الباحث القرآني
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكم فانْفِرُوا ثُباتٍ أوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾ مُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها هو أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ طاعَتَهُ وطاعَةَ رَسُولِهِ، وكانَ مِن أهَمِّ الطّاعاتِ إحْياءُ دِينِ اللَّهِ أمَرَ بِالقِيامِ بِإحْياءِ دِينِهِ، وإعْلاءِ دَعْوَتِهِ، وأمَرَهم أنْ لا يَقْتَحِمُوا عَلى عَدُوِّهِمْ عَلى جَهالَةٍ فَقالَ: خُذُوا حِذْرَكم. فَعَلَّمَهم مُباشَرَةَ الحُرُوبِ. ولَمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ المُنافِقِينَ ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ تَحْذِيرَ المُؤْمِنِينَ مِن قَبُولِ مَقالاتِهِمْ وتَثْبِيطِهِمْ عَنِ الجِهادِ، فَنادى ولا باسِمِ الإيمانِ عَلى عادَتِهِ تَعالى إذا أرادَ أنْ يَأْمُرَ المُؤْمِنِينَ أوْ يَنْهاهم، والحَذَرَ والحَذَرَ بِمَعْنًى واحِدٍ. قالُوا: ولَمْ يُسْمَعْ في هَذا التَّرْكِيبِ الأخْذُ حِذْرَكَ لِأخْذِ حِذْرِكَ. ومَعْنى خُذْ حِذْرَكَ: أيِ اسْتَعِدَّ بِأنْواعِ ما يُسْتَعَدُّ بِهِ لِلِقاءِ مَن تَلَقّاهُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ أخْذُ السِّلاحِ وغَيْرِهِ. ويُقالُ: أخَذَ حِذْرَهُ إذا احْتَرَزَ مِنَ المُخَوَّفِ، كَأنَّهُ جَعَلَ الحَذَرَ آلَتَهُ الَّتِي يَتَّقِي بِها ويَعْتَصِمُ، والمَعْنى: احْتَرِزُوا مِنَ العَدُوِّ. ثُمَّ أمَرَ تَعالى بِالخُرُوجِ إلى الجِهادِ جَماعَةً جَماعَةً، وسَرِيَّةً بَعْدَ سَرِيَّةٍ، أوْ كَتِيبَةً واحِدَةً مُجْتَمِعَةً.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿فانْفِرُوا﴾ بِكَسْرِ الفاءِ فِيهِما. وقَرَأ الأعْمَشُ: بِضَمِّها فِيهِما، وانْتِصابِ (ثُباتًا) و(جَمِيعًا) عَلى الحالِ. ولَمْ يُقْرَأْ (ثُباتٍ) فِيما عَلِمْناهُ إلّا بِكَسْرِ التّاءِ. وقالَ الفَرّاءُ: العَرَبُ تَخْفِضُ هَذِهِ التّاءَ في النَّصْبِ وتَنْصِبُها. أنْشَدَنِي بَعْضُهم:
؎فَلَمّا جَلاها بِالايّامِ تَحَيَّزَتْ ثُباتًا عَلَيْها ذُلُّها واكْتِئابُها
يُنْشَدُ بِكَسْرِ التّاءِ وفَتْحِها انْتَهى. وأوْفى أوِ انْفَرُوا لِلتَّخْيِيرِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هَذِهِ الآيَةُ نَسَخَتْها.
﴿وما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢] قِيلَ: وإنَّما عُنِيَ بِذَلِكَ التَّخْصِيصُ إذْ لَيْسَ يُلْزَمُ النَّفْرُ جَماعَتَهم.
﴿وإنَّ مِنكم لَمَن لَيُبَطِّئَنَّ﴾ الخِطابُ لِعَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وقالَ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ وابْنُ جُرَيْجٍ وابْنُ زَيْدٍ في آخَرِينَ: لَمَن لَيُبَطِّئَنَّ هُمُ المُنافِقُونَ، وجُعِلُوا مِنَ المُؤْمِنِينَ بِاعْتِبارِ الجِنْسِ، أوِ النَّسَبِ، أوِ الِانْتِماءِ إلى الإيمانِ ظاهِرًا. وقالَ الكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وأصْحابِهِ. وقِيلَ: هم ضَعَفَةُ المُؤْمِنِينَ. ويُبْعِدُ هَذا القَوْلَ قَوْلُهُ: عِنْدَ مُصِيبَةِ المُؤْمِنِينَ ﴿قَدْ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إذْ لَمْ أكُنْ مَعَهم شَهِيدًا﴾ وقَوْلُهُ: (p-٢٩١)﴿كَأنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكم وبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ﴾ [النساء: ٧٣] ومِثْلُ هَذا لا يَصْدُرُ عَنْ مُؤْمِنٍ؛ إنَّما يَصْدُرُ عَنْ مُنافِقٍ. واللّامُ في لَيُبَطِّئَنَّ لامُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ: لَلَّذِي واللَّهِ لَيُبَطِّئَنَّ. والجُمْلَتانِ مِنَ القَسَمِ وجَوابِهِ صِلَةٌ لِمَن، والعائِدُ الضَّمِيرُ المُسْتَكِنُّ في ﴿لَيُبَطِّئَنَّ﴾ .
قالُوا: وفي هَذِهِ الآيَةِ رَدٌّ عَلى مَن زَعَمَ مِن قُدَماءِ النُّحاةِ أنَّهُ لا يَجُوزُ وصْلُ المَوْصُولِ بِالقَسَمِ وجَوابِهِ إذا كانَتْ جُمْلَةُ القَسَمِ قَدْ عَرِيَتْ مِن ضَمِيرٍ؛ فَلا يَجُوزُ جاءَنِي الَّذِي أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ قامَ أبُوهُ، ولا حُجَّةَ فِيها لِأنَّ جُمْلَةَ القَسَمِ مَحْذُوفَةٌ؛ فاحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ فِيها ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى المَوْصُولِ، واحْتُمِلَ أنْ لا يَكُونَ. وما كانَ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ لا حُجَّةَ فِيهِ عَلى تَعْيِينِ أحَدِهِما، ومِثْلُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنَّ كُلًّا لَمّا لَيُوَفِّيَنَّهم رَبُّكَ أعْمالَهُمْ﴾ [هود: ١١١] في قِراءَةِ مَن نَصَبَ (كُلًّا) وخَفَّفَ مِيمَ (لَما) أيْ: وإنْ كُلًّا لَلَّذِي لَيُوَفِّيَنَّهم عَلى أحْسَنِ التَّخارِيجِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اللّامُ في ﴿لَيُبَطِّئَنَّ﴾ لامُ قَسَمٍ عِنْدَ الجُمْهُورِ. وقِيلَ: هي لامُ تَأْكِيدٍ بَعْدَ تَأْكِيدٍ انْتَهى. وهَذا القَوْلُ الثّانِي خَطَأٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿لَيُبَطِّئَنَّ﴾ بِالتَّشْدِيدِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ: لَيُبَطِّئَنَّ بِالتَّخْفِيفِ. والقِراءَتانِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الفِعْلُ فِيهِما لازِمًا؛ لِأنَّهم يَقُولُونَ: أبْطَأ وبَطَّأ في مَعْنى بَطُؤَ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا بِالهَمْزَةِ أوِ التَّضْعِيفِ مِن بَطُؤَ، فَعَلى اللُّزُومِ المَعْنى أنَّهُ يَتَثاقَلُ ويُثَبَّطُ عَنِ الخُرُوجِ لِلْجِهادِ، وعَلى التَّعَدِّي أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ.
﴿فَإنْ أصابَتْكم مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إذْ لَمْ أكُنْ مَعَهم شَهِيدًا﴾ المُصِيبَةُ: الهَزِيمَةُ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِما يَلْحَقُ الإنْسانَ مِنَ العَتَبِ بِتَوْلِيَةِ الأدْبارِ وعَدَمِ الثَّباتِ. ومِنَ العَرَبِ مَن يَخْتارُ المَوْتَ عَلى الهَزِيمَةِ وقَدْ قالَ الشّاعِرُ:
؎إنْ كُنْتِ صادِقَةً كَما حَدَّثْتِنِي ∗∗∗ فَنَجَوْتِ مَنجى الحارِثِ بْنِ هِشامِ
؎تَرَكَ الأحِبَّةَ أنْ يُقاتِلَ عَنْهُمُ ∗∗∗ ونَجا بِرَأْسِ طِمِرَّةٍ ولِجامِ
عَيَّرَهُ بِالِانْهِزامِ وبِالفِرارِ عَنِ الأحِبَّةِ. وقالَ آخَرُ في المَدْحِ عَلى الثَّباتِ في الحَرْبِ والقَتْلِ فِيهِ:
؎وقَدْ كانَ فَوْتُ المَوْتِ سَهْلًا فَرَدَّهُ ∗∗∗ إلَيْهِ حِفاظُ المُرِّ والخُلُقُ الوَعْرُ
؎فَأثْبَتَ في مُسْتَنْقَعِ المَوْتِ رِجْلَهُ ∗∗∗ وقالَ لَها مِن تَحْتِ أُخْمُصِكِ الحَشْرُ
وقِيلَ: المُصِيبَةُ القَتْلُ في سَبِيلِ اللَّهِ؛ سَمَّوْا ذَلِكَ مُصِيبَةً عَلى اعْتِقادِهِمُ الفاسِدِ، أوْ عَلى أنَّ المَوْتَ كُلَّهُ مُصِيبَةٌ كَما سَمّاهُ اللَّهُ تَعالى. وقِيلَ: المُصِيبَةُ الهَزِيمَةُ والقَتْلُ. والشَّهِيدُ هُنا الحاضِرُ مَعَهم في مُعْتَرَكِ الحَرْبِ، أوِ المَقْتُولُ في سَبِيلِ اللَّهِ، يَقُولُهُ المُنافِقُ اسْتِهْزاءً؛ لِأنَّهُ لا يَعْتَقِدُ حَقِيقَةَ المُشاهَدَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ.
{"ayahs_start":71,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ خُذُوا۟ حِذۡرَكُمۡ فَٱنفِرُوا۟ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُوا۟ جَمِیعࣰا","وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّیُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَـٰبَتۡكُم مُّصِیبَةࣱ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِیدࣰا"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ خُذُوا۟ حِذۡرَكُمۡ فَٱنفِرُوا۟ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُوا۟ جَمِیعࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق