الباحث القرآني

﴿وإنْ تُصِبْهم حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ وإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِكَ﴾ [النساء: ٧٨] قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الضَّمِيرُ لِلْمُنافِقِينَ واليَهُودِ، وقالَ الحَسَنُ: لِلْمُنافِقِينَ، وقالَ السُّدِّيُّ: لِلْيَهُودِ. والظّاهِرُ أنَّهُ لِلْمُنافِقِينَ لِأنَّ مِثْلَ هَذا لا يَصْدُرُ مِن مُؤْمِنٍ، واليَهُودُ لَمْ يَكُونُوا في طاعَةِ الإسْلامِ حَتّى يُكْتَبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ الحَسَنَةَ هُنا هي السَّلامَةُ والأمْنُ، والسَّيِّئَةُ الأمْراضُ والخَوْفُ. وعَنْهُ أيْضًا: الحَسَنَةُ الخِصْبُ والرَّخاءُ، والسَّيِّئَةُ الجَدْبُ والغَلاءُ. وعَنْهُ أيْضًا: الحَسَنَةُ السَّرّاءُ، والسَّيِّئَةُ الضَّرّاءُ. وقالَ الحَسَنُ وابْنُ زَيْدٍ: الحَسَنَةُ النِّعْمَةُ والفَتْحُ والغَنِيمَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، والسَّيِّئَةُ البَلِيَّةُ والشِّدَّةُ والقَتْلُ يَوْمَ أُحُدٍ. وقِيلَ: الحَسَنَةُ الغِنى، والسَّيِّئَةُ الفَقْرُ. والمَعْنى: أنَّ هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ إذا أصابَتْهم حَسَنَةٌ نَسَبُوها إلى اللَّهِ تَعالى، وأنَّها لَيْسَتْ بِاتِّباعِ الرَّسُولِ، ولا الإيمانِ بِهِ، وإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ أضافُوها إلى الرَّسُولِ وقالُوا: هي بِسَبَبِهِ، كَما جاءَ في قَوْمِ مُوسى: ﴿وإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى ومَن مَعَهُ﴾ [الأعراف: ١٣١] وفي قَوْمِ صالِحٍ: ﴿قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وبِمَن مَعَكَ﴾ [النمل: ٤٧] . ورَوى جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا قَدِمَ المَدِينَةَ قالَ اليَهُودُ والمُنافِقُونَ: ما زِلْنا نَعْرِفُ النَّقْصَ في ثِمارِنا ومَزارِعِنا مُذْ قَدِمَ عَلَيْنا هَذا الرَّجُلُ وأصْحابُهُ. ﴿قُلْ كُلٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٧٨] أمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أنْ يُخْبِرَهم أنَّ كُلًّا مِنَ الحَسَنَةِ والسَّيِّئَةِ إنَّما هو مِن عِنْدِ اللَّهِ، لا خالِقَ ولا مُخْتَرِعَ سِواهُ، فَلَيْسَ الأمْرُ كَما زَعَمْتُمْ؛ فاللَّهُ تَعالى وحْدَهُ هو النّافِعُ الضّارُّ، وعَنْ إرادَتِهِ تَصْدُرُ جَمِيعُ الكائِناتِ. ﴿فَمالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٧٨] هَذا اسْتِفْهامٌ مَعْناهُ التَّعَجُّبُ مِن هَذِهِ المَقالَةِ، وكَيْفَ يُنْسَبُ ما هو مِن عِنْدِ اللَّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ؟ أيْ أنَّ هَؤُلاءِ كانُوا يَنْبَغِي لَهم أنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَتَفَهَّمُ الأشْياءَ، ويَتَوَقَّفُونَ عَمّا يُرِيدُونَ أنْ يَقُولُوا حَتّى يَعْرِضُوهُ عَلى عُقُولِهِمْ. وبالَغَ تَعالى في قِلَّةِ فَهْمِهِمْ وتَعَلُّقِهِمْ؛ حَتّى نَفى مُقارَبَةَ الفِقْهِ، ونَفْيُ المُقارَبَةِ أبْلَغُ مِن نَفْيِ الفِعْلِ. وهَذا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِفْهامِ يَتَضَمَّنُ إنْكارَ ما اسْتُفْهِمَ عَنْ عِلَّتِهِ، وأنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يُوجَدَ مُقابِلُهُ. فَإذا قِيلَ: ما لَكَ قائِمًا، فَهو إنْكارٌ لِلْقِيامِ، ومُتَضَمِّنٌ أنْ يُوجَدَ مُقابِلُهُ. وإذا قِيلَ: ما لَكَ (p-٣٠١)لا تَقُومُ، فَهو إنْكارٌ لِتَرْكِ القِيامِ، ومُتَضَمِّنٌ أنْ يُوجَدَ مُقابِلُهُ. قِيلَ في قَوْلِهِ: حَدِيثًا، أيِ القُرْآنُ لَوْ تَدَبَّرُوهُ لَبَصَّرَهم في الدِّينِ، وأوْرَثَهُمُ اليَقِينَ. وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: لامَهم عَلى تَرْكِ التَّفَقُّهِ فِيما أعْلَمَهم بِهِ وأدَّبَهم في كِتابِهِ. ووَقَفَ أبُو عَمْرٍو والكِسائِيُّ عَلى قَوْلِهِ: (فَما)، ووَقَفَ الباقُونَ عَلى اللّامِ في قَوْلِهِ: (فَمالِ) اتِّباعًا لِلْخَطِّ. ولا يَنْبَغِي تَعَمُّدُ ذَلِكَ؛ لِأنَّ الوَقْفَ عَلى (فَما) فِيهِ قَطْعٌ عَنِ الخَبَرِ، وعَلى اللّامِ فِيهِ قَطْعٌ عَنِ المَجْرُورِ دُونَ حَرْفِ الجَرِّ؛ وإنَّما يَكُونُ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ انْقِطاعِ النَّفَسِ. ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ﴾ الخِطابُ عامٌّ؛ كَأنَّهُ قِيلَ ما أصابَكَ يا إنْسانُ. وقِيلَ لِلرَّسُولِ والمُرادُ غَيْرُهُ. وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: هو خِطابٌ لِلْفَرِيقِ في قَوْلِهِ: ﴿إذا فَرِيقٌ مِنهُمْ﴾ [النساء: ٧٧] قالَ: ولَمّا كانَ لَفْظُ الفَرِيقِ مُفْرَدًا صَحَّ أنْ يُخْبِرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الواحِدِ تارَةً، وبِلَفْظِ الجَمْعِ تارَةً. وعَلَيْهِ قَوْلُهُ: ؎تُفَرِّقُ أهْلًا نابِثِينَ فَمِنهُمُ فَرِيقٌ أقامَ واسْتَقَلَّ فَرِيقُ هَذا مُقْتَضى اللَّفْظِ. وأمّا المَعْنى بِالنّاسِ خاصَّتِهِمْ، وعامَّتِهِمْ مُرادٌ بِقَوْلِهِ: ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، والحَسَنُ، وابْنُ زَيْدٍ، والرَّبِيعُ وأبُو صالِحٍ: مَعْنى الآيَةِ أنَّهُ أخْبَرَ تَعالى عَلى سَبِيلِ الِاسْتِئْنافِ والقَطْعِ أنَّ الحَسَنَةَ مِنهُ بِفَضْلِهِ، والسَّيِّئَةَ مِنَ الإنْسانِ بِذُنُوبِهِ، ومِنَ اللَّهِ بِالخَلْقِ والِاخْتِراعِ. وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَمِن نَفْسِكَ وإنَّما قَضَيْتُها عَلَيْكَ، وقَرَأ بِها ابْنُ عَبّاسٍ. وحَكى أبُو عَمْرٍو: أنَّها في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وأنا كَتَبْتُها. ورُوِيَ أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ، وأُبَيًّا قَرَآ: وأنا قَدَّرْتُها عَلَيْكَ. ويُؤَيِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ أحادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مَعْناها: أنَّ ما يُصِيبُ الإنْسانَ مِنَ المَصائِبِ فَإنَّما هو عُقُوبَةُ ذُنُوبِهِ، وقالَتْ طائِفَةٌ: مَعْنى الآيَةِ هو عَلى قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَمالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ؟ يَقُولُونَ: ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ، الآيَةَ. والِابْتِداءُ بِقَوْلِهِ: ﴿وأرْسَلْناكَ﴾ والوَقْفُ عَلى قَوْلِهِ: فَمِن نَفْسِكَ. وقالَتْ طائِفَةٌ: ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، هو اسْتِئْنافُ إخْبارٍ مِنَ اللَّهِ أنَّ الحَسَنَةَ مِنهُ وبِفَضْلِهِ. ثُمَّ قالَ: وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ، عَلى وجْهِ الإنْكارِ. والتَّقْدِيرُ: وألِفُ الِاسْتِفْهامِ مَحْذُوفَةٌ مِنَ الكَلامِ كَقَوْلِهِ: ﴿وتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ﴾ [الشعراء: ٢٢]؛ أيْ وتِلْكَ نِعْمَةٌ. وكَذا ﴿بازِغًا قالَ هَذا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٧] عَلى أحَدِ الأقْوالِ. والعَرَبُ تَحْذِفُ ألِفَ الِاسْتِفْهامِ قالَ أبُو خِراشٍ: ؎رَمَوْنِي وقالُوا يا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرْعَ ∗∗∗ فَقُلْتُ وأنْكَرْتُ الوُجُوهَ هُمُ هُمُ أيْ: أهم هم. وحُكِيَ هَذا الوَجْهُ عَنِ ابْنِ الأنْبارِيِّ. ورَوى الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ الحَسَنَةَ هُنا ما أصابَ المُسْلِمِينَ مِنَ الظَّفَرِ والغَنِيمَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، والسَّيِّئَةَ ما نُكِبُوا بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ. وعَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «ما مِن مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ وصَبٌ ولا نَصَبٌ، حَتّى الشَّوْكَةَ يُشاكُها، حَتّى انْقِطاعَ نَعْلِهِ إلّا بِذَنْبٍ، وما يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أكْثَرُ» . وقالَ تَعالى: ﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكم ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: ٣٠] . وقَدْ تَجاذَبَتِ القَدَرِيَّةُ وأهْلُ السُّنَّةِ الدَّلالَةَ مِن هَذِهِ الآياتِ عَلى مَذاهِبِهِمْ، فَتَعَلَّقَتِ القَدَرِيَّةُ بِالثّانِيَةِ، وقالُوا: يَنْبَغِي أنْ لا يُنْسَبَ فِعْلُ السَّيِّئَةِ إلى اللَّهِ بِوَجْهٍ، وجَعَلُوا الحَسَنَةَ والسَّيِّئَةَ في الأُولى بِمَعْنى الخِصْبِ والجَدَبِ والغِنى والفَقْرِ. وتَعَلَّقَ أهْلُ السُّنَّةِ بِالأُولى، وقالُوا: ﴿قُلْ كُلٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٧٨] عامٌّ يَدُلُّ عَلى أنَّ الأفْعالَ الظّاهِرَةَ مِنَ العِبادِ هي مِنَ اللَّهِ تَعالى، وتَأوَّلُوا الثّانِيَةَ؛ وهي مَسْألَةٌ يُبْحَثُ عَنْها في أُصُولِ الدِّينِ. وقالَ القُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الآياتُ لا يَتَعَلَّقُ بِها إلّا الجُهّالُ مِنَ الفَرِيقَيْنِ؛ لِأنَّهم بَنَوْا ذَلِكَ عَلى أنَّ السَّيِّئَةَ هي المَعْصِيَةُ، ولَيْسَتْ كَذَلِكَ. والقَدَرِيَّةُ قالُوا: ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ؛ أيْ مِن طاعَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، ولَيْسَ هَذا اعْتِقادَهم؛ لِأنَّ اعْتِقادَهُمُ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ مَذاهِبَهم: أنَّ الحَسَنَةَ فِعْلُ المُحْسِنِ والسَّيِّئَةَ فِعْلُ المُسِيءِ. وأيْضًا فَلَوْ كانَ لَهم فِيهِ حُجَّةٌ لَكانَ يَقُولُ: ما أصَبْتَ مِن حَسَنَةٍ، وما أصَبْتَ مِن سَيِّئَةٍ؛ لِأنَّهُ الفاعِلُ لِلْحَسَنَةِ والسَّيِّئَةِ جَمِيعًا، فَلا تُضافُ إلَيْهِ إلّا (p-٣٠٢)بِفِعْلِهِ لَهُما لا بِفِعْلِ غَيْرِهِ؛ نَصَّ عَلى هَذا الإمامُ أبُو الحَسَنِ شِيثُ بْنُ إبْراهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَيْدَرٍ في كِتابِهِ المُسَمّى بِحَزِّ العَلاصِمِ في إفْحامِ المُخاصِمِ. وقالَ الرّاغِبُ: إذا تُؤُمِّلَ مَوْرِدُ الكَلامِ، وسَبَبُ النُّزُولِ، فَلا تَعَلُّقَ لِأحَدِ الفَرِيقَيْنِ بِالآيَةِ عَلى وجْهٍ يُثْلِجُ صَدْرًا أوْ يُزِيلُ شَكًّا إذْ نَزَلَتْ في قَوْمٍ أسْلَمُوا ذَرِيعَةً إلى غِنًى وخِصْبٍ يَنالُونَهُ، وظَفَرٍ يُحَصِّلُونَهُ، فَكانَ أحَدُهم إذا نابَتْهُ نائِبَةٌ، أوْ فاتَهُ مَحْبُوبٌ، أوْ نالَهُ مَكْرُوهٌ، أضافَ سَبَبَهُ إلى الرَّسُولِ مُتَطَيِّرًا بِهِ. والحَسَنَةُ هُنا والسَّيِّئَةُ كَهُما في: ﴿وبَلَوْناهم بِالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ﴾ [الأعراف: ١٦٨]، وفي ﴿فَإذا جاءَتْهُمُ الحَسَنَةُ قالُوا لَنا هَذِهِ وإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى ومَن مَعَهُ﴾ [الأعراف: ١٣١] انْتَهى. وقَدْ طَعَنَ بَعْضُ المَلاحِدَةِ فَقالَ: هَذا تَناقُضٌ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿قُلْ كُلٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٧٨]، وقالَ عَقِيبَهُ: ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ﴾ الآيَةَ. وقالَ الرّاغِبُ: وهَذا ظاهِرُ الوَهْيِ؛ لِأنَّ الحَسَنَةَ والسَّيِّئَةَ مِنَ الألْفاظِ المُشْتَرَكَةِ كالحَيَوانِ الَّذِي يَقَعُ عَلى الإنْسانِ والفَرَسِ والحِمارِ. ومِنَ الأسْماءِ المُخْتَلِفَةِ كالعَيْنِ. فَلَوْ أنَّ قائِلًا قالَ: الحَيَوانُ المُتَكَلِّمُ والحَيَوانُ غَيْرُ المُتَكَلِّمِ، وأرادَ بِالأوَّلِ الإنْسانَ وبِالثّانِي الفَرَسَ أوِ الحِمارَ، لَمْ يَكُنْ مُتَناقِضًا. وكَذَلِكَ إذا قالَ: العَيْنُ في الوَجْهِ والعَيْنُ لَيْسَ في الوَجْهِ، وأرادَ بِالأُولى الجارِحَةَ وبِالثّانِيَةِ عَيْنَ المِيزانِ أوِ السَّحابِ. وكَذَلِكَ الآيَةُ أُرِيدُ بِهِما في الأُولى غَيْرُ ما أُرِيدُ في الثّانِيَةِ كَما بَيَّنّاهُ انْتَهى. والَّذِي اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الرّاغِبُ بِالمُشْتَرَكَةِ وبِالمُخْتَلِفَةِ لَيْسَ اصْطِلاحَ النّاسِ اليَوْمَ؛ لِأنَّ المُشْتَرَكَ هو عِنْدَهم كالعَيْنِ والمُخْتَلِفَةَ هي المُتَبايِنَةُ. والرّاغِبُ جَعَلَ الحَيَوانَ مِنَ الأسْماءِ المُشْتَرَكَةِ، وهو مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ المُشْتَرَكِ، وجَعَلَ العَيْنَ مِنَ الأسْماءِ المُخْتَلِفَةِ، وهو في الِاصْطِلاحِ اليَوْمَ مِنَ المُشْتَرَكِ. قالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: والفَرْقُ بَيْنَ مِن عِنْدِ اللَّهِ، ومِنَ اللَّهِ: أنَّ مِن عِنْدِ اللَّهِ أعَمُّ. يُقالُ: فِيما كانَ بِرِضاهُ، وبِسُخْطِهِ، وفِيما يَحْصُلُ، وقَدْ أمَرَ بِهِ، ونَهى عَنْهُ، ولا يُقالُ: هو مِنَ اللَّهِ إلّا فِيما كانَ بِرِضاهُ وبِأمْرِهِ؛ وبِهَذا النَّظَرِ قالَ عُمَرُ: إنْ أصَبْتُ فَمِنَ اللَّهِ، وإنْ أخْطَأْتُ فَمِنَ الشَّيْطانِ، انْتَهى. وعَنى بِالنَّفْسِ هُنا المَذْكُورَةَ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ النَّفْسَ لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: ٥٣]، وقَرَأتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: ﴿فَمِن نَفْسِكَ﴾ بِفَتْحِ المِيمِ، ورَفْعِ السِّينِ فَـ (مَنِ) اسْتِفْهامٌ مَعْناهُ الإنْكارُ؛ أيْ فَمَن نَفْسُكَ حَتّى يُنْسَبَ إلَيْها فِعْلُ المَعْنى ما لِلنَّفْسِ في الشَّيْءِ فِعْلٌ. ﴿وأرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولًا﴾ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ قَدْ أزاحَ عِلَلَهم بِإرْسالِهِ، فَلا حُجَّةَ لَهم لِقَوْلِهِ: ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥]، ولِلنّاسِ عامٌّ عَرَبِهِمْ وعَجَمِهِمْ، وانْتَصَبَ رَسُولًا عَلى الحالِ المُؤَكِّدَةِ. وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنى إرْسالًا وهو ضَعِيفٌ. ﴿وكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾؛ أيْ مُطَّلِعًا عَلى ما يَصْدُرُ مِنكَ، ومِنهم، أوْ شَهِيدًا عَلى رِسالَتِكَ. ولا يَنْبَغِي لِمَن كانَ اللَّهُ شاهِدَهُ إلّا أنْ يُطاعَ ويُتَّبَعَ؛ لِأنَّهُ جاءَ بِالحَقِّ والصِّدْقِ، وشَهِدَ اللَّهُ لَهُ بِذَلِكَ. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ مِنَ البَيانِ والبَدِيعِ: الِاسْتِعارَةُ في: ﴿يَشْرُونَ الحَياةَ الدُّنْيا بِالآخِرَةِ﴾ [النساء: ٧٤]، وفي: ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٧٤] لِما يَنالُهُ مِنَ النَّعِيمِ في الآخِرَةِ. وفي ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٧٤]، وفي ﴿سَبِيلِ الطّاغُوتِ﴾ [النساء: ٧٦] اسْتَعارَ الطَّرِيقَ لِلِاتِّباعِ ولِلْمُخالَفَةِ وفي: ﴿كُفُّوا أيْدِيَكُمْ﴾ [النساء: ٧٧] أطْلَقَ كَفَّ اليَدِ الَّذِي هو مُخْتَصٌّ بِالإجْرامِ عَلى الإمْساكِ عَنِ القِتالِ. والِاسْتِفْهامُ الَّذِي مَعْناهُ الِاسْتِبْطاءُ والِاسْتِبْعادُ في: ﴿وما لَكم لا تُقاتِلُونَ﴾ [النساء: ٧٥] . والِاسْتِفْهامُ الَّذِي مَعْناهُ التَّعَجُّبُ في: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ قِيلَ لَهم كُفُّوا﴾ [النساء: ٧٧] . والتَّجَوُّزُ بِفي الَّتِي لِلْوِعاءِ عَنْ دُخُولِهِمْ في (الجِهادِ) . والِالتِفاتُ في: ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ﴾ [النساء: ٧٤] في قِراءَةِ النُّونِ. والتَّكْرارُ في: ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٧٤]، وفي: ﴿واجْعَل لَنا مِن لَدُنْكَ﴾ [النساء: ٧٥]، وفي: يُقاتِلُونَ، وفي: الشَّيْطانِ، وفي: وإنْ تُصِبْهم، وفي: ما أصابَكَ، وفي اسْمِ اللَّهِ. والطِّباقُ اللَّفْظِيُّ في: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [النساء: ٧٦] ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [النساء: ٧٦] . والمَعْنَوِيُّ في: سَبِيلِ اللَّهِ طاعَةٌ وفي سَبِيلِ الطّاغُوتِ مَعْصِيَةٌ. والِاخْتِصاصُ في: ﴿إنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: ٧٦] . وفي ﴿والآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى﴾ [النساء: ٧٧] . والتَّجَوُّزُ بِإسْنادِ الفِعْلِ إلى غَيْرِ فاعِلِهِ في ﴿يُدْرِكُكُمُ المَوْتُ﴾ [النساء: ٧٨] . وفي: إنْ تُصِبْهم. وفي: ما أصابَكَ. والتَّشْبِيهُ في: ﴿كَخَشْيَةِ﴾ [النساء: ٧٧] . وإيقاعُ أفْعَلِ التَّفْضِيلِ حَيْثُ لا مُشارَكَةَ في: ﴿خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى﴾ [النساء: ٧٧] . والتَّجْنِيسُ المُغايِرُ في: (p-٣٠٣)(يَخْشَوْنَ) و﴿كَخَشْيَةِ﴾ [النساء: ٧٧] . والحَذْفُ في مَواضِعَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب