الباحث القرآني

﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ﴿إلى فِرْعَوْنَ وهامانَ وقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذّابٌ﴾ ﴿فَلَمّا جاءَهم بِالحَقِّ مِن عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ واسْتَحْيُوا نِساءَهم وما كَيْدُ الكافِرِينَ إلّا في ضَلالٍ﴾ ﴿وقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أقْتُلْ مُوسى ولْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أخافُ أنْ يُبَدِّلَ دِينَكم أوْ أنْ يُظْهِرَ في الأرْضِ الفَسادَ﴾ ﴿وقالَ مُوسى إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكم مِن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسابِ﴾ ﴿وقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِن آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانَهُ أتَقْتُلُونَ رَجُلًا أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جاءَكم بِالبَيِّناتِ مِن رَبِّكم وإنْ يَكُ كاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإنْ يَكُ صادِقًا يُصِبْكم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكم إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ﴾ ﴿يا قَوْم لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظاهِرِينَ في الأرْضِ فَمَن يَنْصُرُنا مِن بَأْسِ اللَّهِ إنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكم إلّا ما أرى وما أهْدِيكم إلّا سَبِيلَ الرَّشادِ﴾ . ابْتَدَأ تَعالى قِصَّةَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَعَ فِرْعَوْنَ تَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - ووَعِيدًا لِقُرَيْشٍ أنْ يَحِلَّ بِهِمْ ما حَلَّ بِفِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ مِن نِقْماتِ اللَّهِ، (p-٤٥٩)ووَعْدًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِالظَّفَرِ والنَّصْرِ وحُسْنِ العاقِبَةِ. وآياتُ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - كَثِيرَةٌ، والَّذِي تَحَدّى بِهِ مِنَ المُعْجِزِ العَصا واليَدُ. وقَرَأ عِيسى: (وسُلُطانٍ) بِضَمِّ اللّامِ، والسُّلْطانُ المُبِينُ: الحُجَّةُ والبُرْهانُ الواضِحُ. والظّاهِرُ أنَّ قارُونَ هو الَّذِي ذَكَرَهُ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ قارُونَ كانَ مِن قَوْمِ مُوسى﴾ [القصص: ٧٦]، وهو مِن بَنِي إسْرائِيلَ. وقِيلَ: هو غَيْرُهُ، ونَصَّ عَلى هامانَ وقارُونَ لِمَكانَتِهِما في الكُفْرِ، ولِأنَّهُما أشْهَرُ أتْباعِ فِرْعَوْنَ. ﴿فَقالُوا ساحِرٌ كَذّابٌ﴾ أيْ: هَذا ساحِرٌ، لِما ظَهَرَ عَلى يَدَيْهِ مِن قَلْبِ العَصا حَيَّةً، وظُهُورِ النُّورِ السّاطِعِ عَلى يَدِهِ، كَذّابٌ لِكَوْنِهِ ادَّعى أنَّهُ رَسُولٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ. ﴿فَلَمّا جاءَهم بِالحَقِّ مِن عِنْدِنا﴾ أيْ: بِالمُعْجِزاتِ والنُّبُوَّةِ والدُّعاءِ إلى الإيمانِ بِاللَّهِ، (قالُوا)، أيْ: أُولَئِكَ الثَّلاثَةُ، (اقْتُلُوا) . قالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْ: أعِيدُوا عَلَيْهِمُ القَتْلَ كالَّذِي كانَ أوَّلًا. انْتَهى. يُرِيدُ أنَّ هَذا غَيْرُ القَتْلِ الأوَّلِ، وإنَّما أُمِرُوا بِقَتْلِ أبْناءِ المُؤْمِنِينَ لِئَلّا يَتَقَوّى بِهِمْ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -، وبِاسْتِحْياءِ النِّساءِ لِلِاسْتِخْدامِ والِاسْتِرْقاقِ، ولَمْ يَقَعْ ما أمَرُوا بِهِ ولا تَمَّ لَهم، ولا أعانَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ. ﴿وما كَيْدُ الكافِرِينَ إلّا في ضَلالٍ﴾ أيْ: في حَيْرَةٍ وتَخَبُّطٍ، لَمْ يَقَعْ مِنهُ شَيْءٌ، ولا أنْجَحَ سَعْيَهَمْ، وكانُوا باشَرُوا القَتْلَ أوَّلًا، فَنَفَذَ قَضاءُ اللَّهِ في إظْهارِ مَن خافُوا هَلاكَهم عَلى يَدَيْهِ. وقِيلَ: كانَ فِرْعَوْنُ قَدْ كَفَّ عَنْ قَتْلِ الأبْناءِ، فَلَمّا بُعِثَ مُوسى، وأحَسَّ أنَّهُ قَدْ وقَعَ ما كانَ يَحْذَرُهُ، أعادَ القَتْلَ عَلَيْهِمْ غَيْظًا وحِنْقًا وظَنًّا مِنهُ أنَّهُ يَصُدُّهم بِذَلِكَ عَنْ مُظاهَرَةِ مُوسى، وما عَلِمَ أنَّ كَيْدَهُ ضائِعٌ في الكَرَّتَيْنِ مَعًا. ﴿وقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أقْتُلْ مُوسى ولْيَدْعُ رَبَّهُ﴾، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْضُهُ مِن كَلامِ الحَسَنِ، كانَ إذا هَمَّ بِقَتْلِهِ كَفُّوهُ بِقَوْلِهِمْ: لَيْسَ بِالَّذِي تَخافُهُ، هو أقَلُّ مِن ذَلِكَ وأضْعَفُ، وما هو إلّا بَعْضُ السَّحَرَةِ، ومِثْلُهُ لا يُقاوِمُهُ إلّا ساحِرٌ مِثْلُهُ، ويَقُولُونَ: إنْ قَتَلْتَهُ أدْخَلْتَ الشُّبْهَةَ عَلى النّاسِ، واعْتَقَدُوا أنَّكَ عَجَزْتَ عَنْ مُظاهَرَتِهِ بِالحُجَّةِ. والظّاهِرُ أنَّ فِرْعَوْنَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - كانَ قَدِ اسْتَيْقَنَ أنَّهُ نَبِيٌّ، وأنَّ ما جاءَ بِهِ آياتٌ وما هو سِحْرٌ، ولَكِنَّ الرَّجُلَ كانَ فِيهِ خُبْثٌ وجَبَرُوتٌ، وكانَ قَتّالًا سَفّاكًا لِلدِّماءِ في أهْوَنِ شَيْءٍ، فَكَيْفَ لا يَقْتُلُ مَن أحَسَّ مِنهُ بِأنَّهُ هو الَّذِي يَثُلُّ عَرْشَهُ، ويَهْدِمُ مُلْكَهُ ؟ ولَكِنَّهُ يَخافُ إنْ هَمَّ بِقَتْلِهِ أنْ يُعاجَلَ بِالهَلاكِ. وقَوْلُهُ: ﴿ولْيَدْعُ رَبَّهُ﴾: شاهِدُ صِدْقٍ عَلى فَرْطِ خَوْفِهِ مِنهُ ومِن دَعْوَتِهِ رَبَّهُ، كانَ قَوْلُهُ: ﴿ذَرُونِي أقْتُلْ مُوسى﴾ تَمْوِيهًا عَلى قَوْمِهِ وإيهامًا أنَّهم هُمُ الَّذِينَ يَكُفُّونَهُ، وما كانَ يَكُفُّهُ إلّا ما في نَفْسِهِ مِن هَوْلِ الفَزَعِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الظّاهِرُ مِن أمْرِ فِرْعَوْنَ أنَّهُ لَمّا بَهَرَتْ آياتُ مُوسى انْهَدَّ رُكْنُهُ واضْطَرَبَتْ مُعْتَقَداتُ أصْحابِهِ، ولَمْ يَفْقِدْ مِنهم مَن يُجاذِبُهُ الخِلافَ في أمْرِهِ، وذَلِكَ بَيِّنٌ مِن غَيْرِ ما مَوْضِعٍ في قِصَّتِهِما، وفي ذَلِكَ عَلى هَذا دَلِيلانِ: أحَدُهُما: قَوْلُهُ ﴿ذَرُونِي﴾، فَلَيْسَتْ هَذِهِ مِن ألْفاظِ الجَبابِرَةِ المُتَمَكِّنِينَ مِن إنْفاذِ أوامِرِهِمْ. الدَّلِيلُ الثّانِي: في مَقالَةِ المُؤْمِنِ وما صَدَعَ بِهِ، وأنَّ مُكاشَفَتَهُ لِفِرْعَوْنَ خَيْرٌ مِن مُساتَرَتِهِ، وحُكْمَهُ بِنُبُوَّةِ مُوسى أظْهَرُ مِن تَقْرِيبِهِ في أمْرِهِ. وأمّا فِرْعَوْنُ، فَإنَّهُ نَحا إلى المَخْرَقَةِ والِاضْطِرابِ والتَّعاطِي، ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ذَرُونِي أقْتُلْ مُوسى ولْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ أيْ: إنِّي لا أُبالِي مِن رَبِّ مُوسى، ثُمَّ رَجَعَ إلى قَوْمِهِ يُرِيهِمُ النَّصِيحَةَ والخِيانَةَ لَهم، فَقالَ: ﴿إنِّي أخافُ أنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ﴾، والدِّينُ: السُّلْطانُ، ومِنهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: ؎لَئِنْ حَلَلْتَ بِجَوٍّ في بَنِي أسَدٍ في دِينِ عَمْرٍو وحالَتْ بَيْنَنا فَدَكُ انْتَهى. وتَبْدِيلُ دِينِهِمْ هو تَغْيِيرُهُ، وكانُوا يَعْبُدُونَهُ ويَعْبُدُونَ الأصْنامَ، كَما قالَ: ﴿ويَذَرَكَ وآلِهَتَكَ﴾ [الأعراف: ١٢٧]، ﴿أوْ أنْ يُظْهِرَ في الأرْضِ الفَسادَ﴾ وذَلِكَ بِالتَّهارُجِ الَّذِي يَذْهَبُ مَعَهُ الأمْنُ، وتَتَعَطَّلُ المَزارِعُ والمَكاسِبُ، ويَهْلَكُ النّاسُ قَتْلًا وضَياعًا، فَأخافُ فَسادَ دِينِكم ودُنْياكم مَعًا. وبَدَأ فِرْعَوْنُ بِخَوْفِهِ تَغْيِيرَ دِينِهِمْ عَلى تَغْيِيرِ دُنْياهم؛ لِأنَّ حُبَّهَمْ لِأدْيانِهِمْ فَوْقَ حُبِّهِمْ لِأمْوالِهِمْ. وقِيلَ: ﴿ذَرُونِي﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا يَمْنَعُونَهُ مِن قَتْلِهِ، إمّا لِكَوْنِ بَعْضِهِمْ كانَ مُصَدِّقًا لَهُ فَيَتَحَيَّلُ في مَنعِ قَتْلِهِ، وإمّا لِما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ مِمّا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وإمّا لِشَغْلِ (p-٤٦٠)قَلْبِ فِرْعَوْنَ بِمُوسى حَتّى لا يَتَفَرَّغَ لَهم، ويَأْمَنُوا مِن شَرِّهِ؛ كَما يَفْعَلُونَ مَعَ المَلِكِ إذا خَرَجَ عَلَيْهِ خارِجِيٌّ شَغَلُوهُ بِهِ حَتّى يَأْمَنُوا مِن شَرِّهِ. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ: (أوْ أنْ)، بِتَرْدِيدِ الخَوْفِ بَيْنَ تَبْدِيلِ الدِّينِ أوْ ظُهُورِ الفَسادِ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: (وأنْ) بِانْتِصابِ الخَوْفِ عَلَيْهِما مَعًا. وقَرَأ أنَسُ بْنُ مالِكٍ، وابْنُ المُسَيَّبِ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وأبُو رَجاءٍ، والحَسَنُ، والجَحْدَرِيُّ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وحَفْصٌ: (يُظْهِرَ) مِن أظْهَرَ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، (الفَسادَ): نَصْبًا. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ، والأعْرَجُ، والأعْمَشُ، وابْنُ وثّابٍ، وعِيسى: (يَظْهَرُ) مِن ظَهَرَ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، (الفَسادُ): رَفْعًا. وقَرَأ مُجاهِدٌ: (يَظَّهَّرُ) بِشَدِّ الظّاءِ والهاءِ، (الفَسادُ): رَفْعًا. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (يُظْهَرُ): بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الهاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، (الفَسادُ): رَفْعًا. ولَمّا سَمِعَ مُوسى بِمُقالَةِ فِرْعَوْنَ، اسْتَعاذَ بِاللَّهِ مِن شَرِّ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ مُنْكِرٍ لِلْمَعادِ. وقالَ: (ورَبِّكم): بَعْثًا عَلى الِاقْتِداءِ بِهِ، فَيَعُوذُونَ بِاللَّهِ ويَعْتَصِمُونَ بِهِ. و﴿مِن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ﴾ يَشْمَلُ فِرْعَوْنَ وغَيْرَهُ مِنَ الجَبابِرَةِ؛ وكانَ ذَلِكَ عَلى طَرِيقِ التَّعْرِيضِ، وكانَ أبْلَغَ. والتَّكَبُّرُ: تَعاظُمُ الإنْسانِ في نَفْسِهِ مَعَ حَقارَتِهِ؛ لِأنَّهُ يَفْعَلُ، و﴿لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسابِ﴾، أيْ: بِالجَزاءِ، وكانَ ذَلِكَ آكَدَ في جَراءَتِهِ، إذْ حَصَلَ لَهُ التَّعاظُمُ في نَفْسِهِ، وعَدَمُ المُبالاةِ بِما ارْتَكَبَ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: (عُذْتُ) بِالإدْغامِ؛ وباقِي السَّبْعَةِ: بِالإظْهارِ. ﴿وقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِن آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانَهُ﴾ قِيلَ: كانَ قِبْطِيًّا ابْنَ عَمِّ فِرْعَوْنَ، وكانَ يَجْرِي مَجْرى ولِيِّ العَهْدِ، ومَجْرى صاحِبِ الشُّرْطَةِ. وقِيلَ: كانَ قِبْطِيًّا لَيْسَ مِن قَرابَتِهِ. وقِيلَ: قِيلَ فِيهِ مِن آلِ فِرْعَوْنَ؛ لِأنَّهُ كانَ في الظّاهِرِ عَلى دِينِهِ ودِينِ أتْباعِهِ. وقِيلَ: كانَ إسْرائِيلِيًّا ولَيْسَ مِن آلِ فِرْعَوْنَ، وجَعَلَ آلَ فِرْعَوْنَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: ﴿يَكْتُمُ إيمانَهُ﴾، لا في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِرَجُلٍ، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ الظّاهِرُ، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ، إذْ لَمْ يَكُنْ لِأحَدٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ أنْ يَتَجاسَرَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ بِمِثْلِ ما تَكَلَّمَ بِهِ هَذا الرَّجُلُ. وقَدْ رُدَّ قَوْلُ مَن عَلَّقَ مِن آلِ فِرْعَوْنَ بِيَكْتُمُ، فَإنَّهُ لا يُقالُ: كَتَمْتُ مِن فُلانٍ كَذا، إنَّما يُقالُ: كَتَمْتُ فُلانًا كَذا، قالَ تَعالى: ﴿ولا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٤٢]، وقالَ الشّاعِرُ: ؎كَتَمْتُكَ لَيْلًا بِالجَمُومِينَ ساهِرًا ∗∗∗ وهَمَّيْنِ هَمًّا مُسْتَكِنًّا وظاهِرا ؎أحادِيثَ نَفْسٍ تَشْتَكِي ما يُرِيبُها ∗∗∗ ووِرْدَ هُمُومٍ لَنْ يَجِدْنَ مَصادِرا أيْ: كَتَمْتُكَ أحادِيثَ نَفْسٍ وهَمَّيْنِ. قِيلَ: واسْمُهُ سَمْعانُ. وقِيلَ: حَبِيبٌ. وقِيلَ: حِزْقِيلُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (رَجُلٌ) بِضَمِّ الجِيمِ. وقَرَأ عِيسى، وعَبْدُ الوارِثِ، وعُبَيْدُ بْنُ عُقَيْلٍ، وحَمْزَةُ بْنُ القاسِمِ عَنْ أبِي عَمْرٍو: بِسُكُونٍ، وهي لُغَةُ تَمِيمٍ ونَجْدٍ. ﴿أتَقْتُلُونَ رَجُلًا أنْ يَقُولَ﴾ أيْ: لِأنْ يَقُولَ ﴿رَبِّيَ اللَّهُ﴾، وهَذا إنْكارٌ مِنهُ عَظِيمٌ وتَبْكِيتٌ لَهم، كَأنَّهُ قالَ: أتَرْتَكِبُونَ الفِعْلَةَ الشَّنْعاءَ الَّتِي هي قَتْلُ نَفْسٍ مُحَرَّمَةٍ وما لَكم عَلَيْهِ في ارْتِكابِها إلّا كَلِمَةُ الحَقِّ الَّتِي نَطَقَ بِها، وهي قَوْلُهُ: ﴿رَبِّيَ اللَّهُ﴾، مَعَ أنَّهُ ﴿قَدْ جاءَكم بِالبَيِّناتِ مِن رَبِّكُمْ﴾ أيْ: مِن عِنْدِ مَن نَسَبَ إلَيْهِ الرُّبُوبِيَّةَ، وهو رَبُّكم لا رَبُّهُ وحْدَهُ ؟ وهَذا اسْتِدْراجٌ إلى الِاعْتِرافِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولَكَ أنْ تُقَدِّرَ مُضافًا مَحْذُوفًا، أيْ: وقْتَ أنْ يَقُولَ، والمَعْنى: أتَقْتُلُونَهُ ساعَةَ سَمِعْتُمْ مِنهُ هَذا القَوْلَ مِن غَيْرِ رَوِيَّةٍ ولا فِكْرٍ في أمْرِهِ ؟ انْتَهى. وهَذا الَّذِي أجازَهُ مِن تَقْدِيرِ المُضافِ المَحْذُوفِ الَّذِي هو وقْتٌ لا يَجُوزُ، تَقُولُ: جِئْتُ صِياحَ الدِّيكِ، أيْ: وقْتَ صِياحِ الدِّيكِ، ولا أجِيءُ أنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، نَصَّ عَلى ذَلِكَ النُّحاةُ، فَشَرْطُ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ المَصْدَرُ مُصَرَّحًا بِهِ لا مُقَدَّرًا، وأنْ يَقُولَ لَيْسَ مَصْدَرًا مُصَرَّحًا بِهِ. (بِالبَيِّناتِ): بِالدَّلائِلِ عَلى التَّوْحِيدِ، وهي الَّتِي ذَكَرَها في (طه، والشُّعَراءِ) حالَةَ مُحاوَرَتِهِ لَهُ في سُؤالِهِ عَنْ رَبِّهِ تَعالى. ولَمّا صَرَّحَ بِالإنْكارِ عَلَيْهِمْ، غالَطَهم بَعْدُ في أنَّ قَسَّمَ أمْرَهُ إلى كَذِبٍ وصِدْقٍ، وأدّى ذَلِكَ في صُورَةِ (p-٤٦١)احْتِمالٍ ونَصِيحَةٍ، وبَدَأ في التَّقْسِيمِ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنْ يَكُ كاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾، مُداراةً مِنهُ وسالِكًا طَرِيقَ الإنْصافِ في القَوْلِ، وخَوْفًا إذا أنْكَرَ عَلَيْهِمْ قَتْلَهُ أنَّهُ مِمَّنْ يُعاضِدُهُ ويُناصِرُهُ، فَأوْهَمَهم بِهَذا التَّقْسِيمِ والبَداءَةِ بِحالَةِ الكَذِبِ حَتّى يَسْلَمَ مِن شَرِّهِ، ويَكُونَ ذَلِكَ أدْنى لِتَسْلِيمِهِمْ. ومَعْنى ﴿فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾ أيْ: لا يَتَخَطّاهُ ضَرَرُهُ. ﴿وإنْ يَكُ صادِقًا يُصِبْكم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾، وهو يَعْتَقِدُ أنَّهُ نَبِيٌّ صادِقٌ قَطْعًا، لَكِنَّهُ أتى بِلَفْظِ (بَعْضُ) لِإلْزامِ الحُجَّةِ بِأسْرِها في الأمْرِ، ولَيْسَ فِيهِ نَفْيُ أنْ يُصِيبَهم كُلُّ ما يَعِدُهم. وقالَتْ فِرْقَةٌ: يُصِبْكم بَعْضُ العَذابِ الَّذِي يَذْكُرُ، وذَلِكَ كانَ في هَلاكِهِمْ، ويَكُونُ المَعْنى: يُصِبْكُمُ القَسَمُ الواحِدُ مِمّا يَعِدُ بِهِ، وذَلِكَ هو بَعْضٌ مِمّا يَعِدُ؛ لِأنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وعَدَهم إنْ آمَنُوا بِالنِّعْمَةِ، وإنْ كَفَرُوا بِالنِّقْمَةِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكم عَذابُ الدُّنْيا؛ لِأنَّهُ بَعْضُ عَذابِ الآخِرَةِ، ويَصِيرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إلى النّارِ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ: (بَعْضُ) بِمَعْنى كُلُّ، وأنْشَدُوا قَوْلَ عَمْرِو بْنِ شَسِيمٍ القَطامِيِّ: ؎قَدْ يُدْرِكُ المُتَأنِّي بَعْضَ حاجَتِهِ ∗∗∗ وقَدْ يَكُونُ مَعَ المُسْتَعْجَلِ الزَّلَلُ وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وذَلِكَ أنَّهُ حِينَ فَرَضَ صادِقًا، فَقَدْ أثْبَتَ أنَّهُ صادِقٌ في جَمِيعِ ما يَعِدُ، ولَكِنَّهُ أرْدَفَهُ ﴿يُصِبْكم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾، لِيَهْضِمَهُ بَعْضَ حَقِّهِ في ظاهِرِ الكَلامِ، فَيُرِيَهم أنَّهُ لَيْسَ بِكَلامِ مَن أعْطاهُ وافِيًا فَضْلًا أنْ يَتَعَصَّبَ لَهُ. (فَإنْ قُلْتَ): وعَنْ أبِي عُبَيْدَةَ أنَّهُ قَسَّمَ البَعْضَ بِالكُلِّ، وأنْشَدَ بَيْتَ لَبِيدٍ وهو: ؎تَرّاكُ أمْكِنَةٍ إذا لَمْ أرْضَها ∗∗∗ ويُرِيكَ مِن بَعْضِ النُّفُوسِ حِمامُها (قُلْتُ): إنْ صَحَّتِ الرِّوايَةُ عَنْهُ فَقَدْ حَقَّ في قَوْلِ المازِنِيِّ في مَسْألَةِ العافِيِ كانَ أحْفى مِن أنْ يَفْقَهَ ما أقُولُ لَهُ. انْتَهى، ويَعْنِي أنَّ أبا عُبَيْدَةَ خَطَّأهُ النّاسُ في اعْتِقادِهِ أنْ بَعْضًا يَكُونُ بِمَعْنى كُلٍّ، وأنْشَدُوا أيْضًا في كَوْنِ بَعْضٍ بِمَعْنى كُلٍّ قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎إنَّ الأُمُورَ إذا الأحْداثُ دَبَّرَها ∗∗∗ دُونَ الشُّيُوخِ تَرى في بَعْضِها خَلَلا أيْ: إذا رَأى الأحْداثَ، ولِذَلِكَ قالَ دَبَّرَها ولَمْ يَقُلْ دَبَّرُوها، راعى المُضافَ المَحْذُوفَ. ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ﴾ فِيهِ: إشارَةٌ إلى عُلُوِّ شَأْنِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وأنَّ مَنِ اصْطَفاهُ اللَّهُ لِلنُّبُوَّةِ لا يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ مِنهُ إسْرافٌ ولا كَذِبٌ، وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِفِرْعَوْنَ؛ إذْ هو غايَةُ الإسْرافِ عَلى نَفْسِهِ بِقَتْلِ أبْناءِ المُؤْمِنِينَ، وفي غايَةِ الكَذِبِ؛ إذِ ادَّعى الإلَهِيَّةَ والرُّبُوبِيَّةَ، ومَن هَذا شَأْنُهُ لا يَهْدِيهِ اللَّهُ. وفِي الحَدِيثِ: ”«الصِّدِّيقُونَ ثَلاثَةٌ: حَبِيبٌ النَّجّارُ مُؤْمِنُ آلِ يس، ومُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ“ . وفِي الحَدِيثِ: ”» أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - طافَ بِالبَيْتِ، فَحِينَ فَرَغَ أخَذَ بِمَجامِعِ رِدائِهِ، فَقالُوا لَهُ: أنْتَ الَّذِي تَنْهانا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ؟ فَقالَ: أنا ذاكَ، فَقامَ أبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فالتَزَمَهُ مِن ورائِهِ، وقالَ: أتَقْتُلُونَ رَجُلًا أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وقَدْ جاءَكم بِالبَيِّناتِ مِن رَبِّكم“، رافِعًا صَوْتَهُ بِذَلِكَ وعَيْناهُ تَسْفَحانِ بِالدُّمُوعِ حَتّى أرْسَلُوهُ. وعَنْ جَعْفَرٍ الصّادِقِ: أنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ قالَ ذَلِكَ سِرًّا، وأبُو بَكْرٍ قالَهُ ظاهِرًا. وقالَ السُّدِّيُّ: (مُسْرِفٌ) بِالقَتْلِ. وقالَ قَتادَةُ: (مُسْرِفٌ) بِالكُفْرِ. وقالَ صاحِبُ التَّحْرِيرِ والتَّحْبِيرِ: هَذا نَوْعٌ مِن أنْواعِ عِلْمِ البَيانِ تُسَمِّيهِ عُلَماؤُنا اسْتِدْراجَ المُخاطَبِ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا رَأى فِرْعَوْنَ قَدْ عَزَمَ عَلى قَتْلِ مُوسى، والقَوْمَ عَلى تَكْذِيبِهِ، أرادَ الِانْتِصارَ لَهُ بِطَرِيقٍ يُخْفِي عَلَيْهِمْ بِها أنَّهُ مُتَعَصِّبٌ لَهُ، وأنَّهُ مِن أتْباعِهِ، فَجاءَهم مِن طَرِيقِ النُّصْحِ والمُلاطَفَةِ فَقالَ: ﴿أتَقْتُلُونَ رَجُلًا أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾، ولَمْ يَذْكُرِ اسْمَهُ، بَلْ قالَ رَجُلًا يُوهِمُ أنَّهُ لا يَعْرِفُهُ ولا يَتَعَصَّبُ لَهُ، ﴿أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾، ولَمْ يَقُلْ رَجُلًا مُؤْمِنًا بِاللَّهِ، أوْ هو نَبِيُّ اللَّهِ؛ إذْ لَوْ قالَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ لَعَلِمُوا أنَّهُ مُتَعَصِّبٌ. ولَمْ يَقْبَلُوا قَوْلَهُ، ثُمَّ أتْبَعَهُ بِما بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَدَّمَ قَوْلَهُ: ﴿وإنْ يَكُ كاذِبًا﴾، مُوافَقَةً لِرَأْيِهِمْ فِيهِ. ثُمَّ تَلاهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنْ يَكُ صادِقًا﴾، ولَوْ قالَ: هو صادِقٌ وكَلُّ (p-٤٦٢)ما يَعِدُكم، لَعَلِمُوا أنَّهُ مُتَعَصِّبٌ، وأنَّهُ يَزْعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ، وأنَّهُ يُصَدِّقُهُ، فَإنَّ الأنْبِياءَ لا تُخِلُّ بِشَيْءٍ مِمّا يَقُولُونَهُ، ثُمَّ أتْبَعَهُ بِكَلامٍ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّهُ لَيْسَ بِمُصَدِّقٍ، وهو قَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ﴾ . انْتَهى. ثُمَّ قالَ: (يا قَوْمِ) نِداءٌ مُتَلَطِّفٌ في مَوْعِظَتِهِمْ. ﴿ياقَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظاهِرِينَ﴾ أيْ: عالِمِينَ: (في الأرْضِ): في أرْضِ مِصْرَ، قَدْ غَلَبْتُمْ بَنِي إسْرائِيلَ فِيها، وقَهَرْتُمُوهم واسْتَعْبَدْتُمُوهم، وناداهم بِالمُلْكِ الَّذِي هو أعْظَمُ مَراتِبِ الدُّنْيا وأجَلُّها، وهو مِن جِهَةِ شَهَواتِهِمْ، وانْتَصَبَ (ظاهِرِينَ) عَلى الحالِ، والعامِلُ فِيها هو العامِلُ في الجارِّ والمَجْرُورِ، وذُو الحالِ هو ضَمِيرُ (لَكم) . ثُمَّ حَذَّرَهم أنْ يُفْسِدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ بِأنَّهُ إنْ جاءَهم بَأْسُ اللَّهِ لَمْ يَجِدُوا ناصِرًا لَهم ولا دافِعًا، وأدْرَجَ نَفْسَهُ في قَوْلِهِ: ﴿يَنْصُرُنا﴾، و(جاءَنا) لِأنَّهُ مِنهم في القَرابَةِ، ولِيُعْلِمَهم أنَّ الَّذِي يَنْصَحُهم بِهِ هو مُشارِكٌ لَهم فِيهِ. وأقْوالُ هَذا المُؤْمِنِ تَدُلُّ عَلى زَوالِ هَيْبَةِ فِرْعَوْنَ مِن قَلْبِهِ، ولِذَلِكَ اسْتَكانَ فِرْعَوْنُ وقالَ: ﴿ما أُرِيكم إلّا ما أرى﴾ أيْ: ما أُشِيرُ عَلَيْكم إلّا بِقَتْلِهِ، ولا أسْتَصْوِبُ إلّا ذَلِكَ، وهَذا قَوْلُ مِن لا تَحَكُّمَ لَهُ، وأتى بِما وإلّا لِلْحَصْرِ والتَّأْكِيدِ. ﴿وما أهْدِيكم إلّا سَبِيلَ الرَّشادِ﴾، لا ما تَقُولُونَهُ مِن تَرْكِ قَتْلِهِ وقَدْ كَذَبَ، بَلْ كانَ خائِفًا وجِلًا، وقَدْ عَلِمَ أنَّ ما جاءَ بِهِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - حَقٌّ، ولَكِنَّهُ كانَ يَتَجَلَّدُ، ويُرِي ظاهِرَهُ خِلافَ ما أبْطَنَ. وأوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، وأبُو القاسِمِ الهُذَلِيُّ هُنا أنَّ مُعاذَ بْنَ جَبَلٍ قَرَأ (الرَّشّادِ) بِشَدِّ الشِّينِ. قالَ أبُو الفَتْحِ: وهو اسْمُ فاعِلٍ في بِنْيَةِ مُبالَغَةٍ مِنَ الفِعْلِ الثُّلاثِيِّ رَشَدَ، فَهو كَعَبّادٍ مِن عَبَدَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ مِن رَشِدَ، كَعَلّامٍ مِن عَلِمَ. وقالَ النَّحّاسُ: هو لَحْنٌ، وتَوَهَّمَهُ مِنَ الفِعْلِ الرُّباعِيِّ، ورُدَّ عَلَيْهِ أنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ مِنَ الرُّباعِيِّ، بَلْ هو مِنَ الثُّلاثِيِّ، عَلى أنَّ بَعْضَهم قَدْ ذَهَبَ إلى أنَّهُ مِنَ الرُّباعِيِّ، فَبَنى فَعّالَ مِن أفْعَلَ، كَدَرّاكِ مِن أدْرَكَ، وسَآرٍ مِن أسْأرَ، وجَبّارٍ مِن أجْبَرَ، وقَصّارٍ مِن أقْصَرَ، ولَكِنَّهُ لَيْسَ بِقِياسٍ، فَلا يُحْمَلُ عَلَيْهِ ما وُجِدَتْ عَنْهُ مَندُوحَةٌ، وفَعّالٌ مِنَ الثُّلاثِيِّ مَقِيسٌ فَحُمِلَ عَلَيْهِ. وقالَ أبُو حاتِمٍ: كانَ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ يُفَسِّرُها بِسَبِيلِ اللَّهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَبْعُدُ عِنْدِي عَلى مُعاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - . وهَلْ كانَ فِرْعَوْنُ إلّا يَدَّعِي أنَّهُ إلَهٌ ؟ وتَعَلَّقَ بِناءُ اللَّفْظِ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ. انْتَهى. وإيرادُ الخِلافِ في هَذا الحَرْفِ الَّذِي هو مِن قَوْلِ فِرْعَوْنَ خَطَأٌ، وتَرْكِيبُ قَوْلُ مُعاذٍ عَلَيْهِ خَطَأٌ، والصَّوابُ أنَّ الخِلافَ فِيهِ هو قَوْلُ المُؤْمِنِ: ﴿اتَّبِعُونِ أهْدِكم سَبِيلَ الرَّشادِ﴾ [غافر: ٣٨] . قالَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ في (كِتابِ اللَّوامِحِ) لَهُ مِن شَواذِّ القِراءاتِ ما نَصَّهُ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ ﴿سَبِيلَ الرَّشادِ﴾ [غافر: ٣٨] الحَرْفُ الثّانِي بِالتَّشْدِيدِ، وكَذَلِكَ الحَسَنُ، وهو سَبِيلُ اللَّهِ تَعالى الَّذِي أوْضَحَ الشَّرائِعَ، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ، وهو مَنقُولٌ مِن مُرْشِدٍ، كَدَرّاكٍ مِن مُدْرِكٍ، وجَبّارٍ مِنَ مُجْبِرٍ، وقَصّارٍ مِن مُقْصِرٍ عَنِ الأمْرِ، ولَها نَظائِرُ مَعْدُودَةٌ، فَأمّا قَصّارٌ فَهو مِن قَصَرَ مِنَ الثَّوْبِ قِصارَةً. وقالَ ابْنُ خالَوَيْهِ، بَعْدَ أنْ ذَكَرَ الخِلافَ في التَّنادِ وفي صَدٍّ عَنِ السَّبِيلِ ما نَصُّهُ (سَبِيلُ الرَّشّادِ بِتَشْدِيدِ الشِّينِ) مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ. قالَ ابْنُ خالَوَيْهِ: يَعْنِي بِالرَّشّادِ اللَّهَ تَعالى. انْتَهى. فَهَذا لَمْ يَذْكُرِ الخِلافَ إلّا في قَوْلِ المُؤْمِنِ: ﴿أهْدِكم سَبِيلَ الرَّشادِ﴾ [غافر: ٣٨]، فَذِكْرُ الخِلافِ فِيهِ في قَوْلِ فِرْعَوْنَ خَطَأٌ، ولَمْ يُفَسِّرْ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ (الرَّشّادَ) أنَّهُ اللَّهُ تَعالى إلّا في قَوْلِ المُؤْمِنِ، لا في قَوْلِ فِرْعَوْنَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَلِكَ التَّأْوِيلُ مِن قَوْلِ فِرْعَوْنَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب