا تَوْكِيدًا، وقَدَّمَ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا﴾ لِمُجاوَرَةِ قَوْلِهِ: (والبَصِيرُ)، وهُما طَرِيقانِ، أحَدُهُما: أنْ يُجاوِرَ المُناسِبَ هَكَذا، والآخَرُ: أنْ يَتَقَدَّمَ ما يُقابِلُ الأوَّلَ ويُؤَخَّرُ ما يُقابِلُ الآخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما يَسْتَوِي الأعْمى والبَصِيرُ﴾ [فاطر: ١٩] ﴿ولا الظُّلُماتُ ولا النُّورُ﴾ [فاطر: ٢٠] ﴿ولا الظِّلُّ ولا الحَرُورُ﴾ [فاطر: ٢١]، وقَدْ يَتَأخَّرُ المُتَماثِلانِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَثَلُ الفَرِيقَيْنِ كالأعْمى والأصَمِّ والبَصِيرِ والسَّمِيعِ﴾ [هود: ٢٤]، وكُلُّ ذَلِكَ تَفَنُّنٌ في البَلاغَةِ وأسالِيبِ الكَلامِ. ولَمّا كانَ قَدْ تَقَدَّمَ: ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾، فَكانَ ذَلِكَ صِفَةَ ذَمٍّ ناسَبَ أنْ يَبْدَأ في ذِكْرِ التَّساوِي بِصِفَةِ الذَّمِّ، فَبَدَأ بِالأعْمى. وقَرَأ قَتادَةُ، وطَلْحَةُ، وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وعِيسى، والكُوفِيُّونَ: (تَتَذَكَّرُونَ) بِتاءِ الخِطابِ؛ والجُمْهُورُ، والأعْرَجُ، والحَسَنُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ: (p-٤٧٣)بِالياءِ عَلى الغَيْبَةِ. ثُمَّ أخْبَرَ بِما يَدُلُّ عَلى البَعْثِ مِن إتْيانِ السّاعَةِ، وأنَّهُ لا رَيْبَ في وُقُوعِها، وهو يَوْمُ القِيامَةِ، حَيْثُ الحِسابُ وافْتِراقُ الجَمْعِ إلى الجَنَّةِ طائِعُهم، وإلى النّارِ كافِرُهم ومَن أرادَ اللَّهُ تَعْذِيبَهُ مِنَ العُصاةِ بِغَيْرِ الكُفْرِ. والظّاهِرُ حَمْلُ الدُّعاءِ والِاسْتِجابَةِ عَلى ظاهِرِهِما، إلّا أنَّ الِاسْتِجابَةَ مُقَيَّدَةٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ. قالَ السُّدِّيُّ: اسْألُونِي أُعْطِكم؛ وقالَ الضَّحّاكُ: أطِيعُونِي آتِكم؛ وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنهم مُجاهِدٌ: ادْعُونِي، اعْبُدُونِي وأسْتَجِبْ لَكم، آتِيكم عَلى العِبادَةِ. وكَثِيرًا جاءَ الدُّعاءُ في القُرْآنِ بِمَعْنى العِبادَةِ، ويُقَوِّي هَذا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي﴾ . وما رَوى النُّعْمانُ بْنُ بَشِيرٍ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «قالَ: ”الدُّعاءُ هو العِبادَةُ“»، وقَرَأ هَذِهِ الآيَةَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: (وحِّدُونِي أغْفِرْ لَكم)؛ وقِيلَ لِلثَّوْرِيِّ: ادْعُ اللَّهَ تَعالى، فَقالَ: إنَّ تَرْكَ الذُّنُوبِ هو الدُّعاءُ. وقالَ الحَسَنُ، وقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: اعْمَلُوا وأبْشِرُوا، فَإنَّهُ حَقٌّ عَلى اللَّهِ أنْ يَسْتَجِيبَ لِلَّذِينِ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ، ويُزِيدَهم مِن فَضْلِهِ. وقالَ أنَسٌ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لِيَسْألْ أحَدُكم رَبَّهُ حاجَتَهُ كُلَّها حَتّى شِسْعَ نَعْلِهِ» . ﴿إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي﴾ أيْ: عَنْ دُعائِي. وقَرَأ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ، والحَسَنُ، وشَيْبَةُ: ﴿سَيَدْخُلُونَ﴾ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ؛ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ؛ واخْتُلِفَ عَنْ عاصِمٍ وأبِي عَمْرٍو. ﴿داخِرِينَ﴾: ذَلِيلِينِ. ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ والنَّهارَ مُبْصِرًا﴾: تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مِثْلِ هَذِهِ الجُمْلَةِ في سُورَةِ يُونُسَ. و﴿لَذُو فَضْلٍ﴾: أبْلَغُ مِن: لَمُفَضَّلٍ أوْ لَمُتَفَضِّلٍ، كَما قالَ: (﴿لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ﴾ [يوسف: ٦٨] ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِن سَعَتِهِ﴾ [الطلاق: ٧]، ( واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ)، لِما يُؤَدِّي إلَيْهِ مِن كَوْنِهِ صاحِبَهُ ومُتَمَكِّنًا مِنهُ، بِخِلافِ أنْ يُؤْتى بِالصِّفَةِ، فَإنَّهُ قَدْ يَدُلُّ عَلى غَيْرِ اللَّهِ بِالِاتِّصافِ بِهِ في وقْتٍ ما، لا دائِمًا، وذَكَرَ عُمُومَ فَضْلِهِ وسَوَّغَهُ عَلى النّاسِ، ثُمَّ قالَ: ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ﴾، فَأتى بِهِ ظاهِرًا، ولَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ: ولَكِنَّ أكْثَرَهم. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: في هَذا التَّكْرِيرِ تَخْصِيصٌ لِكُفْرانِ النِّعْمَةِ بِهِمْ، وأنَّهم هُمُ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ فَضْلَ اللَّهِ ولا يَشْكُرُونَهُ، كَقَوْلِهِ: (إنَّ الإنْسانَ لَكَفُورٌ)، ﴿إنَّ الإنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات: ٦]، ﴿إنَّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ﴾ [إبراهيم: ٣٤] . انْتَهى. (ذَلِكُمُ) أيِ: المَخْصُوصُ بِتِلْكَ الصِّفاتِ المُتَمَيِّزُ بِها مِنَ اسْتَجابَتِهِ لِدُعائِكم، ومِن جَعْلِ اللَّيْلِ والنَّهارِ كَما ذَكَرَ، ومِن تَفَضُّلِهِ عَلَيْكم. ﴿اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾: الجامِعُ لِهَذِهِ الأوْصافِ مِنَ الإلَهِيَّةِ والرُّبُوبِيَّةِ، وإنْشاءِ الأشْياءِ والوَحْدانِيَّةِ. فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ عِبادَةِ مَن هَذِهِ أوْصافُهُ إلى عِبادَةِ الأوْثانِ ؟ وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (خالِقَ) بِنَصْبِ القافِ، وطَلْحَةُ في رِوايَةٍ: (يُؤْفَكُونَ) بِياءِ الغَيْبَةِ، والجُمْهُورُ: بِضَمِّ القافِ وتاءِ الخِطابِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (خالِقَ) نَصْبًا عَلى الِاخْتِصاصِ (كَذَلِكَ)، أيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الصَّرْفِ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَ الجاحِدِينَ بِآياتِ اللَّهِ مِنَ الأُمَمِ عَلى طَرِيقِ الهُدى. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى ما امْتَنَّ بِهِ مِنَ اللَّيْلِ والنَّهارِ، ذَكَرَ أيْضًا ما امْتَنَّ بِهِ مِن جَعْلِ الأرْضِ مُسْتَقَرًّا والسَّماءِ بِناءً، أيْ: قُبَّةً، ومِنهُ أبْنِيَةُ العَرَبِ لِمَضارِبِهِمْ؛ لِأنَّ السَّماءَ في مَنظَرِ العَيْنِ كَقُبَّةٍ مَضْرُوبَةٍ عَلى وجْهِ الأرْضِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿صُوَرَكُمْ﴾ بِضَمِّ الصّادِ، والأعْمَشُ، وأبُو رُزَيْنٍ: بِكَسْرِها فِرارًا مِنَ الضَّمَّةِ قَبْلَ الواوِ اسْتِثْقالًا، وجَمْعُ فُعْلَةٍ بِضَمِّ الفاءِ عَلى فِعَلٍ بِكَسْرِها شاذٌّ، وقالُوا (قُوَّةٌ) وقِوًى بِكَسْرِ القافِ عَلى الشُّذُوذِ أيْضًا قِيلَ: لَمْ يَخْلُقْ حَيَوانًا أحْسَنَ صُورَةً مِنَ الإنْسانِ. وقِيلَ: لَمْ يَخْلُقْهم مَنكُوسِينَ كالبَهائِمِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فِي أحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: ٤] . وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: (صُورَكم) بِضَمِّ الصّادِ وإسْكانِ الواوِ، عَلى نَحْوِ بُسْرَةٌ وبُسْرٌ. ﴿ورَزَقَكم مِنَ الطَّيِّباتِ﴾: امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِما يَقُومُ بِأوْدِ صُوَرِهِمْ، والطَّيِّباتُ المُسْتَلَذّاتُ طَعْمًا ولِباسًا ومَكاسِبَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَن قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَلْيَقُلْ عَلى أثَرِها: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ . وقالَ نَحْوَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ثُمَّ قَرَأ الآيَةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب