الباحث القرآني
﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ﴾ قالَ قَتادَةُ: نَزَلَتْ في اليَهُودِ. وفي رِوايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: في رِفاعَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ. وقِيلَ: في غَيْرِهِ مِنَ اليَهُودِ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ شَيْئًا مِن أحْوالِ (p-٢٦١)الآخِرَةِ، وأنَّ الكُفّارَ إذْ ذاكَ يَوَدُّونَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الأرْضُ ولا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، وجاءَتْ هَذِهِ الآيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ كالِاعْتِراضِ بَيْنَ ذِكْرِ أحْوالِ الكُفّارِ في الآخِرَةِ، وذِكْرِ أحْوالِهِمْ في الدُّنْيا وما هم عَلَيْهِ مِن مُعاداةِ المُؤْمِنِينَ، وكَيْفَ يُعامِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الَّذِي يَأْتِي شَهِيدًا عَلَيْهِمْ وعَلى غَيْرِهِمْ. ولَمّا كانَ اليَهُودُ أشَدَّ إنْكارًا لِلْحَقِّ، وأبْعَدَ مِن قَبُولِ الخَيْرِ. وكانَ قَدْ تَقَدَّمَ أيْضًا ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ويَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبُخْلِ ويَكْتُمُونَ﴾ [النساء: ٣٧]، وهم أشَدُّ النّاسِ تَحَلِّيًا بِهَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ، أخَذَ يُذَكِّرُهم بِخُصُوصِيَّتِهِمْ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ﴾ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٤٣] فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ.
والنَّصِيبُ: الحَظُّ. ومِنَ الكِتابِ: يُحْتَمَلُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِـ ﴿أُوتُوا﴾، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لَ نَصِيبًا. وظاهِرُ لَفْظِ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا﴾ يَشْمَلُ اليَهُودَ والنَّصارى، ويَكُونُ الكِتابُ عِبارَةً عَنِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ. وقِيلَ: الكِتابُ هُنا التَّوْراةُ، والنَّصِيبُ قِيلَ: بَعْضُ عِلْمِ التَّوْراةِ، لا العَمَلِ بِما فِيها. وقِيلَ: عِلْمُ ما هو حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ مِنهُ فَحَسْبُ. وقِيلَ: كُفْرُهم بِهِ. وقِيلَ: عِلْمُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ.
﴿يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ﴾ المَعْنى: يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ بِالهُدى، كَما قالَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾ [البقرة: ١٦] .
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: اسْتَبْدَلُوا الضَّلالَةَ بِالإيمانِ. وقالَ مُقاتِلٌ: اسْتَبْدَلُوا التَّكْذِيبَ بِالنَّبِيِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ بِإيمانِهِمْ بِهِ قَبْلَ ظُهُورِهِ واسْتِنْصارِهِمْ بِهِ انْتَهى. ودَلَّ لَفْظُ الِاشْتِراءِ عَلى إيثارِ الضَّلالَةِ عَلى الهُدى، فَصارَ ذَلِكَ بَغْيًا شَدِيدًا عَلَيْهِمْ، وتَوْبِيخًا فاضِحًا لَهم، حَيْثُ هم عِنْدَهم حَظٌّ مِن عِلْمِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، ومَعَ ذَلِكَ آثَرُوا الكُفْرَ عَلى الإيمانِ. وكِتابُهم طافِحٌ بِوُجُوبِ اتِّباعِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهم في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ. وقِيلَ: اشْتِراءُ الضَّلالَةِ هُنا هو ما كانُوا يَبْذُلُونَ مِن أمْوالِهِمْ لِأحْبارِهِمْ عَلى تَثْبِيتِ دِينِهِمْ، قالَهُ الزَّجّاجُ.
﴿ويُرِيدُونَ أنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ أيْ: لَمْ يَكْفِهِمْ أنْ ضَلُّوا في أنْفُسِهِمْ حَتّى تَعَلَّقَتْ آمالُهم بِضَلالِكم أنْتُمْ أيُّها المُؤْمِنُونَ عَنْ سَبِيلِ الحَقِّ، لِأنَّهم لَمّا عَلِمُوا أنَّهم قَدْ خَرَجُوا مِنَ الحَقِّ إلى الباطِلِ كَرِهُوا أنْ يَكُونَ المُؤْمِنُونَ مُخْتَصِّينَ بِاتِّباعِ الحَقِّ، فَأرادُوا أنْ يَضِلُّوا كَما ضَلُّوا هم كَما قالَ تَعالى: ﴿ودُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً﴾ [النساء: ٨٩] وقَرَأ النَّخَعِيُّ: وتُرِيدُونَ بِالتّاءِ بِاثْنَتَيْنِ مِن فَوْقُ، قِيلَ: مَعْناهُ وتُرِيدُونَ أيُّها المُؤْمِنُونَ أنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ أيْ: تَدَّعُونَ الصَّوابَ في اجْتِنابِهِمْ، وتَحْسَبُونَهم غَيْرَ أعْداءِ اللَّهِ. وقُرِئَ: أنْ يَضِلُّوا بِالياءِ وفَتْحِ الضّادِ وكَسْرِها.
﴿واللَّهُ أعْلَمُ بِأعْدائِكُمْ﴾ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى الوَصْفِ المُنافِي لِوِدادِ الخَيْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ وهي العَداوَةُ. وفِيهِ إشارَةٌ إلى التَّحْذِيرِ مِنهم، وتَوْبِيخٌ عَلى الِاسْتِنامَةِ إلَيْهِمْ والرُّكُونِ، والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى قَدْ أخْبَرَ بِعَداوَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيَجِبُ حَذَرُهم كَما قالَ تَعالى: ﴿هُمُ العَدُوُّ فاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون: ٤] و(أعْلَمُ) عَلى بابِها مِنَ التَّفْضِيلِ، أيْ: أعْلَمُ بِأعْدائِكم مِنكم. وقِيلَ: بِمَعْنى عَلِيمٍ، أيْ: عَلِيمٌ بِأعْدائِكم.
﴿وكَفى بِاللَّهِ ولِيًّا وكَفى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ ومَن كانَ اللَّهُ ولَيَّهُ ونَصِيرَهُ فَلا يُبالِي بِالأعْداءِ، فَثِقُوا بِوِلايَتِهِ ونُصْرَتِهِ دُونَهم أوْ لا تُبالُوا بِهِمْ، فَإنَّهُ يَنْصُرُكم عَلَيْهِمْ، ويَكْفِيكم مَكْرَهم. وقِيلَ: المَعْنى ولِيًّا لِرَسُولِهِ، نَصِيرًا لِدِينِهِ.
والباءُ في (بِاللَّهِ) زائِدَةٌ، ويَجُوزُ حَذْفُها كَما قالَ: سُحَيْمٌ:
؎كَفى الشَّيْبُ والإسْلامُ لِلْمَرْءِ ناهِيًا
وزِيادَتُها في فاعِلِ كَفى وفاعِلِ يَكْفِي مُطَّرِدَةٌ كَما قالَ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: ٥٣] وقالَ الزَّجّاجُ: دَخَلَتِ الباءُ في الفاعِلِ، لِأنَّ مَعْنى الكَلامِ الأمْرُ، أيِ: اكْتَفُوا بِاللَّهِ. وكَلامُ الزَّجّاجِ مُشْعِرٌ أنَّ الباءَ لَيْسَتْ بِزائِدَةٍ، ولا يَصِحُّ ما قالَ مِنَ المَعْنى، لِأنَّ الأمْرَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ فاعِلُهُ هُمُ المُخاطِبُونَ، ويَكُونُ (بِاللَّهِ) مُتَعَلِّقًا بِهِ. وكَوْنُ الباءِ دَخَلَتْ في الفاعِلِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الفاعِلُ هو اللَّهُ لا المُخاطَبُونَ، فَتُناقِضُ قَوْلَهُ. وقالَ ابْنُ السَّرّاجِ: مَعْناهُ كَفى الِاكْتِفاءُ بِاللَّهِ، وهَذا أيْضًا يَدُلُّ عَلى أنَّ الباءَ لَيْسَتْ زائِدَةً إذْ تَتَعَلَّقُ بِالِاكْتِفاءِ، فالِاكْتِفاءُ هو الفاعِلُ لِكَفى. وهَذا أيْضًا لا يَصِحُّ لِأنَّ فِيهِ حَذْفَ المَصْدَرِ وهو مَوْصُولٌ، وإبْقاءَ مَعْمُولِهِ (p-٢٦٢)وهُوَ لا يَجُوزُ إلّا في الشِّعْرِ نَحْوَ قَوْلِهِ:
؎هَلْ تَذْكُرُنَّ إلى الدِّيرَيْنِ هِجْرَتَكم ∗∗∗ ومَسْحَكم صُلْبَكم رَحْمانَ قُرْبانا
التَّقْدِيرُ: وقَوْلُكم يا رَحْمَنُ قُرْبانا. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِاللَّهِ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِتَقْدِيرِ زِيادَةِ الخافِضِ، وفائِدَةُ زِيادَتِهِ تَبْيِينُ مَعْنى الأمْرِ في صُورَةِ الخَبَرِ، أيِ: اكْتَفَوْا بِاللَّهِ، فالباءُ تَدُلُّ عَلى المُرادِ مِن ذَلِكَ. وهَذا الَّذِي قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مُلَفَّقٌ بَعْضُهُ مِن كَلامِ الزَّجّاجِ، وهو أفْسَدُ مِن قَوْلِ الزَّجّاجِ، لِأنَّهُ زادَ عَلى تَناقُضِ اخْتِلافِ الفاعِلِ اخْتِلافَ مَعْنى الحَرْفِ، إذْ بِالنِّسْبَةِ لِكَوْنِ اللَّهِ فاعِلًا هو زائِدٌ، وبِالنِّسْبَةِ إلى أنَّ مَعْناهُ اكْتَفُوا بِاللَّهِ هو غَيْرُ زائِدٍ. وقالَ ابْنُ عِيسى: إنَّما دَخَلَتِ الباءُ في (كَفى بِاللَّهِ) لِأنَّهُ كانَ يَتَّصِلُ الفاعِلُ، وبِدُخُولِ الباءِ اتَّصَلَ اتِّصالَ المُضافِ واتِّصالَ الفاعِلِ، لِأنَّ الكِفايَةَ مِنهُ لَيْسَتْ كالكِفايَةِ مِن غَيْرِهِ، فَضُوعِفَ لَفْظُها المُضاعَفَةَ مَعْناها، وهو كَلامٌ يَحْتاجُ إلى تَأْوِيلٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى كَفى بِاللَّهِ في قَوْلِهِ: ﴿فَأشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [النساء: ٦] لَكِنْ تَكَرَّرَ هُنا لِما تَضَمَّنَ مِن مَزِيدِ نُقُولٍ ورَدَ بَعْضُها. وانْتِصابُ ولِيًّا ونَصِيرًا قِيلَ: عَلى الحالِ. وقِيلَ: عَلى التَّمْيِيزِ، وهو أجْوَدُ لِجَوازِ دُخُولِ مِن.
{"ayahs_start":44,"ayahs":["أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ نَصِیبࣰا مِّنَ ٱلۡكِتَـٰبِ یَشۡتَرُونَ ٱلضَّلَـٰلَةَ وَیُرِیدُونَ أَن تَضِلُّوا۟ ٱلسَّبِیلَ","وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِأَعۡدَاۤىِٕكُمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِیࣰّا وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِیرࣰا"],"ayah":"أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ نَصِیبࣰا مِّنَ ٱلۡكِتَـٰبِ یَشۡتَرُونَ ٱلضَّلَـٰلَةَ وَیُرِیدُونَ أَن تَضِلُّوا۟ ٱلسَّبِیلَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق