الباحث القرآني

﴿فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ قالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: نَزَلَتْ فِيمَن أرادَ التَّحاكُمَ إلى الطّاغُوتِ. ورَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ؛ لِأنَّهُ أشْبَهُ بِنَسَقِ الآياتِ. وقِيلَ في شَأْنِ الرَّجُلِ الَّذِي خاصَمَ الزُّبَيْرَ في السَّقْيِ بِماءِ الحَرَّةِ، وأنَّ الرَّسُولَ ﷺ قالَ: «اسْقِ يا زُبَيْرُ ثُمَّ أرْسِلِ الماءَ إلى جارِكَ فَغَضِبَ، وقالَ: " أنْ كانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَغَضِبَ الرَّسُولُ ﷺ، واسْتَوْعَبَ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ؛ فَقالَ: احْبِسْ يا زُبَيْرُ الماءَ حَتّى يَبْلُغَ الجَدْرَ، ثُمَّ أرْسِلِ الماءَ» . والرَّجُلُ هو مِنَ الأنْصارِ بَدْرِيٌّ، (p-٢٨٤)وقِيلَ هُ وحاطِبُ بْنُ أبِي بَلْتَعَةَ. وقِيلَ نَزَلَتْ نافِيَةً لِإيمانِ الرَّجُلِ الَّذِي قَتَلَهُ عُمَرُ؛ لِكَوْنِهِ رَدَّ حُكْمَ النَّبِيِّ ﷺ، ومُقِيمَةً عُذْرَ عُمَرَ في قَتْلِهِ، إذْ قالَ النَّبِيُّ: «ما كُنْتُ أظُنُّ أنَّ عُمَرَ يَجْتَرِئُ عَلى قَتْلِ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ» . وأقْسَمَ بِإضافَةِ الرَّبِّ إلى كافِ الخِطابِ تَعْظِيمًا لِلنَّبِيِّ ﷺ، وهو التِفاتٌ راجِعٌ إلى قَوْلِهِ: (جاءُوكَ) ولا في قَوْلِهِ: فَلا. قالَ الطَّبَرِيُّ: هي رَدٌّ عَلى ما تَقَدَّمَ تَقْدِيرَهُ: فَلَيْسَ الأمْرُ كَما يَزْعُمُونَ أنَّهم آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ القَسَمَ بِقَوْلِهِ: ﴿ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ . وقالَ غَيْرُهُ: قَدَّمَ لا عَلى القَسَمِ اهْتِمامًا بِالنَّفْيِ، ثُمَّ كَرَّرَها بَعْدُ تَوْكِيدًا لِلِاهْتِمامِ بِالنَّفْيِ، وكانَ يَصِحُّ إسْقاطُ (لا) الثّانِيَةِ، ويَبْقى أكْثَرُ الِاهْتِمامِ بِتَقْدِيمِ الأُولى وكانَ يَصِحُّ إسْقاطُ الأُولى ويَبْقى مَعْنى النَّفْيِ ويَذْهَبُ مَعْنى الِاهْتِمامِ. وقِيلَ الثّانِيَةُ زائِدَةٌ والقَسَمُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ حَرْفِ النَّفْيِ والمَنفِيِّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لا مَزِيدَةٌ؛ لِتَأْكِيدِ مَعْنى القَسَمِ، كَما زِيدَتْ في ﴿لِئَلّا يَعْلَمَ﴾ [الحديد: ٢٩]؛ لِتَأْكِيدِ وُجُوبِ العِلْمِ. ولا يُؤْمِنُونَ جَوابُ القَسَمِ. (فَإنْ قُلْتَ): هَلّا زَعَمْتَ أنَّها زِيدَتْ؛ لِتُظاهِرَ (لا) في لا يُؤْمِنُونَ. (قُلْتُ): يَأْبى ذَلِكَ اسْتِواءُ النَّفْيِ والإثْباتِ فِيهِ؛ وذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وما لا تُبْصِرُونَ إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [الحاقة: ٣٨] . انْتَهى كَلامُهُ. ومِثْلُ الآيَةِ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ولا واللَّهِ لا يُلْفى لِما بِي ولا لِلِما بِهِمْ أبَدًا دَواءُ وحَتّى هُنا غايَةٌ؛ أيْ يَنْتَفِي عَنْهُمُ الإيمانُ إلى هَذِهِ الغايَةِ؛ فَإذا وجَدَ ما بَعْدَ الغايَةِ كانُوا مُؤْمِنِينَ. وفِيما شَجَرَ بَيْنَهم عامٌّ في كُلِّ أمْرٍ وقَعَ بَيْنَهم فِيهِ نِزاعٌ وتَجاذُبٌ. ومَعْنى يُحَكِّمُوكَ، يَجْعَلُوكَ حَكَمًا. وفي الكَلامِ حَذْفُ التَّقْدِيرِ: فَتَقْضِي بَيْنَهم. ﴿ثُمَّ لا يَجِدُوا في أنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾؛ أيْ ضِيقًا مِن حُكْمِكَ. وقالَ مُجاهِدٌ: شَكًّا؛ لِأنَّ الشّاكَّ في ضِيقٍ مِن أمْرِهِ حَتّى يَلُوحَ لَهُ البَيانُ. وقالَ الضَّحّاكُ: إثْمًا؛ أيْ سَبَبُ إثْمٍ. والمَعْنى: لا يَخْطُرُ بِبالِهِمْ ما يَأْثَمُونَ بِهِ مِن عَدَمِ الرِّضا. وقِيلَ هَمًّا وحُزْنًا، ويُسَلِّمُوا؛ أيْ يَنْقادُوا، ويُذْعِنُوا لِقَضائِكَ، لا يُعارِضُونَ فِيهِ بِشَيْءٍ؛ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والجُمْهُورُ. وقِيلَ مَعْناهُ ويُسَلِّمُوا ما تَنازَعُوا فِيهِ لِحُكْمِكَ، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ؛ وأكَّدَ الفِعْلَ بِالمَصْدَرِ عَلى سَبِيلِ صُدُورِ التَّسْلِيمِ حَقِيقَةً؛ وحَسَّنَهُ كَوْنُهُ فاصِلَةً. وقَرَأ أبُو السَّمّالِ: فِيما شَجْرَ بِسُكُونِ الجِيمِ، وكَأنَّهُ فَرَّ مِن تَوالِي الحَرَكاتِ، ولَيْسَ بِقَوِيٍّ لِخِفَّةِ الفَتْحَةِ بِخِلافِ الضَّمَّةِ والكَسْرَةِ؛ فَإنَّ السُّكُونَ بَدَلَهُما مُطَّرِدٌ عَلى لُغَةِ تَمِيمٍ. ﴿ولَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكم أوِ اخْرُجُوا مِن دِيارِكم ما فَعَلُوهُ إلّا قَلِيلٌ مِنهُمْ﴾ قالَتِ اليَهُودُ لَمّا لَمْ يَرْضَ المُنافِقُ بِحُكْمِ الرَّسُولِ: ما رَأيْنا أسْخَفَ مِن هَؤُلاءِ لا يُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ، ويَتَّبِعُونَهُ، ويَطَئُونَ عَقِبَهُ، ثُمَّ لا يَرْضَوْنَ بِحُكْمِهِ، ونَحْنُ قَدْ أُمِرْنا بِقَتْلِ أنْفُسِنا فَفَعَلْنا، وبَلَغَ القَتْلُ فِينا سَبْعِينَ ألْفًا. فَقالَ ثابِتُ بْنُ قَيْسٍ: لَوْ كُتِبَ ذَلِكَ عَلَيْنا لَفَعَلْنا فَنَزَلَتْ. ورُوِيَ هَذا السَّبَبُ بِألْفاظٍ مُتَغايِرَةٍ والمَعْنى قَرِيبٌ. ومَعْنى الآيَةِ: أنَّهُ تَعالى لَوْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ أنْ يَقْتُلُوا أنْفُسَهم، إمّا أنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ، أوْ يَقْتُلَ بَعْضُهم بَعْضًا، أوْ أنْ يَخْرُجُوا مِن دِيارِهِمْ كَما فَرَضَ ذَلِكَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ حِينَ اسْتُتِيبُوا مِن عِبادَةِ العِجْلِ لَمْ يُطِعْ مِنهم إلّا القَلِيلُ، وهَذا فِيهِ تَوْبِيخٌ عَظِيمٌ، حَيْثُ لا يَمْتَثِلُ أمْرَ اللَّهِ إلّا القَلِيلُ. وقالَ السَّبِيعِيُّ: لَمّا نَزَلَتْ قالَ رَجُلٌ: لَوْ أمَرَنا لَفَعَلْنا، والحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عافانا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: «إنَّ مِن أُمَّتِي رِجالًا الإيمانُ أثْبَتُ في قُلُوبِهِمْ مِنَ الجِبالِ الرَّواسِي»؛ قالَ ابْنُ وهْبٍ: الرَّجُلُ القائِلُ ذَلِكَ هُ وأبُو بَكْرٍ. ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: لَوْ كُتِبَ عَلَيْنا ذَلِكَ؛ لَبَدَأْتُ بِنَفْسِي، وأهْلِ بَيْتِي. وذَكَرَ النَّقّاشُ أنَّهُ عُمَرُ. وذَكَرَ أبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: أنَّ القائِلَ مِنهم عَمّارٌ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وثابِتُ بْنُ قَيْسٍ. والضَّمِيرُ في عَلَيْهِمْ قِيلَ يَعُودُ عَلى المُنافِقِينَ؛ أيْ ما فَعَلَهُ إلّا قَلِيلٌ مِنهم رِياءً، وسُمْعَةً، وحِينَئِذٍ يَصْعُبُ الأمْرُ عَلَيْهِمْ، ويَنْكَشِفُ كُفْرُهم. وقِيلَ يَعُودُ عَلى النّاسِ مُؤْمِنِهِمْ، ومُنافِقِهِمْ. وكَسَرَ النُّونَ مِن (أنِ)، وضَمَّ الواوَ مِن (أوُ)، أبُو عَمْرٍو (p-٢٨٥)وكَسَرَهُما حَمْزَةُ، وعاصِمٌ، وضَمَّهُما باقِي السَّبْعَةِ. وأنْ هُنا يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً، وأنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً عَلى ما قَرَّرُوا أنَّ (أنْ) تُوصَلُ بِفِعْلِ الأمْرِ. وفِي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى صُعُوبَةِ الخُرُوجِ مِنَ الدِّيارِ؛ إذْ قَرَنَهُ اللَّهُ تَعالى بِقَتْلِ الأنْفُسِ. وقَدْ خَرَجَ الصَّحابَةُ المُهاجِرُونَ مِن دِيارِهِمْ وفارَقُوا أهالِيَهم حِينَ أمَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِالهِجْرَةِ، وارْتَفَعَ (قَلِيلٌ) عَلى البَدَلِ مِنَ الواوِ في فَعَلُوهُ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ، وعَلى العَطْفِ عَلى الضَّمِيرِ عَلى قَوْلِ الكُوفِيِّينَ وبِالرَّفْعِ قَرَأ الجُمْهُورُ. وقَرَأ أُبَيٌّ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وابْنُ عامِرٍ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ: (إلّا قَلِيلًا) بِالنَّصْبِ، ونَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلى أنَّ الِاخْتِيارَ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ اتِّباعُ ما بَعْدَ إلّا لِما قَبْلَها في الإعْرابِ عَلى طَرِيقَةِ البَدَلِ أوِ العَطْفِ، بِاعْتِبارِ المَذْهَبَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْناهُما. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقُرِئَ (إلّا قَلِيلًا) بِالنَّصْبِ عَلى أصْلِ الِاسْتِثْناءِ، أوْ عَلى إلّا فِعْلًا قَلِيلًا انْتَهى. إلّا ما النَّصْبُ عَلى أصْلِ الِاسْتِثْناءِ فَهو الَّذِي وجَّهَ النّاسُ عَلَيْهِ هَذِهِ القِراءَةَ. وأمّا قَوْلُهُ: عَلى إلّا فِعْلًا قَلِيلًا فَهو ضَعِيفٌ؛ لِمُخالَفَةِ مَفْهُومِ التَّأْوِيلِ قِراءَةَ الرَّفْعِ، ولِقَوْلِهِ مِنهم فَإنَّهُ تَعَلَّقَ عَلى هَذا التَّرْكِيبِ: لَوْ قُلْتَ ما ضَرَبُوا زَيْدًا إلّا ضَرْبًا قَلِيلًا مِنهم لَمْ يُحْسِنْ أنْ يَكُونَ مِنهم لا فائِدَةَ في ذِكْرِهِ. وضَمِيرُ النَّصْبِ في فَعَلُوهُ عائِدٌ عَلى أحَدِ المَصْدَرَيْنِ المَفْهُومَيْنِ مِن قَوْلِهِ: أنِ اقْتُلُوا أوِ اخْرُجُوا. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: الكِنايَةُ في قَوْلِهِ ما فَعَلُوهُ عائِدٌ عَلى القَتْلِ والخُرُوجِ مَعًا، وذَلِكَ لِأنَّ الفِعْلَ جِنْسٌ واحِدٌ، وإنِ اخْتَلَفَتْ صُورَتُهُ انْتَهى. وهو كَلامٌ غَيْرُ نَحْوِيٍّ. ﴿ولَوْ أنَّهم فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرًا لَهم وأشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ الضَّمِيرُ في: ولَوْ أنَّهم مُخْتَصٌّ بِالمُنافِقِينَ، ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ أوَّلُ الآيَةِ عامًّا، وآخِرُها خاصًّا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ما يُوعَظُونَ بِهِ مِنَ اتِّباعِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وطاعَتِهِ والِانْقِيادِ لِما يَراهُ، ويَحْكُمُ بِهِ لِأنَّهُ الصّادِقُ المَصْدُوقُ الَّذِي لا يَنْطِقُ عَنِ الهَوى لَكانَ خَيْرًا لَهم في عاجِلِهِمْ وآجِلِهِمْ، وأشَدَّ تَثْبِيتًا لِإيمانِهِمْ، وأبْعَدَ مِن الِاضْطِرابِ فِيهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَوْ أنَّ هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ اتَّعَظُوا، وأنابُوا لَكانَ خَيْرًا لَهم، وتَثْبِيتًا مَعْناهُ يَقِينًا، وتَصْدِيقًا انْتَهى. وكِلاهُما شَرَحَ ما يُوعَظُونَ بِهِ بِخِلافِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ الظّاهِرُ؛ لِأنَّ الَّذِي يُوعَظُ بِهِ لَيْسَ هو اتِّباعَ الرَّسُولِ وطاعَتَهُ. ولَيْسَ مَدْلُولُ ما يُوعَظُونَ بِهِ اتَّعَظُوا وأنابُوا. وقِيلَ الوَعْظُ هُنا بِمَعْنى الأمْرِ؛ أيْ ولَوْ أنَّهم فَعَلُوا ما يُؤْمَرُونَ بِهِ فانْتَهَوْا عَمّا نُهُوا عَنْهُ. وقالَ في رَيِّ الظَّمْآنِ: ما يُوعَظُونَ بِهِ؛ أيْ ما يُوصَوْنَ ويُؤْمَرُونَ بِهِ مِنَ الإخْلاصِ والتَّسْلِيمِ. وقالَ الرّاغِبُ: أخْبَرَ أنَّهم لَوْ قَبِلُوا المَوْعِظَةَ لَكانَ خَيْرًا لَهم. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: المُرادُ أنَّهم لَوْ فَعَلُوا ما كُلِّفُوا بِهِ وأُمِرُوا، وسُمِّيَ هَذا التَّكْلِيفُ والأمْرُ وعْظًا؛ لِأنَّ تَكالِيفَ اللَّهِ تَعالى مَقْرُونَةٌ بِالوَعْدِ والوَعِيدِ والتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ والثَّوابِ والعِقابِ، وما كانَ كَذَلِكَ فَإنَّهُ يُسَمّى وعْظًا. وقالَ الماتُرِيدِيُّ: وقِيلَ ما يُوعَظُونَ بِهِ مِنَ الأمْرِ مِنَ القُرْآنِ. وهَذِهِ كُلُّها تَفاسِيرُ تُخالِفُ الظّاهِرَ؛ لِأنَّ الوَعْظَ هو التِّذْكارُ بِما يَحِلُّ بِمَن خالَفَ أمْرَ اللَّهِ تَعالى مِنَ العِقابِ؛ فالمَوْعُوظُ بِهِ هي الجُمَلُ الدّالَّةُ عَلى ذَلِكَ، ولا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلى هَذا الظّاهِرِ؛ لِأنَّهم لَمْ يُؤْمَرُوا بِأنْ يَفْعَلُوا المَوْعُوظَ بِهِ؛ وإنَّما عَرَضَ لَهم شَرْحُ ذَلِكَ بِما خالَفَ الظّاهِرَ؛ لِأنَّهم عَلَّقُوا بِهِ بِقَوْلِهِ: ما يُوعَظُونَ، عَلى طَرِيقَةِ ما يُفْهَمُ مِن قَوْلِكَ: وعَظْتُكَ بِكَذا، فَتَكُونُ الباءُ قَدْ دَخَلَتْ عَلى الشَّيْءِ المَوْعُوظِ بِهِ، وهي الجُمْلَةُ الدّالَّةُ عَلى الوَعْظِ؛ أمّا إذا كانَ المَعْنى عَلى أنَّ الباءَ لِلسَّبَبِيَّةِ فَيُحْمَلُ إذْ ذاكَ اللَّفْظُ عَلى الظّاهِرِ؛ ويَصِحُّ المَعْنى، ويَكُونُ التَّقْدِيرُ: ولَوْ أنَّهم فَعَلُوا الشَّيْءَ الَّذِي يُوعَظُونَ بِسَبَبِهِ؛ أيْ بِسَبَبِ تَرْكِهِ. ودَلَّ عَلى حَذْفِ تَرْكِهِ قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ أنَّهم فَعَلُوا﴾، ويَبْقى لَفْظُ ﴿يُوعَظُونَ﴾ عَلى ظاهِرِهِ، ولا يُحْتاجُ إلى ما تَأوَّلُوهُ. ﴿لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾؛ أيْ يَحْصُلُ لَهم خَيْرُ الدّارَيْنِ، فَلا يَكُونُ أفْعَلَ التَّفْضِيلِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَهُ؛ أيْ لَكانَ أنْفَعَ لَهم مِن غَيْرِهِ: وأشَدَّ تَثْبِيتًا؛ لِأنَّهُ حَقٌّ، فَهو أبْقى وأثْبَتُ. أوْ لِأنَّ الطّاعَةَ تَدْعُو إلى أمْثالِها، أوْ لِأنَّ الإنْسانَ (p-٢٨٦)يَطْلُبُ أوَّلًا تَحْصِيلَ الخَيْرِ؛ فَإذا حَصَّلَهُ طَلَبَ بَقاءَهُ. فَقَوْلُهُ: لَكانَ خَيْرًا لَهم إشارَةٌ إلى الحالَةِ الأُولى. وقَوْلُهُ: وأشَدَّ تَثْبِيتًا إشارَةٌ إلى الحالَةِ الثّانِيَةِ؛ قالَهُ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب