الباحث القرآني

﴿يا أيُّها الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقًا لِما مَعَكم مِن قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّها عَلى أدْبارِها أوْ نَلْعَنَهم كَما لَعَنّا أصْحابَ السَّبْتِ وكانَ أمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٤٨] ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أنْفُسَهم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشاءُ ولا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [النساء: ٤٩] ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ وكَفى بِهِ إثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء: ٥٠] ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ والطّاغُوتِ ويَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ [النساء: ٥١] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ومَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ [النساء: ٥٢] ﴿أمْ لَهم نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ فَإذًا لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيرًا﴾ [النساء: ٥٣] ﴿أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْناهم مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٥٤] ﴿فَمِنهم مَن آمَنَ بِهِ ومِنهم مَن صَدَّ عَنْهُ وكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ [النساء: ٥٥] ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نارًا كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهم بَدَّلْناهم جُلُودًا غَيْرَها لِيَذُوقُوا العَذابَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ٥٦] طَمَسَ: مُتَعَدٍّ ولازِمٌ. تَقُولُ: طَمَسَ المَطَرُ الأعْلامَ، أيْ: مَحا آثارَها، وطُمِسَتِ الأعْلامُ دَرَسَتْ، وطَمَسَ الطَّرِيقُ دَرَسَ وعَفَتْ أعْلامُهُ، قالَهُ أبُو زَيْدٍ. ومِنَ (p-٢٦٦)المُتَعَدِّي: ﴿فَإذا النُّجُومُ طُمِسَتْ﴾ [المرسلات: ٨] أيِ اسْتُؤْصِلَتْ. وقالَ ابْنُ عَرَفَةَ في قَوْلِهِ: ﴿اطْمِسْ عَلى أمْوالِهِمْ﴾ [يونس: ٨٨] أيْ أذْهِبْها كُلِّيَّةً، وأعْمى مَطْمُوسٌ، أيْ: مَسْدُودُ العَيْنَيْنِ. وقالَ كَعْبٌ: ؎مِن كُلِّ نَضّاخَةِ الذِّفْرى إذا عَرِقَتْ عُرْضَتُها طامِسُ الأعْلامِ مَجْهُولُ والطَّمْسُ والطَّسْمُ والطَّلْسُ والدَّرْسُ كُلُّها مُتَقارِبَةٌ في المَعْنى. الفَتِيلُ: فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ. فَقِيلَ: هو الخَيْطُ الَّذِي في شِقِّ نَواةِ التَّمْرَةِ. وقِيلَ: ما خَرَجَ مِنَ الوَسَخِ مِن بَيْنِ كَفَّيْكَ وأُصْبُعَيْكَ إذا فَتَلْتَهُما. الجِبْتُ: اسْمٌ لِصَنَمٍ ثُمَّ صارَ مُسْتَعْمَلًا لِكُلِّ باطِلٍ، ولِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أقاوِيلُ المُفَسِّرِينَ عَلى ما سَيَأْتِي. وقالَ قُطْرُبٌ: الجِبْتُ الجِبْسُ، وهو الَّذِي لا خَيْرَ عِنْدَهُ، قُلِبَتِ السِّينُ تاءً. قِيلَ: وإنَّما قالَ هَذا لِأنَّ الجِبْتَ مُهْمَلٌ. النَّقِيرُ: النُّقْطَةُ الَّتِي عَلى ظَهْرِ النَّواةِ مِنها تَنْبُتُ النَّخْلَةُ قالَهُ: ابْنُ عَبّاسٍ. وقالَ الضَّحّاكُ: هو البَياضُ الَّذِي في وسَطِها. النُّضْجُ: أخْذُ الشَّيْءِ في التَّهَرِّي وتَفَرَّقُ أجْزائِهِ، ومِنهُ نُضْجُ اللَّحْمِ، ونُضْجُ الثَّمَرَةِ. يُقالُ: نَضِجَ الشَّيْءُ يَنْضَجُ نُضْجًا ونِضاجًا. الجِلْدُ مَعْرُوفٌ. ﴿ياأيُّها الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ﴾ دَعا رَسُولُ اللَّهِ أحْبارَ اليَهُودِ مِنهم الأعْمَشِ بْنُ صُورِيا إلى الإسْلامِ وقالَ لَهم: (إنَّكم لَتَعْلَمُونَ أنَّ الَّذِي جِئْتُ بِهِ حَقٌّ) فَقالُوا: ما نَعْرِفُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ. قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها هو أنَّهُ تَعالى لَمّا رَجّاهم بِقَوْلِهِ: ﴿ولَوْ أنَّهم قالُوا﴾ [النساء: ٤٦] الآيَةَ. خاطَبَ مَن يُرْجى إيمانُهُ مِنهم بِالأمْرِ بِالإيمانِ، وقَرَنَ بِالوَعِيدِ البالِغِ عَلى تَرْكِهِ لِيَكُونَ أدْعى لَهم إلى الإيمانِ والتَّصْدِيقِ بِهِ، ثُمَّ أزالَ خَوْفَهم مِن سُوءِ الكَبائِرِ السّابِقَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨] الآيَةَ. وأعْلَمَهم أنَّ تَزْكِيَتَهم أنْفُسَهم بِما لَمْ يُزَكِّهِمْ بِهِ اللَّهُ لا يَنْفَعُ. والَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ هُنا اليَهُودُ، والكِتابُ التَّوْراةُ قالَهُ: الجُمْهُورُ، أوِ اليَهُودُ والنَّصارى قالَهُ: الماوَرْدِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ. والكِتابُ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ، و﴿بِما نَزَّلْنا﴾ هو القُرْآنُ بِلا خِلافٍ، ولِما مَعَكم مِن شَرْعٍ ومِلَّةٍ لا لِما مَعَهم مِن مُبَدَّلٍ ومُغَيَّرٍ، ﴿مِن قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّها عَلى أدْبارِها﴾ . قَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿نَطْمِسَ﴾ بِكَسْرِ المِيمِ. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ: بِضَمِّها. وهُما لُغَتانِ، والظّاهِرُ أنْ يُرادَ بِالوُجُوهِ مَدْلُولُها الحَقِيقِيُّ، وأمّا طَمْسُها فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وعَطِيَّةُ العَوْفِيُّ: هو أنْ تُزالَ العَيْنانِ خاصَّةً مِنها وتُرَدَّ في القَفا، فَيَكُونُ ذَلِكَ رَدًّا عَلى الدُّبُرِ ويَمْشِي القَهْقَرى. وعَلى هَذا يَكُونُ ذَلِكَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: مِن قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ عُيُونَ وُجُوهٍ، ولا يُرادُ بِذَلِكَ مُطْلَقُ وُجُوهٍ، بَلِ المَعْنى وُجُوهُكم. وقالَتْ طائِفَةٌ: طَمْسُ الوُجُوهِ أنْ يُعَفّى آثارُ الحَواسِّ مِنها فَتَرْجِعَ كَسائِرِ الأعْضاءِ في الخُلُوِّ مِن آثارِ الحَواسِّ مِنها، والرَّدُّ عَلى الأدْبارِ هو بِالمَعْنى أيْ: خُلُوُّهُ مِنَ الحَواسِّ دَثِرَ الوَجْهُ لِكَوْنِهِ عابِرًا بِها، وحَسَّنَ هَذا القَوْلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وجَوَّزَهُ وأوْضَحَهُ، فَقالَ: أنْ (p-٢٦٧)نَطْمِسَ وُجُوهًا، أيْ: نَمْحُوَ تَخْطِيطَ صُوَرِها مِن عَيْنٍ وحاجِبٍ وأنْفٍ وفَمٍ، فَنَرُدَّها عَلى أدْبارِها، فَنَجْعَلَها عَلى هَيْئَةِ أدْبارِها وهي الأقْفاءُ، مَطْمُوسَةً مِثْلَها. والفاءُ لِلتَّسْبِيبِ، وإنْ جَعَلْتَها لِلتَّعْقِيبِ عَلى أنَّهم تُوُعِّدُوا بِالعِقابَيْنِ أحَدُهُما عَقِيبَ الآخَرِ رَدُّها عَلى أدْبارِها بَعْدَ طَمْسِها، فالمَعْنى: أنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنُنَكِّسَها، الوُجُوهُ إلى خَلْفُ، والأقْفاءُ إلى قُدّامُ انْتَهى. والطَّمْسُ بِمَعْنى المَحْوِ الَّذِي ذَكَرَهُ - مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، واخْتارَهُ القُتَبِيُّ. وقالَ قَتادَةُ والضَّحّاكُ: مَعْناهُ نُعْمِي أعْيُنَها. وذَكَرَ الوُجُوهَ وأرادَ العُيُونَ، لِأنَّ الطَّمْسَ مِن نُعُوتِ العَيْنِ. قالَ تَعالى: ﴿فَطَمَسْنا أعْيُنَهُمْ﴾ [القمر: ٣٧] . ويُرْوى هَذا أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقالَ الفَرّاءُ: طَمْسُ الوُجُوهِ جَعْلُها مَنابِتَ لِلشَّعْرِ كَوُجُوهِ القِرَدَةِ. وقِيلَ: رَدُّها إلى صُورَةٍ بَشِعَةٍ كَوُجُوهِ الخَنازِيرِ والقِرَدَةِ. وقالَ مُجاهِدٌ والسُّدِّيُّ والحَسَنُ: ذَلِكَ تَجَوُّزٌ، والمُرادُ وُجُوهُ الهُدى والرُّشْدِ، وطَمْسُها حَتْمُ الإضْلالِ والصَّدِّ عَنْها، والرَّدُّ عَلى الأدْبارِ التَّصْيِيرُ إلى الكُفْرِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الوُجُوهُ هي أوْطانُهم وسُكْناهم في بِلادِهِمُ الَّتِي خَرَجُوا إلَيْها، وطَمْسُها إخْراجُهم مِنها. والرَّدُّ عَلى الأدْبارِ رُجُوعُهم إلى الشّامِ مِن حَيْثُ أتَوْا أوَّلًا. وحَسَّنَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذا القَوْلَ، فَقالَ: ووَجْهٌ آخَرُ وهو أنْ يُرادَ بِالطَّمْسِ القَلْبُ والتَّغْيِيرُ، كَما طَمَسَ أمْوالَ القِبْطِ فَقَلَبَها حِجارَةً، وبِالوُجُوهِ رُءُوسُهم ووُجَهاؤُهم أيْ: مِن قَبْلِ أنْ نُغَيِّرَ أحْوالَ وُجَهائِهِمْ فَنَسْلُبَهم إقْبالَهم ووَجاهَتَهم، وتَكْسُوها صِغارُهم وأدْبارُهم، أوْ نَرُدُّهم إلى حَيْثُ جاءُوا مِنهُ. وهي أذْرِعاتُ الشّامِ، يُرِيدُ إجْلاءَ بَنِي النَّضِيرِ انْتَهى. ﴿أوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ هو مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: أنْ نَطْمِسَ. وظاهِرُ اللَّعْنَةِ هو المُتَعارَفُ كَما في قَوْلِهِ: ﴿مَن لَعَنَهُ اللَّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٦٠] . وقالَ الحَسَنُ: مَعْناهُ نَمْسَخُهم كَما مَسَخْنا أصْحابَ السَّبْتِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هم أصْحابُ أيْلَةَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا في السَّبْتِ بِالصَّيْدِ، وكانَتْ لَعْنَتُهم أنْ مُسِخُوا خَنازِيرَ وقِرْدَةً. وقِيلَ: مَعْناهُ نَهِيمُهم في التِّيهِ حَتّى يَمُوتَ أكْثَرُهم. وظاهِرُ قَوْلِهِ: مِن قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ أوْ نَلْعَنَ - أنَّ ذَلِكَ يَكُونُ في الدُّنْيا. ولِذَلِكَ رُوِيَ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ لَمّا سَمِعَ هَذِهِ الآيَةَ جاءَ إلى النَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ أنْ يَأْتِيَ أهْلَهُ ويَدُهُ عَلى وجْهِهِ فَأسْلَمَ وقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما كُنْتُ أرى أنْ أصِلَ إلَيْكَ حَتّى يُحَوَّلَ وجْهِي في قَفايَ. وقالَ مالِكٌ: كانَ إسْلامُ كَعْبِ الأحْبارِ أنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ مِنَ اللَّيْلِ وهو يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ، فَوَضَعَ كَفَّهُ عَلى وجْهِهِ ورَجَعَ القَهْقَرى إلى بَيْتِهِ فَأسْلَمَ مَكانَهُ، وقالَ: واللَّهِ لَقَدْ خِفْتُ أنْ لا أبْلُغُ بَيْتِي حَتّى يُطْمَسَ وجْهِي. وقِيلَ: الطَّمْسُ المَسْخُ لِلْيَهُودِ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ ولا بُدَّ. وقِيلَ: المُرادُ أنَّهُ يَحِلُّ بِهِمْ في القِيامَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أنَكى لَهم لِفَضِيحَتِهِمْ بَيْنَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ، ويَكُونُ ذَلِكَ أوَّلَ ما عُجِّلَ لَهم مِنَ العَذابِ. وهَذا إذا حُمِلَ طَمْسُ الوُجُوهِ عَلى الحَقِيقَةِ، وإمّا إنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ تَغْيِيرُ أحْوالِ وُجَهائِهِمْ أوْ وُجُوهِ الهُدى والرُّشْدِ، فَقَدْ وقَعَ ذَلِكَ. وإنْ كانَ الطَّمْسُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ اللَّعْنُ، فَإنَّهم مَلْعُونُونَ بِكُلِّ لِسانٍ. وتَعْلِيقُ الإيمانِ بِقَبْلِيَّةِ أحَدِ أمْرَيْنِ لا يَلْزَمُ مِنهُ وُقُوعُهُما، بَلْ مَتى وقَعَ أحَدُهُما صَحَّ التَّعْلِيقُ، ولا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ تَعْيِينُ أحَدِهِما. وقِيلَ: الوَعِيدُ مَشْرُوطٌ بِالإيمانِ، وقَدْ آمَنَ مِنهم ناسٌ. و(مِن قَبْلُ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (آمَنُوا)، و﴿عَلى أدْبارِها﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ ﴿فَنَرُدَّها﴾ . وقالَ أبُو البَقاءِ: عَلى أدْبارِها حالٌ مِن ضَمِيرِ الوُجُوهِ، والضَّمِيرِ المَنصُوبِ في ﴿نَلْعَنَهُمْ﴾ . قِيلَ: عائِدٌ عَلى الوُجُوهِ إنْ أُرِيدَ بِهِ الوُجَهاءُ، أوْ عائِدٌ عَلى أصْحابِ الوُجُوهِ، لِأنَّ المَعْنى: مِن قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوهَ قَوْمٍ، أوْ عَلى الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ عَلى طَرِيقِ الِالتِفاتِ، وهَذا عِنْدِي أحْسَنُ. ومُحَسِّنُ هَذا الِالتِفاتِ هو أنَّهُ تَعالى لَمّا ناداهم كانَ ذَلِكَ تَشْرِيفًا لَهم، وهَزَّ السَّماعِ ما يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ، ثُمَّ ألْقى إلَيْهِمُ الأمْرَ بِالإيمانِ بِما نَزَلَ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ الَّذِي نَزَلَ هو مُصَدِّقٌ لِما مَعَهم مِن كِتابٍ، فَكانَ ذَلِكَ أدْعى إلى الإيمانِ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذا الوَعِيدَ البالِغَ فَحَذَفَ المُضافَ إلَيْهِ مِن قَوْلِهِ: ﴿مِن قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ (p-٢٦٨)والمَعْنى: وُجُوهَكم، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿أوْ نَلْعَنَهُمْ﴾، فَأتى بِضَمِيرِ الغَيْبَةِ، لِأنَّ الخِطابَ حِينَ كانَ الوَعِيدُ بِطَمْسِ الوُجُوهِ وبِاللَّعْنَةِ لَيْسَ لَهم لِيَبْقى التَّأْنِيسُ والهَمُّ والِاسْتِدْعاءُ إلى الإيمانِ غَيْرَ مَشُوبٍ بِمُفاجَأةِ الخِطابِ الَّذِي يُوحِشُ السّامِعَ ويُرَوِّعُ القَلْبَ ويَصِيرُ أدْعى إلى عَدَمِ القَبُولِ، وهَذا مِن جَلِيلِ المُخاطَبَةِ. وبَدِيعِ المُحاوَرَةِ. ﴿وكانَ أمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ الأمْرُ هُنا واحِدُ الأُمُورِ، واكْتَفى بِهِ لِأنَّهُ دالٌّ عَلى الجِنْسِ، وهو عِبارَةٌ عَنِ المَخْلُوقاتِ: كالعَذابِ، واللَّعْنَةِ، والمَغْفِرَةِ. وقِيلَ: المُرادُ بِهِ المَأْمُورُ، مَصْدَرٌ وقَعَ مَوْقِعُ المَفْعُولِ، والمَعْنى: الَّذِي أرادَهُ أوْجَدَهُ. وقِيلَ: مَعْناهُ أنَّ كُلَّ أمْرٍ أُخِّرَ تَكْوِينُهُ فَهو كائِنٌ لا مَحالَةَ والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى لا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُرِيدُ أنْ يَفْعَلَهُ. وقالَ: وكانَ إخْبارًا عَنْ جَرَيانِ عادَةِ اللَّهِ في تَهْدِيدِهِ الأُمَمَ السّالِفَةَ، وأنَّ ذَلِكَ واقِعٌ لا مَحالَةَ، فاحْتَرِزُوا وكُونُوا عَلى حَذَرٍ مِن هَذا الوَعِيدِ. ولِذَلِكَ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولا بُدَّ أنْ يَقَعَ أحَدُ الأمْرَيْنِ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، يَعْنِي الطَّمْسَ واللَّعْنَةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب