الباحث القرآني

﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ ومَن تَوَلّى فَما أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ ﴿ويَقُولُونَ طاعَةٌ فَإذا بَرَزُوا مِن عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنهم غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ واللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأعْرِضْ عَنْهم وتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا﴾ ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ ﴿وإذا جاءَهم أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإلى أُولِي الأمْرِ مِنهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنهم ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إلّا قَلِيلًا﴾ [النساء: ٨٣] ﴿فَقاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إلّا نَفْسَكَ وحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَسى اللَّهُ أنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا واللَّهُ أشَدُّ بَأْسًا وأشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ [النساء: ٨٤] ﴿مَن يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنها ومَن يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنها وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ [النساء: ٨٥] ﴿وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنها أوْ رُدُّوها إنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ [النساء: ٨٦] التَّبْيِيتُ قالَ الأصْمَعِيُّ، وأبُو عُبَيْدَةَ، وأبُو العَبّاسِ: كُلُّ أمْرٍ قُضِيَ بِلَيْلٍ قِيلَ قَدْ بُيِّتَ. وقالَ الزَّجّاجُ: كُلُّ أمْرٍ مُكِرَ فِيهِ أوْ خِيضَ بِلَيْلٍ فَقَدْ بُيِّتَ. وقالَ الشّاعِرُ: ؎أتَوْنِي فَلَمْ أرْضَ ما بَيَّتُوا وكانُوا أتَوْنِي بِأمْرٍ نُكُرْ وقالَ الأخْفَشُ: العَرَبُ تَقُولُ لِلشَّيْءِ إذا قُدِّرَ: بُيِّتَ. وقالَ أبُو رَزِينٍ: بُيِّتَ أُلِّفَ. وقِيلَ هُيِّئَ وزُوِّرَ، وقِيلَ قُصِدَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎لَمّا تَبَيَّتْنا أخا تَمِيمٍ ∗∗∗ أعْطى عَطاءَ اللَّحِزِ اللَّئِيمِ أيْ: قَصَدْنا. وقِيلَ التَّبْيِيتُ التَّبْدِيلُ بِلُغَةِ طَيِّئٍ، قالَ شاعِرُهم: ؎وتَبْيِيتُ قَوْلِي عِنْدَ المَلِيكِ ∗∗∗ قاتَلَكَ اللَّهُ عَبْدًا كَفُورًا التَّدَبُّرُ: تَأمُّلُ الأمْرِ والنَّظَرُ في أدْبارِهِ، وما يَئُولُ إلَيْهِ في عاقِبَتِهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في كُلِّ تَأمُّلٍ. والدَّبَرُ: المالُ الكَثِيرُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأنَّهُ يَبْقى لِلْأعْقابِ ولِلْأدْبارِ، قالَهُ الزَّجّاجُ وغَيْرُهُ. الإذاعَةُ: إظْهارُ الشَّيْءِ، وإفْشاؤُهُ يُقالُ: ذاعَ يَذِيعُ وأذاعَ، ويَتَعَدّى بِنَفْسِهِ وبِالباءِ؛ فَيَكُونُ إذْ ذاكَ أذاعَ في مَعْنى الفِعْلِ المُجَرَّدِ. قالَ أبُو الأسْوَدِ: ؎أذاعُوا بِهِ في النّاسِ حَتّى كَأنَّهُ ∗∗∗ بِعَلْياءِ نارٍ أُوقِدَتْ بِثُقُوبِ الِاسْتِنْباطُ: الِاسْتِخْراجُ والنَّبَطُ الماءُ يَخْرُجُ مِنَ البِئْرِ أوَّلَ ما تُحْفَرُ، والإنْباطُ والِاسْتِنْباطُ إخْراجُهُ. وقالَ الشّاعِرُ: ؎نَعَمْ صادِقًا والفاعِلُ القائِلُ الَّذِي ∗∗∗ إذا قالَ قَوْلًا أنْبَطَ الماءَ في الثَّرى وقالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: يُقالُ لِلرَّجُلِ إذا كانَ بَعِيدَ العِزِّ والمَنَعَةِ ما يَجِدُ عَدُوُّهُ لَهُ: نَبَطًا. قالَ كَعْبٌ: ؎قَرِيبٌ تَراهُ لا يَنالُ عَدُوُّهُ ∗∗∗ لَهُ نَبَطًا آبى الهَوانَ قُطُوبُ والنَّبَطُ الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَ المِياهَ والنَّباتَ مِنَ الأرْضِ. وقالَ الفَرّاءُ: نَبَطَ مِثْلَ اسْتَنْبَطَ، ونَبَطَ الماءُ يَنْبُطُ بِضَمِّ الباءِ وفَتْحِها. التَّحْرِيضُ: الحَثُّ. التَّنْكِيلُ: الأخْذُ بِأنْواعِ العَذابِ وتَرْدِيدُهُ عَلى المُعَذَّبِ، وكَأنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ النِّكْلِ وهو: القَيْدُ. الكِفْلُ: النَّصِيبُ والنَّصِيبُ في الخَيْرِ أكْثَرُ اسْتِعْمالًا. والكِفْلُ في الشَّرِّ أكْثَرُ مِنهُ في الخَيْرِ. المُقِيتُ: المُقْتَدِرُ. قالَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ: ؎وذِي ضَغَنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ ∗∗∗ وكانَ عَلى إساءَتِهِ مُقِيتًا أيْ مُقْتَدِرًا. وقالَ السَّمَوْءَلُ: ؎لَيْتَ شِعْرِي وأشْعَرْنَ إذا ما ∗∗∗ قَرَّبُوها مَنشُورَةً ودُعِيتُ ؎ألِي الفَضْلُ أمْ عَلَيَّ إذا حُو ∗∗∗ سِبْتُ إنِّي عَلى الحِسابِ مُقِيتُ وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: المُقِيتُ الحاضِرُ. وقالَ ابْنُ فارِسٍ: المُقِيتُ المُقْتَدِرُ، والمُقِيتُ: الحافِظُ والشّاهِدُ. (p-٣٠٤)وقالَ النَّحّاسُ: هو مُشْتَقٌّ مِنَ القُوتِ، والقُوتُ مِقْدارُ ما يُحْفَظُ بِهِ الإنْسانُ مِنَ التَّلَفِ. التَّحِيَّةُ قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ: هي المُلْكُ، وأنْشَدَ: ؎أؤُمُّ بِها أبا قابُوسَ حَتّى ∗∗∗ أُنِيخَ عَلى تَحِيَّتِهِ بِجُنْدِي وقالَ الأزْهَرِيُّ: التَّحِيَّةُ بِمَعْنى المُلْكِ، وبِمَعْنى البَقاءِ، ثُمَّ صارَتْ بِمَعْنى السَّلامَةِ. انْتَهى. ووَزْنُها تَفْعِلَةٌ، ولَيْسَ الإدْغامُ في هَذا الوَزْنِ واجِبًا عَلى مَذْهَبِ المازِنِيِّ، بَلْ يَجُوزُ الإظْهارُ كَما قالُوا: أعْيِيَةٌ بِالإظْهارِ، وأعِيَّةٌ بِالإدْغامِ في جَمْعِ عَيِيٍّ. وذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّهُ يَجِبُ الإدْغامُ في تَحِيَّةٍ، والكَلامُ عَلى المَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ في كُتُبِ النَّحْوِ. ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ ومَن تَوَلّى فَما أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ قالَ: «مَن أحَبَّنِي فَقَدْ أحَبَّ اللَّهَ» فاعْتَرَضَتِ اليَهُودُ فَقالُوا: هَذا مُحَمَّدٌ يَأْمُرُ بِعِبادَةِ اللَّهِ، وهو في هَذا القَوْلِ مُدَّعٍ لِلرُّبُوبِيَّةِ فَنَزَلَتْ. وفي رِوايَةٍ: قالَ المُنافِقُونَ لَقَدْ قارَبَ الشِّرْكَ. وفي رِوايَةٍ: قالُوا ما يُرِيدُ هَذا الرَّجُلُ إلّا أنْ يُتَّخَذَ رَبًّا كَما اتَّخَذَتِ النَّصارى عِيسى. وتَعَلُّقُ الطّاعَتَيْنِ؛ لِأنَّهُ لا يَأْمُرُ إلّا بِما أمَرَ اللَّهُ بِهِ، ولا يَنْهى إلّا عَمّا نَهى اللَّهُ عَنْهُ، فَكانَتْ طاعَتُهُ في ذَلِكَ طاعَةَ اللَّهِ. ومَن تَوَلّى بِنِفاقٍ أوْ أمْرٍ؛ ﴿فَما أرْسَلْناكَ﴾ هَذا التِفاتٌ؛ إذْ لَوْ جَرى عَلى الرَّسُولِ لَكانَ فَما أرْسَلَهُ. والحافِظُ هُنا المُحاسِبُ عَلى الأعْمالِ، أوِ الحافِظُ لِلْأعْمالِ، أوِ الحافِظُ مِنَ المَعاصِي، أوِ الحافِظُ عَنِ التَّوَلِّي، أوِ المُسَلَّطُ مِنَ الحُفّاظِ، أقْوالٌ. وتَتَضَمَّنُ هَذِهِ الآيَةُ الإعْراضَ عَمَّنْ تَوَلّى، والتَّرْكُ رِفْقٌ مِنَ اللَّهِ، وهي قَبْلَ نُزُولِ القِتالِ. ﴿ويَقُولُونَ طاعَةٌ﴾ نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ بِاتِّفاقٍ؛ أيْ إذا أمَرْتَهم بِشَيْءٍ قالُوا طاعَةٌ؛ أيْ أمْرُنا طاعَةٌ، أوْ مِنّا طاعَةٌ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ النَّصْبُ بِمَعْنى أطَعْناكَ طاعَةً، وهَذا مِن قَوْلِ المُرْتَسِمِ سَمْعًا وطاعَةً، وسَمْعٌ وطاعَةٌ ونَحْوُهُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وسَمِعْنا بَعْضَ العَرَبِ المَوْثُوقِ بِهِمْ يُقالُ لَهُ: كَيْفَ أصْبَحْتَ ؟ فَيَقُولُ: حَمْدًا لِلَّهِ وثَناءً عَلَيْهِ، كَأنَّهُ قالَ: أمْرِي وشَأْنِي حَمْدُ اللَّهِ. ولَوْ نَصَبَ حَمْدَ اللَّهِ وثَناءً عَلَيْهِ كانَ عَلى الفِعْلِ. والرَّفْعُ يَدُلُّ عَلى ثَباتِ الطّاعَةِ، واسْتِقْرارِها انْتَهى. ولا حاجَةَ لِذِكْرِ ما لَمْ يُقْرَأْ بِهِ، ولا لِتَوْجِيهِهِ، ولا لِتَنْظِيرِهِ بِغَيْرِهِ؛ خُصُوصًا في كِتابِهِ الَّذِي وضَعَهُ عَلى الِاخْتِصارِ لا عَلى التَّطْوِيلِ. ﴿فَإذا بَرَزُوا مِن عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنهم غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ﴾؛ أيْ إذا خَرَجُوا مِن عِنْدِكَ رَوَوْا وسَوَّوْا؛ أيْ طائِفَةٌ مِنهم غَيْرَ الَّذِي تَقُولُهُ لَكَ يا مُحَمَّدُ مِن إظْهارِ الطّاعَةِ، وهم في الباطِنِ كاذِبُونَ عاصُونَ؛ فَعَلى هَذا الضَّمِيرُ في تَقُولُ عائِدٌ عَلى الطّائِفَةِ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ. وقِيلَ يَعُودُ عَلى الرَّسُولِ؛ أيْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُهُ وتُرْسَمُ بِهِ يا مُحَمَّدُ، وهو الخِلافُ والعِصْيانُ المُشْتَمِلُ عَلَيْهِ بَواطِنُهم. ويُؤَيِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بَيَّتَ مُبَيِّتٌ مِنهم يا مُحَمَّدُ. وقَرَأ يَحْيى بْنُ يَعْمَرَ يَقُولُ: بِالياءِ؛ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلرَّسُولِ، ويَكُونَ التِفاتًا إذْ خَرَجَ مِن ضَمِيرِ الخِطابِ في ﴿مِن عِنْدِكَ﴾ إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى الطّائِفَةِ؛ لِأنَّها في مَعْنى القَوْمِ أوِ الفَرِيقِ، وخَصَّ طائِفَتَهُ بِالتَّبْيِينِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَكُونُوا لِيَجْتَمِعُوا كُلُّهم في دارٍ واحِدَةٍ أوْ لِأنَّهُ إخْبارٌ عَنْ مَن عَلِمَ اللَّهُ أنَّهُ يَبْقى عَلى كُفْرِهِ ونِفاقِهِ. وأدْغَمَ حَمْزَةُ، وأبُو عَمْرٍوُ ﴿بَيَّتَ طائِفَةٌ﴾، وأظْهَرَ الباقُونَ. ﴿واللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ﴾؛ أيْ يَكْتُبُهُ في صَحائِفِ أعْمالِهِمْ حَسَبَما تَكْتُبُهُ الحَفَظَةُ لِيُجازَوْا بِهِ. وقالَ الزَّجّاجُ: يَكْتُبُهُ في كِتابِهِ إلَيْكَ؛ أيْ يُنْزِلُهُ في القُرْآنِ ويَعْلَمُ بِهِ، ويَطَّلِعُ عَلى سِرِّهِمْ. وقِيلَ يَكْتُبُ يُعَلِّمُ عَبَّرَ بِالكِتابَةِ عَنِ العِلْمِ؛ لِأنَّهُ مِن ثَمَراتِها. ﴿فَأعْرِضْ عَنْهم وتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا﴾ هَذا مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: ﴿ومَن تَوَلّى فَما أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾؛ أيْ لا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالِانْتِقامِ مِنهم. ولَيْسَ المَعْنى فَأعْرِضْ عَنْ دَعْوَتِهِمْ إلى الإيمانِ، وعَنْ وعْظِهِمْ. وقالَ الضَّحّاكُ: مَعْنى أعْرِضْ عَنْهم لا تُخْبِرْ بِأسْمائِهِمْ فَيُجاهِرُوكَ بِالعَداوَةِ بَعْدَ المُجامَلَةِ في القَوْلِ، ثُمَّ أمَرَهُ بِإدامَةِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، هو يَنْتَقِمُ لَكَ مِنهم، وهَذا أيْضًا قَبْلَ نُزُولِ القِتالِ. ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ: يَتَدَبَّرُونَ بِياءٍ، وتاءٍ بَعْدَها (p-٣٠٥)عَلى الأصْلِ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِإدْغامِ التّاءِ في الدّالِ، وهَذا اسْتِفْهامٌ مَعْناهُ الإنْكارُ؛ أيْ فَلا يَتَأمَّلُونَ ما نَزَلَ عَلَيْكَ مِنَ الوَحْيِ ولا يُعْرِضُونَ عَنْهُ؛ فَإنَّهُ في تَدَبُّرِهِ يَظْهَرُ بُرْهانُهُ ويَسْطَعُ نُورُهُ، ولا يَظْهَرُ ذَلِكَ لِمَن أعْرَضَ عَنْهُ ولَمْ يَتَأمَّلْهُ. ﴿ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ الظّاهِرُ أنَّ المُضْمَرَ في فِيهِ عائِدٌ عَلى القُرْآنِ، وهَذا في عِلْمِ البَيانِ الِاحْتِجاجُ النَّظَرِيُّ، وقَوْمٌ يُسَمُّونَهُ المَذْهَبَ الكَلامِيَّ. ووَجْهُ هَذا الدَّلِيلِ أنَّهُ لَيْسَ مِن مُتَكَلِّمٍ كَلامًا طَوِيلًا إلّا وُجِدَ في كَلامِهِ اخْتِلافٌ كَثِيرٌ؛ إمّا في الوَصْفِ واللَّفْظِ، وإمّا في المَعْنى بِتَناقُضِ أخْبارٍ، أوِ الوُقُوعِ عَلى خِلافِ المُخْبَرِ بِهِ، أوِ اشْتِمالِهِ عَلى ما لا يَلْتَئِمُ، أوْ كَوْنِهِ يُمْكِنُ مُعارَضَتُهُ. والقُرْآنُ العَظِيمُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ كَلامُ المُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ، مُناسِبٌ بَلاغَةً مُعْجِزَةً فائِتَةً لِقُوى البُلَغاءِ، وتَضافُرَ صِدْقِ أخْبارٍ وصِحَّةِ مَعانٍ؛ فَلا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلّا العالِمُ بِما لا يَعْلَمُهُ أحَدٌ سِواهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإنْ عَرَضَتْ لِأحَدٍ شُبْهَةٌ، وظَنَّ اخْتِلافًا فالواجِبُ أنْ يَتَّهِمَ نَظَرَهُ، ويَسْألَ مَن هو أعْلَمُ مِنهُ. وما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الزَّنادِقَةِ المُعانِدِينَ مِن أنَّ فِيهِ أحْكامًا مُخْتَلِفَةً وألْفاظًا غَيْرَ مُؤْتَلِفَةٍ فَقَدْ أبْطَلَ مَقالَتَهم عُلَماءُ الإسْلامِ، وما جاءَ في القُرْآنِ مِنَ اخْتِلافٍ في تَفْسِيرٍ وتَأْوِيلٍ وقِراءَةٍ، وناسِخٍ ومَنسُوخٍ، ومُحْكَمٍ ومُتَشابِهٍ، وعامٍّ وخاصٍّ، ومُطْلَقٍ ومُقَيَّدٍ؛ فَلَيْسَ هو المَقْصُودَ في الآيَةِ، بَلْ هَذِهِ مِن عُلُومِ القُرْآنِ الدّالَّةِ عَلى اتِّساعِ مَعانِيهِ، وأحْكامِ مَبانِيهِ. وذَهَبَ الزَّجّاجُ إلى أنَّ الضَّمِيرَ في فِيهِ عائِدٌ عَلى ما يُخْبِرُهُ بِهِ اللَّهُ تَعالى مِمّا يُبَيِّتُونَ، ويُسِرُّونَ والمَعْنى: أنَّكَ تُخْبِرُهم بِهِ عَلى حَدِّ ما يَقَعُ، وذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ غَيْبٌ مِنَ الغُيُوبِ. وفي ذِكْرِ تُدَبِّرُ القُرْآنِ رَدٌّ عَلى مَن قالَ مِنَ الرّافِضَةِ: إنَّ القُرْآنَ لا يُفْهَمُ مَعْناهُ إلّا بِتَفْسِيرِ الرَّسُولِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب